شعار الموقع

الفلسفة والتصوف .. قراءة في عيون الشيخ محيي الدين بن العربي

عبدالقادر بلغيث 2019-06-04
عدد القراءات « 730 »

الفلسفة والتصوف..

قراءة في عيون الشيخ محيي الدين بن العربي

عبد القادر بلغيث*

 

* كاتب وباحث، جامعة الجزائر 2.

 

 

عاش الشيخ محيي الدين بن عربي الأندلسي في النصف الثاني من القرن السادس الهجري وبدايات القرن السابع الهجري، وفي هذا العصر شهدت الحضارة الإسلامية تنوّعًا فكريًّا كبيرًا في مختلف العلوم الشرعية والفلسفية والعلمية، فقد ظهرت عدة مدارس فلسفية وفكرية تنوّعت أفكارها ومناهجها واتجاهاتها، إلَّا أننا يمكننا تصنيف هذه المدارس الإسلامية خاصة في دراستها للمباحث الوجودية والالهية إلى ثلاثة مدارس كبرى هي: المدرسة الفلسفية والمدرسة الكلامية والمدرسة الصوفية.

فالمدرسة الفلسفية التي عرفت تطورًا كبيرًا مع كبار الفلاسفة الإسلاميين حتى عصر الشيخ محيي الدين بن عربي بظهور الفقيه الفيلسوف أبو الوليد بن رشد الذي يعتبر من كبار شراح الفلسفة اليونانية. إن هذه المدرسة اعتمدت في دراسة مباحثها وقضياها الفكرية والعقائدية على العقل، فكان بذلك مصدرًا وحيدًا في إنتاج المعرفة الفلسفية، وقد ظهر إنتاج فلسفي كبير مع الكندي والفارابي وابن سينا وصولًا إلى ابن رشد الذي عاصر الشيخ محيي الدين بن عربي.

وتعتبر المدرسة الكلامية من أهم المدارس التي اعتنت بالدراسات الوجودية والإلهية بمنهجها الخاص، وهي الأخرى شهدت تطورًا كبيرًا خاصة بعد ظهور المدرسة الكلامية الأشعرية التي أسسها أبو الحسن الأشعري خلال أواخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع الهجريين، والتي عرفت تطورًا كبيرًا في القرن الخامس الهجري مع الإمام الجويني والإمام الغزالي الذي انتصب للرد على الفلاسفة والباطنية، وصولًا إلى الإمام الفخر الرازي الذي عاصر الشيخ محيي الدين بن عربي.

ومن المدارس الفكرية التي كان لها أسلوبها الخاص في البحث المعرفي المدرسة الصوفية التي تنوعت طرقها ومشاربها العرفانية، ولقد تأسست معالمها الفكرية مع الإمام الجنيد في أواخر القرن الثالث الهجري، فانفردت بمناهجها الفكرية والتربوية، وقد عرفت نضجًا مع الحكيم الترمذي في نظريته لمفهوم الولاية.

وشهد هذا الاتجاه مرحلة لتدوين معارفه في المقامات والأحوال ومناهج التربية والسلوك مع كل من القشيري في رسالته، والطوسي في كتاب اللمع، والهجوري في كشف المحجوب، ثم الغزالي في كتابه الشهير إحياء علوم الدين، الذي يعتبر خلاصة لكتب أبي الحارث المحاسبي وأبي طالب المكي، إضافة إلى كتبه ورسائله الصوفية.

وقد عرف الاتجاه الصوفي انتشارًا كبيرًا في العصر الإسلامي، فقد عاصر ابن عربي مناهجَ صوفية في المشرق والمغرب، فاعتمدت هذه المدرسة رغم تنوع مشاربها وأذواقها ومعارفها على مصدرين أساسيين هما: الوحي أي الكتاب والسنة كمصدر أساسي، ثم الكشف كمصدر ثانٍ شريطة ألَّا يتعارض مع الوحي.

إن القاسم المشترك بين هذه المدارس هو دراستها للمباحث الإلهية وما يتعلّق بها، ولكن كل اتجاه له طريقته في البحث ونظريته الخاصة بالمعرفة فتميزت عن بعضها بمناهج وطرق في البحث. وقد ورث الشيخ محيي الدين بن عربي كل هذا الموروث الفكري الإسلامي الذي كان من اهتماماته ومحلًّا لدراسته، فكانت له آراء ومواقف تجاهها كما سنرى من خلال هذا البحث.

فبناءً على هذه الخريطة الفكرية التي كانت في عصر الشيخ محيي الدين بن عربي، يمكننا تصنيف التراث الفكري للشيخ ابن عربي في صف المدرسة الصوفية التي تعتمد على الوحي والكشف. ويصر ابن عربي في أكثر من مناسبة على أن مصادر معرفته تعتمد أساسًا على الوحي، فيعتبر القرآن مصدرها الأساس، فهو يقول في ذلك «فجميع ما نتكلم فيه في مجالسي وتصانيفي إنما هو من حضرة القرآن وخزائنه، أعطيت مفتاح الفهم فيه والإمداد منه، وهذا كله حتى لا نخرج عنه، فإنّه أرفع ما يُمنح. ولا يعرف قدرهُ إلَّا من ذاقه وشهد منزلته حالًا من نفسه، وكلمه به الحق في سره، فإنّ الحق إذا كان هو المكلم عبده في سره بارتفاع الوسائط، فإنّ الفهم يستصحب كلامه منك، فيكون عين الكلام منه عين الفهم منك لا يتأخر عنه، فإن تأخر عنه، فليس هو كلام الله، ومن لم يجد هذا فليس عنده علم بكلام الله عباده»[1].

أما العقل الذي يعتبر المصدر الأساس لمعارف الفلاسفة، فهو عند ابن عربي لا يمكن الاعتماد عليه من أجل الوصول إلى حقائق يقينية، أما الإلهيات فلا يمكنه البحث فيها، فهو يقول في ذلك: فللعقول حد تقف عنده، وليس لله عنده حد يقف عنده، بل هو خالق الحدود فلا حد له سبحانه، فهو القادر على الإطلاق[2].

