مالك بن نبي ناقدًا لإقبال
زكي الميلاد
-1-
مقاربة.. الأهمية والقيمة
في ربيع 1993م نشرتُ مقالة موسَّعة في مجلة منبر الحوار الفصلية الفكرية الصادرة آنذاك في بيروت، بعنوان: (مقاربات في الفكر والمنهج بين محمد إقبال ومالك بن نبي)، وأعدتُ نشرها لاحقًا في الطبعة الثانية من كتاب (مالك بن نبي ومشكلات الحضارة)، الصادر عن دار الفكر بدمشق سنة 1998م.
وأهمية هذه المقالة تكمن في أنها لفتت الانتباه إلى مثل هذه المقاربة الفكرية المهمة بين محمد إقبال (1294-1357هـ/ 1877-1938م)، ومالك بن نبي (1322-1393هـ/ 1905-1973م)، خاصة وأن هذه المقاربة لم تكن مطروقة في ذلك الوقت، لا أقل هذا ما وجدته آنذاك.
ولاحقًا وبعد ما يزيد على عقدين من الزمن، تنبَّهت إلى أنني وقفت على مقاربة مهمة وجادة، وليس من السهولة بالنسبة لي في ذلك الوقت التنبُّه لها، والاقتراب منها، والاشتغال عليها، والخوض فيها.
وحينما شرعت في إعداد هذا العمل، فإن أول خطوة قمت بها هي أنني جمعت من مكتبتي مجموع المؤلفات التي كتبت عن مالك بن نبي وهي اثني عشر كتابًا، منها كتاب يحتوي على توثيق ببليوغرافي حول ما نشر عن ابن نبي من مقالات ومؤلفات ورسائل جامعية، هو كتاب (مالك بن نبي حياته وآثاره) من إعداد الباحث الجزائري الدكتور مولود عويمر، وقصدت النظر في مجموع هذه المؤلفات، لمعرفة مدى مستوى الاقتراب من تلك المقاربة، وقياس درجة التطور والتراكم في شأن هذه المسألة.
والقدر الذي وجدته يعد ضئيلًا جدًّا، وجاء متباعدًا، ولم يكن متصلًا، ولا يعبر -على ما أظن- عن حالة من التراكم، ولعل كل أو معظم من اقترب من هذه المقاربة على قلَّتهم، لم يتنبَّه إلى كتابات الآخرين في هذا الشأن.
والقدر الذي وقفت عليه حتى هذه اللحظة، يتحدّد في ثلاثة أوراق مقدمة لندوات ومؤتمرات، وكتاب واحد، بالنسبة إلى الأوراق اثنتان منها كتبتا باللغة الإنجليزية، وهما من إعداد الباحثة الباكستانية مترجمة مؤلفات ابن نبي الدكتورة أسماء الرشيد، وهاتان الورقتان هما: الورقة الأولى تناولت مقارنة الفكر الاقتصادي بين محمد إقبال ومالك بن نبي، قدّمت في الندوة الدولية حول فكر مالك بن نبي المنعقدة في العاصمة الماليزية كوالالامبور بتاريخ 2-4 سبتمبر 1991م، نظّمها معهد البحوث السياسية وقسم التاريخ والفلسفة في جامعة ملايا بالتعاون مع قسم الفلسفة والعلوم في جامعة العلوم هناك.
والورقة الثانية حملت عنوان: (الرؤية العالمية الإسلامية إلى التاريخ.. الثقافة والحضارة عند محمد إقبال ومالك بن نبي)، قدمت في الملتقى الدولي حول فكر مالك بن نبي، المنعقد في العاصمة الجزائرية بتاريخ 18-20 أكتوبر 2003م، نظمّه المجلس الإسلامي الأعلى في الجزائر.
أما الورقة الثالثة فهي من إعداد الباحث المغربي الدكتور سعيد شبار وحملت عنوان: (المنظور التكاملي والتفاعلي في أعمال محمد إقبال ومالك بن نبي وفتح الله كولن) قدمت لندوة (الأفق الإنساني وقيم التدافع والتعارف في مشاريع الإصلاح)، عقدت في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة بني ملال المغربية، بتاريخ 10-11 أبريل 2014م.
وبالنسبة إلى الكتاب الوحيد، فهو من تأليف الباحث الجزائري الدكتور بوبكر جيلالي بعنوان: (الإصلاح والتجديد الحضاري لدى محمد إقبال ومالك بن نبي.. بين النظرة الصوفية والتفسير العلمي) صدر في الجزائر سنة 2011م.
هذا القدر الضئيل يكشف عن أن المقاربة بوجوهها المختلفة بين إقبال وابن نبي ما زالت خارج دائرة التذكُّر، ولم يتم الاقتراب منها بالقدر الكافي، وبالمستوى اللائق بها، وظلت بهذا الحال حتى مع الطفرة الكبيرة في الكتابات حول مالك بن نبي (مقالات ومؤلفات ورسائل جامعية)، التي بدأت في العقد الأخير من القرن العشرين، وتصاعدت في العقد الأول من القرن الحالي، وما زالت في حالة تصاعد ولم تتراجع أو تتوقَّف، الطفرة التي كان يفترض منها أن تلفت الانتباه إلى الأبعاد الغائبة وغير المطروقة، سعيًا وتجنبًا لآفات التكرار والاجترار، ومنعًا من الإصابة بالرتابة والجمود.
