شعار الموقع

بعد أن كان القرن الماضي في تاريخ المسلمين المعاصر قرن «الحركة» بوجه عام، هل يكون هذا القرن للمسلمين قرن «الفكر»؟

محمد فتحي عثمان 2004-10-14
عدد القراءات « 582 »

ألم تر كيف ضرب الله مثلاً كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثاب وفرعها في السماء. تؤتى أكلها كلّ حين بإذن ربها...}
[من سورة إبراهيم عليه السلام: الآيتان 24-25]
«... ولو شاء الله أن ينّزلَ كتبه لاتحتاج لتفسير لفعل، ولكننا لا نرى شيئاً من الدين والدنيا دُفع لنا على الكفاية...
ولو كان الأمر كذلك لسقطت البلوى والمحنة، وذهبت المسابقة والمنافسة، ولم يكن تفاضل، وليس على هذا بنى الله عزّ وجلّ الدنيا...».
عبد الله المأمون العباسي (حكم 198-281هـ/ 813-833)
من كتاب «عيون الأخبار» لأبي مسلم محمد عبد الله بن قتيبة (ت 276هـ/ 889)

التجارب الإسلامية بين الحركة والفكر

بهذه الكلمات للمأمون العباسي صدّرت كتابي «الفكر الإسلامي والتطّور» المنشور في القاهرة في طبعته الأولى بدار القلم (دار الشروق الآن) 1960م أي منذ أربعين عاماً ، وهأنذا أصدِّر بها هذا البحث الآن، وقد استهلّ علينا قرن جديد، ومضى على قول المأمون قرابة اثنى عشر قرناً ! وأحسب أنه لا حرج في التعامل بالتقويم الشمسي، فقد تعاملت به الدولة الإسلامية في الشؤون الإدارية والمالية للبلدان التي تعتمد على الزراعة، كما تدّل أوراق البردى العربية التي عثر عليها في مصر وترجع إلى عهد الولاة ولا سيما الذين حكموا من قبل بني أمية. وتواصل الاحتفال بالنوروز في إيران. لقد كان القرن الماضي قرن «الحركة» بالنسبة للمسلمين، فقد استمر خلاله الجهاد ضد الاستعمار وكان للإسلام دوره المشهود في تعبئة القوى والحثّ على مواصلة الكفاح ضد جحافل المستعمرين الذين يفوقونهم تنظيماً وعتاداً وأحياناً عدداً ، ولا يزال المسلمون يجاهدون في هذا القرن ضد العدوان الخارجي أو الطغيان الداخلي في فلسطين، الشيشان والفلبين ومياغا (بورما) وغيرها.
كذلك شهد القرن الماضي بروز الحركات الإسلامية الحديثة، التي استهلت بجهود الرواد مثل جمال الدين «الأفغاني» (ت 1314هـ/ 1897) وصحيفة «العروة الوثقى» التي حاول أن يجعلها لواء مرفوعاً لجماعة بنفس الاسم، ولكن يبدو أن طبيعة شخصية جمال الدين الدينامية كانت أقدر على أن تخلق مريدين وتلاميذ من أن تقيم تنظيماً ثابتاً دائماً له قواعده الراسخة العاملة بصورة رتيبة مطرّدة. كذلك كانت لتلميذه محمد عبده مفتي مصر (ت 1323هـ/ 1905) آثاره الجليلة في تفسيره للقرآن الكريم ومقالاته وكتاباته، وكان له تلاميذه البارزون وفي مقدمتهم محمد رشيد رضا (ت 1354هـ/ 1935)، لكنه لم يخّلف حركة متمثلة في تنظيم دائم عامل، ولا يمكن اعتبار «الجمعية الخيرية الإسلامية» مع جهودها الخيّرة من هذا القبيل. كذلك كان من الرواد عبد الرحمن الكواكبي (ت 1320هـ/ 1902)، وكان كتاباه «أم القرى» و«طبائع الاستبداد» صيحة مدوّية مبكّرة تدعو المسلمين للوحدة والحرية، ولم تكن محاولته لإقامة تنظيم عالمي للمسلمين في مكة «أم القرى»، يحمل اسمها، بأنجح أو أدوم من محاولة جمال الدين لإقامة تنظيم عالمي للمسلمين يحمل اسم «العروة الوثقى».
لكن جهود هؤلاء الرواد أثمرت بعد حين قيام حركة «الإخوان المسلمين» في مصر سنة 1347هـ/ 1928 على يد حسن البنا (اغتيل سنة 1368هـ/ 1949)، وحركة «الجماعة الإسلامية» في شبه القارة الهندية التي تأسست سنة 1360هـ/ 1941 على يد أبي الأعلى المودودي (ت سنة 1399هـ/ 1978). كذلك قامت جمعية العلماء الجزائرية سنة 1350هـ/ 1931 بجهود عبد الحميد بن باديس (ت 1359هـ/ 1940). ومن هذه الجهود كلها نجد تنظيمات حركية ثابتة تضطلع بالدعوة بين الجماهير وتستخلص منها أنصاراً وملتزمين ومسؤولين، تنظمهم في جماعة لها هيكل قيادي وتعمل بصورة مستّمرة، وتتوزّع فروعهم جغرافياً على أنحاء البلاد. وهي تمثل بواكير التنظيم الجماعي الحديث بين المسلمين، بعد أن كان التنظيم التقليدي السائد الذي عرفه المسلمون قبل ذلك هو تنظيم «الطريقة الصوفية»، التي يقوم هيكلها على سلّم من القيادات الشخصية المعيّنة لا الهيئات الجماعية المنتخبة. وقد يبدو الأثر التقليدي الصوفي بصورة ما في تنظيم سعيد نورسي في تركيا (ت 1380هـ/ 1960م) الذي استطاع مع ذلك أن يستمر من خلال تأثيره المتغلغل بين الصفوة في بعض الأحزاب السياسية، ومن خلال نشر كتابات المؤسس وإقامة المدارس. على أنّ التأثير الصوفي لم ينقطع على درجة ما في الجماعات الحديثة الأخرى، لما كان لمؤسسيها من مكانة روحية وعلمية وشخصية بين أعضائها. وقد أكّد حسن البنا رحمه الله في رسالة «التعاليم» أن صلة الأعضاء بقيادة الجماعة هي صلة «المريد بالشيخ والجندي بالقائد». وفي أندونيسيا استهلت «المحمدية» حركتها سنة 1330هـ/ 1912 بنشاط تثقيفي تعليمي لا يزال متمثلاً في مؤسساتها التعليمية المنتشرة والشاملة للمستويات التعليمية المتنوعة الذي أتبعه نشاط سياسي، وقد تميزت الحركة فكرياً إلى حدَّ كبير بالنزعة السلفية، وقامت في المقابل حركة «نهضة العلماء» سنة 1345هـ/ 1926 على التفكير التقليدي السائد بين العلماء، وكان لها مؤسساتها التعليمية المنتشرة المتنوعة أيضاً ، وقد أخذت نزعة التجديد تبدو في بعض الآراء فيها مع الزمن.
وقد اقترن قيام هذه الحركات بكتابات لمؤسسيها ومن انضم إليهم، ولكن هذه الكتابات والصحف التي نشرتها، استهدفت بصفة أساسية إعادة ثقة المسلمين في دينهم وأنفسهم وهوّيتهم وطاقاتهم، بعد أن اهتز ذلك فيهم بدرجات متفاوتة من جراء التدمير الاستعماري التبشيري لشخصية المسلمين أفراداً وجماعات. فركّزت هذه الكتابات على العموميات، واستهدفت الجماهير العريضة أكثر من ذوي الفكر العميق، وخاطبت المشاعر والعواطف، ولا شك أنها حققت غايتها من حيث «العرض»، وعمدت إلى تجنب «العمق»، حتى لا تثير الخلافات وتستطيع تجميع مختلف المنازع تحت ألويتها. وهكذا ضعف التأثير المبكّر لرواد التجديد الفكري من أصحاب العمق مثل ولّي الله الدهلوي في الهند (ت 1176هـ/ 1762)، وخير الدين التونسي (ت 1308هـ/ 1890) مؤلف كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» ومؤسس الكلية الصادقية التي أعقبتها بعد وفاته المدرسة الخلدونية سنة 1314هـ/ 1896) النائيني النجفي (ت 1355هـ/ 1936) مؤلف كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة، لتأكيد «لزوم مشروطية ودستورية الدولة لتقليل الظلم على أفراد الأمة وترقية المجتمع»، ومحمد الطاهر بن عاشور عالم تونس (ت 1393هـ/ 1973) مؤلف كت اب «مقاصد الشريعة»، الذي دعا فيه لأن تكون مقاصد الشريعة علماً مستقلاً كاملاً وليس باباً من أصول الفقه، وارتأى أن تبرز الحرية بين مقاصد الشريعة ولا تندرج فحسب ضمن مقصد حفظ النفس، هذا إلى جانب كتابات جمال الدين والكواكبي ومحمد عبده ومحمد رشيد رضا، الذي واصل حسن البنا الإشراف على مجلته «المنار» لمدة قصرة بعد وفاته بتكليف من الورثة.
ولم يقتصر الأمر على ضعف تأثير تراث رواد الفكر التجديدي مع الزمن أمام الموجة الحركية التي استهدفت «العرض» لا «العمق»، بل قامت قطيعة بين «الحركة» و«الفكر» الإسلامي. ففي مصر مثلاً قامت فجوة قد تصل إلى العداء أحياناً بين حركة «الإخوان» وبعض رموز الفكر والدراسات الإسلامية، مثل أحمد أمين صاحب مجموعة «فجر الإسلام، ضحى الإسلام، ظهر الإسلام» وغيرها من الدراسات الإسلامية (ت 1373هـ/ 1954)، وعبد الرزاق السنهوري مؤلف كتاب «الخلافة بالفرنسية» (Le califa) ثم «مصادر الحق في الفقه الإسلامي»، بالعربية (ت 1391هـ/ 1971)، وعباس محمود العقاد صاحب «العبقريات» و«الفلسفة القرآنية» و«الإنسان في القرآن الكريم» و«حقائق الإسلام وأباطيل خصومه» ـ إلى غير ذلك من المؤلفات الكثيرة (ت 1383هـ/ 1964)، وقد كتب مقالاً في مجلة «الشهاب» التي أصدرها حسن البنا، لكنه هاجمه وهاجم الإخوان بعد ذلك عقب حلّ الجماعة في ديسمبر سنة 1948. كذلك كان لمدرسة القضاء الشرعي في مصر دور جليل في محاولة النظر إلى تراث الفقه الإسلامي في ضوء التطور القانوني الحديث، واضطلع خريجوها بتدريس الشريعة في كلية الحقوق بالجامعة المصرية (جامعة القاهرة بعد ذلك)، فكانت لهم جهود مشكورة في تقديم الشريعة إلى الأساتذة القانونيين والطلاب. في ضوء التطور القانوني المعاصر، وأصبح تراث الفقه الإسلامي قاعدة أساسية ـ وإن كانت مجرد قاعدة تاريخية في كثير من الأحيان ـ لتقديم الفكر القانوني الحديث ولا سيما في أحكام القانون المدني. ونتج عن هذا الالتقاء والتحاور والتفاعل مدرسة قانونية مصرية معاصرة لم تدر ظهرها للشريعة، كانت تذكر تراثها الفقهي بكل تقدير واحترام، وعلى رأسها عبد الرزاق السنهوري رحمه الله. وتخرج من هذه المدرسة قانونيون مسيحيون مصريون منهم من درس بتعمق مثل شفيق شحاته في رسالته للدكتوراه «مصادر الالتزام في الشريعة الإسلامية»، ومنهم من عرض لها في مؤلفاته ومحاضراته وبكل تقدير، مثل سليمان مرقص ووديع فرج. ودرجت كلية الحقوق على أن يكون وكيلها من أساتذة الشريعة وإن كان عميدها من أساتذة القانون. ومن أبرز هؤلاء عبد الوهاب خلاف (ت 1375هـ/ 1956) صاحب «علم أصول الفقه وتاريخ الشريع الإسلامي» و«مصادر الفقه الإسلامي فيما لا نصّ فيه» و«السياسة الشرعية» وغير ذلك، ومحمد أبو زهرة (ت 1394هـ/ 1974) صاحب المؤلفات المتعددة في أئمة المذاهب على اختلافها ومنهم جعفر الصادق وزيد بن عليّ زين العابدين وابن حزم وابن تيميه إلى جانب المذاهب الأربعة السائدة بين أهل السّنة، وله مؤلفاته في «أصول الفقه» و«الجريمة والعقوبة في الفقه الإسلامي» و«الملكية ونظرية العقدفي الفقه الإسلامي» إلى جانب مؤلف عن القرآن وآخر عن سيرة الرسول (ص)، ودراسات عن «الأديان» و«تنظيم الإسلام للمجتمع» و«الوحدة الإسلامية»، وشاركت «دار العلوم» مدرسة القضاء الشرعي في النظر إلى تراث الفقه الإسلامي في ضوء جديد، إلى جانب النظر إلى التراث اللغوي والأدبي العربي والتاريخ الإسلامي في ضوء الدراسات الحديثة. وكان من خريجها محمد الخضري (ت 1345هـ/ 1927) وقد اضطلع بالتدريس في مدرسة التقاء الشرعي، وهو صاحب «محاضرات في تاريخ الأمم الإسلامية» إذ اضطلع بتدريس موضوعه في الجامعة المصرية، كما كتب «نور اليقين»في السيرة النبوية و«أصول الفقه» و«تاريخ التشريع»، وله نقد لكتاب طه حسين «الشعر الجاهلي». كذلك كان أحمد إبراهيم (ت 1364هـ/ 1945) من خريجي دار العلوم، لكنه اضطلع بتدريس الشريعة في مدرسة القضاء الشرعي ثم في كلية الحقوق وكان وكيلها، وله مؤلفات في «أحكام الأحوال الشخصية» وطرق الإثبات وطر ق القضاء في الشريعة وفي الفقه المقارن». وبرز من شيوخ الأزهر وعلمائه محمد مصطفى المراغي (ت 1364هـ/ 1945) ومحمود شلتو (ت 1383هـ/ 1963). واحتضنت مجلة «الأزهر» إلى جانب مجلة «الرسالة» ومجلة «الثقافة» ومنشورات لجنة التأليف والترجمة والنشر وغيرها دراسات إسلامية جادّة.
ولو قُدِّر للحركة الإسلامية في مصر أن تتفاعل مع هؤلاء المبرزين في التجديد الفقهي والفكري لاستفادت عمقاً يعينها على الاستمرار ومواكبة المتغيرات الكبيرة والكثيرة بعد غياب مؤسسيها، وفتور الموجة الحركية نتيجة الأحداث والظروف من جهة ونتيجة اضطرارها للاجترار والتكرار للعموميات والخطابيات بسبب افتقاد العمق. لكن حدث من الانفصام ما يحدث عادة بين الحركيين الذين يتهمون أهل الفكر والعلم بأنهم نظريون سلبيون armchair thinkers، وأهل الفكر والعلم الذين يتهمون الحركيين بالسطحية والديماجوجية. على أن الجماعة الإسلامية في شبه القارة الهندية حفظت الودّ والتقدير للشاعر المفكر محمد إقبال (ت 1357هـ/ 1938) بحكم صلة تاريخية شخصية قديمة بالمودودي، وأن كنت أرى في فكر إقبال ما يتعارض كثيراً مع فكر المودودي، مما لا محلّ لتناوله الآن.
ولم يكن في صفوف حركة الإخوان بمصر كثير من المتخصصين في الدراسات الإسلامية، وكان نصيبهم من طلاب الكليات النظرية ولا سيما كليتي الآداب والحقوق وكليات الأزهر وخريجي هذه الكليات محدوداً ، وكانت الغالبية فيها من المهندسين والأطباء، وذلك لأسباب متنوعة منها ما يتعلق بالجماعة ومنها ما يتعلّق بالدراسات الإسلامية ومعاهدها، وكان إلى جانب هؤلاء في شعب المدن جمهرة غفيرة من أصحاب المؤهلات دون الجامعية. على أنه قد لمعت في صفوف الجماعة أسماء وكان لأصحابها إنتاج مذكور مشكور، معظمهم من الأزهريين مثل محمد الغزالي والسيد سابق ويوسف القرضاوي، ومنهم من تخرّج من دار العلوم مثل البهي الخولي، ولكن لم يكن لأحد من هؤلاء تأثير على التوّجه الفكري أو الحركي للجماعة ككلّ، وإن وصل بعضهم إلى عضوية مكتب الإرشاد العام مثل محمد الغزالي والبهي الخولي، وإنما كان تأثيرهما محدوداً في نطاق بعض الأفراد أو المجموعات ولم يكن له الفعالية في التيار العام أو القيادة الموجّهة. بل إن محمد الغزالي لم يلبث أن أُخرج مع بعض الأعضاء الآخرين من الجماعة سنة 1953 بعد أن تدهورت العلاقة بينه وبين مرشد الجماعة الثاني حسن الهضيبي، واقترب من أحمد حسن الباقوري الذي استقال من الجماعة، ليعينه جمال عبد الناصر وزيراً للأوقاف، وعرض هذا بدوره مراكز الصدارة في الوزارة على هؤلاء الذين عرفهم من قبل في الجماعة وعرف نشاطهم الفكري، وهكذا انتقل البهي الخولي ومحمد الغزالي وسيد سابق فجأة من «الحركة» إلى «الدولة»، ولم يكن تأثيرهم ذا شأن على «الدولة» ككلّ، كما لم يكن من قبل كذلك على «الحركة» ككلّ.

