شعار الموقع

محورية الإنسان في حركة التاريخ عند مالك بن نبي

عبدالعزيز بوالشعير 2019-06-06
عدد القراءات « 1999 »

محورية الإنسان في حركة التاريخ

عند مالك بن نبي

الدكتور عبدالعزيز بوالشعير*

* أستاذ محاضر في فلسفة العلوم، قسم الفلسفة، جامعة محمد لمين دباغين سطيف 2، ومدير مخبر المجتمع الجزائري المعاصر، البريد الالكتروني: bouch_abde01@yahoo.fr.

 

 

«...كل شعب يجب أن يصنع تاريخه بوسائله الخاصة، وبأيديه ذاتها».

مالك بن نبي

تمهيد

ثمة جملة من الأسئلة ينبغي طرحها أثناء الحديث عن موقع الإنسان في حركة التاريخ، وتتلخّص في الآتي:

ما موقع الإنسان في حركة التاريخ؟

ما الرؤية الكونية التي تحكم حركة التاريخ؟

كيف تؤثر الرؤية الكونية في صناعة التاريخ وتوجيه حركته؟

كيف يؤثّر الإنسان في تركيب التاريخ؟

هل يمكن أن يصنع التاريخ من دون شبكة علاقات اجتماعية متينة وقوية؟

كيف يمكن الانتقال بالإنسان من كونه فردًا إلى كونه شخصًا مندمجًا في الحركة الاجتماعية ومتفاعلًا معها؟

ما موقع الرؤية الحضارية في صناعة الإنسان أولًا وفي صناعة التاريخ ثانيًا؟

وكيف يُسهم الفعل التربوي في تحديد ملمح الإنسان الرسالي الفاعل في التاريخ والمحقّق لمشروع الشهود الحضاري الذي حدّدته الرؤية الكونية الحضارية؟

إلى أي مدى يستلهم الإنسان وظيفته التاريخية ورسالته الحضارية الاستخلافية من النص القرآني ومن السنة النبوية الشريفة؟

كيف يرتبط الفعل التاريخي بالفعل التغييري والإصلاحي؟ وما هي منطلقاته ومراحله وشروطه؟ وكيف تتحدّد مقاصده وأبعاده؟

ما هي ملامح الوظيفة الوجودية للإنسان؟ وماهي مضامينها وغاياتها؟

ما هي معالم مشروع بناء الإنسان الذي يحضر في التاريخ ويكون شاهدًا عليه وعلى الناس؟ كيف يُسهم الفعل التربوي في تحقيق النهضة الحضارية؟

كيف نفسّر الفكرة القائلة بأحادية التقدّم التاريخي وأن الحضارة الغربية تشكّل نهاية مراحل التقدّم، وأنه لا رؤية مجال للحديث عن توجّه جديد للتاريخ والحضارة طالما أننا نعيش مرحلة نهاية التاريخ كما يقول فرانسيس فوكوياما في كتابه: نهاية التاريخ والإنسان الأخير؟

هناك مجموعة من الدوائر تحدّد معالم وبنية الموضوع وتتمثّل فيما يلي: دائرة الإنسان، دائرة الرؤية الحضارية، دائرة الفعل التاريخي، دائرة النهوض والشهود، دائرة الفعل التربوي والثقافي، دائرة الحضارة والاستخلاف، يقول مالك بن نبي: «إننا نجد في القرآن الكريم النص المبدئي للتاريخ التكويني (bio-histoire) {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[1]، وينبغي ألاّ نقرّر هذا المبدأ حسب إيماننا به فقط، بل يجب أن يكون تقريره في ضوء التاريخ»[2].

أولًا: موقع الإنسان في حركة التاريخ

يرى مالك بن نبي أن غياب إنسان الحضارة عن التّاريخ ومشاركته الفاعلة في صنع أحداثه وتوجيهها الوجهة التي أرادها الإسلام منه، يعدّ خروجًا عن الإطار الصحيح الذي ينبغي أن يسير عليه، ومن دون ذلك يعتبر غربة عمَّا ينبغي أن يقوم به، وعن ديناميكيّة التّاريخ الإنسانيّ، باعتباره إنسانًا لم يعد مؤهّلًا لأداء دوره ورسالته في التاريخ[3]، لذلك كانت الرغبة في الاندماج من جديد في حركة التّاريخ وسيرورتها تقتضي منه بالضّرورة إعادة بناء الإنسان وتأهيله بما يمكنه الانخراط مرة أخرى في صنع وتوجيه حركة التاريخ.

ننطلق في حديثنا عن موقع الإنسان في حركة التاريخ من رسالة الإنسان في الحياة ووظيفته في الوجود، بمعنى أنّ الإنسان المسلم صاحب رسالة خُلق من أجلها، وعليه أن يعمل جاهدًا على بلوغها وفق الأطر التي حدّدها القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة، لذلك عندما يتحدّث مالك بن نبي عن موقع الإنسان في حركة التاريخ إنما يعود إلى هذه النصوص من جهة، ومن جهة ثانية إلى التجربة التاريخية للأمة من خلال مسارها في الزمان والمكان، وهو المسار الذي صنعته نصوص البيان التي جاءت من أجل بناء وترشيد وتوجيه حركة الإنسان في الفكر والحياة.