ومن الواضح أن أهمية هذه المقاربة تكمن في أهمية هذين الرجلين، وذلك من الناحيتين الفكرية والزمنية، فمن الناحية الفكرية فإن إقبال وابن نبي هما من ألمع رجالات الفكر الإسلامي المعاصر عطاءً وتجدُّدًا، فإقبال قدَّم أجود محاولة في نقد الثقافة الأوروبية من جهة، وفي تأكيد العلاقة بين الإسلام والعالم الحديث من جهة أخرى، وقدَّم ابن نبي أجود محاولة في تحليل فكرة الحضارة والبحث عن مشكلات الحضارة من جهة، وفي تأكيد علاقة المسلمين بشروط النهضة من جهة أخرى.
ومن الناحية الزمنية، فلا شك، فإن هناك حاجة ملحة لاستعادة خطاب هذين المفكرين والربط بينهما في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر، وذلك بعد التراجعات الخطيرة على مستوى الأبعاد كافة، وقد ظهرنا فيها وكأننا نتشبَّه بحال العصور الوسطى المظلمة في أوروبا، مع تفجّر وانبعاث نزعات التعصُّب والتطرُّف والتحجُّر التي غيَّرت وقلبت صورة العالم العربي ناظرًا ومنظورًا إليه.
أمام هذا الانحدار المفزع والخطير، تتأكَّد الحاجة لاستعادة الخطاب النهضوي الحضاري الذي يمكن أن يُعيد للأمة عافيتها المفقودة، وتماسكها المهدور، وعلى أمل أن نخرج من هذه العصور المظلمة، وينبعث في الأمة روح العقلانية والتسامح والتآخي، ويضعها على طريق الأمان، ويُنير لها درب التقدُّم والنهوض، ولا جدال في أن إقبال وابن نبي هما من ألمع رموز هذا الخطاب النهضوي الحضاري.
-2-
نقد ابن نبي.. صورته ووضعيته
تركّزت مناقشة ابن نبي لإقبال وتحدّدت في كتابه (وجهة العالم الإسلامي) الصادر سنة 1954م، الذي حضر فيه إقبال بصور متعددة، وعند النظر في طبيعة هذه الصور يمكن الكشف عن ثلاثة مواقف هي:
أولًا: الموقف الاعتباري، ونعني به الموقف الذي أظهر فيه ابن نبي منزلة إقبال وصفته الاعتبارية، وتحدّدت هذه الصفة في كونه مفكرًا من جهة، ومصلحًا من جهة أخرى، الأمر الذي يعني أن ابن نبي أعطى إقبالاً الصفة الاعتبارية التي يستحقها، ونظر له وتعامل معه وناقشه بهذه الصفة الاعتبارية.
ومن وجه آخر، فإن هذه الصفة تناظر صفة ابن نبي، فهو مفكر من جهة، ومصلح من جهة أخرى، لكنه ليس شاعرًا مثل إقبال الذي كان شاعرًا موهوبًا ومؤثرًا ومن طراز رفيع، عرف بشعره وعبر به إلى العالم.
صفة المفكر أشار إليها ابن نبي في موردين، المورد الأول حين ناقش إقبال حول موضوع المرأة، وحينما جاء على ذكره قال عنه أنه أحد كبار الفكرين[1]، المورد الثاني حين تحدث ابن نبي عن المآل الروحي لعالم الإسلام وجاء على ذكر إقبال ووصفه بالمفكر الشاعر[2].
وعن صفة المصلح، فقد أشار إليها ابن نبي في موارد عدة، تارة عند الحديث عن رجال الإصلاح ويأتي على ذكر إقبال، وتارة عند الحديث عن المدرسة الإصلاحية والحركة الإصلاحية ويأتي على ذكر إقبال.
وفي نطاق هذا الموقف تتكشف أحد ملامح أهمية هذه المناقشة، فهي مناقشة مفكر لمفكر، ومصلح لمصلح، وجرت بين مفكر عرف وبرز دوره وتأثيره في النصف الأول من القرن العشرين، وبين مفكر عرف وبرز دوره وتأثيره في النصف الثاني من القرن العشرين.
ثانيًا: الموقف الاستنادي، ونعني به الموقف الذي استند فيه ابن نبي إلى إقبال تأييدًا وتوافقًا، تأكيدًا وتعاضدًا، وتمثّل هذا الموقف في موارد عدة، اتصل بقضايا وسياقات متعدّدة، وتحدّد في الموارد الآتية:
المورد الأول: عند الحديث عن الجانب الروحي في الإنسان الذي يظهر فيه إنسانًا متدينًا، تطرق ابن نبي إلى العنصر الديني الذي يرى فيه أنه يتدخَّل مباشرة في الطريقة التي يتبعها لاستبطان ذاته، باعتباره أساسًا لضمير يبحث عن نفسه ويكون مرتبطًا بالوعي الاجتماعي، ربطًا لا يمكن معه أن ينفصل أحدهما عن الآخر، الأمر الذي يجعل من الإصلاح الديني ضروريًّا باعتباره نقطة في كل تغيير اجتماعي، ويعقب ابن نبي على هذا الكلام ويتساءل: ولكن كيف نصوغ المشكلة في الإطار الخاص بالعالم الإسلامي الحديث؟
أمام هذا التساؤل رأى ابن نبي أن المدرسة الإصلاحية قد صاغت تلك المشكلة بلغة علم الكلام، وهنا يصل ابن نبي إلى إقبال مستندًا إلى رأيه لكونه صاغ تلك المشكلة في مصطلحات أخرى «حين نبَّه على أن المطلوب ليس العلم بالله، ولكنه في أوسع وأدق معانيه الاتصال بالله، ليس المطلوب مفهومًا كلاميًّا، ولكنه انكشاف للحقيقة الخالدة، وبحسب تعبيره هو تجلي هذه الذات العلوية»[3].