وقال أيضًا: إن علم العلماء بالله من الله ما لا تعلمه العقول من حيث أفكارها الصحيحة الدلالة... إنه وراء طور العقل، قال تعالى في عبده الخضر: {وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا}[3]، وقال تعالى: {عَلَّمَهُ الْبَيَانَ}[4]، فأضاف العلم إليه لا إلى الفكر، فعلمنا أن ثم مقامًا آخر فوق الفكر يعطي العبد العلم بأمور شتى[5].

مدى الاتصال بين التراث الفلسفي وتصوف الشيخ محيي الدين بن عربي

لمعرفة علاقة ابن عربي بالفلسفة فكرها ومناهجها ونظرياتها، يجب أن نعرف مدى هذا الاتصال من حيث الدراسة والتعلُّم، أي هل كان له شيوخ في تعلُّم الفلسفة؟ وهل كان له اتصال بالتراث الفلسفي وكتاباته؟ فالفلسفة اليونانية كانت كتبها مترجمة ومتداولة في عصره، وكذلك الأمر بالنسبة للكتابات الفلسفية العربية الإسلامية.

إن الدراسات الغربية الأوروبية حاولت ربط المورث العرفاني الأكبري بالمدارس الفلسفية القديمة كالفلسفة اليونانية والإفلاطونية المحدثة، فهم يصنفون تصوف ابن عربي على أساس أنه تصوف فلسفي، وقد تبعهم في ذلك الكثير من الكتّاب العرب في دراساتهم المعاصرة، وفرّقوا بين التصوف السني والتصوف الفلسفي، فالمستشرق الإسباني بلاسيوس في دراسته عن ابن عربي، يعتبر تصوفه امتدادًا لمدرسة ابن مسرة الجبلي الأندلسي التي ظهرت في الأندلس خلال القرن الثالث الهجري، والتي امتدت وأثّرت في مدرسة المرية الصوفية التي نهل منها ابن عربي، وكان معاصرًا لتلامذتها.

ويري بلاسيوس أن لمدرسة ابن مسرة امتداد لتعاليم مدرسة أنباذقليس اليونانية، ومن ثم يكون ابن عربي متأثرًا بهذه المدرسة اليوناينة من طريق ابن مسرة ومدرسة المرية، في حين أن مترجم كتاب بلاسيوس عبد الرحمن بدوي يرى أن تشابه الأفكار بين المدرستين لا يعني أن المتأخر أخذ عن المتقدّم. وقد نحا منحى بلاسيوس المستشرق الفرنسي ماسينيون الذي أرجع التصوف بما فيه تصوف ابن عربي إلى أصول غير إسلامية.

إن هؤلاء المستشرقين في محاولتهم لربط التصوف الأكبري بأصول ومنابع غير إسلامية تصطدم بالكم الكبير من آيات القرآن الكريم، فلا تمر صفحة من صفات كتب الشيخ إلَّا وتجد آية من آياته يفسرها أو استشهد بها حين يقدم علومه، كما لا تخلو مصنفاته من الأحاديث النبوية من مختلف مصادر السنة من صحاح وسنن ومسانيد.

إلى جانب أن كتب الشيخ يوجد فيها أقوال كثيرة لأعلام التصوف الإسلامي الذين كانوا قبله، ومنهم من صنف لهم تصانيف خاصة بهم، يذكر فيها أخبارهم وأحوالهم ومقاماتهم ويشرح لهم أقوالهم، وهناك من خصّص لهم أبواب خاصة في موسوعته الكبرى الفتوحات المكية. فقد خصّص لذي النون المصري كتابًا مستقلًا، كما خصّص بابًا طويلًا في كتاب الفتوحات المكية لشرح أسئلة الحكيم الترمذي وهو الباب 73، إضافة إلى تعقّله وشرحه لأقواله في مواضع أخرى من كتبه.

ويُعتبر أبو يزيد البسطامي من الصوفية الذين أخذوا اهتمام الشيخ، فشرح ونقل أقواله في مواضع عديدة من مصنفاته. ومن الذين خصّص لهم كتابًا مستقلًا الصوفي الشهير أبو منصور الحلاج، وغير ذلك من الصوفية الكبار الذين اهتمَّ بهم الشيخ وتأثر بهم، كالجنيد وعبد القادر الجيلاني وأبي مدين ورابعة العدوية وغيرهم.

وهذا يبيّن لنا مدى اهتمام الشيخ بهؤلاء الصوفية وتأثّره بهم، في حين أن الفلاسفة العرب المسلمين المشهورين كالكندي وابن سينا والفارابي لا نجد لهم أثرًا ولا اهتمامًا من قبل الشيخ، وقد عاصر كل من ابن الطفيل الأندلسي والفيلسوف الإشراقي السهروردي المقتول، ولكنه لم ينقل أو يدرس آراءهم الفلسفية، ويمكننا أن نستثني معاصره وابن موطنه ابن رشد، الذي ذكره ليس مناقشة لأفكاره لكن ذكره في معرض ذكره لسيرته التاريخية وفي حوار جرى بينهما.

ويذكر الشيخ عبدالباقي مفتاح أن ابن عربي لم يكن له اهتمام بهؤلاء الفلاسفة، أما عن البعض القليل من أقوالهم التي نقلها فقد تعرف عليها من خلال قراءاته للتراث الإسلامي في كتب الشريعة والتصوف والكلام، خصوصًا كتب الغزالي التي رد فيها على الفلاسفة.

هذا عن موضع الفلاسفة في المنظومة الصوفية الأكبرية، أما موضعهم في تاريخ حياته فلا نجد لهم أي أثر، فلم يبحث عنهم الشيخ ولا حاول الاتصال رغم رحلاته المتواصلة مغربًا ومشرقًا، إنما كان بحثه ومطلبه هو لقاء شيوخ التصوف، فقد خصص بعض كتبه لهذه اللقاءات مثل كتاب «روح القدس» وكتاب «الدرة الفاخرة»، فقد تعرّف من خلال هؤلاء الشيوخ إلى عدة مدارس صوفية كما صنفها الشيخ عبدالباقي مفتاح في كتابه «ختم القران»، وهي: مدرسة أبو مدين ومدرسة ابن مجاهد ومدرسة ابن العريف، ومن خلال هذه المدارس والشيوخ اتصل بالتراث الصوفي الإسلامي الذي يوجد له أثر كبير في مصنفات الشيخ.