وعليه حين يحلّل بن نبي هذه المنطلقات ومسار حركة التاريخ للأفراد والجماعات في الأمة الإسلامية، يصل في تحليله للتطوّر التاريخي الذي سارت عليه الحضارة الاسلامية، ووصلت إلى أزمتها الحالية إلى مركزية العامل الإنساني في هذه الأزمة، على الرغم من تعدّد وتنوّع أسباب وأعراض هذه الأزمة.

يرى بن نبي بأنّ «... النقائص التي تعانيها النهضة الآن، يعود وزرها إلى ذلك الرجل الذي لم يعد في طليعة التاريخ، فنحن ندين له بمواريثنا الاجتماعية، وبطرائقنا التقليدية التي جرينا عليها في نشاطنا الاجتماعي»[4].

بمعنى أنّ الإنسان المسلم لم يعد قائدًا للتاريخ وصانعًا له، وذلك بسبب انسحابه من دائرة الفعل الحضاري المؤثر والفاعل، فطرائق تفكيره وأشكال علاقاته الاجتماعية وأنماط سلوكياته في الحياة الفردية والجماعية للأفراد، إلَّا دليلًا على ذلك النقص الذي يسم حركة النهوض منذ إنسان ما بعد الموحدين.

الإنسان الذي أصبح في مرحلة الضعف والهوان والسلبية والاتكالية على الغير، الإنسان الفاقد لبوصلة الفكر والفعل والحياة، ولم يعد قادرًا على تحديد نقطة الانطلاق نحو التغيير والبناء. يقول مالك بن نبي عن هذا الإنسان: «فإنسان ما بعد الموحدين المتخلّف هو في الحقيقة تجسيد للقابلية للاستعمار، والوجه النموذجي للعهد الاستعماري والبهلوان الذي أسند إليه المستعمر القيام بدور المستعمر، وهو أهل لأن يقوم بجميع الأدوار، حتى ولو اقتضاه الأمر أن يقوم بدور إمبراطور»[5].

فالأزمة الحضارية الشاملة التي تعيشها الأمة الإسلامية منذ سقوط حضارتها وخروجها عن قطار التاريخ، إنما يعود إلى خلل في الإنسان باعتباره مركزًا في الأزمة الحضارية ومحورًا لحلها وشرطًا للنهوض والإقلاع بها. فالأزمة التي تخنق أنفاس العالم الإسلامي برمّته ولا تزال هي تعبير واضح عن الاختلال الذي حدث في الإنسان على المستويين الفكري والشخصي، أو كما يسميه مالك بن بني مستوى عالم الأفكار ومستوى عالم الأشخاص، لهذا اعتقد ابن نبي أنّ نقطة الانطلاق لاستئناف دورة حضارية إسلامية جديدة إنما تنطلق من بناء الإنسان ذاته[6].

يقول مالك بن نبي موضحًا أهمية بناء الإنسان في استئناف الدورة الحضارية الجديدة للأمة انطلاقًا من إدراكه ووعيه العميقين بالوظيفة الوجودية للإنسان التي حدّدتها نصوص الوحي قرآنًا وسنة التي رسمت معالم الإنسان الرسالي الجديد، وضبطت معالم الحضارة الإنسانية الراشدة، التي انتقلت بالأفراد في شبه الجزيرة العربية من حالة التيه والفرقة والصراع والاقتتال إلى حالة من الوحدة والفعالية والرسالية والانسجام والقوة والحضور في التاريخ، والشهود على الناس كما أخبرتنا به الآية الكريمة في سورة البقرة: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}[7].

من هنا تأتي الحاجة إلى ضرورة إعادة بناء الإنسان الأول الذي دخل في مرحلة جديدة من التاريخ، ومستوى أرقى من الوعي والفهم وأشكال أكمل من الفعل والسلوك، ولإعادة تحقيق ذلك يقول مالك بن نبي: «... فحاجتنا الأولى هي الإنسان الجديد، الإنسان المتحضّر، الإنسان الذي يعود إلى التاريخ الذي خرجت منه حضارتنا»[8].

فإذا كان الغرب في حاجة إلى مؤسّسات، فإننا في العالم الاسلامي نحتاج إلى رجال، «... فمن الرجُل تنبع المشكلة الإسلامية بأكملها وخاصة في الجزائر، فالمسألة هي أنّه يجب أولًا أن نصنع رجالًا يمشون في التاريخ، مستخدمين التراب والوقت والمواهب في بناء أهدافهم الكبرى»[9].

فالأمر إذن وفق هذا النص يتحدّد في العناصر الأربع الآتية:

* صناعة رجال يمشون في التاريخ.

* الاستخدام الأمثل للتراب.

* الاستغلال الجيد للوقت.

* بناء المواهب الإنسانية.

* تحديد الأهداف الكبرى والعمل على تحقيقها.