المورد الثاني: عند الحديث عن الحركة الإصلاحية، رأى ابن نبي أن هذه الحركة في عمومها لم تعد تملك ما ظفرت به في بدايتها من نفثة روحية وانتفاضة تصوفية، فضلت تعاليم تهدف إلى تكوين متخصصين بارعين، أكثر مما تتجه إلى خلق مخلصين، وحين يعقب ابن نبي على هذا الكلام مقتربًا من الإشارة إلى إقبال يقول: فيبدو أن تلك الحالة تتخلى عن مكانها ليحل محلها اتجاه جديد أكثر انطباقًا مع ما دعا إليه إقبال، فقد ظهرت جماعات دينية تلمس فيها الضمير المسلم طريقه من جديد، وكان لاحدى هذه الجماعات دون أن يسميها حظًّا وافرًا، معتبرًا أنها تمثل استجابة حقة لما دعا إليه الاتجاه الجديد في آراء إقبال[4].
المورد الثالث: عند الحديث عن ربط نهضة العالم الإسلامي بالأهداف الإنسانية العامة، وتجاوز المستوى المادي للحضارة الراهنة، استند ابن نبي إلى إقبال قائلًا: «لقد سبق لإقبال وهو يخط للعالم الإسلامي طريق نهضته الروحية، أن طالبه بصيغة في التفكير تمكنه من النظر إلى الأشياء والتنظيمات لا من حيث نفعها أو ضررها الاجتماعي الذي تعود به على بلد أو آخر، بل من حيث الأهداف العظمى التي يسعى إليها مجموع الإنسانية، فهذا النوع من الفكر الميتافيزيقي الذي قال به إقبال قد يصطدم بالأذهان ذات النزعة العقلية، تلك التي ترى أن كل ما لا يدخل في نطاق المادة لا يدخل في نطاق العقل، فالمشكلة على هذا تستوجب المواجهة، إذ هي تتصل بموقف الإنسان في العالم الجديد، كما تتصل بمستقبل الحضارة... فهناك -حسب تعبير إقبال- خطة للمجموع هي التي تكشف عن اتجاه التاريخ، وعلى أساس هذه الخطة العامة للإنسانية ولحضارتها، ندرك المعنى الكامل أو المغزى الميتافيزيقي للأحداث[5].
المورد الرابع: عند الحديث عن اتصال الطبقة المثقفة في العالم الإسلامي الآسيوي بالأديان الأخرى، الذين يعيشون في جو صوفي ملتهب حسب وصف ابن نبي، فالإنسان المسلم الذي يشهد هذه الحياة الدينية العجيبة، قد يهز أعماقه انقلاب هائل، وهنا يقترب ابن نبي من إقبال متخذًا منه مصداقًا لكلامه، فالانقلاب الهائل الذي يمكن أن يهز أعماق الإنسان المسلم في تلك البيئة الهندية قد أصاب إقبال، وحسب قول ابن نبي: «هو انقلاب أصاب من قبله إقبال حين كان يشهد تقاليدهم، ويعيش في جوهم، فنضج بذلك ضميره الديني، مما اكسب المفكر الشاعر ذاتية غنية، اتصف بها ضمير يتمتع بالعقل والعاطفة، أي بميزة الفهم وميزة الانفعال، هذا الحوار بين القلب والفكر هو الذي ينقص إنسان ما بعد الموحدين، والذي يبدو أنه لم يتحرك بعد داخل نفسه على شاطئ البحر الأبيض، وهو من أعظم ما يتعلَّمه العالم الإسلامي في رحلته نحو آسيا»[6].
هذه الموارد التي استند فيها ابن نبي إلى إقبال، يظهر عليها أنها تتأطر في مجموعها الكلي بالجانب الروحي، الذي اعتنى به إقبال وتميّز، وأصبح مكوّنًا جوهريًّا وأساسيًّا في فلسفته وخطابه الفكري والديني.
ثالثًا: الموقف النقدي، ونعني به الموقف الذي ظهر فيه ابن نبي ناقدًا لإقبال، في خطوة مبكّرة ترجع إلى مطلع خمسينات القرن العشرين، ولعله أسبق موقف نقدي لإقبال في المجال العربي، ويمكن أن يؤرخ له من هذه الجهة، ويسجل فكريًّا لصالح ابن نبي.
ولا شك أن النقد الذي يأتي من ابن نبي ويتَّجه إلى إقبال، هو نقد له أهميته الكبيرة، وقيمته العالية، لأنه نقد مفكر لمفكر، ونقد قطب لقطب، فكل واحد منهما له منزلته وموقعيته المميزة والكبيرة وبلا منازع في ساحة الفكر الإسلامي المعاصر.
وعند التبصر في هذا الموقف النقدي، يمكن ضبطه وتحديده وتعاقبه في المسائل الآتية:
المسألة الأولى: وتتَّصل بالموقف تجاه الغرب الحديث في عالم الإسلام، فعند حديث ابن نبي عن الحركة الحديثة توقف أمام نص شهير لإقبال يقول فيه: «إن أجدر ظاهرة بالملاحظة في التاريخ الحديث، هي السرعة الهائلة التي يتحرك بها عالم الإسلام في جانبه الروحي نحو الغرب»، بعد هذا النص تساءل ابن نبي مناقشًا وناقدًا: هل الأمر هو كذلك حقًّا؟
هذه القضية ناقشها ابن نبي مرتين، مرة في مكانها، ومرة في مكان آخر، ويمكن ضبط هذه المناقشة وتحديدها في ثلاثة أمور هي:
الأمر الأول: ليكون الحق مع إقبال كان ينبغي في نظر ابن نبي أن تكون أوروبا قد آتت عالم الإسلام روحها وحضارتها، أو أن يكون عالم الإسلام قد سعى فعلًا ليكتشفهما في مواطنهما، وهذا ما لا يراه ابن بني من الطرفين، فلا أوروبا في رأيه تعاملت بطريقة أن تؤتي روحها وحضارتها إلى عالم الإسلام، لأن الأوروبي لم يفد إلى الشرق بوصفه ممدنًا بل بوصفه مستعمرًا، ولا العالم الإسلامي تعامل بطريقة البحث عن روح الحضارة في أوروبا، فالشاب المسلم في تصور ابن نبي لم يذهب إلى أوروبا إلَّا لكي يحصل على لقب جامعي أو لكي يشبع فضوله السطحي التافه حسب وصفه.