كل هذا يبيّن لنا مدى أصالة التصوف الإسلامي بصفة عامة، وأصالة التصوف الأكبري، ويبيّن لنا مدى الانفصال وعدم التقارب بين التراث الفلسفي الإسلامي، وحتى القديم بالتصوف الأكبري.

موقف ابن عربي من مشروع الجمع بين التصوف والفلسفة

إن اهتمام الفلاسفة بالجانب الروحي قديم فقد اهتم به سقراط وأفلاطون، كما ظهر اتجاه الفلسفة الغنوصية عند أفلوطين أو ما يسمى بالأفلاطونية المحدثة، ولقت هذه الأفكار صداها في الفلسفة الإسلامية التي عاصرها ابن عربي فتجلّت هذه المعارف الجامعة بين العقل والروح في شيخ المشائين في عصره الشيخ الرئيس ابن سينا الذي اهتم بالتصوف كعلم وتنظير عقلي في معارفه الفلسفية، إلى جانب اشتغاله بالفلسفة العقلية المشائية الأرسطية.

إلَّا أن هذه الدراسات الصوفية لم تتجاوز أفقها العقلي، فلم تدخل حيز الممارسة والمجاهدة عند ابن سينا حتى سمي تصوفه بالتصوف العقلي أو العرفان النظري. إن هذه المعارف الصوفية التي تركها ابن سينا لم نجد لها أثرًا في المنظومة العرفانية الأكبرية رغم اهتمام الشيخ الأكبر بمنقولات وآثار الصوفية التي كانت قبله، ويبدو أنه لم يكن له أي اهتمام بمعارف الفلاسفة حتى في كلامهم عن التصوف.

وهناك مدرسة جديدة ظهرت مع الفيلسوف السهروردي المقتول الذي عاصر ابن عربي، والتي حاولت الجمع بين الفلسفة والتصوف وتسمى الفلسفة الإشراقية، هذه المدرسة وإن كانت معالمها موجودة قبل السهروردي مع الفارابي وابن سينا، إلَّا أن السهرودي يعتبر منظرًا لها ومجدّدًا لعوالمها.

ومصادر المعرفة في هذه المدرسة تعتمد على مجموع المصادر التي اعتمدتها كل من المدرستين الفلسفية والصوفية، وهي الكشف أو الإشراق والعقل، وهي بذلك محاولة جديدة في الجمع بين التصوف والفلسفة، ويبدو أنهما نقيضين في الرؤية الأكبرية، فرغم هذه المحاولة الجادة التي اعتبر فيها الفيلسوف الإشراقي السهروردي المقتول المعرفة الإلهية لا بد لها من الجمع بين العلوم الفلسفية ويضاف إليها التصوف كفكر وتجربة وممارسة ومعاناة التي يتمخّض عنها الكشف والمشاهدة.

فرغم هذه المحاولة الجريئة من الفلسفة من أجل الوصول إلى أعتاب التصوف، إلَّا أن الشيخ ابن عربي لم يُعرها أدنى اهتمام رغم معاصرته لمؤسسها وتلامذته.

كما عاصر الشيخ محيي الدين بن عربي محاولة أخرى في اقتراب الفلسفة إلى أعتاب أبواب التصوف مع ابن موطنه الفيلسوف الأندلسي ابن الطفيل أثناء كتابته لقصة حي بن يقظان، التي من خلالها حاول ابن الطفيل أن يبين أن الإنسان قادر على الوصول إلى معرفة ربه إذا انتفت عنه المؤثرات الاجتماعية وحتى النظريات الفكرية التي قد تُحيط به، وفي الحقيقة أن بطل قصة ابن الطفيل عاش تجربة عرفانية روحية، فرغم هذه الكتابة القريبة من ابن عربي موطنًا وزمانًا ليس لها أي وجود في تراثه العرفاني.

كل هذه المحاولات الفلسفية في الاقتراب من التصوف وتجربته ومشاهداته ومعارفه وحقائقه، لم تؤثر في ابن عربي وتصوفه، وهذا يدل على أصالة تصوفه الإسلامي وعدم تأثره بكل المقولات الفلسفية الفكرية القديمة والإسلامية. هذا التصوف الذي بقي مخلصًا لدائرته المعرفية المتمثلة في الوحي والكشف والتراث الصوفي الإسلامي.

ويبدو أن الشيخ ابن عربي اعتبر تجربة شيخ الإشراق، تجربة فلسفية غير مستمدة من الوحي والتربية الصوفية ومسالكها التي عرفت بها وكانت قبله، وهو الرأي نفسه الذي تبنَّاه الشيخ عبدالواحد يحيى، أثناء تعقيبه على محاولة ربط المستشرق الفرنسي هنري كوربان بين الفلسفة الإشراقية والتصوف في كتابه «سهروردي حلب مؤسس مذهب الإشراق».

فقد اعتبر روني جنو أو الشيخ عبدالواحد يحي أن المذهب الإشراقي لا يرتبط بأي سلسلة من سلاسل التربية والسلوك الصوفي.كما يرى خطأ من يزعم أن السهروردي سار على منهاج الحلاج، فالتشابه بين الرجلين لا يتعدى كونه تشابهًا خارجيًّا، وتجربة السهروردي هي امتداد للأفلاطونية المحدثة التي كساها شكلًا إسلاميًّا. وبذلك يكون مذهبه مذهبًا فلسفيًّا ليس له علاقة بالتصوف، وخلص إلى نتيجة مفادها أن هناك فرقًا بين الفلسفة والتصوف[6].

علم الكلام عند الشيخ ابن عربي

يعتبر علم الكلام أحد العلوم الإسلامية الأقرب إلى الدراسات الفلسفية، وذلك لاعتماده على العقل من أجل إثبات العقائد الإسلامية. فمن مباحث هذا العلم إثبات الألوهية والوحدانية وتنزيه الله عن النقائص، والاعتماد على المناهج العقلية في أثبات ذلك، إضافة إلى إثبات النبوة، كما أثبت المتكلمون الأخبار السمعية التي وردت في القرآن والسنة، من حساب وعقاب وجنة ونار، ويطلقون على هذه المباحث قسم السمعيات.