فالعناصر المذكورة فيها إشارة إلى أهميّة الإنسان في صناعة التاريخ أولًا، وفيه إشارة إلى ضرورة استغلال وتسخير عاملي التراب والوقت في عملية صناعة التاريخ، ولن يتأتى ذلك إلَّا من خلال بناء المواهب القادرة والمؤهلة لتحقيق ذلك في الواقع.

جُماع هذه العناصر إنما يكون عندما يتم تحديد الأهداف الكبرى والغايات السامية لحركة الإنسان في التاريخ وهو بناء الحضارة، وتحقيق الاستخلاف في الأرض. «فقد صار من الضروري أن نضع أمامنا المشكلة بأكملها، وأن نأخذ في اعتبارنا -على الأخص- عنصرها الأساسي: الرجل، ويلزمنا أولًا أن نفهم كيف يؤثّر الإنسان في تركيب التاريخ الذي درسناه. فمستوى تحضّر الإنسان يرتبط بمدى تسخيره واستغلاله الجيد للعناصر السابقة الذكر، ومدى توفيره لأسباب العيش، وتحقيق شروط رفاهيته وأمنه. فكل موجودات الكون مسَخّرة لصالح الإنسان، وهو الذي يقوم بتطويرها وتحويلها بحسب ما تقتضيه مصلحته، وذلك عندما يُعمل يده وفكره وقدراته في عملية تفاعلية مع كل الموجودات، فالله أوجد الموجودات بسننها ونواميسها بما يتلاءم والمهمة الأساسية لخلافة الإنسان في الأرض، وأوجد فيه مجموع القدرات الذهنية والنفسية والفيزيائية للتعامل مع العمران وتتفاعل معه تفاعلًا إيجابيًّا، ومعادلة التحضّر ترتفع وتنخفض بارتفاع أو انخفاض مستوى التعامل والتفاعل بين قدرات الإنسان وإرادته ما أودعه الله في الكون، «فكل ما يحل بالمجتمعات من تقدّم وتأخّر، وما يحل بالحضارات من تقدّم ونكوص، كل ذلك يقع وفق قواعد وسنن، ذكر القرآن منها الكثير، من أجل أن يعتبر المسلمون، فلا يسقطون في الفخ الذي سقط فيه من سبقهم...»[10]؛ لذلك لا يمكن أن نتصوّر مستوى راقيًا من التحضّر من دون حدوث عملية تفاعل إيجابي وفعّال مع الموجودات وفق السنن التي أودعها الله فيها[11].

ومن الملاحظ أنه في هذا العصر يؤثر الفرد في المجتمع بثلاث مؤثرات:

أولًا: بفكره، الذي ينوّر المجتمع ويمدّه بنموذج معرفي وقيمي يرشد حركة أفراده، فيكون ذلك بمثابة إطار نظري لكل فعل أو عمل، فقد ارتبطت عملية التغيير والبناء بعلماء الأمة باعتباره العالمين بالأصول الكبرى للأمة، والقادرون على إعادة تفسيرها وصياغتها في مشروع حضاري جديد قادر على تجاوز الأزمة الفكرية التي تعاني منها الأمة[12].

ثانيًا: بعمله، الذي ينقل الفكرة من النظر إلى العمل، ويحاول تجسيدها في الواقع.

ثالثًا: بماله، الذي ينفقه ويستثمره في تحقيق التوافق بين الفكرة والمبدأ، بين النظر والعمل.

وحاصل البحث أنّ قضية الفرد وبنائه من جديد منوطة بتوجيهه في نواحٍ ثلاث:

أولا: توجيه الثقافة.

ثانيا: توجيه العمل.

ثالثا: توجيه رأس المال[13].

وانطلاقًا من وجهة النظر هذه، فإنّ مالك بن نبي توصّل إلى خلاصة مفادها أننا في العالم الاسلامي لسنا نواجه تغيّرًا في المؤسسات السياسية، وإنما الإنسان هو الذي تغيّر، بحيث إنه فقد همّته الحضارية، وقدرته على الفعل المنهجي الهادف والمؤثّر الذي يمكّنه من إحداث تركيب ديني جديد للتراب والوقت، ومؤهلاته التي ترفعه إلى مستوى القدوة والقدرة، من هنا يبدو جليًّا «أنّ العلاج يكمن في إعادة صياغة شخصية هذا الإنسان وتأهيله ليدخل من جديد في حلبة التاريخ وليستأنف وظيفته فيه»[14].

فأصل المشكلة الإسلامية إنّما يعود إلى الإنسان المتخلّف، وأن علاج المشكلة يكون بإعادة بناء الإنسان وتأهيله وفق الدّور والرسالة اللذين أُنيطا به.