ضرورة تلازم الفكر و الحركة وتفاعلهما:

غنى عن البيان ضرورة تلازم الفكر والحركة وتفاعلهما، وما في ذلك من الخير لكليهما معاً ، إذ لا يكون «الفكر» في أبراج عاجية بعيداً عن الواقع، ولا تخبط «الحركة» خبط عشواء دون دليل في مختلف الدروب والمضايق، «فتفرّق بكم عن سبيله» وكذلك كانت دعوة الإسلام التي تأصلّت في مكة قواعدها الفكرية وقيمها الخلقية، وتواصل ذلك خلال التطبيق في «دولة المدينة» إلى جانب التشريع، فاستمرت الآيات المدنية تذكّر بالله واليوم الآخر، وتؤكد القيم الأصيلة التي من أجلها جاءت الرسالة ونزل القرآن ومُكّن للمسلمين في الأرض شيئاً ما، وإنما كان ذلك «ليقوم الناس بالقسط، وهو العدل الذي قامت به السموات والأرض» ـ كما قال بحق ابن القيم (ت 751هـ/ 1350م) في «إعلام الموقعين» و«الطرق الحكمية»، ومن أجل ذلك «يقيم الله الدولة العادلة ولو كانت كافرة، ولا يقيم الدولة الظالمة ولو كانت مسلمة» ـ كما قال بحق شيخه ابن تيمية (ت 728هـ/ 1327)1. ذلك أن الله تعالى لا تنفعه طاعة الطائعين وعبادتهم، ولا تضره معصية العاصين وكفرهم، وإنما أرسل الرسل فأنزل الكتب لنفع الناس أنفسهم بهدايتهم إلى عبادته وحده، حتى لا يتخذ بعضهم بعضاً أرباباً من دون الله، وصدق ربع ي بن عامر حين أجاب رستم قائد الفرس على سؤاله: ماذا جاء بكم؟ فقال: «الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان (والحكام) إلى عدل الإسلام. فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه»2.
وعلى تلازم الفكر والحركة وتفاعلهما، بل وسبق الفكر الحركة أحياناً كثيرة لإرساء القواعد وتقرير الأصول وإيضاح الغايات والمقاصد والمنهج لتسير الحركة على بيّنة، ولا تتعثّر في الأخطاء، ولا تتكبّد الخسائر والتضحيات دون جدوى، وهكذا جرى الأمر بالنسبة للحركات الكبرى في التاريخ الحديث كما هو معروف. فالثورة الأمريكية التي اشتعلت سنة 1774م أنار طريقها فكر أمثال توماس جفرسون Thomas Jefferson الذي برز في إعداد: إعلان الاستقلال في 4 يونيو سنة 1776، ومَهَّد له توم بين Tom Paine سنة 1809م بكتابه Comman Sense (الفكر المشترك السليم) الذي ظهر في يناير سنة 1976م. والثورة الفرنسية سنة 1789 هدى سبلها فكر مونتسكيو Montesquieu (ت 1755م) وجان جاك روسو Rousseau (ت 1778م) وفولتير Voltaire (ت 1778م). وسبق الثورة الروسية الفكر النظري لكارل ماركس Karl Max (ت 1883م) وفردريك إنجلز Engels (ت 1895م)، والفكر الحركي للينين (ت 1924م).
وعلى غير هذا جرت الحركة الإسلامية في القرن الماضي، ترفع القرآن شعاراً ومنهجاً وتؤكد أنه لكل زمان ومكان، وهنا حق لا مرية فيه، لكنها تغفل أن لكل زمان ومكان مأخذه من القرآن لتلبية حاجته، وأن آياته مصوغة لتلبية الحاجات المتجددة والظروف المتغيرة عن طريق «العقل الإنساني» المتغير حسب ظروف الزمان والمكان والإنسان، وفي هذه الأفهام الإنسانية ثراء أي ثراء للنصّ الثابت الذي «لا تنفد عجائبه، ولا يخلق من كثرة الرد»3، مصداقاً لقوله تعالى: {قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي، ولو جئنا بمثله مددا} [الكهف: الآية 109]. والله تعالى منح الإنسان العقل نعمة كبرى، وأرسل رسله وأنزل كتبه وهدياته نعمة كبرى، ونعم الله المتنوّعة المتعدّدة تتضافر ولا تتصادم، وتعمل معاً ولا يعطّل منها شيئ فيكون في مثل هذا التعطيل جحود وكفران لنعمة من نعم الله، إنما أنزل الله كتابه «لقوم يعقلون» و«لقوم يتفكرون»، و«لأولي الألباب»: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبّروا آياته، وليتذكّر أولو الألباب} [سورة ص: الآية 29]. والإسراف في التبسيط والتسطيح يتناقض مع هذا كله، ولا يخدم القرآن، لأن الناس ترفض الوصفات المعمّمة التي فيها دواء لكل داء panacea، وتؤمن بالتعمق والتفصيل والتخصيص ولا سيما في زمننا، وهذه مهمة العقل الإنساني في الظروف المعّينة المعطاة، ليفهم ويستنبط من هداية الله الشاملة الجامعة العالمية الخالدة: «إن الدين لا يمكن فصله عن العقل الإنساني الذي يتلّقاه ويستقبله، ويفهمه ويطبّقه... وإن العقل الإنساني لا يمكن نزعه من مجاله الحيوي الذي يضرب فيه جذوره ـ ونعني بذلك البيئة المحلية والعالمية، الثقافية والاجتماعية... (ونحن) نذكر تضافر الثقافات العربية والفارسية والإغريقية على خدمة هذا الدين وشرعه وتطبيقه، لكننا نقف عند تقرير الحقيقة التاريخية، ونشفق من تكرار التجربة والاستجابة للقاعدة... نحن لا نحب مع اعترافنا بمرونة الإسلام وتفاعله مع العقل والبيئة ـ لا نحب أن نصغي لحديث صريح يبرز حاجتنا لأنماط عقلية متفاعلة مع عصرنا، متجاوبة مع مناهج البحث وأساليب العرض الحديثة، منتفعة من العدد الهائل من الحقائق التي كشف عنها العلم، والتطور الضخم في هذا العصر نتيجة التعليم والتصنيع والمواصلات الخاطفة، ونحن لا نحب أن نعرف أن فقه أي مذهب أو شخص ليس هو القالب العقلي الوحيد للفكر الإنساني الناضج، وليس الص ورة النهائية للمعرفة الدينية، ولا نحب أن نتطلب من مجتمعنا المتطور مذاهب وفقهاء من نوع جديد، كما أنجب المجتمع الإسلامي من قبل مثل هذه النماذج»4.
إن «الزمن» آية كبرى من آيات الله في الآفاق، وكذلك «التباين والتنوع والتعدد» في الكون عامة وفي البشر خاصة، من آيات الله الكبرى في الآفاق، ولنستمع إلى محمد إقبال يقول: «إن الإسلام كحركة ثقافية يرفض النظرة السكونية والاستاتيكية statich للعالم، ويتقدم بنظرة حركية (دينامية) dynamic والإسلام كنظام هو وحي الله لتوحيد (البشر)، فإنه يقرر أهمية الإنسان الفرد في ذاته ويرفض صلات الدم كأساس للوحدة الإنسانية... إن أصل البشرية كلها نفخة واحدة من الخالق «خلقكم من نفس واحدة»... وإن وحدة الوعي الإنساني consciousness التي تؤسس مركز الشخصية الإنسانية لم تأخذ حظها من الاهتمام في تاريخ الفكر الإسلامي... على أنه لا شيء ساكن في حياتي الداخلية، إنها في حركة دائبة، فيض لا ينقطع من الحالات، جريان دائم ليس فيه توقف أو محطة استراحة. على أن التغيّر الدائم لا يمكن تفهّمه بغير الزمن، فتحليل تجربتنا الداخلية إذن تقرر أن وجودنا الواعي معناه الحياة في الزمن (المعيّن)... إن مفهوم الحياة «كحركة دائمة في الزمن» هو النقطة ذات الأهمية الأساسية في نظرة ابن خلدون إلى التاريخ (ت 808هـ/ 1406م).. إنه تطور مستمر خلال الزمن لابدّ منه، لكنه من صنع الإنسان ولم يفرض سلفاً ... إن الأساس الروحي النهائي في مفهوم الإسلام خالد، لكنه يكشف عن نفسه في التنوع والتغير، وإن مجتمعاً يقام على مثل هذا المفهوم «للحقيقة» لابدّ أن يوفّق في حياته بين ألوان الدوام والتغير... إن التجربة الداخلية ليست المصدر الوحيد للمعرفة الإنسانية، فإن القرآن يضيف مصدرين للمعرفة: الطبيعة، والتاريخ.. إن المهمة الملقاة على عاتق المسلم المعاصر ضخمة، إن عليه أن يعيد التفكير في نظام الإسلام بأكمله من غير أن ينفصل تماماً عن ماضيه. ربما كان أول مسلم شعر بدافع روح جديدة في أعماقه كان هو شاه وليّ الله الدهلوي (ت 1176هـ/ 1762م)... على أن الذي وعى تماماً أهمية هذه المهمة وضخامتها كان هو جمال الدين الأفغاني (ت 1314هـ/ 1897م) الذي كانت بصيرته النافذة إلى المعنى الباطني العميق لتاريخ الفكر والحياة عند المسلمين، إلى جانب أفقه الواسع في الرؤية الذي هيّأته له خبرته الواسعة بالبشر وعاداتهم مما يمكن أن يجعل منه حلقة اتصّال حيّة بين الماضي والمستقبل. ولوأن طاقته التي لا تعرف الكلل لكنها كانت موزّعة مشتّتة استطاعت أن تتجه بكليّتها إلى الإسلام كنظام للاعتقاد والسلوك الإنس انيين، لكان عالم الإسلام ـ كتعبير فكري ـ يقف اليوم على أرض أكثر صلابة، إن الطريق الوحيد المفتوح أمامنا هو أن نتواصل مع المعرفة الحديثة باحترام لكن بنظرة استقلالية، وأن ندرك تعاليم الإسلام في ضوء هذه المعرفة، حتى لو أدّى ذلك بنا إلى مخالفة من سبقونا»5.
إن الفكر الإنساني يتغير دائماً بالنسبة للفرد وبالنسبة للجماعة، والواقع المادي والاجتماعي يتغير دائماً هو الآخر، والإسلام في مصادره الإلهية الثابتة تستقبله هذه المتغيرات وتتفاعل معه دون انقطاع فتتوالى رؤاها المتغايرة وأفهامها المتباينة لهذه النصوص الثابتة، ومن ثمّ تكتشف لها دائماً معاني وحقائق متجددة لا تركد ولا تجمد، وهكذا تتوالى «إعادة تفسير مفاهيم النموذج الأصلي على ضوء معطيات العصر القائم، أو بمعنى آخر تفجير طاقات النموذج الأصلي وإظهار ما يحتويه من إمكانيات وتنوّعات وطاقات على التوظيف المتعدد في إطار استمرار السياق التاريخي والحضارة العام الذي يمثله أو يندرج فيه...». وهذا إنما يعني أن فهم العصر والظروف الزمانية المكانية لها مدخلية أساسية في فهم وإدراك آفاق الأصول العقدية والفكرية، وللمكتسبات الإنسانية والعقلية دور في فهم أصول فكرنا وقيمنا الكبرى... لهذا كله ينبغي أن يرتبط مفهوم التجديد الثقافي ارتباطاً عضوياً بمفهوم الإبداع الفكري، أي بما يسمح لمنظومة فكرية أن تستعيد فاعليتها وقدراتها على الإنتاج المبدع للمعاني الجديدة أو المتجددة.. والتأصيل المنهجي (كأولى الأوليات للتجديد الثقافي) لا يعني اللهاث وراء المستجد من القضايا الثقافية والفكرية والعمل على أسلمة عنوانها أو تأصيل حاجتها وضرورتها في الحقبة الرهنة، وإنما تعني إيجاد منهجية فكرية واضحة تتحرك ذاتياً وبشكل دينامي نحو متابعة الجديد الثقافي والفكري والعمل على استيعابه وهضمه بما ينسجم وتلك المنهجية الفكرية... فالتأصيل المنهجي هو عبارة عن جهد فكري متواصل يتجه إلى فهم النصّ الشرعي المتعالي على الزمان والمكان والخالد، وفهم الواقع النسبي والمتغير باستمرار، وعن طريق هذا الجهد الفكري الذي يلحظ جانب الثابت والمتغير يتحقق مفهوم التأصيل المنهجي... والبديل الحضاري يتشكّل بصورة تدريجية، والزمن من العناصر الحيوية في صنع «البديل»، «ومن خلال هذا المنظور من الضروري القول بأن عالم النسبية والتغير الدائم يتقدم للالتحام بعالم الكمال والإطلاق... وفي مقابل ذلك تحمل مقولة «العودة» إلى الإسلام في طياتها بعداً زمنياً غير مقصود... إنها تجعلنا حبيسين للزمن والنص الإسلامي خالد فوق الزمن... ومن هذا الإطار فإن «التقدم» إلى الإسلام هي المقولة المناسبة» هذه كلمات منيرة، صريحة قاطعة بليغة، نشرتها «الكلمة» (6) لمحمد محفوظ، وأنا أهنئه على وضوحها ونص اعتها، فكم يجني علينا ويعرقل إمكانيات التجديد عندنا الضبابية والتمييع، ومحاولة إرضاء مختلف النزعات والأفكار، بدعوى الحكمة والسداد في بلوغ الهدف المنشود. ونحن ننسى ضرورة العلاج عن طريق «الصدمة» Shock breetment في حالات معينة، لعلّ حالتنا الراهنة من أولى ما يلزم فيها ذلك.