إن هذا العلم هو محاولة فكرية في التوفيق بين العقل والنقل، وهو بذلك يتخذ موقعًا وسطًا بين الفلسفة والتصوف، فالتصوف اعتمد اعتمادًا كليًّا على الوحي والكشف، والفلسفة اعتمدت هي الأخرى اعتمادًا كليًّا على العقل. ورغم وسطية علم الكلام إلَّا أن ابن عربي لا يعول عليه كثيرًا، وتحفظ من النتائج التي توصل إليها المتكلمين المسلمين من أشاعرة ومعتزلة، لكن هذا الموقف يحتاج إلى توضيح.

إن المنطلق الذي انطلق منه المتكلم هو الدفاع عن عقائد المسلمين، من الأفكار والبدع العقائدية التي تسرَّبت إلى المسلمين من مختلف الثقافات التي كانت محيطة بالعالم الإسلامي، من فلسفة يونانية ومسيحية وعقائد فارسية قديمة، وهذا المبدأ يوافق فيه الشيخ محيي الدين بن عربي المتكلمين، ويعتبره ضروريًّا ولذلك وجب أن يتولّاه بعض العلماء المسلمين في كل عصر[7].

كما أن هذا العلم في نظر ابن عربي غير ضروري لعامة المسلمين لسلامة عقائدهم، فقد قال في فتوحاته: «عقائد العوام سليمة وهم مسلمون مع عدم مطالعتهم لعلم الكلام، لبقائهم على صحة الفطرة وهو العلم بوجود الله تعالى ومعرفته وتنزيهه الوارد في ظاهر القرآن، وهم فيه على صحة ما لم يتطرق أحد منهم إلى التأويل، فإن تطرّق أحد منهم إلى التأويل خرج عن حكم العامة والتحق بصنف ما من أصناف أهل النظر والتأويل، فإما مصيب أو مخطئ بالنظر إلى ما يناقض ظاهر ما جاء به الشرع؛ وفي القرآن للعاقل غنية كبيرة، ولصاحب الداء العضال دواء وشفاء، ومقنع لمن عزم على طريق النجاة ورغب في سموّ الدرجات وترك ما يورد الشكوك والشبه»[8].

وهو بذلك يوافق رأي الإمام الغزالي في عدم ضرورة علم الكلام لعوام المسلمين في كتابه: «إلجام العوام من علم الكلام»، ويرى أن القرآن يكفي العوام في إثبات العقائد وبيان أدلتها، وهم في غنى عن كتب المتكلمين.

وفي كتابات الشيخ يحترم ويجل المتكلمين الأشاعرة مثل الغزالي والإسفراييني والجويني، ورغم هذا الاحترام فإنه اختلف معهم في عدة مسائل، فهو لا يذهب إلى التأويل الذي انتهجه الأشاعرة، وفصل ذلك في كتابه «رد المتشابه إلى المحكم».

وللشيخ رسالة بعثها للإمام الأشعري الكبير فخر الدّين الرازي (ت: 606)، يفاوضه فيها في إمكانية معرفة الله تعالى المعرفة الكاملة بطريق الفكر والعقل، وممّا ورد فيها: «ولقد أخبرني من أثق به من إخوانك وممن له فيك نية حسنة جميلة أنّه رآك وقد بكيت يومًا، فسألك هو ومن حضر عند بكائك فقلت: مسألة اعتقدتها منذ ثلاثين سنة، تبيّن لي في الساعة بدليل لاح لي أنّ الأمر على خلاف ما كان عندي. فبكيت وقلت: ولعل الذي لاح لي أيضًا يكون مثل الأول، فهذا قولك. ومن المحال على العارف بمرتبة العقل والفكر أن يسكن أو يستريح ولا سيما في معرفة الله تعالى. ومن المحال أن يعرف ماهيته بطريق النظر. فما لك يا أخي تبقى في هذه الورطة ولا تدخل طريق الرياضات والمجاهدات والخلوات التي شرعها رسول الله، فتنال ما نال من قال فيه سبحانه وتعالى: {عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آَتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا}[9]، ومثلك من يتعرض لهذه الخطة الشريفة والمرتبة العظيمة المنيفة»[10].

في هذا اللقاء بين الرجلين الذي يعتبر كل واحد منهما علمًا في تخصصه، فابن عربي شيخ الصوفية في عصره، والرزاي شيخ المتكلمين الأشاعرة على الإطلاق في زمانه، ويذكرنا هذا اللقاء الذي كان بين ابن عربي وابن رشد والذي بقي فيه الشيخ الأكبر محافظًا على نظريته في عدم جدوى استعمال العقل في المباحث الإلهية.

ابن عربي على خطى الغزالي في موقفه من الفلسفة

كان موقف الغزالي من الفلاسفة موقفًا عنيفًا، فقد وصفهم بالكفر والخروج عن الدين، وضلال مناهجهم وفكرهم، وقد حاول هدم بنيان فكرهم في عدة كتب من كتبه، منها «تهافت الفلاسفة» الذي تتبع فيه مسائلهم التي كانوا يعتقدون بها في قسم الإلهيات، أما كتابه «المنقذ من الضلال» فحاول فيه تشريح البنيان الفلسفي ومدارسه واتجاهاتها القديمة والإسلامية، فصنفهم إلى ثلاثة أقسام وهم: الدهريون والطبيعيون والإلهيون، ثم أخذ ينتقد كل فكر تبنَّته هذه المدارس.

إن هذه الصرامة التي اعتمدها الغزالي تجاه الفلاسفة، هي محاولة منه لحفظ الدين الإسلامي من أفكار الفلاسفة المسلمين، الذين تبنَّوا الفكر الفلسفي القديم خاصة اليوناني منه، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد هاجم الغزالي طائفة الباطنية التي تبنَّت المذهب الإسماعيلي واعتمدت كثيرًا على الفكر الفلسفي اليوناني، ومن الذين تبنَّوا هذا المذهب جماعة إخوان الصفا، وقد خصّص الغزالي للردّ على هذه الطائفة كتابه «فضائح الباطنية».