هناك جملة من التساؤلات ترتبط بموقع الإنسان في حركة التاريخ نوجزها كالآتي: كيف يُصنع التاريخ؟ كيف يسير؟ هل يسير على خط واحد أم يسير بخط لولبي؟ لماذا يسير التاريخ على وجهة واحدة؟ هل يعود ذلك إلى قانون يحكم سيره؟ أم نتيجة ظروف تُملى عليه؟ كيف ومتى تخرج الأمم والشعوب من التاريخ؟ وكيف تستطيع معاودة الدخول فيه؟ هل التاريخ يحكمه مبدأ الحتم أم مبدأ الإرادة الإنسانية؟ ما هي الفلسفة التي تحكم حركة التاريخ وما هي غاياته؟ ما هي قوانين النهوض وشروطه؟ وما هي عوامل الانحطاط والسقوط؟[15] وما موقع الإنسان من كل ذلك؟

من هنا أردنا تسلّيط الضوء على دور الإنسان في صناعة التاريخ وتوجيه حركته، انطلاقًا من الدور الكبير الذي يلعبه عالم الأشخاص في صناعة وتسريع الحركة التاريخية، لأنّ التاريخ يُبنى على أسس نفسية واجتماعية وأخلاقية تحدّد ملامح الشخصية التي تستطيع بناء الحضارة وتحقيق الاستخلاف في الواقع.

فحركة التاريخ من منظور مالك بن نبي تتكوّن من العناصر التالية: الإنسان + التراب + الوقت. مع التركيز على عنصر الإنسان باعتباره المحرّك الأول للتاريخ، والدّين هو المركّب للعناصر المُشكّلة للحركة التاريخية، ذلك أنّ الدّين هو الذي يشحذ الفرد إيمانيًّا ونفسيًّا ويمدّه بطاقة روحية قوية تعطيه الدفعة الأولى للفعل والحركة، كما أنّ يحدّد للإنسان الإطار الأخلاقي والجمالي الذي يتحرّك فيه وينضبط بتوجيهاته، مثلما أنه يحدّد وجهة الإنسان والمجتمع نحو بلوغ مراتب عليا في الرقي الحضاري.

يرى مالك بن نبي أن التاريخ تتحكم فيه عوالم ثلاثة كما ذكرنا من قبل وهي: عالم الأشخاص، عالم الأفكار، وعالم الأشياء، غير أنّ هذه العوالم لا تعمل منفصلة بل تعمل وفق عمل مشترك بفضل وجود مركب هو شبكة العلاقات الاجتماعية التي من دونها لا يمكن أن نتحدّث عن عمل تاريخي، لأنّ شبكة العلاقات هي التي تعكس مستوى تحضّر ورقيّ مجتمع في التاريخ أو العكس.

يقول مالك بن نبي في كتابه: «آفاق جزائرية» ما يلي: «والتاريخ، في أي مستوى من الحضارة يتمّ إنجازه، إنما يمثل النشاط المشترك للأشياء، والأشخاص، والأفكار المتاحة في ذلك الحين بالذات، أي في نفس الأوان الذي يواكب عملية إنجازه»[16].

فكأننا هنا أمام تفاعل عناصر كيميائية تعطينا شكلًا جديدًا ما كان له ليكون لولا حصول عملية التفاعل.

ثانيًا: المجتمع والحركة التاريخية

في السياق نفسه يعتقد مالك بن نبي بأنه لا وجود لحركة تاريخية من دون مجتمع، ولا وجود لمجتمع من دون وجود شبكة علاقات اجتماعية قوية، ولا وجود لشبكة علاقات الاجتماعية من دون وجود عامل الدين، الذي يحدّد الإطار الأخلاقي للأفراد وضوابط حركاتهم في الزمان والمكان، والمحيط الثقافي الذي ينشؤون فيه، والغاية الكبرى من الوجود؛ إذ إنه كلما حدث إخلال بالقوانين الموجودة في المجتمع، حدث تمزق في شبكة العلاقات التي تتيح له أن يصنع تاريخه[17].

وهذا ما ينعكس مباشرة على أداء الأفراد والجماعات في التاريخ، لأن عملية صناعة التاريخ إنما تتم بفعل التجانس والتفاعل والاندماج بين أفراد المجتمع، فتكون حركاتهم وأفعالهم بمثابة المحرك الذي ينطلق بالسيارة إلى الأمام في صورة مركبة من عديد العناصر والمكونات، فكذلك صناعة التاريخ.

من هنا يحدّد مالك بن نبي مجالًا معينًا عند دراسته للتاريخ، نلمس من خلاله حركيته وتطوّره عبر الزمن، يتمثّل هذا المجال في المجتمع. غير أنّ كلمة مجتمع التي يقصدها ابن نبي ليست بالمفهوم الشائع في استخدامات علماء الاجتماع والأنثروبولوجيا الذين يعنون بالمجتمع تجمع أفراد ذوي عادات متّحدة، ويعيشون في ظل قوانين واحدة، ولهم فيما بينهم مصالح مشتركة، بل: «ينبغي أن نحدّد المجتمع في نطاق الزمن»[18].

وليس خارجه، الزمن من حيث هو قيمة حضارية تعبّر عن تفاعل الإنسان معه الذي يحوّل فيه الأشياء من مادة خام إلى منتوج حضاري أو مقوّم من مقومات المعادلة الحضارية، وهنا يتحوّل الوقت إلى ثروة حضارية وقيمة اجتماعية، تسهم بشكل مباشر في تحقيق الرسالة الحضارية للإنسان، ولذلك فالإنسان مسؤول عن قيمة الوقت باعتباره نعمة حضارية من شأنها أن تحوّل تجمعه إلى مجتمع حاضر وفاعل في التاريخ[19].