بين الماضي والحاضر: حقوق الإنسان فرداً وجماعة، وسلطة الشعب، والنظام الديمقراطي.
لنستعرض الآن بعض القضايا الهامة، التي تبرز حاجتنا إلى فكر إسلامي معاصر حقاً ، يركّز على الضرورات والحاجات الفكرية المعاصرة، وهي ضرورات وحاجات يشترك فيها المسلمون مع غيرهم من شعوب العالم المعاصر، وبذلك يكون الفكر الإسلامي «عالمياً » حين يكون بحق «معاصراً »، ولن يكون الفكر الإسلامي «معاصراً » بحق وهو مشدود إلى واقع ماض في تاريخ المسلمين، كانت ظروفه المادية والاجتماعية والفكرية مختلفة اختلافاً جذرياً أو كيفياً qualitaive، يكدح فكرنا المعاصر ليستمدّ منه نظاماً تفصيلياً تطبيقياً يأمل أن يستجيب به لضرورات العصر وحاجاته وهمومه، ويضع عليه لافتات برّاقة مثل: «النظام السياسي الإسلامي»، أو «النظام الاقتصادي الإسلامي»، إن لم يقنع بالصيحة العامة العائمة: «الإسلام هو الحلّ»! إن الإسلام «دين» يخاطب البشر كافة في كل زمان ومكان بالقيم والمبادئ التي تنهض بالإنسان وتحقق له السكينة والسعادة وتحق له حاجاته الروحية والنفسية والمادية، الفردية والاجتماعية، المحلية والعالمية، وليس إيديولوجية سياسية تعالج واقعاً معيناً في ظروف معطاة معينة! وحتى مثل هذه الأيديولوجية يتناولها العقل الإنساني بالتعديل بمرور الزمن واختلاف الظروف. فهل كان كارل ماركس وفردريك إنجلز يتصوران «اشتراكية السوق المفتوح والمنافسة»، وهل كان ماوتسي تونج (ت 1976م) يتخيل براجماتية الصين اليوم فيما تقبله داخلياً ودولياً لتقوض تخلّفها التكنولوجي، وما قد تتقبله في الغد، وهل كان يظن لينين وستالين (ت 1953م) أن الاشتراكية في الاتحاد السوفيتي ستتهاوى بعد عقود معدودة من السنين، وقد شاركتها مصيرها دول شرقي أوروبا؟ وقد بدت الخلافات الإيديولوجية الحادة قبل ذلك داخل المعسكر الاشتراكي، فجاء تيتو (ت 1980م) في يوغسلافيا بصورة للدولة الاشتراكية انعزل بها عن رفاقه في الاتحاد السوفييتي والصين وتقارب مع الولايات المتحدة والكتلة الغربية، وقدّم الماركسيون الأوروبيون ولا سيما في فرنسا وإيطاليا رؤية إيديولوجية واستراتيجية مخالفة تماماً للأصول الماركسية ولما يتبناه الاتحاد السوفييتي والصين، وتباعد ما بين الاتحاد السوفييتي والصين فكراً وسياسة، ولقد نزعت بعض الحركات الإسلامية المعاصرة لتقليص الدين إلى أيديولوجية لتجاري مقتضيات غلبة الـ ism على العقول، فجرفتها أمواج السطحية والعمومية والخطابية، ولم تستطع أن تنافس الأيديولوجيات ولا أن تنصف الإسلام، تماماً كما لم تستطع أن تنصفه نزعة سلفية ماضوية ترجع دائماً إلى الوراء وتنشد عودة القديم بنصّه وحُروفه!.
وإذا كان الإسلام «دينا» خالداً لا أيديولوجية موضعية موقوتة، فإن قيمه ومبادئه الدائمة تلهم المؤمنين التفاصيل والأشكال لتلبية الحاجات المتجدّدة التي يتطلبها الزمان والمكان بظروفهما المعطاة، ولا سيما في المجال السياسي الذي ترك لعقول الناس ليستجيبوا للواقع المتغير من زمان إلى زمان والمختلف من مكان إلى مكان.
يوضح «تفسير المنار» بالنسبة لقوله تعالى: {وشاورهم في الأمر} [الآية 159 من سورة آل عمران] أهمية الشورى «في الأمر العام الذي هو سياسة الأمة في الحرب والسلم والخوف والأمن وغير ذلك من مصالحهم الدنيوية، (ومعنى الآية): دُم على المشاورة وواظب عليها ـ كما فعلت قبل الحرب في غزوة أحد، وإن أخطأوا الرأي فيها فإن الخير كلّ الخير في تربيتهم على المشاورة بالعمل، دون العمل برأي الرئيس وإن كان صواباً ، لما في ذلك من النفع لهم في مستقبل حكومتهم إن أقاموا هذا الركن العظيم «المشاورة»، فإن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر.... أقام النبي (ص) هذا الركن «الشورى» في زمنه بحسب مقتضى الحال من حيث قلة المسلمين واجتماعهم معه في مسجد واحد في زمن وجوب الهجرة التي انتهت بفتح مكة، فكان يستشير السواد الأعظم منهم وهم الذين يكونون معه، ويخص أهل الرأي والمكانة من الراسخين بالأمور التي يضرّ إفشاؤها.... ولما كثر المسلمون وامتد حكم الإسلام بعد الفتح... يمكن أن يقال أنه قد احتيج إلى وضع قاعدة أو نظام للشورى يُبيَّن فيه طرق اشتراك البعداء عن مكان السلطة العلي ا، ولكن النبي (ص) لم يضع هذه القاعدة لحكم وأسباب، منها: أن هذا الأمر يختلف باختلاف أحوال الأمة الاجتماعية في الزمان والمكان... فكان هذا مانعاً من وضع قاعدة للشورى تصلح للأمة الإسلامية في عام الفتح وما بعده من حياة النبي (ص) وفي العصر الذي يتلو عصره... إذ لا يمكن أن تكون القواعد الموافقة لذلك الزمن صالحة لكل زمن، والمنطبقة على حال العرب في سذاجتهم منطبقة على حالهم بعد ذلك وعلى حال غيرهم، فكان الأحكم أن يترك (ص) وضع قواعد الشورى للأمة التي تضع منها في كل حال ما يليق بها بالشورى. ومنها: أن النبي (ص) لو وضع قواعد مؤقتة للشورى بحسب حاجة ذلك الزمن لاتخذها المسلمون ديناً وحاولوا العمل بها في كل زمان ومكان، ،ما هي من أمر الدين... فإنه قيل: كان يمكن أن يذكر فيها أنه يجوز للأمة أن تتصرف عند الحاجة بالتغيير والتبديل، يقول: إن الناس قد اتخذوا كلامه (ص) في كثير من أمور الدنيا، مع قوله: «أنتم أعلم بأمر دنياكم» ـ رواه مسلم، وقوله: «ما كان من أمر دينكم فإليّ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به» ـ رواه أحمد.... ومنها: أنه لو وضع تلك القواعد من عند نفسه لكان غير عامل بالشورى (وهو) معصوم من مخالفة أمر الله، ولو وضعها بمشاورة من معه من المسلمين لقرر فيها رأي الأكثرين منهم كما فعل في الخروج إلى أحد، وقد كان خطأ (وأقول إنه حتى لو كان صواباً فقد لا يوافق ظروف الواقع عند غير الزمان والمكان، وقد لا يوافق رأي الأكثرية في زمان أو مكان آخرين)... أليس تركها للأمة تقرر في كل زمان ما يؤهلها له استعدادها هو الأحكم؟.... (ثم) قال تعالى بعد أمر نبيه بالمشاورة «فإذا عزمت فتوكّل على الله»: أي فإذا عزمت بعد المشاورة في الأمر على إمضاء ما ترجّحه الشورى وأعددت له عدّته فتوكّل على الله في إمضائه وكن واثقاً بمعونته وتأييده لك فيه... وأعلم أن وراء ما أتيته وأوتيته قوة أعلى وأكمل»6.
ومع ذلك يظن بعض الحركيين الذين يرفعون شعار «الإسلام هو الحلّ» دون استيعاب لمهمة العقل الإنساني في تفهّم قيم الإسلام ومبادئه وتفصيل الحلول التي تستجيب لحاجات الزمان والمكان في الظروف المعطاة، أن التوجيه القرآني للشورى وما جرى من تطبيق في حياة الرسول (ص) وفي زمن الخلافة الراشدة يغنينا ويوجب إتبّاعه في كل زمان ومكان. وهناك من يضيقون بأي ممارسة للغرب فكرية أوعملية، نتيجة الخبرة المريرة بالاستعمار الغربي، مقترناً بممارسات التبشير والتغريب، وما ترتب عليها من ردّ فعل يصرّ على الأصالة وينفر من التقليد، ولا سيما تقليد الأعداء المخالفين لنا في الاعتقاد والمصالح!.
وهكذا لم يطمئن كثير من المسلمين إلى ما توصّل إليه الفكر العالمي ـ أو الغرب ـ عن «حقوق الإنسان» كأساس معاصر لتقرير حقوق الإنسان وواجباته فرداً وجماعة، مما تتابع على بيانه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان سنة 1948م، والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية سنة 1966م، والعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية سنة 1966م، كما ظهر في وثائق وطنية وإقليمية ودولية سابقة ولاحقة، منها إعلان الاسقلال الأمريكي سنة 1776م وما أعقبه من إصدار وثيقة الحقوق ثم الاتفاقية الأوروبية لحماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية سنة 1950م الذي دخلت حيز التنفيذ سنة 1993م وإعلان حقوق الإنسان والمواطن، لكن لم يصدر ميثاق عربي عام لحقوق الإنسان كمصدر قانوني وضعي للعالم العربي، على الرغم من المحاولات لوضع مشروع لذلك. وحاولت منظمة المؤتمر الإسلامي تقديم مشروع اتفاقية إسلامية لحقوق الإنسان لكن «تحفظت بعض الدول ولم تتحمس إجمالاً دول أخرى»7.
وتقرير حقوق الإنسان كإنسان من الأهمية بمكان في العالم المعاصر، إذ أنه يؤكد الوضع الإنساني الدولي «للغير» ويحمي حقوقه عالمياً ، سواء أكان الغير من الجنس المقابل كالمرأة بالنسبة للرجل أو العكس، أو كان من سلاسلة أو عرض أو لغة أو مذهب سياسي مخالف لآخرين، فتقرير حقوق الإنسان باعتباره إنساناً أولاً وقبل كل شيء، يؤكّد التعددية الإنسانية Plurality من حيث الاختلافات الوراثية أو الكسبية.
والقرآن الكريم يؤكد كرامة بني آدم جميعاً ، أيّاً كان الجنس أو السلالة أو العرق أو اللغة أو الاعتقاد أو المذهب السياسي: {ولقد كرّمنا بني آدم، وحملناهم في البر والبحر، ورزقناهم من الطيبات، وفضلناهم على من خلقنا تفضيلا} [الإسراء: 70]. والكرامة تشمل اقتضاء الحقوق وأداء الواجبات معاً ، والآية تشيرفي وضوح إلى شمول هذه الحقوق لجميع بني آدم، وشمولها للجانب الاقتصادي والتمتع «بالطيبات من الرزق»، وإلى عالمية الإنسان وفتح الطرق أمامه، مما يتضمن حقوق الموطن والانتقال والهجر واللجوء وما إليها، وإلى كفالة الميزات الإنسانية والروحية والنفسية، العقلية والبدنية وتنميتها، وفي مقدمتها الحرية والمساواة والتفكير والتعليم والثقافة. وكرامة الإنسان تعني كرامة الرجال والنساء، ومختلف السلالات والأعراق، فإنما كانت التعددية الإنسانية لأجل التعامل والتعاون بين مختلف البشر نتيجة التعرّف على توزّع الميزات بين الأفراد والجماعات، وهذا هو «التعارف» المقصود في قوله تعالى: {خلقناكم من ذكر وأنثى، وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا} [الآية 13 من سورة الحجرات]. فهو التعارف المتبادل المؤدي إلى المعرفة الحقة للغير والعمل معاً ، و تحقيق التكامل الإنساني والتعاون على عمارة الأرض: {هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها} [هود: 61] والقيام بواجبات الإنسان المستخلف على هذه الأرض بوصفه إنساناً {إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة: 30].
وتشمل كرامة الإنسان حرية الاعتقاد والتعبير عنه: {لا إكراه في الدين} [البقرة 256]، وحرية الاجتماع على المعتقد والرأي والدفاع عنه: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران: 104]. وتعبير «الأمة» قد يكون «شاملاً للمجموع» {كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله} [آل عمران: 110]، و{كذلك جعلناكم أمة وسطا} [البقرة 143]، وقد يكون مقصوراً على جماعة محدودة فقط: {ولما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون} [القصص: 23]. فالأمة هي «الجماعة» بإطلاق كما ذكر الجوهري (ت 393هـ/ 1003م) في معجمه المعروف «الصحاح».
وكرامة الإنسان تشمل الفرد والجماعة، ومن حقوق الجماعة أن تختار أولي الأمر فيها، الذين يستمدون ولايتهم منها بتعبير القرآن: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [الآية 59 من سورة النساء]. فالجار والمجرور «منكم». أي من مجموع المخاطبين بالآية ـ متعلقان بـ «أولي الأمر»، أي الذين يستمدون ولاية الأمر منكم إذ أنتم الذين تولّونهم أمركم. ويلاحظ أن عبارة «أولي الأمر» و ردت في القرآن بصورة الجمع دائماً [النساء: 59، 83] مما يشير إلى أنهم جماعة متضافرة تتقاسم مهام ولاية الأمر فيما بينهم، فلا ينفرد بولاية الأمر فرد واحد، ولكن غلب على تفكيرنا ما ساد في تراثنا التاريخي الفقهي من الكلام عن الحاكم الفرد.
وتجلية الأمر على هذا النحو يقطع بمكان «حقوق الإنسان» وكرامته كإنسان بإطلاق في رسالة الإسلام وشريعته، فإنما نوحد الله ونعبده وحده حتى لا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله صراحة أو ضمناً ، بالاسم أو بالفعل. وما أصدق إقبال إذ يقول: «إن التوحيد كفكرة عاملة فاعلة: هي المساواة، والتضامن، والحرية»9. فكل البشر سواء في الخلق، والخالق وحده هو الذي «ليس كمثله شيء» [الشورى 11]، {ولم يكن له كفواً أحد} [الإخلاص 4]. وهم سواء حتى من حيث الميزة الروحية في الإنسان: {ثم سوّاه ونفخ فيه من روحه، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة} [السجدة 9]، {وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم: ألست بربكم، قالوا: بلى شهدنا، أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين} [الأعراف 172]، {ونفس وما سوّاها، فألهمها فجورها وتقواها} [الشمس 7-8]. وإفراد الله بالعبودية يحرر الإنسان من الأعماق، فيؤمن بمسؤولية البشر أجمعين ومحاسبتهم، إذ تكون الطاعة المطلقة غير المشروطة لرب العالمين وحده دون سواه: {لا يُسأل عما يفعل، وهم يُسألون} [الأنبياء 23].