ويبدو أن المنحى الذي اتَّخذه الشيخ محيي الدين بن عربي من الفلسفة، هو مواصلة المسار نفسه الذي اتَّخذه الغزالي من الفلاسفة والباطنية، إلَّا أن الفرق يكمن في الشدة والصرامة في الرد، فلم تكن عند ابن عربي شديدة ولم تكن شغله الشاغل، ولم يخصّص لها كتبًا لذلك، وإنما جاءت عرضًا في مؤلفاته.

ومن بين ما قاله الغزالي في تكفير الفلاسفة اليونانيين والمسلمين «ثم ردّ أرسطاطاليس على أفلاطون وسقراط، ومن كان قبلهم من الإلهيين ردًّا لم يقصر فيه حتى تبرأ عن جميعهم؛ إلَّا أنه استبقى أيضًا من رذائل كفرهم وبدعتهم بقايا لم يوفق للنزوع عنها، فوجب تكفيرهم وتكفير شيعتهم من المتفلسفة الإسلاميين، كابن سينا والفارابي وغيرهم. على أنه لم يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة الإسلاميين كقيام هذين الرجلين. وما نقله غيرهما ليس يخلو من تخبيط وتخليط يتشوش فيه قلب المطالع حتى لا يفهم»[11].

ولم يكن ابن عربي يكفر فيلسوفًا بعينه بهذه الطريقة التي تبناها الغزالي، وإنما يشير لخطئه وعدم توفيقه في رأيه، فهو لم يذكر الفارابي وابن سينا في كتاباته فضلًا عن أن يكفّرهم.

ولقد وضع الغزالي تفصيلًا في اتخاذ أحكامه تجاه الفلاسفة إلى ثلاثة أقسام، قسم يجب التكفير به، وقسم يجب التبديع به، وقسم لا يجب إنكاره أصلًا[12]. فقد قال عن مذهب الفلاسفة في الإلهيات: ففيها أكثر أغاليطهم... ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلًا، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، وتبديعهم في سبعة عشر، ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين، صنّفنا كتاب التهافت، أما المسائل الثلاث، فقد خالفوا فيها كافة الإسلاميين، وذلك في قولهم:

1- إن الأجساد لا تحشر، وإنما المثاب والمعاقَب هي الأرواح المجردة، (والمثوبات) والعقوبات روحانية لا جسمانية؛ ولقد صدقوا في إثبات الروحانية، فإنها ثابتة أيضًا، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به.

2- ومن ذلك قولهم: إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات؛ وهذا أيضًا كفر صريح، بل الحق أنه: {لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ}.

3- ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته، فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل[13].

وهي تقريبًا المسائل نفسها التي لم يوافق فيها ابن عربي الفلاسفة، فقد أنكر عليهم مقولة: إنّ الله تعالى علّة العلل؛ لأنّ الله يخلق العلل وليس بعلة، ولو كان تعالى علة لارتبط، ولو ارتبط لم يصح له الكمال، وهو الغني عن العالمين[14]، ولم يوافقهم قولهم: إنّ الله لا يعلم الجزئيات، فعلمه كلّي لا تفصيلي[15]، ومن المسائل التي خالف فيها ابن عربي الفلاسفة قولهم في الجزاء المحسوس في الآخرة لأهل النار «ورأى حشر الأجساد من طور إلى طور باختلاف حكم ولاختلاف دور»[16].

وبخصوص عقيدة التناسخ التي خاض فيها بعض الفلاسفة، فقد قال ابن عربي في ذلك «... ومن هنا هبّت نفحة على القائلين بالتناسخ فلم يتحقّقوا معناها، فزلوا وضلوا وأضلوا، ولأنهم نظروا إليها من حيث أفكارهم فأخطؤوا الطريق فغلطوا فهم مخطئون غير كافرين، إلَّا من أنكر البعث منهم الذي هو نشأة الآخرة فهو ملحق بالكفار»[17].

أصناف الفلاسفة عند ابن عربي وموقفه منهم

إن أصل علوم الفلاسفة عند الشيخ ابن عربي أصل إلهي نبوي، ترجع إلى النبي إدريس (عليه السلام)، الذي يسميه الشيخ بمداوي الكلوم، ويطلق عليه الفلاسفة هرمس الهرامسة، فقد ظهرت منه العلوم من فلك وكيمياء وأسرار الحروف.

ويذكر الشيخ أن مداوي الكلوم لم يمت حتى علم 36500 علم، والتي انتقلت إلى أصحابه ثم انتقلت إلى الأمم القديمة التي ازدهرت حضارتها كالكلدانية والمصرية القديمة، إلى أن وصلت إلى اليونانيين وإلى فلاسفتهم المشهورين، ثم إلى العرب والمسلمين، ولكن هذه العلوم لم تبق على أصولها الإلهية، بل اختلطت بالفكر والنظر، فلذلك وجد فيها الصحيح والسقيم. وبناءً على ذلك كانت رؤية الشيخ رؤية تفصيلية غير إقصائية لجميع ما لديهم، ولم يكن رافضًا لجميع آرائهم.

إن الشيخ عندما يُحدّد موقفه من الفلاسفة يفصل في ذلك ولا يجعلهم في اتجاه واحد، وهو بذلك يُعطينا رؤية واسعة في تحديد مواقفه من الفلاسفة ورؤيته بذلك ليست ضيقة حيث يجعلهم في كفة واحدة، فمنهم الفلاسفة الذين لم تبلغهم دعوة الرسل، والفلاسفة الإسلاميين الذين خالفوا الشرع، وصنف آخر من الفلاسفة الإسلاميين الذين وافقوا الشرع، فحسب هذه الأصناف اختلفت مواقفه وآراؤه من علومهم.