فما أكثر التجمعات البشرية التي لم ترقَ إلى مستوى المجتمع الذي يؤدّي وظيفته الحضارية الذي وجد من أجلها، لأنّ تجمّعات الأفراد التي لا يعدّل الزمن من علاقاتهم الداخلية، ولا تتغيّر أشكال نشاطهم خلال المدة، لا تعتبر من التجمّعات الخاصة التي يقصدها ابن نبي بمصطلح (مجتمع)، بل تبقى في شكل مجتمعات طبيعية، إذ يقول: «فإنّ كلّ جماعة لا تتطوّر ولا يعتريها تغيير في حدود الزمن، يخرج بذلك من التحديد الجدلي لكلمة (مجتمع)»[20].

وعلى أساس التغيّر والتطوّر في الجماعة الإنسانية يحدّد مالك ابن نبي لتلك الجماعة كلمة ميلاد ابتداء من نقطة تطوّرها، وهذا الميلاد يعرّفه «بوصفه حدثًا يسجّل ظهور شكل من أشكال الحياة المشتركة، كما يسجل نقطة انطلاق لحركة التغيير التي تتعرض لها الحياة»[21].

إنّ ميلاد أي جماعة في التاريخ، يعني من جهة ظهور فكرة جديدة داخل حركة المجتمع أيًّا كانت طبيعة هذه الفكرة وأيًّا كان مصدرها، تكون مسنودة بقيادة تغييرية تتولى عملية توجيه المجتمع وترشيد حركة أفراده، ويعني من جهة أخرى بداية ظهور حركة وجود جديد ينزع إلى تحدّي الوضع القائم والسعي إلى تحقيق وضع جديد يكون أسمى وأرقى من الوضع القائم، ويسير بشكل معيّن لتحقيق غاياته، ومضامين عقيدته من الناحية الواقعية.

بمعنى أنّ الحركة الجديدة سوف تؤدّي إلى بروز وليد (نموذج تربوي) لبناء إنسان جديد يتبنّى الفكرة الجديدة، ويعمل من أجل تحقيقها في حياة الناس، وهذا يؤدّي إلى وضع نواة مجتمع بشري يتميّز بخصائص ثقافية معينة مازالت في حيّز القوة.

هذه الجماعة الإنسانية تقوم وتتحرّك، لأنها تشعر بضرورة حركتها وأهميتها وإلزاميتها ورسالتها في الحياة، وذلك بفرض شرائط واقع لم يعد قادرًا على تقديم دوافع العيش لأفراده، ومؤسساته وأفكاره المتقدّمة التي تحتاج إلى تجديد.

إنّ ميلاد جماعة بشرية من الوجهة الثقافية دليل على ظهور منهج جديد للسلوك الإنساني، وبروز اتجاه فكري أو رؤية جديدة للعالم، بحيث تحمل هذه الجماعة البشرية رؤيةً وقيمًا تهدف إلى إعادة بناء المجتمع القائم وطبعه بطابع آخر يعبّر عن تطلّع نحو الأحسن، لمّا يتحوّل بعدُ إلى نظام ثقافي مولّد للسلوك والنشاط الاجتماعيين. فعندما يصبح (ثقافة اجتماعية) فذلك إعلان بأنّ الجماعة قد بدأت رسالتها، ودخلت بذلك إلى ساحة العمل الحضاري[22].

يقول مالك بن نبي: «تكسب الجماعة الإنسانية صفة المجتمع، عندما تشرع في الحركة، أي عندما تبدأ في تغيير نفسها من أجل الوصول إلى غايتها، وهذا يتّفق من الوجهة التاريخية مع لحظة انبثاق حضارة معينة»[23].

فلا يمكن أن نتحدّث عن ميلاد جماعة إنسانية إلَّا إذا اقترنت بالحركة في الزمن، والسعي في المكان، وعملت على تغيير الإنسان أو تغيير نفسها على مستوى النفس والفكر والثقافة والتربية، وشقّت طريقها نحو بلوغ غاياتها الكبرى التي حدَّدتها الأطر المرجعية العقدية والفكرية التي انطلقت منها، إذا تم ذلك استطعنا أن نقول: إنّ ثَمَّ ميلادًا لحضارة جديدة قد انبثقت في الزمان.

وليس أدلّ على ذلك، ما حدث في تاريخ العرب الذين كانوا شعبًا بدويًّا قبل نزول القرآن، يعيش في صحراء مجدبة، وحياة جاهلة ساكنة، ليس لهم أي هدف أو مقصد يسعون إلى بلوغه أو العمل من أجل تحقيقه، وحسب وصف جعفر بن أبي طالب للنجاشي «...كنَّا قومًا أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل منَّا القوي الضعيف»، حتى إذا ما تجلّت الرّوح بغار حراء، وبزغ نور (اقرأ)، وثبتت القبائل العربية، منذ تلك اللحظة، على مسرح التاريخ، تحوّل هؤلاء البسطاء ذوو الحياة الراكدة، عندما مسّتهم شرارة الروح، إلى صُنّاع للتاريخ، دعاة للحق، تتمثّل فيهم خلاصة الحضارة الجديدة، التي حملوها للعالم قرونًا طوالًا، استمروا في قيادة العالم خلالها نحو التمدّن والرقيّ[24].