كذلك فإن تجلية حقوق الإنسان وكرامته كجماعة، وحقوق الجماعة في تولية أولي الأمر منهم ومحاسبتهم وعزلهم، يخلَّص الإسلام ورسالته وشريعته من شبهة الحكم الاستبدادي التي قد تكون غلبت على تاريخ المسلمين نتيجة ظروف تاريخية معينة محلية وعالمية لكن دينهم من ذلك براء. وهكذا تموت تلك المقالة الشنيعة اللقيطة: «لا ينهض الشرق إلا بمستبد عادل»، وهي نسبت تارة إلى محمد عبده وكتاباته كلها تكذبها، وأخرى إلى جمال الدين ولم أرها فيما ثبتت نسبته إليه.
وولاية {أولي الأمر} التشريعية تؤكد أن حكم الإسلام ليس شمولياً totalitartan خانقاً للإبداع والتفّرد، كما أنه ليس استبدادياً authoritarian طاغياً ، كما أسلف البيان، فالمجال فسيح للاجتهاد المتجدد في الفهم والاسنباط من النصوص الإلهية العامة في مضمونها المرنة في صياغتها، وفي التشريع فيما لا نص فيه عن طريق القواعد العامة ومقاصد الشريعة ومبادئها الكلية، وجلّ تراثنا الفقهي من هذا الباب، إذ آيات القرآن المتعلقة بالمعاملات الدنيوية هي في حدود 228 آية وردت ضمن أكثر من ستة آلاف آية هي آيات القرآن، وكثير منها يتعلق بأحكام الأسرة والميراث والوصية. وكذلك كانت أحاديث الرسول (ص) في هذا المجال محدودة أيضاً . وإنما نشط فقهاؤنا الذين كانوا «فقهاء مشرعين» إذ لم تشتغل الدولة بالتشريع، وأضيف اجتهادهم إلى مفهوم الشريعة فانسحب عليه حكم القداسة والخلود اللذان هما لوحي الله لا يشاركه فيه جهد بشري، مع الأهمية التاريخية الكبرى لتلك الجهود الفذّة الرائدة في منهجيتها ومنطقها وتجاوبها مع المتغيرات والمتجددات، فهي خبرات منيرة هادية لمن بعدهم: «فإن الحوادث والوقائع في العبادات والتصرفات مما لا يقبل الحصر والعدّ، ونعلم قطعاً أنه لم يرد في كل حادثة نصّ ولا يُتصور ذلك أيضاً . والنصوص إذا كانت متناهية، والوقائع غير متناهية، وما لا يتناهى لا يضبطه ما يتناهى، عُلم قطعاً أن الاجتهاد واجب الاعتبار حتى يكون بصدد كل حادثة اجتهاد»10. كذلك قد تختلف الأنظار في الاستدلال بالقرآن والسنة ـ فضلاً عن الاختلاف في ثبوت ما ورد عن الرسول (ص)، فيلزم التشريع بوجه من الوجوه أو رأي من الآراء يراه أرجح في الحجة أو أصلح للناس فإن «النصوص هي بلغة العرب»، وفي اقتضاءات ألفاظها لكثير من معانيها اختلاف معروف. وأيضاً فالسنّة مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها، فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضاً فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها. وأيضاً فالوقائع متجددة لا توفى بها النصوص، وما كان منها غير ظاهر في المنصوص فيحمل على المنصوص مشابهة بينهما. وهذه كلها إشارات للخلاف ضرورية الوقوع. ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم»11 بل ربما اختلفت الآراء في المسألة الواحدة في المذهب الفقهي الواحد، واختلفت الآراء في المذهب الواحد بين أجيال الفقهاء من أتباع المذهب، واختلفت آراء الفقهاء المعاصرين من مذهب واحد في أماكن مختلفة. وقد ت حول الشافعي ( 204هـ/ 820م) عن مذهبه القديم إلى مذهبه الجديد حين انتقل من العراق إلى مصر سنة 199هـ/ 814م. فالاختيار بين الأنظار المختلفة في فهم النصوص أو تقديم رأي جديد فيها بإعمال الأصول المنهجية، إلى جانب الاجتهاد لمواجهة الظروف المتغيرة، يجعل التشريع مهمة متجددة مستمرة للإلزام برأي معين من بين مختلف الآراء القائمة والممكنة بتقرير السلطة الحاكمة. وقد لجأ مفتي الدولة العثمانية إلى إلزام القضاة بما يختاره في منشوراته من الأقوال في المذهب الحنفي، وكانت هذه ممارسة مبكرة للسلطة التشريعية في الدولة المسلمة الحديثة.
على أن محسن باقر الموسوي يرى أن «عقد الوكالة» أو «أحكام الشهادة» بالنسبة لاختيار الشعب أولي الأمر قد لاينطبقان تماماً ، و«أن أدلة العقد والشهادة ليست بأقوى من أدلة الشورى في استنباط حكم الانتخابات (في النظام النيابي)..‏(و) تترابط الأفكار عندما تتمحور حول الشورى فلا تتناقض فكرة مع الأخرى» (12) . ولامانع من أن تكون «الوكالة» في النيابة والخلافة نوع خاص يخرج عن أحكام الوكالة العامة أحياناً . ومن ناحية أخرى فإن الشورى أصل جامع، ولامانع من أن تكيّف كتعاقد بين المشير والمستشير بوجه عام،‏وفي حالة الانتخاب يكون التعاقد بين الناخب والمرشح. ولاحرج فيýأن تتولّد عقود جديدة مستحدثة وليس من الضروري أن يُخرَّج كل عقد مستحدث على عقد أورده تراثنا الفقهي. والشورى ـ كما قال ابن عطية (ت546هـ/1151) في تفسيره تعليقاً ‏على الآية 159 من سورة آل عمران «من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام..‏وقد جعل عمر بن الخطاب الخلافة ـ‏وهي أعظم النوازل ـ‏شورى..» (13) . على أن ذلك يقتضي بحث طبيعة ذلك العقد وأحكامه تفصيلاً بالنسبة لطرفي التعاقد وهما المرشح والناخب،‏ونتائجه، وإمكان إنهائه أو فسخه.. الخ.
وتثير عمليات الترشيح والانتخاب عند بعض الإسلاميين اعتراضات وتحفظات،‏منها أن المرشح يطلب الولاية وقد ورد في الصحيحين: «إنا لانولّي هذا الأمر أحداً سأله ولا أحد عرض عليه»، لكن هذا بطبيعة الحال ليس على إطلاقه بالنسبة لمن يجد في نفسه الكفاءة لعمل ويطلبه بالطريق السويّ المشروع وبأمانة وصدق، وقد طلب يوسف عليه السلام من ملك مصر أن يجعله على خزائنها ليواجه القحط المتوقّع، وذكر أنه {حفيظ عليم} [يوسف 55] مما يؤكد أن ذكر الطالب لمؤهلاته لعمل ليس من باب تزكية النفس المنهي عنها وتتعلق بالتقوى والقرب من الله، [مثلاً النساء 49، النجم 32]. ودعا سليمان عليه السلام ربه أن يهبه ملكاً لاينبغي لأحد من بعده [ص35]. وقرّر الماوردي (ت450هـ/1058): «وليس طلب الإمامة مكروهاً فقد تنازع فيها أهل الشورى،‏فما رُدّ عنها طالب ولا مُنع منها راغب»، وظاهره على ذلك أبو يعلى (18) .
وثمة اعتراض على مبدأ الأخذ بالأغلبية،‏وليست الأغلبية دائماً ‏على حق كما يقرر القرآن في مواضع كثيرة: {وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله} [الأنعام 116]، {ولكن أكثر الناس لايعلمون} [الأعراف 187، يوسف 21، 40، 68، النحل 38، القصص 30، سبأ 28، 36، غافر 57، الجاثية 46]. ولكن القرآن لم يُشر قط إلى أن الواحد أو الأقلية أبعد عن الخطأ، وكما جاء في «تفسير المنار» مما سبقت الإشارة إليه: «إن الجمهور أبعد عن الخطأ من الفرد في الأكثر، والخطر على الأمة في تفويض أمرها إلى الرجل الواحد أشد وأكبر». ويظهر في السنّة أن رسول الله (ص) كان يأخذ بما عليه الأكثرية عند الشورى،‏كما حدث عند استشارته أصحابه في مواجهة المشركين خارج المدينة إذ أصروا على قتال المسلمين بعد أن استطاعت قافلتهم التجارية الإفلات وكانوا قد خرجوا أصلاً لحمايتها، وكان ذلك في غزوة بدر 2هـ/623م، وفي الخروج لقتال المشركين المهاجمين خارج المدينة أو التحصن داخلها وقتالهم فيها في غزوة أحد 3هـ/625م. وعلى الرغم من خطأ الأغلبية في رأيها بالخروج لقتال المشركين المهاجمين خارج المدينة في غزوة أحد، فقد نزل القرآن يوجّه إلى استمرار الأخذ بالشورى أيّاً كانت النتيجة والتجاوز عن خطأ المخطئين لأنهم إنما اجتهدوا فأخطأوا: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكّل على الله} [آل عمران 159]. وقد سبق بيان أن العزم المشار إليه في الآية هو العزم «على إمضاء ما ترجّحه الشورى» كما ذكر «تفسير المنار». وقد ورد في الحديث الذي أخرجه ابن ماجه عن عبد الله بن عمر: «عليكم بالسواد الأعظم» وأخرجه كذلك أحمد.
وقد يقلل من احتمالات الخطأ ابتداء توزيع سلطات الدولة بين هيئات تشريعية وتنفيذية وقضائية،‏وتحديد اختصاص كلٍّ بجلاء يمنع تجاوز الحدود، مع فتح قنوات معينة بدقة بينها لتحقيق المراجعة والتوازن بين مختلف السلطات مما يطلق عليه في الولايات المتحدة «Check and balance».
ويأخذ بعض الإسلاميين على نظام الانتخاب كطريقة لتحقيق الشورى وما يقترن به من تعدد الأحزاب واختلاف آرائها،‏بينما المسلمون مأمورون بالاجتماع والوحدة وتجنب الافتراق. ولاحرج في تعدد الأحزاب واختلاف الآراء إن تجادل أصحابها بالحكمة وبالتي هي أحسن،‏ونهجوا في الاحتجاج لآرائهم فكرياً وسلوكياً ‏بما وجههم إليه القرآن. فالقرآن يقدّر ضرورة حدوث الاختلاف بين البشر بحكم طبيعة الإنسان وما منحه الله من العقل والإرادة،‏ولذلك لايستبعد الاختلاف أو يتصوّر امتناعه بين المسلمين باعتبارهم من البشر أولاً وأخيراً ‏إذ لن يحوّلهم الإسلام إلى ملائكة ويلغي طبيعتهم الإنسانية،‏وإنما يوجههم إلى أسلوب التعامل عند الاختلاف منهجياً وخلقياً : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا} [النساء 59]، {وجادلهم بالتي هي أحسن} [النحل 125]. بل التنازع قد يقوم،‏ولكن التعامل معه من أجل حسمه هو الممكن،‏وذلك بالاحتكام منهجياً ‏إلى المرجع في كل أمر وهو كتاب الله وسنّة رسوله (ص) والتزام السلوك الأخلاقي من الجدال بالحسنى وتوقّي الجهر بالسوء من القول وإتهام السرائر، وسوء الظن والسخرية، والحدّة وعنف الخصومة، والحرص على الحق والحقيقة، وفي هذا ما يحقق الخير من حيث تبيّن الرأي الصحيح والحفاظ على علاقات الودّ والأخوة بين المختلفين {ذلك خير‏وأحسن تأويلا} والله قد خلق في البشر إمكانات الاختلاف ليبلوهم كيف يتعاملون في اختلافاتهم فتتحقق رحمة الله حين يهتدون بهدايته في معالجة الاختلاف وهو مقتضى طبيعتهم البشرية لا بالإمتناع عن الاختلاف تماماً ‏والخروج عن إنسانيتهم أو تعطيل طاقاتهم وشلّ إراداتهم: {ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك،‏ولذلك خلقهم} [هود 118ـ9].
وقد اختلف صحابة رسول الله (ص) في حياته وبعد مماته،‏وبرزت اختلافات المهاجرين والأنصار وظهر المعتزلة بعد ذلك وكانت لهم آراؤهم السياسية، واشتملت المؤلفات الفقهية المفصّلة في مختلف المذاهب على أبواب «للإمامة» وإن سادتها أحكام الفروع. وصدق الشهرستاني (ت548هـ/1153) إذ يقول: «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة،‏إذ ماسُلّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان» (15) .
وإذا كانت طبيعة البشر تقتضي اختلاف الرأي واجتماع أصحاب الرأي الواحد عليه تعزيزاً له وشدّاً لأزر بعضهم بعضاً ، فإن هذا الاجتماع من أكبر الضرورات في الدولة الحديثة التي تضخمت أجهزتها وأدواتها القمعية نتيجة التقدم التكنولوجي، وأضحى الفرد المعارض ضعيفاً أو مسحوقاً ‏أمام تلك القوى الهائلة،‏وإنما قد تقدر على مجابهتها الجماعة وما تستطيع حشده من جموع ورائها،‏ومن ثمّ صارت حقوق الأفراد في الرأي والتعبير لاتغني بحال عن حق الاجتماع الوقتي الطارئ وحق تكوين الجماعات الدائمة assembly، association. وقد أقرّ الإمام علي بن أبي طالب لمعارضيه من الخوارج بحقهم في الاجتماع في المساجد وإن استمروا في معارضتهم، وقرّر أن الدولة لن تستخدم العنف ضدهم ماداموا مسالمين وكان خلافهم مقصوراً على الرأي واجتماعهم عليه سلمياً ، وأن حقوقهم المالية وغيرها إزاء الدولة لن تتأثر ماداموا ملتزمين بأداء واجباتهم وإن ظلّوا على رأيهم ومعارضتهم. إذ قام الإمام يخطب يوماً في المسجد على أثر التحكيم فتنادى الخوارج من كل جانب «لاحكم إلا لله»، فقال علي «هذه كلمة حق يُراد بها باطل»، ثم قال: «إن لكم علينا أن لانمنعكم فيئاً مادامت أيديكم معنا، وأن لانمنعكم مساجد الله،‏وأن لانبدأكم بالقتال حتى تبدأونا» (16) . وهذا أصل جليل خطير في حقوق «المعارضة» في الإسلام فقهاً وتاريخاً ، من إمام له حجيته الفقهية وصدارته التاريخية.‏وحقوق المعارضة الفردية والجماعية أساسية في المجتمع الإسلامي الذي يدين «بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» فريضة وقاعدة في بنيته الفكرية والخلقية، مع الإلتزام بالواجبات المنهجية والخلقية بطبيعة الحال، وضرورتها أبرز وأظهر في الدولة الحديثة بسلطاتها وأدواتها القمعية. وتزود حقوق «الإعلام» في وسائله الحديثة الواسعة النطاق، أصحاب الرأي ومنهم «المعارضة» بطبيعة الحال، بأدوات تضيف للحق في «التعبير» أبعاداً ‏واسعة النطاق،‏وتدعّم حقوق الاجتماع، وحق إنشاء الأحزاب ومختلف الجماعات وكذلك التجمعات الموقوتة الطارئة وأنشطتها مما يمكن أن يدخل ـ كما سلف البيان ـ‏في نطاق قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، وأولئك هم المفلحون} [آل عمران 104]، ويتضامن فيه الرجال والنساء: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر} [التوبة 71]. كما يلتزم به أهل الكتاب: {من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله وهم يسجدون. يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات} [آل عمران 113ـ114].