فبخصوص الفلاسفة الذين لم تبلغهم دعوة الرسل، فقد أعطى الشيخ إشارة إلى الفيلسوف اليوناني أفلاطون في كتاب الفتوحات، الذي كان من الفلاسفة الذين لم تبلغهم دعوة الأنبياء والرسل (عليهم السلام)، إلَّا أنه هداه الله إلى عقيدة التوحيد وتقرّب إلى الله برياضة النفس والتحلي بمكارم الأخلاق. وقد قال عن هذا الصنف من الفلاسفة والحكماء «... ومن هؤلاء من لم تبلغهم دعوة رسول، كأفلاطون ربّما، لكن هداهم الله لتوحيده وتقرّبوا إليه بالتوجّه الصادق ورياضة النفس ومكارم الأخلاق، حتى إنّ منهم من يلتحق بالأولياء الأفراد، وبعض أكابرهم ينال مقام القربة، ويمكن لبعضهم أن تحصل له كشوفات، وتنطبع في مرايا بواطنهم بعض حقائق الوجود ويأخذون من الأرواح الملكية ويرتقي سابقوهم إلى الأخذ من النفس الكلية، ولكن لا يلحقون مراتب تُبّاع الرسل المتقربين إلى الله تعالى بشرعه. ففيض أولئك الحكماء روحاني وفيض أهل الله روحاني وإلهي، لأنهم سلكوا على الشرع الإلهي»[18].

ففي هذه الفئة من الفلاسفة والحكماء يجلها الشيخ ويقدرها حتى إن بعضهم يلحق بمراتب الأولياء.

وبخصوص الفلاسفة الإسلامين عند الشيخ ابن عربي، فمنهم ما هو مخالف للشرع، فقد أعطى إشارة إلى كتاب المدينة الفاضلة للفيلسوف الإسلامي الفارابي الذي لم يذكر اسمه مكتفيًا بذكر اسم كتابه الذي قال عنه: «... ولقد رأيت بعض أهل الفكر في كتاب سماه (المدينة الفاضلة)، رأيته بيد شخص بمرشانة الزيتون ولم أكن رأيته من قبل ذلك، فأخذته من يده وفتحته لأرى ما فيه. فأوّل شيء وقعت عيناي عليه قوله: وأنا أريد في هذا الفصل أن ننظر كيف نضع إليها في العالم ولم يقل الله، فتعجبت من ذلك ورميت بالكتاب إلى صاحبه، وإلى هذا الوقت ما وقفت على ذلك الكتاب»[19].

فرغم جلالة قدر الفارابي في تاريخ الفلسفة الإسلامية حتى لقب بالمعلم الثاني، فهو عند الشيخ محيي الدين بن عربي ليس بتلك الأهمية والمكانة، بل نراه ينكر عليه انكارًا شديدًا، أحد أقواله بمجرد فتحه لكتابه الشهير المدينة الفاضلة، ثم رماه واعتبره غير صالح في آرائه وأقواله.

وهو بهذا الرأي يقصد الفلاسفة الذين جعلوا آراءهم وأقوالهم بمعزل عما جاء في القرآن والسنة، بل كانت ثقتهم كبيرة فيما توصلوا إليه من نتائج، قد يعارض ما جاء به الشرع، وهذا الذي يرفضه الشيخ محيي الدين بن عربي رفضًا شديدًا، فقد قال عن هذه الفئة من الفلاسفة أن «جماعة من العقلاء جعلوا الشريعة بمعزل فيما زعموا... فما أخذت من الشريعة إلَّا ما وافق نظرها، وما عدا ذلك رمت به أو جعلته خطابًا للعامة... وقال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ...}[20].

أما الفلاسفة المتبعين للشرع مثل ابن رشد الذي يذكره الشيخ بتقدير وإجلال، وقد عرف عن هذا الفيلسوف أنه كان من كبار الفقهاء المسلمين وقضاتها، فهو صاحب كتاب «بداية المجتهد ونهاية المقتصد» في الفقه الإسلامي المقارن الذي يعتبر من أنفس الكتب في بابه، وسوف نرى موقف ابن عربي من خلال الحوار الذي دار معه.

حوار ابن عربي مع ابن رشد

لعل من أهم الأحداث التي عاشها ابن عربي والتي تبيّن لنا موقفه الواضح من الفلسفة، هو ذلك الحوار الذي دار بينه وبين زعيم الفلسفة المشائية في عصره القاضي أبو الوليد بن رشد، فخلال هذا الحوار تتحدد معالم ومناهج كل من مسلك التصوف المتمثل في ابن عربي، والخيار المنهجي للفلسفة عند ابن رشد.

ويرجع تاريخ هذا اللقاء إلى ما بين سنتي 576 و578هـ، وسن ابن العربي حينذاك حوالي 17 سنة، بينما سن ابن رشد حوالي 57 سنة[21]. وكان هذا اللقاء في مدينة قرطبة لما كان ابن رشد قاضيًا لهذه المدينة. بينما ابن عربي كان فتى يافعًا في مقتبل العمر، وفي بدايات سلوكه لطريق التصوف القائم على العبادة والخلوة.

وقد ذكر الشيخ هذا اللقاء في كتابه الفتوحات المكية فقال: ولقد دخلت يومًا بقرطبة على قاضيها أبي الوليد بن رشد، وكان يرغب في لقائي لما سمع وبلغه ما فتح الله به عليَّ في خلوتي. فكان يظهر التعجب ممّا سمع، فبعثني والدي إليه في حاجة قصدًا منه، حتى يجتمع بي، فإنّه كان من أصدقائه، وأنا صبي ما بقل وجهي ولا طَرَّ شاربي. فعندما دخلت عليه، قام من مكانه إليَّ محبةً وإعظامًا، فعانقني وقال لي: نعم. قلت له: نعم. فزاد فرحه بي لفهمي عنه. ثم إنّي استشعرت بما أفرحه من ذلك فقلت له: لا. فانقبض وتغيَّر لونه وشك فيما عنده وقال: كيف وجدتم الأمر في الكشف والفيض الإلهي؟ هل هو ما أعطاه لنا النظر؟ قلت له: نعم، لا. وبين نعم ولا تطير الأرواح من موادّها والأعناق من أجسادها. فاصفرَّ لونه وأخذه الأفكل وقعد يحوقل. وعرف ما أشرت إليه. وهو عين هذه المسألة التي ذكرها هذا القطب الإمام، أعني مداوي الكلوم[22].