هذه الملاحظة يرى فيها ابن نبي أنها تبين بجلاء كيف يتصور المجتمع الإسلامي دور الطالب الذي يسافر إلى أوروبا، فالهدف الوحيد أن يدرس لغة أو يتعلّم حرفة، لا أن يكتشف ثقافة، فكل ما يهمه هو المنفعة العاجلة.
ويستدرك ابن نبي القول: لكن لا ينبغي أن نعزو هذا الاتجاه إلى عدم اكتراث المسلم بحضارة الغرب فحسب، بل إن المدرسة الاستعمارية قد أسهمت في خلق هذا الوضع، إذ لم تكن تهتم بنشر عناصر الثقافة الأوروبية، بقدر ما تحرص على توزيع نفاياتها[7].
الأمر الثاني: حين رجع ابن نبي إلى هذه القضية مرة أخرى، تنبَّه إلى أن إقبال حين تحدّث عن السرعة الهائلة التي يتحرّك بها عالم الإسلام في جانبه الروحي نحو الغرب، لم يذكر سوى ذلك الجانب الخاص، أما الجانب العام فقد سبق أن أدركه ابن خلدون من قبل حين قال: «إن الغالب مولع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»، الظاهرة التي يطلق عليها في الاصطلاح الحديث -حسب قول ابن نبي- قانون التكيّف[8].
الأمر الثالث: يرى ابن نبي أن صورة الغرب الحديث قد تغيّرت وانقلبت، وحسب قوله: لم يعد له ما كان يتمتع به من تأثير ساحر، وجاذبية غلّابة ظفر بها على عهد مصطفى كمال وعهد إقبال، فالعالم الغربي في نظر ابن نبي قد أصبح حافلًا بمشاهد أخرى من الفوضى، لا يجد فيه الفكر الإسلامي الباحث عن النظام نموذجًا يحتذيه، ومنبع إلهام خارجي يهدي مساره التقدمي، حتى لقد أوشك أن يرجع إلى قيمته الخاصة، وبات الشباب المسلم يعلم أن الغرب لا يسعه أن يقدم له كل ما يتطلب من حلول كما كان الشأن أيام أتاتورك[9].
المسألة الثانية: وتتَّصل بالموقف تجاه مشكلة المرأة، والتنازع ما بين المحافظة عند المسلمين والتحرّر عند الأوروبيين، فعندما نظر ابن نبي إلى موقف إقبال في هذه المسألة، وجد أنه يرى أن حل مشكلة المرأة لا يمكن أن يكون في وضعها الراهن المؤسي، كما أنه ليس فيما درجت إليه أختها الأوروبية، الرأي الذي يرى فيه ابن نبي أن إقبالًا لم يقترح حلًّا وسطًا بين هذين القطبين.
في هذا الموقف استند ابن نبي إلى بيت من الشعر، اعتبر إقبالًا قد استودع فيه قلقه الحزين المتردد في نهاية حياته تجاه مشكلة المرأة في مجتمعات المسلمين، وأشار ابن نبي إلى هذا البيت الذي نظمه إقبال بقوله: «شد ما يحزنني اضطهاد المرأة، ولكن مشكلتها معقدة، لا أرى لها حلّا».
هذا الموقف لم يتقبله ابن نبي وأعطاه صفة الاضطراب، دالًّا في نظره على اضطراب فكر إقبال في هذه المسألة، وأشار ابن نبي إلى هذه الصفة مرتين في موردين لهما علاقة بقضية المرأة، والمختلف في هذين الموردين هو في علاقة الدال والمدلول من جهة التقديم والتأخير.
في المورد الأول أشار ابن نبي إلى موقف إقبال ومن ثم أعطاه صفة الاضطراب، واعتبره صدى لاضطراب عام يسود التفكير الإسلامي، فبعد أن تحدث عن رأي إقبال عقّب عليه بقوله: «فلم يكن اضطراب فكره إلَّا صدى لذلك الاضطراب العام الذي يسود التفكير الإسلامي، بعد قرابة نصف قرن من الإصلاح ومحاولة التكيّف مع الأسلوب الغربي، فشكل النهضة الإسلامية الراهن هو خليط من الأذواق، ومن المحاولات ومن التذبذب ومن مواقف التدين أيضًا»[10].
في المورد الثاني أشار ابن نبي إلى صفة الاضطراب عند إقبال ودلَّل عليها بموقفه تجاه مشكلة المرأة، واعتبره كذلك شاهدًا على اضطراب عام أصاب الضمير المسلم الحديث، ونص كلامه: «لقد لاحظنا أن إقبالًا كان دائمًا يضطرب عندما يقتضيه الأمر تحديد موقفه، كما هي حاله في مشكلة المرأة، فرأيناه يتردّد بين عوائد الشرق التي تفصل المرأة عن دنيا الناس بحجاب تخفي به وجهها، ومشربية ترى منها الناس ولا يراها أحد، وبين فكرة الغرب عن تحرير المرأة دون قيد أو شرط، فتلقي لها الحبل على الغارب في دنيا الناس، هذا الموقف شاهد على الاضطراب العام الذي أصاب الضمير المسلم الحديث، التائه بين حلين يبدو كلاهما لعينه باعثًا على الأسى»[11].