حقوق المرأة

وإنما يعتبر العالم المعاصر «حقوق المرأة» علامة مميزة واختباراً ممثلاً لمدى رعاية «حقوق الإنسان» في أي بلد من البلاد. وكثير من الإسلاميين يعانون من حساسية مفرطة وتثير تهيجهم وتشنجهم لمجرد ذكر «حقوق المرأة»،‏مؤكدين حسن معاملة الإسلام والمسلمين للمرأة منذ كان الإسلام، غافلين عن أن إحسان المعاملة الذي قد لايمارى كثيرون في تحققه بوجه عام ـ مع استثناءات خطيرة مفزعة أحياناً ، هو غير المساواة التي يعنيها الحديث عن «حقوق المرأة».
والقرآن يؤكد حقوق الزوجة في إدارة شؤون الأسرة مع زوجها، فإنما تتقرّر أمورها {عن تراض منهما وتشاور} [البقرة 233]،‏ولابدّ من اجتماع الرضا والتشاور، فالرضا دون تشاور استغلال سيء للثقة والعاطفة، والتشاور دون وصول للرضا إجراء شكلي عقيم لايصل إلى النتيجة المفترضة فيه. كذلك يؤكد القرآن حقوق المرأة في المشاركة في توجيه سياسة الأمة مع الرجل: {والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله،‏أولئك سيرحمهم الله، إن الله عزيز حكيم} [التوبة 71]. والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يمكن أن يدخل تحته كافة ما يتعلق بالمسلمين ككل مجتمعاً ‏ودولة في اصطلاح الإسلام،‏لاسيما إذا لاحظنا ما اقترن به من المساواة في الولاية المشتركة الجماعية والاجتماعية للرجال والنساء: «فأثبت الله للمؤمنات الولاية المطلقة مع المؤمنين، فيدخل فيها ولاية الأخوة والمودّة والتعاون المالي والاجتماعي، وولاية النصرة الحربية والسياسية، إلا أن الشريعة أسقطت عن النساء وجوب القتال بالفعل، فكان نساء النبي يخرجن في الغزوات مع الرجال يسقين الماء ويجهزن الطعام ويضمدن الجراح ويحرضن على القتال. وما في الآية من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على النساء كالرجال، يدخل فيه ما كان بالقول وما كان بالكتابة،‏ويدخل فيه الانتقاد على الحكام من الخلفاء والملوك والأمراء فمن دونهم، وكان النساء يعلمن هذا ويعملن به». وذكر محمد رشيد رضا تأييداً ‏لما قاله، الواقعة المعروفة من اعتراض امراة على عمر بن الخطاب حين نهى الناس أن يزيدوا في مهور النساء عن حدٍ معين، واحتجت المرأة بقول الله {وآتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً } [النساء 20]، فروى أن عمر قال: «أصابت امرأة وأخطأ عمر» وصعد المنبر وأعلن رجوعه عن قوله (17) ورأى محمد فريد وجدي في الواقعة سابقة هامة لتمتع المرأة بالحقوق السياسية والمشاركة في السلطة التشريعية ابتداء من إجراءاتها الأولية انتخاباً وترشيحاً إلى المشاركة في أعمال التشريع والرقابة في السلطة التنفيذية بعد الوصول إلى عضوية المجلس النيابي، وذلك حيث يقول منذ قرابة نصف قرن: «أفلا يمكن أن تعدّ هذه سابقة في الإسلام إذا دعانا داعي التطور الاجتماعي في يوم من الأيام أن نمنح نساءنا حقوق الانتخاب والحصول على النيابة في المجالس التشريعية» (18) . وقد كان لرأي عمر ما يمكن أن يستند إليه من إمكان تقييد المباح لمصلحة راجحة، ومن تقديم درء المفاسد، لكنه فيما يبدو آثر تعزيز الجهر بالرأي وقول ما يعتقد القائل أنه الحق. وقد تناول تراثنا الفقهي مسألة ولاية المرأة للقضاء، وهي عندي لاتقل أهمية وخطورة عن الحقوق السياسية إذ قد يقف يوماً رئيس الدولة نفسه أو كبار أعضاء السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية أمام المحكمة التي تقضي فيها امرأة. ذكر ابن رشد (595هـ/1199م) في «بداية المجتهد»: «وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضياً ‏في الأموال وقال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكماً ‏على الإطلاق في كل شيء. فمن ردّ قضاء المرأة شبهّه بقضاء الإمامة الكبرى، ومن أجاز حكمها في الأموال فتشبيهاً بجواز شهادتها في الأموال، ومن رأى حكمها نافذاً في كل شيء قال: إن الأصل هو أنّ كلّ من يتأتى منه الفصل بين الناس فحكمه جائز، إلا ما خصّصه الإجماع من الإمامة الكبرى» (19) .
وقرر ابن حزم في «المحلّى»: «وجائز أن تلي المرأة الحكم ـ وهو قول أبي حنيفة،‏وقد رُوي عن عمر أنه ولّى الشفاء ـ امرأة من قومه ـ السوق. فإن قيل قد قال رسول الله: لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة، قلنا: إنما قال ذلك في الأمر العام الذي هو الخلافة،‏برهان ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «والمرأة راعية في مال زوجها وهي مسؤولة عن رعيتها» وقد أجاز المالكيون أن تكون وصيّة ووكيلة، ولم يأت نص من منعها أن تلي الأمور» (20) . ولست أدري بالنسبة لمن يجوزون قضاء المرأة من الفقهاء ـ وحجتهم في ذلك قوية ناصعة ـ‏كيف يمكن ان يتقبلوا إذن بإطلاق وتعميم أن تكون شهادة المرأة نصف شهادة الرجل ـ‏إلا فيما يختص النساء بمعرفته دون الرجال، دون إعمال لإشارة القرآن إلى ما يحمل التخصيص والاشتراط؟
على أن منع المرأة من منصب رئاسة الدولة ـ‏على ما ذهب إليه ابن حزم، الذي أجاز لها القضاء، لكن ذهب إلى منعها من رئاسة الدولة مع عامة الفقهاء، وجددته فتوى مجلس علماء أندونيسيا مؤخراً بمناسبة ترشيح ميجاواتي ابنة سوكارنو للرياسة قبل قبولها أن تكون نائبة للرئيس عبد الرحمن وحيد مؤخراً ‏ـ‏هذا المنع لايخلو من مقال. فالحديث: «لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة» رواه البخاري وأحمد والترمذي والنسائي عن أبي بكرة.
ويذكر أن بوران بنت كسرى برويز نُصبت ملكة على دولة الفرس بعد مقتل كسرى الثالث ابن أخي كسرى الثاني 629م وحكمت سنة وأربعة أشهر، وجاء حكم فيروز الثاني بعدها قصيراً جداً ، ثم حكمت آزر ميدخت أخت بوران أربعة شهور،‏وفي مدة 4 سنوات تقريباً حكم 10 ملوك على الأقل، ثم كان آخر ملوك الدولة يردجرد نهاية الدولة 642م ـ271 وهكذا اضطربت أمور الدولة كما توقع الرسول صلى الله عليه وسلم وأخبر.
وقد سبقت الإشارة إلى أن «أولي الأمر» تأتي في آيات القرآن جمعاً لامفرداً [النساء 59،83] مما يدل على اعتبار القرآن لهم هيئة لا فرداً ، خلافاً ‏لما تعارفه الفقهاء من الكلام عن «الخليفة» و«الوزير» و«الأمير أو الوالي على البلد» باعتبارهم أفراداً . وفي كتاب «مسائل حرجة في فقه المرأة» عرض مؤلفه الشيخ محمد مهدي شمس الدين «لأهلية تولي المرأة للسلطة العليا في إطار نظام الشورى ودولة المؤسسات»، «وخرج باجتهاده (في هذا وغيره) عن المشهور بين الفقهاء من الشيعة والسنة..‏يقول: «فقد ثبت أن بعض البديهيات في مذهب أو أكثر ليس من بديهيات الشريعة،‏وفي بعض الحالات فإن بعض البديهيات في جميع المذاهب ليس من بديهيات الشريعة بل للنظر فيها مجال.. فقد تبين لنا من النظر في الأدلة أن ما تسالم عليه الفقهاء من عدم مشروعية تصدّيها وتوليتها للسلطة دعوى ليس عليها دليل معتبر..». فقد ظهر للشيخ من الأدلة العامة ـ‏الكتاب والسنة والإجماع والوجوه الاستحسانية‏ـ ألا دليل على اشتراط الذكورة في رئيس الدولة.. وفرق الشيخ شمس الدين بين شكلين ونمطين من الحكم: الشكل القديم الذي يمارس فيه الحاكم ـ رئيس الدولة ـ‏سلطة مطلقة حيث تجتمع كل السلطات والصلاحيات ومراكز القرار بيد الحاكم أو رئيس الدولة،‏وبين الشكل (المتعارف حديثاً ) الذي يقيد الحكم بالشورى ونظام المؤسسات ويوزّع مراكز القرار ويفصل بين السلطات، ولايكون هناك مجال لأن يمارس الحاكم سلطاته حسب هواه أو فهمه الخاص وبانفراد مطلق وبعيداً ‏عن الرقابة والمحاسبة. في الشكل الأول لايكون الحكم شرعياً ‏حتى لو تولاّه رجل، إلا في حالة واحدة ـ حسب المؤلف ـ هي كون الحاكم نبياً ‏أو إماماً معصوماً ، أما في الشكل الثاني فهناك مشروعية وأهلية لتولي المرأة الرئاسة العامة للدولة» (21) . وأقول إن محمد «ص» كان نبياً ‏معصوماً ‏وخاطبه القرآن بالشورى والمداومة عليها والعفو عن المخطئين فيها ماداموا لم يألوا جهداً في تحرّي الصواب ـ‏في موقعة أحد: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر، فإذا عزمت فتوكل على الله} [آل عمران 159]، وذُكر أن العزم المشار إليه في الآية هو العزم المبني على الشورى، وذكر ابن عطية أن الشورى من قواعد الشريعة وعزائم الأحكام. بل إن من طريف ما قيل في تفسير قوله تعالى: {وإذا قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة..} [الآية 30 من سورة البقرة] ما ذكره الشوكاني (ت 1250هـ/1834): «قيل خاطب الله الملائكة بهذا الخطاب لا للمشورة ولكن لاستخراج ما عندهم،‏وقيل خاطبهم بذلك لأجل أن يصدر منهم ذلك السؤال فيُجابون بذلك الجواب،‏وقيل لأجل تعليم عباده مشروعية المشاورة لهم» (22) .
لكن مع هذا كله ينكر كثير من الإسلاميين على المرأة مجرد التمتع بالحقوق السياسية لا شغل منصب رئاسة الدولة،‏وما حدث مؤخراً في الكويت في نهاية القرن العشرين شاهد على استمرار ذلك. ويذكر الرئيس الإيراني محمد خاتمي مشيراً ‏إلى ما حدث من تطورات فكرية واجتماعية كبيرة في إيران،‏إنه على الرغم من ذلك كله «وُجد من يقول بضرورة إبقاء المرأة حبيسة البيت لأن حضور المرأة في الحياة العامة يقود إلى الفساد (!) وكان هذا البعض يرفض السماح للمرأة بمواصلة دراستها العليا، ويعارض مشاركتها في النشاطات الاجتماعية. هؤلاء أيضاً ‏كانوا يطرحون آراءهم تلك باسم الإسلام. لقد حاولت فئة من المحترمين،‏بعد انتهاء الدورة الأولى لمجلس الشورى الإسلامي إقناع الإمام ـ الخميني بعدم السماح بمشاركة المرأة في انتخاب الدورة الثانية للمجلس وحرمانها من هذا الحق، إلا أن الإمام واجه هذا التيار بعزم، ودافع عن حق مشاركة المرأة في عضوية مجلس الشورى بقوة» (23) .
إنني لأحيي إيران وعلماءها ودستورها وممارساتها الانتخابية بحرارة، فقد عرّفت العالم المعاصر أن غطاء المرأة لشعرها أياً ‏كان القول في المدى الذي تتطلبه الشريعة في ذلك والصورة الممكنة فيه لايغطي عقلها وشخصيتها وإنسانيتها ـ كما زعمت كاتبة معاصرة هي الآن إلى جوار ربّها! وأرجو أن تسير إيران قدماً في تأكيد كافة حقوق الإنسان،‏ولاسيما حقوق الرأي والتعبير والاجتماع بالنسبة لجميع الإيرانيين بوجه عام،‏ولمن كانوا معارضين بوجه خاص ـ أفراداً وأحزاباً ‏وجماعات، بما فيهم غير المسلمين وغير الإسلاميين.