فقد حوّل الاسلام القبائل العربية من مجتمع طبيعي إلى مجتمع تاريخي، و«... المجتمع التاريخي هو ذلكم النوع من المجتمع الذي استطاع أفراده أن يتجاوزوا وضعية المجتمع الطبيعي بإضفاء بُعد حضاري ودلالة تاريخية على وجودهم الكوني، من خلال إدراكهم لحقيقة الوجود البشري في هذه الحياة والوظيفة التي وجد من أجلها الإنسان»[25]. فعلامات المجتمع التاريخي بهذا المعنى الذي قصده ابن نبي تتحدّد في:

* تجاوز الوضعية القائمة للمجتمع التي وُصفت بالطبيعية.

* إضفاء بُعد حضاري للمجتمع الطبيعي.

* إضفاء دلالة تاريخية على الوجود الكوني للجماعة الإنسانية.

* إدراك حقيقة الوجود البشري في الحياة.

* الشروع في الحركة والقيام بعملية تغيير للنفس.

* إدراك الوظيفة التي وجدت من أجلها الجماعة الإنسانية.

ثالثًا: الإنسان والتاريخ

التاريخ عند مالك بن نبي هو تاريخ الحضارة، وتُشكِّل المحطّات التي تؤثّر في الحضارة نقاطًا مفصلية للتاريخ وقراءة التاريخ في ضوئها، ولهذا قال ابن نبي: «إنّ مشكلة كل شعب في جوهرها مشكلة حضارته، ولا يمكن لشعب أن يفهم ويحل مشكلته، ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية، وما لم يتعمّق في فهم العوامل التي تَبني الحضارات أو تهدمها»[26].

إنه ينبغي علينا أن نعتمد المقاربة الشاملة للإنسان وللحضارة، وهي المقاربة التي تربط الأسباب بالنتائج، والتي تنظر إلى الإنسان باعتباره محرك التاريخ[27] Le moteur de l’histoire.

فالتاريخ الإسلامي هو تاريخ للأدوار الحضارية التي تقلّبت فيها الحضارة الاسلامية[28]. والإنسان هو جوهرها الذي قامت عليه، ومرتكز كل إصلاح وتغيير، وقاعدة كل مواجهة مع الاستعمار، يقول مالك بن نبي: «أيًّا كانت وجهة الأمر، فإنّ صناعة تاريخ العالم الإسلامي، لم تعد من مهمة المؤامرات الخارجية التي قعدت به إلى حين عن التطور والازدهار، إنّما هو العمل الصامت المُضني، المنبعث عن حركته الداخلية»[29].

فلكي يُعيد الإنسان المسلم صناعة تاريخه في دورة حضارية جديدة عليه أن يتخلّص من عقلية المؤامرة، «ذلك المشجب الذي نجعل منه مبرّرًا لفشلنا، ومهربًا من مواجهة عجزنا وعِللنا، فالتاريخ لا تصنعه الأمنيات، ولا إلقاء التبعات على الآخرين، وإنما يُصنع ببعث داخلي وحركة ذاتية، ولا يكون ذلك إلَّا بوقفة نقدية، من شأنها أن تحرّر العقول وتطارد ظلام الأوهام بأنوار الحقائق»[30].

الإنسان بجميع أبعاده الترابية والعقلية والروحية والسلوكية هو الشرط الأساسي لكل حضارة، وهو محور الفاعلية في حركة التاريخ والحضارة وهو مقصدهما، وقد عبّر عنه مالك بن نبي بعالم الأشخاص الذي يعني نموذج الإنسان الذي تتحقّق فيه الشروط التي تجعله كائنًا اجتماعيًّا صانعًا للتاريخ وموجّهًا لحركته وسيرورته في الزمان.

وهو بهذا المعنى يُعد مكوّنًا من مكونات مفهوم الحضارة التي صاغها مالك بن نبي في شكل معادلة كيميائية: الإنسان + التراب + الوقت، والذي ينتهي إلى مرحلة الحضارة، وذلك عندما يدخل عنصر رابع وهو الفكرة الدينية[31] التي تمد «... المجتمع بقوة دافعة للإقلاع الحضاري، فيشرع في هدم ما بداخله من حدود قبلية ليؤسّس عالمه الجديد من الأشخاص، ويخط طريقه في بناء شبكة العلاقات الاجتماعية التي تتيح له أداء دوره ووظيفته التاريخية. كما تنشأ إرادة المجتمع وتكون في أعلى درجاتها (خاصة في المرحلة الروحية) عبر عمليات إخضاع الغرائز التي تتولاها الفكرة الدينية، والتي تكيّف الفرد بما تقوم به من تنظيم لطاقته الحيوية وحتى تكون في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة، عندها يتحرّر الفرد من قانون الطبيعة المفطور في ذاته، ليخضع إلى مثيرات أكثر سموًّا، حيث يصبح ذلك الفرد المكيّف والمشروط»[32].