المسألة الثالثة: وتتَّصل بتقويم الأثر، وتحديدًا أثر الأفكار وصداها ومدى اتِّساعها، وذلك في سياق المقارنة بين ثلاثة أشخاص ينتمون إلى اتجاهين رئيسين اعتنى ابن نبي بدراستهما، هما اتجاه الحركة الإصلاحية، واتجاه الحركة الحديثة، وهؤلاء الأشخاص الثلاثة هم: الشيخ محمد عبده (1266-1323هـ/ 1849-1905م) معبّرًا عن الوجهة الإصلاحية، والدكتور طه حسين (1306-1393هـ/ 1889-1973م) معبّرًا عن الوجهة الحديثة، والثالث هو إقبال الذي أشار إلى اسمه وأعطى تقويمًا لأثره من دون أن يساويه مع الرجلين من جهة الشرح والتوضيح.
ففي تقويمه لحركة الشيخ محمد عبده، يرى ابن نبي أن التجديد الذي استتبعته حركته في العالم الإسلامي كان «تجديدًا أدبيًّا في جوهره، ولهذا لم يتحرّر الفكر الإسلامي من ربقة القواعد التقليدية الخانقة، فهو من الوجهة الإصلاحية ظل منعقدًا على تلك الموضوعات القديمة: كعلم التوحيد وفلسفة الكلام والفقه الإسلامي وفقه اللغة، وهو في كل هذا لم يتعدَّ المعالم التي خطها أساتذة الإصلاح».
وعن تقويمه لأثر الدكتور طه حسين يرى ابن نبي «أما من الوجهة الحديثة، فإنه قد انطلق أكثر من ذلك على يد الدكتور طه حسين، ومؤلفات هذا الكاتب لا تعدّ نظرية تتفرع عنها اتجاهات جديدة، ولكنها قد خلقت بطرافتها وصورتها الأدبية ضجّة من الأفكار جديرة بالدرس والمناقشة، ومن هنا جدّت حركة في التفكير، ولكن هذه الحركة قد ظلّت مجزّأة لا تربطها مفاصل... ومن هنا حق لنا أن نقول: إن عمل الدكتور طه حسين لم يزد على أن مسَّ الأوساط الأدبية في شمال إفريقية مسًّا رفيقًا».
بعد هذا الكلام انتقل ابن نبي للحديث عن إقبال، والقدر الذي أشار إليه في هذا السياق، تحدد في جملة قصيرة بقوله: «وإن عمل الدكتور إقبال لم يكن له أيضًا أدنى صدى»[12].
هذه لعلها هي صورة إقبال في الخطاب الفكري لابن نبي وملاحظاته النقدية عليه، كما تحدّدت بصورة رئيسة في كتابه (وجهة العالم الإسلامي).
-3-
تقويم النقد والصورة
عند النظر في نقد ابن نبي لإقبال، وبعد الفحص والتبصر يمكن تسجيل الملاحظات الآتية:
أولًا: إن صورة إقبال في خطاب ابن نبي بالقدر الذي تحدث عنها وصفًا وتحليلًا ونقدًا لا تقدم صورة مكتملة عن إقبال، وإنما تقدم صورة يمكن وصفها بالاجتزاء والاختزال والنقصان، فهي صورة ناقصة احتوت على بعض اللمحات والإشارات المفككة والمتقطعة، وفقدت من هذه الجهة عنصري التركيب والاتصال.
وتصدق هذه الملاحظة، حتى لو اعتبرنا أن ابن نبي لم يكن بصدد تقديم صورة مكتملة عن إقبال، لكون أن الحديث عنه جاء من باب التمثيل والتصديق وليس من باب البحث عن اكتمال الصورة، مع ذلك تصدق هذه الملاحظة، لأن المواقف والإشارات التي تطرق إليها ابن نبي لا تعبر كذلك عن اكتمال الرؤية عند إقبال.
فحين توقّف ابن نبي عند مقولة إقبال حول السرعة الهائلة التي يتحرك بها عالم الإسلام في جانبه الروحي نحو الغرب، ناقش ابن نبي هذه المقولة مختلفًا وناقدًا من دون الإحاطة بكامل رؤية إقبال في هذا الشأن، فهذه المقولة كانت لها تتمة مهمة لم يشر إليها ابن نبي، ومن دونها لا تتوازن رؤية إقبال وتكتمل، وأنها اتّصلت بسياق جاء كاشفًا لها ومفسرًا، ومن دونه لا تتوازن كذلك رؤية إقبال وتكتمل.
والنص الكامل لهذه المقولة يتحدّد بقول إقبال: «ظل التفكير الديني في الإسلام راكدًا خلال القرون الخمسة الأخيرة، وقد أتى على الفكر الأوروبي زمن تلقى فيه وحي النهضة عن العالم الإسلامي، ومع هذا فإن أبرز ظاهرة في التاريخ الحديث هي السرعة الكبيرة التي ينزع بها المسلمون في حياتهم الروحية نحو الغرب، ولا غبار على هذا المنزع فإن الثقافة الأوروبية في جانبها العقلي ليست إلَّا ازدهارًا لبعض الجوانب الهامة في ثقافة الإسلام، وكل الذي نخشاه هو أن المظهر الخارجي البرَّاق للثقافة الأوروبية قد يشل تقدمنا فنعجز عن بلوغ كنهها وحقيقتها، وكانت أوروبا خلال جميع القرون التي أصبنا فيها بجمود الحركة الفكرية، تدأب في بحث المشكلات الكبرى التي عُني بها فلاسفة الإسلام وعلماؤه عناية عظمى، ومنذ العصور الوسطى، وعندما كانت مدارس المتكلمين في الإسلام قد اكتملت، حدث تقدم لا حدَّ له في مجال الفكر والتجربة، وكان من نتائج امتداد سلطان الإنسان على الطبيعة، أن بعث فيه ذلك إيمانًا وإحساسًا جديدين بتفوّقه على القوى التي تتألف منها بيئته، فظهرت وجهات نظر جديدة»[13].