حقوق غير المسلمين

وثمة علامة مميزة أخرى لرعاية حقوق الإنسان في أي مجتمع معاصر، هي رعاية حقوق الأقليات عرقية أو دينية.
وعالمية المسلمين في التعامل مع مختلف الأعراق على قدم المساواة مشهود بها في التاريخ يقول أرنولد توينبي Arnold Toynbee (ت1975): «إن العرب وكافة المسلمين البيض الآخرين،‏سواء أكانوا سُمراً أو شُقراً ، قد كانوا دائماً متحررين من التحامل اللوني بالنسبة للسلالات غير البيضاء... لقد كان المسلمون البيض على اتصال بالسود في أفريقية وبالشعوب ذات البشرة الداكنة في الهند منذ البداية،‏واستمر تزايد هذا الاتصال باطراد،‏وحتى أيامنا هذه يمتزج البيض والسود في حماية الإسلام على طول باكستان وأفريقيا وعرضهما. ولقد أظهر المسلمون البيض في اختبارات الباحثين تحررهم من مشاعر التعصب السلالي بأكثر الأدلة إقناعاً ، إذ زوّجوا بناتهم من مسلمين سود» (24) .
لكن الذي يثار بالنسبة لحقوق الإنسان عند المسلمين اليوم ما يتعلق بحقوق غير المسلمين في الدول التي يكون غالب سكانها وحكامها مسلمون. فالدولة الحديثة تقوم حقوق «المواطنة» فيها على الانتماء للوطن وللشعب في هذا الوطن،‏ويستوي المواطنون في هذه الحقوق أيّاً كانت عقائدهم ودياناتهم. ولغير المسلمين في تراث الإسلام التاريخي والفقهي تسمية اصطلاحية هي «أهل الذمة» أو الذميون لأنهم دخلوا تحت ذمة المسلمين وحمايتهم، إذ الذمة هي العهد،‏وأهل الذمة هم المعاهدون من النصارى واليهود وغيرهم ممن أقام بصفة دائمة في دار الإسلام.. وقد صرح الفقهاء أن الذميين من أهل دار الإسلام، وفي بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع للفقيه الحنفي المبرز علاء الدين الكاساني الملقّب بملك العلماء (ت587هـ/1191): «والذمي من أهل دار الإسلام»، وفي شرح السرخسي (ت حوالي 490هـ/1096م) لكتاب «السير الكبير» لمحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة (ت189هـ/804م): «لأن المسلمين حين أعطوهم الذمة فقد التزموا دفع الظلم عنهم وهم صاروا من أهل دار الإسلام»،‏وفي «المغني» لابن قدامة الحنبلي (ت630هـ/1232م): «والذمي من أهل الدار التي تجري عليهم أحكامها».‏وذكر الكاساني حديثاً يقول: فإذا قبلوا عقد الذمة فأعطهم لأن لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، وهو غير وارد في كتب الحديث المعروفة لكن معناه مقبول عن الفقهاء.‏وروي عن عليّ بن أبي طالب: «إنما قبلوا عقد الذمة لتكون أموالهم كأموالنا ودماؤهم كدمائنا». وذكر السرخسي في شرح «السير الكبير» أن «أموالهم وحقوقهم كأموال المسلمين وحقوقهم» (30) . وهم سواء في خدمات الدولة الإقتصادية والاجتماعية فقد كتب خالد بن الوليد عن أهل الذمة في الحيرة: «وجعلت لهم أيما شيخ عجز عن العمل أو أصابته آفة من الآفات أو كان غنياً ‏فافتقر طرحت جزيته وعيل من بيت مال المسلمين هو وعياله». وهذا ما فعله عمر مع شيخ يهودي عجوز (31) .
واصطلاح «الذمة» تاريخي فقهي،‏وهو في معناه يتضمن المسؤولية القانونية والخلقية للمسلمين تجاه من يقيمون معهم إقامة دائمة من غير المواطنين،‏وقد قدّموا الواقع التاريخي شهادة إيجابية للمسلمين في تعاملهم مع أهل الذمة بوجه عام. وحتى إذا كان «بعض الأفراد من الحكام»‏فعلى حد تعبير جوستاف فون وينباوم Gustave von Gruhebaum «ربما آذى بعض الجماعات من أهل الذمة أو أفراد منها،‏فإنما كان ذلك يحدث على إثر فترة من الثراء أو الصعود السياسي يكونان قد استرعيا الانتباه،‏وكان المسلمون أنفسهم يتعرضون على قدم المساواة لهذه السلطة التحكمية التي لايضبطها ضابط أو يقيدها قيد من قبل الملك الحاكم» (27) .
على أن اصطلاح «الذميين» قد يكون حُمِّل أحياناً ‏بشيء من معاني الدونية (inferiority) كما يشهد بذلك بعض تراثنا التاريخي والفقهي،‏ولاداعي للتمسك به إن كان يتأذى منه غير المسلمين ولو نفسياً . وإذا كانت معاني العهد والحماية قد حققت بعض الأمن والعدل لغير المسلمين في الماضي بوجه عام،‏فإنهم اليوم يتطلعون للمساواة المطلقة وفقاً لحقوق الإنسان وحقوق المواطنة. وإن من حق عقد الذمة التاريخي عند فقهائنا ألا نسيء لأهل الذمة نفسياً ‏وشخصياً ‏«فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أو نوع من أنواع الأذيّة أو أعان على ذلك فقد ضيّع ذمة الله تعالى وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم وذمة دين الإسلام» ـ كما قرر ذلك بحق القرافي (ت684هـ/1285م) (28) . فنحن بحكم عقد الذمة التاريخي ملتزمون بألا نؤذي أهل الذمة بأي كلمة،‏وهم يتأذون اليوم بهذه التسمية!
وقد ذكر المودودي (ت1979م) على تشدده أحياناً أن لغير المسلمين في الدولة الإسلامية من حقوق الرأي والتفكير والاجتماع ما للمسلمين سواء بسواء ويكون عليهم من الإلتزامات في ذلك ما على المسلمين، فلهم حق انتقاد الحكومة والعاملين فيها بما فيهم رئيس الحكومىة،‏بل حق انتقاد الدين الإسلامي نفسه مثلما للمسلمين من حق في انتقاد غيرهم وعقائدهم موضوعياً كما أن لغير المسلمين الحق في عرض عقائدهم والدفاع عنها مثلما للمسلمين من حق بالنسبة لديهم (29) .
وقبل أن يجري استعمال اصطلاح «الذمة» في تراثنا التاريخي والفقهي،‏جاء عهد المدينة من رسول الله (ص) اثر هجرته إليها،‏وتقرر لليهود من سكانها مكانهم على قدم المساواة مع المهاجرين من مكة والأنصار من الأوس والخزرج في المدينة عشائرهم: «إنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم..‏وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين مادموا محاربين،‏وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين: لليهود دينهم وللمسلمين دينهم: مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لايوقع إلا نفسه وأهل بيته. وإن ليهود بني الحارث ما ليهود بني عوف..‏الخ» (30) .
«والمواطنة» التي ارتبطت بالدولة الحديثة التي قامت على أساس صلة «المواطن» بالوطن وبالشعب، ليس فيها ما يتعارض مع الإسلام أو عالميته، فالعالمية لم تمنع في تاريخ المسلمين وثقافتهم تقرير الانتماء المحلي إلى مدينة أو قرية أو إقليم فقيل مثلاً : البصري والبغدادي والبخاري والنيسابوري والمصري والعراقي والمغربي ـ وهكذا‏ـ أفلا يحق لنا أن ننظر إلى صلة المواطن بالوطن كصلة الاشتراك في جوار موسّع، وصلة المواطن بالشعب كصلة الانتماء إلى أسرة موسعة،‏واستمر هذا وذاك قروناً ‏طوال. وهكذا تتقرر صلة المسلمين بغيرهم على أساس هذا الجوار وهذا الانتماء الأسري المتطاولين، ولهذا وذاك مفهومهما وحقوقهما وواجباتها المقررة على النطاق الضيق المعروف وإنما نوسّع الآن نطاقهما وننظر في المفهوم والحقوق والواجبات بهذا الاتساع، في ضوء ما عرفه العصر من حقوق المواطنة، وذلك بدلاً ‏من تقرير ذلك على أساس «الذمة»، أو أساس «الفتح عنوة أو صلح»، وهو أمر جرى منذ قرون،‏وكان وقتذاك حدثاً ‏طارئاً قصير الأمد، واختلف في تطبيق حالة «العنوة» أو «الصلح» في كثير من الحالات،‏بينما استمر الجوار في الموطن والمشاركة في أسرة المواطنين الذين تطاولت إقامتهم فيه ـ استمرت هذه وتلك خلال القرون الطوال المتوالية!
ويترتب على هذه النظرة الواقعية التي لاتتعارض مع الإسلام بل تعززها أصوله وقواعده، المساواة بين المواطنين جميعاً في الحقوق والواجبات، والتمتع بحقوق الإنسان على قدم المساواة. وتتاح لغير المسلمين كافة الفرص والخدمات التي تقدمها الدولة لمختلف المواطنين من تعليم وتنمية مادية ومعنوية وضمان اجتماعي،‏ومن وظائف متنوعة في مختلف المجالات. وإذا كان الماوردي قد أجاز للذمي أن يكون وزير تنفيذ (31) وكل الوزراء في الدولة الحديثة التي تأخذ بفصل السلطات وقيام هيئات لا أفراد بهذه السلطات وزراء تنفيذ، فما أحرانا أن تكون الوظائف عندنا لكل المواطنين بحكم المساواة بينهم في الحقوق السياسية والمدنية. قد سبق أن كتبت دراسة في هذا الموضوع نشرتها لي مجلة «الأمان» التي كانت تصدر في بيروت 1979م في عدّة حلقات،‏فأكتفي بالإحالة إليها (37) . ولا أحسب أن مسألة «الجزية» تثار الآن،‏فقد استقرّ في الأذهان ارتباطها بالإعفاء من واجبات الدفاع من قديم، وكان من يشارك في مهام الدفاع يعفى منها في التاريخ المبكر للمسلمين (33) . وغير المسلمين اليوم يشتركون مع المسلمين في أعباء الدفاع ويعتبرون ذلك واجباً ‏وشرفاً .

الخاتمة: مسؤوليات لا تحتمل التأجيل.