فمالك بن نبي هنا يلخّص لنا عناصر العملية في الآتي:

* وجود قوة دافعة للمجتمع نحو الإقلاع الحضاري.

* الشروع في هدم ما بداخله من أفكار قبلية.

* التأسيس لعالم جديد من الأشخاص.

* خطّ طريق في بناء شبكة علاقات اجتماعية.

* أداء المجتمع لدوره ووظيفته التاريخية.

* تنشأ إرادة المجتمع وتكون في أعلى درجاتها من خلال عمليات إخضاع غرائزه بفعل تأثير وتوجيه الفكرة الدينية.

* يتكيّف الفرد داخل المجتمع نتيجة ما تقوم به الفكرة الدينية من تنظيم لطاقته الحيوية لتصبح في علاقة وظيفية مع مقتضيات الفكرة.

* والنتيجة هي تحرّر الأفراد من قانون الطبيعة الذي فطروا عليه، بحيث تمدّهم الفكرة بمثيرات أكثر سموًّا، ليصبحوا بعد ذلك مكيّفين مع الفكرة ومشروطين اجتماعيًّا.

* حاصل كل هذه العناصر والخطوات هو ميلاد مجتمع يتحرَّك في التاريخ، ويتَّجه صوب بناء حضارته الإنسانية الجديدة المعبّرة عن الفكرة التي كانت له دافعًا في بداية تشكّله.

ويتم هذا التكيّف بفعل العملية التربوية التي تجعل الفرد يتمثّل منظومة القيم الثقافية التي تشكّل بمجموعها النموذج التربوي المنشود لكل من الفرد والمجتمع عبر مؤسساته وفضاءاته الثقافية وعلاقاته الاجتماعية. فلا يمكن للإنسان والمجتمع أن يؤدّي نشاطه المشترك في التاريخ، دون أن توجد فيه شبكة العلاقات التي تؤلّف عناصره المختلفة، الزمنية والنفسية، هذه العلاقة التي تعبّر في جوهرها عن قيمة ثقافية يمثلّها القانون الخلقي والدستور الجمالي الخاص بالمجتمع[33].

إننا في العالم الإسلامي كما يقول مالك بن نبي «... ليست مشكلتنا منحصرة في محاولة فهم الثقافة على أساس أنّها واقع موجود نريد التعامل معه من أجل التكيّف النفسي والاجتماعي. إن مشكلة الثقافة عندنا تطرح على شكل مشروع نطمح إلى تحقيقه بصورة عملية»[34].

هذا المشروع الذي نطمح إلى تحقيقه يوضّحه مالك بن نبي عندما يتحدّث عن دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، لكن كيف يتحدّد هذا الدور؟

يتحدّد طبعًا طبقًا لهذه الظاهرة التي نرى جانبيها، جانبها الذي يتحقّق على محور (واشنطن - موسكو) والجانب الآخر الذي يتحقّق على محور ما أسماه بمحور (طنجة - جاكرتا)، فكيف يتصوّر مالك بن نبي دور المسلم؟ يتصوره كالآتي: «يجب أن يفكر المسلم كيف يسير في اتجاه التاريخ، كيف يستغل الظروف السانحة التي تتهيأ له على المحورين: المحور الذي فقد المبررات التقليدية والذي ينتظر مبرّرات جديدة، والمحور الذي أشار الله عز وجل إليه في الآية الكريمة {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ}[35][36].

التاريخ وإنسان ما بعد الموحدين

إنسان ما بعد الموحدين في مسيرة الحضارة الاسلامية، هو الإنسان الذي يعيش بعد هجرة الحضارة، أي في منطقة السكون حيث يفقد الفعل الحضاري شروطه، وتنفك الروابط التي كانت تجمع بين الروح والعقل والغريزة، ويغيب نموذج الإنسان الذي تتحقّق فيه الشروط التي تجعله إنسان الحضارة، ولذلك يعتبر مالك بن نبي أنّ بناء الحضارة منوط بإرادة الإنسان الحضارية، وليس مرتبطًا بالأدوات ولا الإمكانات، فبالنسبة له إذا تحرّك الإنسان تحرّك المجتمع والتاريخ، وإذا سكن الإنسان سكن المجتمع والتاريخ.

وهذا الإنسان يعدّ جوهر المشكلة الإسلامية اليوم، يقول مالك بن نبي: «وإنسان ما بعد الموحدين في أي صورة كان –باشا أو عالمًا مزيفًا أو مثقفًا أو متسوّلًا- يعدّ عمومًا عنصرًا جوهريًّا فيما يضم العالم الإسلامي من مشكلات منذ أفول حضارته، وهو عنصر لا ينبغي أن يغيب عن أنظارنا عندما ندرس نشأة المشكلات وحلولها التي تشغل اليوم الضمير الإسلامي...»[37].