هذا النص بحقله الدلالي المكثّف والمتعدّد الأبعاد، يكشف عن أن مناقشة ابن نبي له كانت مجتزأة وناقصة ولم تكن مكتملة.
وهكذا الحال يصدق على الموقف بشأن المرأة، حين النظر لهذا الموقف في الإطار العام من جهة رؤية إقبال لتجديد التفكير الديني في الإسلام، وفي الإطار الخاص حين ناقش واختلف مع الشاعر التركي ضيا كوك ألب حول موضوع المرأة في الإسلام.
وأما بالنسبة لتقويم أثر إقبال، فإذا كان التقويم الذي أشار إليه ابن نبي يصدق على وقته في مطلع خمسينات القرن العشرين، فإنه لا يصدق بالتأكيد بعد ذلك الوقت الذي سجّل فيه إقبال حضورًا واسعًا ومتناميًا في العالمين العربي والإسلامي، وامتدَّ أثره ووصل إلى بعض المجتمعات الأوروبية مثل ألمانيا.
ثانيًا: ظهر عندي أن ابن نبي تعرف على إقبال وأفكاره من خلال المستشرق الإنجليزي هاملتون جيب (1895-1971م) وعبر كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) الصادر باللغة الإنجليزية سنة 1947م، وهو الكتاب الذي أشار إليه ابن نبي في مدخل كتابه (وجهة العالم الإسلامي)، وامتدحه وبالغ في الثناء عليه، وأعلن التوافق معه، وعدَّه مرشدًا ثمينًا لكتابه، ورأى أنه يستحق اهتمام كل مسلم يريد أن يختطَّ بعض المعالم لأفكاره، وأظهر قدرًا ضئيلًا من الاختلاف معه حدّده في أمرين لا غير.
هذه الإشارات وردت في مدخل كتاب ابن نبي، المدخل الذي خصَّصه بأكمله للحديث عن جيب وكتابه السالف الذكر، فقد افتتحه بقوله: «كنت قد فرغت من تخطيط هذه الدراسة، عندما جاءني أحد أصدقائي، وقد كان على علم بمشروعي، فأطلعني على المؤلَّف القيّم الذي وضعه الأستاذ جيب بعنوان «الاتجاهات الحديثة في الفكر الإسلامي»، فوجدت أن موقف المؤلف الكبير يشبه في مواطن كثيرة، موقفي الذي حاولت مع قصر باعي أن أجلوه»[14].
واختتم ابن نبي المدخل بقوله: «أعود فأكرر القول: إن كتاب المستشرق الإنجليزي يعدّ مرشدًا ثمينًا لكتابي هذا في دراسة الأمراض شبه الصبيانية في العالم الإسلامي، ولكم أتمنى أن يتأمَّل موضوعاته كثيرون من المسلمين كما تأمَّلتها، وأن يقدروا فيه نزاهته التي سمت على كل مركب عقيدي أو سياسي»[15].
هذا الموقف من ابن نبي لفت انتباهي كثيرًا، وتعجَّبت كيف يصدر مثل هذا الكلام منه، وهو صاحب الحساسية المفرطة تجاه كل ما له علاقة بالاستعمار والمستعمر والمعامل الاستعمارية، والمسكون بهاجس الصراع الفكري مع المستعمر، وقد هندس لنا هذه النظرية، وعرف بها في كتابه (الصراع الفكري في البلاد المستعمرة)، وهو أول كتاب له أصدره باللغة العربية بخط يده بعد انتقاله من فرنسا إلى مصر سنة 1956م.
ويزداد هذا الموقف تعجبًا واستغرابًا عند العودة إلى محاضرة ابن نبي التي خصّصها لنقد الاستشراق وذمِّه، المحاضرة المنشورة والمعروفة بعنوان: (إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث)، إذ اعتبر ابن نبي أن الاستشراق كان شرًّا بكلا نوعيه الإيجابي والسلبي، وحسب قوله: إن «الإنتاج الاستشراقي بكلا نوعيه كان شرًّا على المجتمع الإسلامي، لأنه ركب في تطوره العقلي عقدة حرمان، سواء في صورة المديح والإطراء التي حوّلت تأملاتنا عن واقعنا في الحاضر، وأغمستنا في النعيم الوهمي الذي نجده في ماضينا، أو في صورة التفنيد والإقلال من شأننا، بحيث صيرتنا حماة الضيم عن مجتمع منهار»[16].
والذي لا شك فيه، أن كتاب جيب (الاتجاهات الحديثة في الإسلام)، هو كتاب استشراقي بامتياز، ويقدم معرفة استشراقية، نابعة من خبرة استشراقية، ويصدق عليه كل ما يصدق على المعرفة الاستشراقية من أحكام وتقديرات وانطباعات، فليس هناك تناسب بين موقف ابن نبي من الاستشراق، والذي اتَّصف بالتشكيك والرفض والممانعة، وموقفه من جيب وكتابه، إلَّا أن نقول: إن موقفه من جيب، يعدّ سابقًا على موقفه من الاستشراق الذي جاء تاليًا.