إن ما يمكن التوصُّل إليه من خلال هذا الحوار القصير والمهم، أن ابن رشد يحترم ويجلّ سالكي طريق التصوف، كما أن هناك اعتراف ضمني بمنهج ومسلك التصوف في البحث والمعرفة، وهذا ما يُؤهِّل الفلسفة لكي تنفتح وتستفيد منه ومن علومه وتجاربه، كما أن ذلك الانتظار والتردُّد والقلق الذي عاشه ابن رشد في بداية الحوار ونهايته، يشعر القارئ بأنه في شك مما توصَّلت إليه بحوثه من نتائج وقصورها.

ويؤكد هذا الاعتراف بطريق أهل التصوف ومنهجهم الكشفي ما نقله في كتابه «مناهج الأدلة في عقائد الملة»: «... وأما الصوفية فطرقهم في النظر ليست طرقًا نظرية... وإنما يزعمون أن المعرفة بالله وبغيره من الموجودات شيء يُلقى في النفس عند تجريدها من العوائق الشهوانية... ونحن نقول أن هذه الطريقة وإن سلمنا وجودها فإنها ليست عامة للناس بما هم ناس. ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس لبطلت طريقة النظر ولكان وجودها بالناس عبثًا، والقرآن كله دعاء إلى النظر والاعتبار، وتنبيه على طريق النظر... ومن هذه الجهة دعا الشرع إلى هذه الطريقة، وحث عليها في جملتها حثًّا، أعني على العمل، لا على أنها كافية بنفسها كما ظن القوم»[23].

ورغم اعتراف ابن رشد بهذا المنهج في المعرفة إلَّا أنه نادر الحصول، فهو مقتصر على القلة من الناس، حسب قوله، فلذا لا يجب الاعتماد عليه كثيرًا وفي هذا الرأي دعوة إلى تغليب النظر العقلي على الكشف[24].

أما الطرف الآخر الذي كان يمثله هذا الحوار وهو ابن عربي، فنراه أيضًا يحترم الفلسفة في شخص ابن رشد، ولكنه ملتزم بمذهبه وبيقينه فيما توصل إليه، وهذا ما يفسر لنا بقاءه طيلة حياته مخلصًا ومقتنعًا بخياره في التصوف كمنهج متكامل في المعرفة الإلهية منذ شبابه الذي لقي فيه ابن رشد إلى غاية وفاته، فلم نجد الشيخ قد اهتم بلقاء شيوخ الفلسفة، أو قرأ تراثهم الفكري، كما بيَّنا ذلك رغم سياحته ورحلاته شرقًا وغربًا في العالم الإسلامي.

ومن أوجه التقارب بين الطرفين المتحاورين التزام الطرفين بمبادئ الشريعة الإسلامية وأنها من السبل التي تحقّق سعادة الإنسان، وحسب رأي الشيخ عبد الباقي مفتاح[25] أن ابن رشد هو المقصود دون أن يذكر اسمه في هذا النص من كتاب الفتوحات حين قال عنه: «... ولا أعني بالعقلاء المتكلمين اليوم بالحكمة، وإنما أعني بالعقلاء من كان على طريقتهم من الشغل بنفسه والرياضات والمجاهدات والخلوات والتهيؤ لواردات ما يأتيهم في قلوبهم عند صفائها من العلم العلوي الموحى في السماوات العلى... وقد أدركنا ممن كان على حالهم قليلًا، وكانوا أعرف الناس بمقدار الرسل ومن أعظمهم تبعًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأشدهم محافظة على سننه، عارفين بما ينبغي لجلال الحق من التعظيم، عالمين بما خص الله به عباده من النبيين وأتباعهم من الأولياء من العلم بالله من جهة الفيض الإلٰهي الاختصاصي الخارج عن التعلم المعتاد من الدرس والاجتهاد ما لا يقدر العقل من حيث الفكر أن يصل إليه. ولقد سمعت واحدًا من أكابرهم (يعني ابن رشد)[26] وقد رأى ما فتح الله به عليَّ من العلم به سبحانه من غير نظر ولا قراءة بل من خلوة خلوت بها مع الله، ولم أكن من أهل الطلب فقال: الحمد لله الذي أنا في زمان رأيت فيه من أتاه الله رحمة من عنده وعلمه من لدنه علمًا، فالله يختص من يشاء برحمته والله ذو الفضل العظيم»[27].

ولقد بقي ابن رشد متردّدًا يحاول مواصلة فهم التجربة الصوفية عند الشيخ ابن عربي، فحاول لقاءه مرة أخرى ولكن رجاءه هذا لم يتحقّق، فقد ذكر ابن عربي في الفتوحات المكية هذا الحدث بقوله: وطلب بعد ذلك من أبي الاجتماع بنا ليعرض ما عنده علينا، وهل هو يوافق أو يخالف؟ فإنّه كان من أرباب الفكر والنظر العقلي. فشكر الله تعالى الذي كان في زمان رأى فيه من دخل خلوته جاهلًا وخرج مثل هذا الخروج من غير درس ولا بحث ولا مطالعة ولا قراءة. وقال: هذه حالة أثبتناها وما رأينا لها أربابًا، فالحمد الله الذي أنا في زمان فيه واحد من أربابها الفاتحين لمغالق أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته[28].

في هذا النص يتحدّد موقف ابن رشد وتتضح رؤيته تجاه التصوف بالاحترام والتقدير، كما أنه كان مصدقًا بجدوى المعرفة الإلهامية التي تعتمد على الخلوة والمجاهدة، وإمكانية حصولها بدون مطالعة أو قراءة، فحمد الله وشكره على هذه المعاصرة لهذه التجربة الصوفية النادرة الحصول.

ويبدو أنه كانت لابن عربي علاقة حميمية مع ابن رشد، ظهرت من خلال لقائه البرزخي معه الذي ذكره في كتابه الفتوحات المكية بقوله: ثم أردت الاجتماع به مرة ثانية، فأقيم لي (رحمه الله) في الواقعة في صورة ضرب بيني وبينه فيها حجاب رقيق أنظر إليه منه ولا يبصرني ولا يعرف مكاني، وقد شغل نفسه عني. فقلت: إنّه غير مراد لما نحن عليه[29].