إنه لابد للفكر الإسلامي المعاصر أن ينير الطريق للحركة الإسلامية المعاصرة.. ولابد للفكر الإسلامي المعاصر لكي يكون معاصراً حقاً ‏ـ‏أن يقرر موقفه في صراحة وجلاء ودون غموض أو تمييع أو تحفظ بالنسبة للقضايا التي تعتبر معالم فكرية أساسية في الحياة المعاصرة،‏وعلى رأس هذه الأساسيات «حقوق الإنسان» أو «كرامة الإنسان»، من ناحية تقرير المبادئ والقواعد أولاً ، ومن ناحية مدى تطبيقها عالمياً ‏ومؤازرة كل ضعيف حتى يؤخذ الحق له،‏ومواجهة أي قوي ظلوم غشوم حتى يؤخذ الحق منه.. وأنصع وأقطع ما يكون دليلاً ‏على مكان حقوق الإنسان في العقل المسلم المعاصر وفي عمل المسلمين المعاصرين بالنسبة للعالم الذي نعيش فيه،‏هو ما كان يقرر الحقوق ويحميها بالنسبة «للمرأة» وبالنسبة «لغير المسلمين».. فصورة الإسلام في العالم المعاصر إزاء هؤلاء وتلك، صورة مختلطة ملتبسة مشوهة،‏نتيجة واقع المسلمين وما يسوده أحياناً ‏من تقاليد ليس للإسلام فيها نصيب،‏ونتيجة غموض الإسلاميين المتعمد وغير المتعمد عند عرض موقف الإسلام الصحيح الصريح من هذا الخليط والمسخ، ما بين نزعة اعتذارية تبريرية، أو خطابية عائمة غائمة، أو خلط بين «المعاملة الحسنة» و«المساواة» في أبعادها المتكاملة من حيث المبادئ والقانون من جهة ومن حيث التطبيق والسلوك العملي من جهة أخرى. والمعاملة الحسنة والمساواة لايختلطان ولايلتبسان في العقل المعاصر،‏والظن بأنهما مترادفان إضاعة للوقت والجهد في غير طائل، وكأن المحادثة تجري بلغتين مختلفتين! ولايعني هذا إهدار أهمية «المعاملة الحسنة» والرصيد النفسي الأخلاقي الخير في الإنسان‏فهذا ما جعل الحياة محتملة مقبولة إلى درجة مناسبة مع غياب «المساواة»! وغياب النوايا الطيبة والنزعة الخيّرة ضيّع فعالية النصوص القانونية في لائحة الحقوق Bill of Rights في دستور الولايات المتحدة،‏فاحتاج المستضعفون المقهورون إلى حركة الحقوق المدنية في أواخر الخمسينيات وخلال الستينيات بعد قرابة قرنين من تقرير تلك الحقوق،‏ومازالت وقائع إهدار تلك الحقوق التي لم ترسخ بعد في أعماق الناس الشعورية وما وراءها والعقلية والأخلاقية،‏تتوالى في مختلف أرجاء البلاد إلى أيامنا هذه! وإنما لابدّ أن يظاهر الضمير والسلوك الأخلاقي الفردي والاجتماعي النصّ القانوني الصريح القاطع، الذي يعيها الضمير والسلوك على معرفة الحق وضمانة ومعرفة الباطل ومنعه بكل سبيل مشروع،‏كما أن الرصيد النفسي الأخلاقي يسدّ المنافذ قدر الإمكان المتلاعب بالنص القانوني والتهرّب منه أو إساءة استعماله. ومن ثم ينبغي أن يقترن تقرير حقوق الإنسان بالنسبة للمرأة وبالنسبة لغير المسلمين بتطبيقها الحاسم الشامل بين المسلمين أنفسهم: في مجتمعاتهم وجماعاتهم ودولهم، حتى لايكونوا ممن يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم ويقولون ما لايفعلون،‏والحق {إن الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد11].
والديمقراطية هي أنجع وسيلة مطروحة على مائدة الفكر والممارسة السياسيين المعاصرين،‏وليس من الضروري عقلاً وواقعاً ‏أن يكون المؤمن بضرورة الوسائل الديمقراطية لتحقيق حقوق الإنسان وكرامته مؤمناً بجذورها الفلسفية وظروفها التاريخية وما اقترن بذلك من نزعات إزاء الدين كقوة غيبية كبرى أساء استغلالها سدنتها من كهنة الدين وطقوسه،‏فهناك ملايين من الديمقراطيين المؤمنين بالله ومنهم المتدينون الملتزمون في أوروبا وأمريكا، وهؤلاء لايرضون عن النزعة الفردية الجامحة ولا عن الاستغلال الرأسمالي غير الإنساني الذي لايؤمن إلا بالمنافسة ويغفل عن العاجزين أصلاً عن دخول السباق، ويؤمن هؤلاء بمسؤولية القادرين إزاء المحرومين،‏لاسيما وأنهم قد يكونون مسؤولين كأفراد أو جماعة عن حرمان المحرومين وكثير من انتقادات الديمقراطية في الغرب وممارساتها قد صدر عن مصادر غريبة كفلت الديمقراطية حقوقها في الرأي والتعبير، وأحياناً كثيرة في الاجتماع الطارئ والدائم لتوجيه مثل تلك الانتقادات.
كما أن هناك من الاشتراكيين من لايشارك بالضرورة كارل ماركس وفردريك إنجلز في كل مقولاتهما الفلسفية وموقفهما إزاء الدين، لكن أخذوا ببعض تحليلاتهما وآرائهما الاقتصادية وإن كانوا مسيحيين ملتزمين، والقول بأن الأخذ بالجزء إنما يعني التسليم بالكلّ وبظروف النشأة والتطور أصبح مما لايأخذ به المنطق الفكري أو المنطق السياسي المعاصرين،‏فإن تدفق المعرفة الكمي والكيفي كمثل المعرفة الإنسانية «دينامية» هائلة في الأخذ والعطاء، والتصحيح والتطعيم والتركيب، حتى أصبح «المركب» complex، symteis حقيقة أساسية كبرى في الفكر المعاصر،‏مما يعيد إلى الأذهان قول القائلين من فقهائنا بأن «الاجتهاد يمكن أن يتجزأ»، وكذلك يكون الاقتناع والاتفاق متجزئين أيضاً ، فلا يلزم أحد إما بأخذ رأي بجميع تفاصيله أو تركه كله بما يمكن من جعله موضع اقتناع واتفاق! وفي هذا الضوء يمكن تتبع موقف الإسلاميين من الديمقراطية: «ففي المراحل السابقة كانت الديمقراطية ترفض في الفكر الإسلامي، لأن النظر لها كان في العموم والإطلاق يلحظ أنها فلسفة ومذهب اجتماعي يفوّض كل شيء للشعب بما في ذلك التشريع. أما اليوم فإن الديمقراطية تخضع لتشريع الفكر الإسلامي لمعرفة مكوّناتها الجوهرية والنتجية القبول ببعض تلك المكونات لا كلها، كالتعايش السلمي بين الجماعات وتبادل السلطة بشكل سلمي وأخذ رأي الشعب في الانتخابات والترشيح واحترام حقوق الإنسان والفصل بين السلطات وما أشبه. وهذا بدوره يكشف عن تحول منهجي في الفكر الإسلامي المعاصر الذي كان يغلب عليه الإطلاقية سابقاً ‏ويقترب من النسبية اليوم» (34) .
إن الله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ليفردوا الله بالعبادة فلا يشركون معه أحداً ، وهم المنتفعون وحدهم بذلك لأنه جلّ جلاله غنى عن عبادة العابدين وطاعة الطائعين كما سبق البيان: {يا عبادي إني حرّمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرّما فلا تظالموا.. يا عبادي إنكم لن تبلّغوا ضرّى فتضرّوني ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنّكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم مازاد ذلك في ملكي شيئاً ، ولو أن أوّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً .. يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها..} [حديث قدسي أخرجه مسلم عن أبي ذر]. وكما قال ابن القيم: «إن الله أرسل رسله وأنزل كتبه ليقوم الناس بالقسط..‏فأينما ظهر العدل بأي طريق فثم شرع الله ودينه» (35) .
وتبدو دلائل ذلك التحوّل المأمول المشار إليه من كتابات بعض قادة الحركات الإسلامية المعاصرة ومواقفها،‏ويبقى أن يسند ذلك فكر رصين متعمق، فلا تكون مواقف تكتيكية أو مرحلية وربما انتهازية،‏وأن تتمثل الديمقراطية بحق في بنية الحركة وتنظيمها وممارساتها الداخلية. على أن بريق «فرض أحكام الإسلام من أعلا» وإقامة الدولة المسلمة التي تحكم بالشريعة بأي سبيل مازال يخطف أبصار الإسلاميين المعاصرين،‏ويزّين لهم محاولة التسلّق «إلى أعلا» بأية صورة لتحقيق ذلك، وأي تحالف حزبي أو انقلابي في هذه السبيل له تبريره ولمشروعيته، بحجة أن سواد الشعب يدين بالإسلام وهو ضمناً يريد حكمه، وأي طريق توصّل إلى «ما هو أعلى» والمشاركة في السلطة وبلوغ المقصد تبرّر بأنها إنما تبنى على الرغبة الضمنية لسواد الشعب المسلم! لكن الحق أن هذا السواد بعيد تماماً عن هذه المفاهيم والمضامين، إما لشيوع الجهل بين الغالبية،‏أو لتأثير «العلمانية» العملي والفكري في المرحلة التي أعقبت جلاء الاحتلال العسكري وذهاب الاستعمار المباشر! ومازال هناك حوار متأجج بين الإسلاميين عن «الشورى أو الديمقراطية» مثلما جرى في الكويت مؤخراً ،‏وعن مناقشة «السيادة في الدولة» Sovereignity: هل هي لله أم للشعب التي ماتزال تُثار بين بعض الإسلاميين في الولايات المتحدة مثلاً !
وثمة قضايا أخرى ذات أهمية كبرى نؤمّل أن يتبلور الفكر الإسلامي إزاءها في هذا القرن بعد أن تطاول الزمن ولم يتحقق بعد المأمول بصورة مقنعة،‏مثل «الأصالة والمعاصرة»، و«الهوية» و«الوسطية»، و«الثابت والمتغير»، مثل انعكاسات «القومية» و«الإقليمية» و«الوحدة» و«العالمية» globalism على المسلمين. وما يمكن أن تكون عليه العلاقات الدولية للمسلمين فيما بينهم ومع غيرهم في العالم المعاصر بين المثالية والواقعية.. وهذا ما نؤجّل الحديث عنه إلى فرص قادمة إنشاء الله،‏وبه نستعين ونسأله التوفيق.