ولا أدري لماذا اعتبر ابن نبي تشابه موقفه، بموقف جيب في كتابه، مع ما بينهما من تباين واختلاف جوهري عميق، من جهة الروح العامة التي حكمت طبيعة العملين، ومنطلقاتهما الذهنية، ووجهتهما العامة. فجيب كان محكومًا بذهنية الاستشراق، وتسري في داخله روح الاستشراق، بخلاف ابن نبي الذي هو ابن المستعمرات، وكان محكومًا بذهنية المفكر الذي يسعى لخلاص أمته من سيطرة المستعمر، وتسري في داخله روح المقاومة والممانعة.
وفي حين كان جيب ينطلق من عقل بارد، ليقدّم معرفة باردة، كان ابن نبي ينطلق من عقل ساخن، ليقدّم معرفة ساخنة، نابعة من واقع الأمة المرّ والملتهب.
مع ذلك فهذا لا يمنع بشكل مطلق حصول تشابه في بعض الأفكار، وبعض النتائج، مثل التوافق في تقدير محدودية تقدّم وانتشار الحركات الفكرية الحديثة في المجتمعات الإسلامية.
في كتابه (الاتجاهات الحديثة في الإسلام) اعتنى جيب بدراسة أفكار إقبال وتحليلها بالعودة إلى كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، وبدا لي أن مصدر هذه العناية بالنسبة لجيب ترجع إلى ثلاثة أمور متعاضدة، الأول أن جيب كان معنيًّا بدراسة بنية وبناء التفكير الإسلامي وعلاقته بالروح العصرية، ومن هذه الجهة تمثل الهند في نظر جيب المركز الحيوي للتفكير الإسلامي بعد مصر والعالم العربي، لكونها أكثر قربًا للروح العصرية، وكانت أشد تأثرًا بالأفكار الغربية.
الأمر الثاني: أن إقبالًا -في تصوّر جيب- يشكّل أهم صورة للطائفة الإسلامية الحديثة، والأمر الثالث: يرى جيب أن إقبالًا في محاضراته الست حول إعادة بناء التفكير الإسلامي مثَّل أول محاولة تامة لإعادة بناء اللاهوت الإسلامي.
أما ما يؤكد أن ابن نبي تعرف على إقبال وأفكاره من خلال جيب وكتابه الاتجاهات الحديثة، فيتحدّد في الملاحظات والقرائن الآتية:
الملاحظة الأولى: إن مجموع المواقف التي أشار إليها ابن نبي حول إقبال وردت في كتاب جيب، وتوقف جيب عندها ونبَّه إليها.
ومن المفارقات الدالة، أن القضية التي افتتح بها ابن نبي الحديث عن إقبال في كتابه (وجهة العالم الإسلامي)، هي القضية نفسها التي افتتح بها جيب كتابه الاتجاهات الحديثة، وهي قضية السرعة الهائلة التي يتحرك بها عالم الإسلام في جانبه الروحي نحو الغرب.
مع ملاحظة أن جيب أشار إلى ذكر إقبال قبل هذه القضية، لكنها إشارات جاءت متفرقة، واتَّصلت بسياقات مختلفة، وحينما توقّف عنده لدراسة أفكاره افتتح الحديث عنه بالإشارة إلى تلك القضية، لافتا الانتباه إلى النص الذي ذكره ابن نبي[17].
ومن المفارقات الأخرى التي تندرج في دائرة القرائن، أن ابن نبي عند حديثه عن رأي إقبال حول مشكلة المرأة، استند إلى بيت من الشعر منسوب لإقبال، هذا البيت ورد بتمامه وبحدوده في كتاب جيب، بشكل يظهر وكأن ابن نبي تعرّف على هذا البيت في كتاب جيب واقتبسه منه، لأن كلاهما اكتفيا بالإشارة إلى هذا البيت من دون العودة إلى البيت الذي قبله أو البيت الذي بعده.
ومن المفارقات المندرجة في دائرة القرائن، تطابق الموقف في تقويم أثر إقبال، فقد رأى ابن نبي بنص كلامه «إن عمل الدكتور إقبال لم يكن له أدنى صدى»[18]، وهذا يطابق ما أشار إليه جيب بقوله: «فأنا لا أرى أن أعماله قد لاقت رواجًا خارج الهند»[19].
الملاحظة الثانية: إن معظم أو جميع الموارد التي تحدّث عنها ابن نبي حول إقبال لها علاقة بكتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، لكن المفارقة اللافتة أن ابن نبي لم يأتِ على ذكر هذا الكتاب قطّ، ليس عند الحديث عن تلك الموارد فحسب وإنما في عموم الكتاب، ولا شك أن هذه الملاحظة تستدعي النظر والتساؤل والبحث!
الذي أراه لو أن ابن نبي استقى تلك الموارد من كتاب إقبال لذكر عنوانه لا أقل مرة واحدة، وهذا يعني أن ابن نبي استقى تلك الموارد من مصدر آخر، وليس هناك مصدر آخر إلَّا كتاب جيب الذي عدّه ابن نبي بنص كلامه مرشدًا ثمينًا لكتابه، ومتخذًا منه سندًا يؤيّد رأيه، سندًا له وزن كبير عنده.