فرغم الاحترام والتقدير الذي كان يكنُّه ابن رشد للتصوف ورجاله إلَّا أنه لم يكن مؤهلًا لخوض هذا الطريق، رغم حرص الشيخ محيي الدين بن عربي على ذلك، فقد كانت الحسرة والأسف باديان عليه.

أما اللقاء الأخير للشيخ مع ابن رشد، فكان عند حضوره لجنازته في مراكش، فرأى نقل جثمانه إلى قرطبة، فقال عن ذلك: فما اجتمعت به حتى درج وذلك سنة 595 بمدينة مراكش، ونقل إلى قرطبة وبها قبره. ولما جعل التابوت الذي فيه جسده على الدابة، جعلت تواليفه تعادله من الجانب الآخر، وأنا واقف ومعي الفقيه الأديب أبو الحسين محمد بن جبير كاتب السيد أبي سعيد، وصاحبي أبو الحكم عمرو بن السّراج الناسخ. فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى من يعادل الإمام ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمام وهذه أعماله، يعني تواليفه. فقال له جبير: يا ولدي، نِعم ما نظرت إليه لا فُضّ فوك. فقيدتها عندي موعظة وتذكرة، رحم الله جميعهم، وما بقي من تلك الجماعة غيري، وقلنا في ذلك: الكامل هذا الإمام وهذه أعماله يا ليت شعري هل أتت آماله[30].

وفي هذا اللقاء الأخير وإن شئنا قلنا الموقف الأخير والنهائي للشيخ الأكبر، والذي تقرّر في أول لقاء له مع ابن رشد، وهو أن الفلسفة بمناهجها ومسالكها لا يمكن لها أن تكون مصدرًا لمعرفة الله، بل هي شكوك وأوهام يختلط فيها الصحيح بالباطل، وهو الموقف الذي قرّره الغزالي قبله حوالي مائة سنة.

وفي هذا اللقاء بين التصوف والفلسفة في شخصيتي ابن رشد وابن عربي، تتحدّد الفوارق وتتباعد المسالك من أجل إدراك الهدف نفسه وهو المعارف الإلهية والكونية. فقد بقي الاحترام والتقدير المتبادل بين الطرفين، واختلفت المناهج والوسائل.

فهل يمكن لهذا الاحترام المتبادل أن يكون له مستقبلًا طريقًا للتقارب بين الطرفين؟ هذا ما يمكن أن يتوصل إليه في زمن فلسفة ما بعد الحداثة.

فالتصوف بقي قيمة ثابتة في معارفة ومناهجه، ولكن الفلسفة لا تزال في تردّد وشك، من خلال البناء والنقض المتكرّر خلال تاريخها الفكري الطويل. كل هذا يجعل الفلسفة تتنازل عن كبرياء علمها وفهمها لتدخل تحت عباءة الصوفي المتوجّه إلى الله. كما تنازل وتواضع فيلسوف عصره القاضي الفقيه أبو الوليد بن رشد لذلك الفتى اليافع فأنصت إليه باهتمام وانتباه وتواضع، ثم واصل البحث عنه ليأخذ منه، ولكن لم يدرك ما كان يأمله. كما أن التصوف لا يزال أمله باقيًا لمن يفهمه كما بقي ذلك الأمل باقيًا عند ابن عربي في لقائه البرزخي مع فيلسوف عصره ابن رشد.

 

 

 

 

 

 



[1] محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، بيروت، لبنان: دار صادر،  3/ 334 - 335.

[2] محيي الدين ابن عربي، الفتوحات المكية، 3/21.

[3] سورة الكهف، الآية 64.

[4] سورة الرحمن، الآية 4.

[5] محيي الدين بن عربي، الفتوحات المكية، 2/114.

[6] عبد الواحد يحي، التصوف الإسلامي المقارن، ترجمة: عبد الباقي مفتاح، أربد الأردن: دار عالم الكتب الحديث، ص 156.

[7] ساعد خميسي، ابن عربي المسافر العائد، الجزائر: منشورات الاختلاف، ص 73.

[8] ابن عربي، الفتوحات المكية، 1/34-35.

[9] الكهف، الاية 64.

[10] رسائل ابن عربي، قدم لها: محمد عبدالرحمن المرعشلي، واعتنى بها: سمير خالد رجب، بيروت،لبنان: دار إحياء التراث العربي، ص 191.

[11] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، تحقيق: عبد الحليم محمود، مكتبة الأنجلو مصرية، ص 147.

[12] أبو حامد الغزالي، المنقذ من الضلال، ص148.

[13] المنقذ من الضلال 152 - 153.

[14] كتاب التجليات ضمن كتاب رسائل ابن عربي ص 345.

[15] الفتوحات المكية 2/146.

[16] الفتوحات المكية 2/ 283.

[17] الفتوحات المكية 1/755.

[18] الفتوحات المكية 2/162.

[19] الفتوحات المكية 3/178.

[20] الفتوحات المكية 4/94.

[21] عبد الباقي مفتاح، بحوث حول كتب ومفاهيم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، ص 145.

[22] الفتوحات المكية، 1/152.

[23] ابن رشد، كشف مناهج الأدلة في عقائد الملّة، تحقيق: لجنة إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان: دار الآفاق الجديدة، 1403هـ (1982م). ص: 59 - 60.

[24] ساعد خميسي، بحوث في الفلسفة الإسلامية، عين مليلة الجزائر: دار الهدى، ص 90.

[25] عبد الباقي مفتاح، بحوث حول كتب ومفاهيم الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، بيروت لبنان: دار الكتب العلمية، ص 152.

[26] هذا التعليق إضافه: عبد الباقي مفتاح، بحوث حول كتب ومفاهيم..، ص 152.

[27] الفتوحات المكية 1/ 324 – 325.

[28] الفتوحات المكية 1/152.

[29] الفتوحات المكية، 1/152.

[30] الفتوحات المكية، 1/153.