الهوامش
1) ابن القيم: إعلام الموقعين،‏القاهرة:‏بدون تاريخ،‏ج4 ص309ـ310، ابن تيمية الحسبة في الإسلام، تحقيق سيد بن محمد بن أبي سعدة،دار الأرقم: الكويت 1983، ص9ـ10، 91.
2) انظر الطبري: تاريخ الأمم والملوك، «ابتداء أمر القادسية» من أخبار سنة 14هـ.
3) من حديث بدايته: «إن هذا القرآن مأدبة الله...» رواه عبد الله بن مسعود وأخرجه الحاكم.
4) انظر لكاتب المقال: الفكر الإسلامي والتطور،‏دار القلم (الشروق الآن): القاهرة 1960م، ص23.
5) Mohammad Iqbal، The Reeonstruction of Religious Thought in Islam، Kitab Bhavan: new Delhi 1986، P.46-7، 95-97، 140-1،154.
6) محمد محفوظ: «التجديد الثقافي في المشروع الحضاري الإسلامي»، مجلة «الكلمة»: بيروت،‏ع12 صيف 1996، ص32ـ47. وذكر الكاتب أن مرجعه فيما بين القوسين الموضوعين هكذا (‏) داخل علامات التنصيص هو مجلة «الاجتهاد» بيروت: ع10، 11: شتاء وربيع 1991م،‏ولم يذكر الكاتب كاتب المقال وانظر أيضاً ‏له: «نظرات حول الوحدة والتعدد في الفكر الإسلامي»، مجلة «الكلمة»، بيروت: ع21 خريف 1998 ص29ـ33.
7) محمد عبده،‏محمد رشيد رضا: تفسير القرآن الكريم الشهير بتفسير المنار،‏مطبعة صبيح: القاهرة 1374هـ ج4 ص199ـ205.
8) ابو بكر أحمد باقادر: «حقوق الإنسان: تاريخها ومصادرها ومستقبلها»، ورقة مقدمة «لندوة حقوق الإنسان في الإسلام» نظمها مجمع الفقه الإسلامي بمدينة جدة 8ـ10 من المحرم 1417هـ/25ـ27 من مايو 1996، منشورة بمجلة «الكلمة»: بيروت، ع14 شتاء 1997ـ1417هـ،ص37.
9) Igbal، ibid.، p.154
10) محمد بن عبد الكريم الشهرستاني: الملل والنحل، تحقيق محمد سيد كيلان، دار المعرفة: بيروت 1975، ج1 ص199.
11) عبد الرحمن بن خلدون: المقدمة،‏دار القلم: بيروت 1978، ص6ـ445.
12) محسن باقر الموسوي: «نظرية العقد ومشروعية الحياة النيابية في الإسلام»، مجلة «الكلمة»، بيروت: صيف 1996، ص9ـ14.
13) عبد الحق بن غالب بن عطية الأندلسي: المحرّر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمملكة المغربية،‏تحقيق المجلس العلمي بفاس: 1977، ج3‏ص280ـ281.
14) علي بن محمد بن حبيب الماوردي: الأحكام السلطانية، مطبعة صبيح: القاهرة 1973، ص47، أبو يعلى: الأحكام السلطانية،‏ص24.
15) الشهرستاني
16) ابن كثير
17) محمد رشيد رضا: نداء للجنس اللطيف: حقوق النساء في الإسلام‏وحظهن من الإصلاح الإسلامي العام،‏بيروت: بدون تاريخ، ص11ـ13. وانظر أيضاً لنفس المؤلف في الموضوع نفسه «الوحي المحمدي» و«تفسير المنار» الآية 71 من سورة التوبة: ج10.
18) محمد فريد وجدي: الإسلام دين عام خالد، ط2: القاهرة، بدون تاريخ،‏ص245ـ246.
19) محمد بن أحمد بن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، طبعة محمد مصطفى الحلبي: القاهرة (بدون تاريخ)، ج2 ص384.
20) علي بن أحمد بن سعيد بن حزم: المحلّى، إدارة الطباعة المنيرية القاهرة‏(بدون تاريخ)، ج9، ص429ـ430.
21) زكي الميلاد/ «الفكر الإسلامي وقضايا المرأة» مجلة «الكلمة»: ع21 خريف 1998، ص18ـ19، 22.
22) محمد بن علي بن محمد الشوكاني: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير،‏دار الفكر:‏بيروت 1973، ج1 ص62.
23) نقلاً عن زكي الميلاد: المقال الذي سبقت الإشارة إليه في رقم 28، وذكر أن مصدره كتاب محمد خاتمي: المشهد الثقافي في إيران ـ‏مخاوف وآمال، دار الجديد: بيروت 1997، ص134.
24) Arnold Toynbee: A Study of History- Reviesd and Abidged، Thomes of Hudosn with Oxford university Press: London 1979، P.92.
25) عبد الكريم زيدان: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام، مؤسسة الرسالة: بيروت‏(بدون تاريخ، ص20، 53 ومراجعة في رقم 1 في ص53، 61.
26) أبو يوسف يعقوب ابن ابراهيم: كتاب الخراج،‏المطبعة السلفية: القاهرة 1397هـ، ص136، 155ـ156.
27) Gustave E. von Grunebaum: Medieval Islam، university of Chicago Press: Chicago ILL.، U.S. 1946، P.180>
35) أحمد بن إدريس القرافي: الفروق،‏عالم الكتب: بيروت (بدون تاريخ)، ج3 ص14. وقد أضاف المؤلف بعد النص الوارد في المتن: «وكذلك حكى ابن حزم في مَراتب الإجماع له أن من كان في الذمة وجاء أهل الحرب إلى بلادنا يقصدونه وجب علينا أن نخرج لقتالهم بالكراع والسلاح ونموت دون ذلك هوناً لمن هو في ذمة الله تعالى وذمة رسوله (ص) فإن تسليمه دون ذلك إهمال لعقد الذمة،‏وحكى في ذلك إجماع الأمة». وذكر ابن تيمية أنه حين خاطب التتار في إطلاق الأسرى الذين أسروهم على إثر هجومهم على البلاد الإسلامية لم يقبل إطلاق أسرى المسلمين وحدهم وأصرّ على إطلاق جميع الأسرى «من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا،‏فإنا نفتكهم،‏ولاندع أسيراً ‏لامن أهل الملّة ولا من أهل الذمة» واضطر ملك التتار للقبول، انظر الرسالة القبرصية المطبعة السلفية: القاهرة 1974، ص25.
29) أبو الأعلى المودودي: نظرية الإسلام وهديه في السياسة والقانون والدستور،‏مؤسسة الرسالة: بيروت 1969، ص307، 360ـ361..
30) عبد الملك ابن هشام: سيرة النبي (ص)،‏تحقيق مصطفى السقا وزملائه، القاهرة، ج2 ص147ـ150. وانظر لكاتب المقال: «دولة الفكرة» رقم 15 ص61ـ62.
31) الماوردي: المصدر السابق (حاشية رقم 18) ص27. وقد أجاز الماوردي تولية الذميين وظائف أخرى في القوات المسلحة وولاية الصدقات والفيء والخراج وولاية التفويض لجهة من الجهات،‏انظر ص60، 116، 130، 152، 209.
32) «مراجعة الأحكام الفقهية بغير المسلمين»، أعداد مجلة «الأمان»: بيروت،‏يونيو 1979م.
33) انظر مثلاً حالتي «السامرة» و«الجراجمة» كما وردت في كتاب أحمد بن يحيى بن جابر البلاذري (ت279هـ/392): فتوح البلدان،‏المكتبة التجارية: القاهرة‏1959م، ص162، 164. وما جرى مثل ذلك مع بعض الأساورة في فتوح أراضي فارس كما روى ابن جرير الطبري: تاريخ الأمم والملوك، المطبعة الحسينية: القاهرة (بدون تاريخ) ج5.
34) «الخطاب الإسلامي المعاصر ـ‏صياغة تأسيسية لثلاثة أبعاد» (مراجعة ونقد لكتاب: زكي الميلاد: الوحدة والتعددية والحوار في الخطاب الإسلامي المعاصر)، مجلة الكلمة: بيروت ع10‏شتاء 1996، ص111ـ2. والنص نقله كاتب المقال عن الكتاب المذكور.
35) ابن القيم: المصدر السابق رقم 1.

* أستاذ الدراسات الإسلامية في جامعة جنوب كاليفورنيا U.S.C بأمريكا، عضو الهيئة الاستشارية لمجلة الكلمة/ من مصر.