وما يقرب تأكيد هذه الملاحظة، أن جيب الذي ناقش أفكار إقبال بالعودة إلى كتابه (تجديد التفكير الديني في الإسلام)، لم يذكر اسم هذا الكتاب، وظل يعرفه بعنوان المحاضرات الست حول إعادة التفكير الديني في الإسلام، باعتبار أن الكتاب في الأصل يتكوّن من ست محاضرات، فمع أول ذكر لإقبال قال عنه جيب: «ففي محاضراته الست عن إعادة بناء التفكير الإسلامي، يتطرّق محمد إقبال إلى موضوع صياغة الأفكار الرئيسية للإسلام في قالب موحد للاهوت الإسلامي»[20].
وعندما أراد جيب مناقشة أفكار إقبال ذكره بالقول: «إنه صوت السيد محمد إقبال في محاضراته الست حول إعادة بناء التفكير الديني في الإسلام»[21].
وحين يتنقل جيب في مناقشة أفكار إقبال، فإنه لا يعرف عن الكتاب إنما يعرف عن المحاضرات بأرقامها، بعنوان المحاضرة الأولى والمحاضرة الثانية حتى المحاضرة السادسة، ويذكر في المحاضرة الأولى شرح إقبال القضية الفلانية، وفي المحاضرة الثانية تحدّث عن القضية الفلانية، وهكذا في باقي المحاضرات الست.
والذي يرجع إلى كتاب جيب، لا يعرف منه على وجه الدقة والتحديد عنوان كتاب إقبال، لا أقل هذا ما وجدته في الترجمة العربية لكتاب جيب، ولا أعلم بشأن هذه الملاحظة في الطبعة الإنجليزية من الكتاب.
ثالثًا: وصف ابن نبي فكر إقبال بالاضطراب، وتكرّر هذا الوصف مرتين في موردين لهما علاقة بموضوع واحد هو الموقف من قضية المرأة، وهذان الموردان هما:
في المورد الأول أشار ابن نبي قائلًا: «فإقبال يرى أن حل مشكلة المرأة، لا يمكن أن يكون في وضعها الراهن المؤسي، كما أنه ليس فيما درجت إليه أختها الأوروبية، ومع ذلك فإنه لم يقترح لنا حلًّا وسطًا بين هذين القطبين، فلم يكن اضطراب فكره إلَّا صدى لذلك الاضطراب العام الذي يسود التفكير الإسلامي، بعد قرابة نصف قرن من الإصلاح ومحاولة التكيف مع الأسلوب الغربي»[22].
في المورد الثاني أشار ابن نبي قائلًا: «لقد لاحظنا أن إقبالًا كان دائمًا يضطرب عندما يقتضيه الأمر تحديد موقفه، كما هي حاله في مشكلة المرأة»[23].
هذا الوصف ما كان ابن بني في حاجة إلى الإشارة إليه، لأنه جاء قاسيًا من جهة، ولأنه ليس ثابتًا ويُمكن النقاش فيه من جهة ثانية، ومن جهة ثالثة فإن هذا الوصف يكاد يجاري أو يطابق أو يماثل الوصف الذي أطلقه جيب بحق إقبال حين وصفه تارة بالتناقض، وتارة بالتشوش، وتارة بالبلبلة الفكرية.
واللافت في هذه الملاحظة، أن جيب وصف موقف إقبال بالتناقض في سياق حديثه عن قضية المرأة، وهو السياق نفسه الذي أشار إليه ابن نبي ووصف فيه إقبال بالاضطراب، فعن هذا الوصف قال جيب: «إن إقبالًا اعترف في النهاية بخطئه بشأن النساء... فهل من القساوة أن نعتبر هذا الفشل يختصر موقف المجدّدين؟ إن هذا الموقف المتناقض، مهما بدا صحيحًا بالنسبة للطبقات المتوسطة في مصر وفي الهند، تلك الطبقات التي نشأت على النمط الأوروبي، فإنه لا ينطبق على مجمل المجتمع الإسلامي»[24].
وفي النقاش بصورة عامة، وهكذا في المحاججة والمجادلة يفضل الإشارة إلى الآراء والأفكار ووجهات النظر، بعيدًا عن إطلاق الأوصاف التي تحمل أحيانًا صفة الأحكام، والراجح أن ليس من غاية النقاش إطلاق الأحكام، ولا يحقّ لأي طرف في النقاش أن يُعطي نفسه حق إطلاق الأحكام على الطرف الآخر، فإطلاق ابن نبي صفة الاضطراب على فكر إقبال، هذا الموقف يندرج في دائرة الأحكام، ولا يندرج في دائرة النقاش.
هذه مناقشة لمناقشة ابن نبي مع إقبال، المناقشة التي ظهر فيها ابن نبي ناقدًا لإقبال.
[1] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ترجمة: عبدالصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، 2002م، ص77.
[2] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص185.
[3] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص155.
[4] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص156.
[5] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص172-177.
[6] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص185.
[7] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص63-64.
[8] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص121.
[9] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص122.
[10] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص78.
[11] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص121.
[12] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص87.
[13] محمد إقبال، تجديد التفكير الديني في الإسلام، ترجمة: عباس محمود، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1968م، ص14.
[14] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص17.
[15] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص21.
[16] مالك بن نبي، القضايا الكبرى، دمشق: دار الفكر، 1991م، ص181.
[17] هاملتون جيب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ترجمة: هاشم الحسيني، بيروت: دار مكتبة الحياة، ص109.
[18] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص87.
[19] هاملتون جيب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، مصدر سابق، ص89.
[20] هاملتون جيب، المصدر نفسه، ص20.
[21] هاملتون جيب، المصدر نفسه، ص109.
[22] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص78.
[23] مالك بن نبي، المصدر نفسه، ص121.
[24] هاملتون جيب، الاتجاهات الحديثة في الإسلام، ص141.