فلا فائدة من النقاش إن لم نبدأ أولًا بجوهر المشكلة، بمعنى تحليل واقع الإنسان اليوم، والبحث بعمق في أسباب عطالته الحضارية، وهذا ما جهد ابن نبي في التنبيه إليه والتحذير من القفز فوقه. فالمشكلة -أيّ مشكلة- لا يمكن أن تختفي بمجرّد إغماض الأعين عنها أو الرغبة في عدم الحديث عنها[38]. بل بالاتجاه صوبها ومحاولة حلّها قبل أن تؤثّر فينا، وهو هنا يشير إلى الكثير من الجهود التي قام بها المصلحون ورجال السياسة الذي بحثوا عن مسكّنات آنية للمشكلات والأمراض ولم يستطيعوا أو بالأحرى لم يجرؤوا على الاتجاه نحو عمق المشكلات ومحاولة تقديم وصفات تقتلع أو تعالج المرض من أساسه.

ولذلك بقيت هذه الجهود محدودة كما بقيت حركة المجتمعات تراوح مكانها طيلة قرنين أو نيف من الزمن. من هنا يدعو مالك بن نبي إلى ضرورة الغوص في جوهر المشكلات وليس الوقوف عند أعراضها، وهذا باعتقاده يعود إلى غياب الرؤية الواضحة للأشياء وللواقع.

رابعًا: الإنسان والرؤية الحضارية

إنّ صناعة التاريخ وبناء الحضارة عند مالك بن نبي يكون بتوفر الرؤية الواضحة لدى الإنسان، وهذه الرؤية في نظره يستمدها من الإسلام، لأنّ الإسلام هو الإطار المرجعي الأساسي في التعامل مع مختلف المشكلات التي تواجهه، ومنها مشكلة الحضارة وصناعة التاريخ، فقد ردّد مالك بن نبي في كتاباته الدعوة إلى الرؤية الفكرية الواضحة والحاسمة في آن واحد، وسط حالة من الفوضى والتيه والضياع والهامشية والتبعية والتخلّف.

إنّ وضوح الرؤية يعدّ بمثابة قانون ثابت أو سنة تاريخية لا يمكن التنكّب عنها مهما كانت الظروف، فهي لازمة من لوازم التفكير الإسلامي. لأنّ الوضع الحالي للأمة الإسلامية هو امتداد لوضعها التاريخي الذي تشكّلت فيه، لذلك نجده يُشير إلى ذلك في كتابه «ميلاد مجتمع» بقوله: «المشكلة التي تواجه المسلم اليوم هي تقريبًا نفس المشكلة التي عبّر عنها قول الإمام مالك بن أنس: لا يصلح آخر هذه الأمة إلَّا بما صلح به أوّلها، ذلك أنّ ثمة رؤية قرآنية للتاريخ وكيفية صناعته، أو كما يسميها الفلاسفة برؤية العالم[39] التي تحدّد تصور الإنسان لذاته وللكون والحياة.

التصور الذي يُعطي معنى لحركة الأفراد وأفعالهم، كما يضبط لهم مفاهيمهم وقيمهم ومضامين رسالتهم وغاياتها. ويجيبهم عن الأسئلة الكلية الآتية: ما التصورات الكلية الجامعة للإنسان في علاقته بالله الخالق، والآفاق الحضارية لتلك العلاقة؟ وما هي التصورات الكلية للإنسان من حيث هو إنسان في هذا الكون، وتصور علاقته بأخيه الإنسان من جانب، وطبيعة علاقته بهذا الكون من جانب آخر؟ وما هي رؤية الإنسان الكلية للحياة والامتداد الزماني لها؟ وما هي المقاصد الحضارية الكبرى لهذه الكليات، بعبارة أخرى: ما المقاصد التي يبغي تحقيقها في الواقع؟[40]

فالأمم والحضارات تسير وفق رؤية معينة للعالم، بحيث تكون هذه الرؤية بمثابة منهج للنظر في العالم الثقافي لأمة أو ثقافة معينة، وهو ما أشار إليه الفيلسوف الألماني فلهلم دلتاي (1846 - 1911م) وسار على نهجه ماكس فيبر (1864 - 1920م)[41].

فثمة رؤية قرآنية للتاريخ ومصائر الأمم والإنسان كما يقول رضوان السيد؛ بمعنى أننا عندما نعرض لظهور الإسلام باعتباره الإطار المرجعي لحركة الأفراد في التاريخ إنما نعرض للتصورات الأساسية للعقيدة ونربطها بين مبادئها وبين مبادئ المسلمين عندما شكّلوا ثقافةً ونسقًا حضاريًّا وجماعةً سياسيةً، وحقّقوا الخلافة في إطار جملة من القيم التي وضعها القرآن تحدّد كيفية نهوض الأمم، وكيف تسقط وتصل إلى مستوى الانحطاط والهلاك عند مخالفتها للرؤية التي انطلقت منها[42].

في هذه الفكرة إشارة واضحة للإطار المرجعي للأمة مهما طال بها الزمان وامتد بها التاريخ في شعابه[43]. إذ لا يمكن للإنسان أن ينخرط من جديد في سيرورة التاريخ والزمان من دون توفّره على رؤية واضحة يحدّد معالمها ومسارها وغاياتها الإسلام باعتباره رؤية كونية وحضارية للعالم تقدّم تصورًا للتاريخ بعناصره الأساسية: الزمان والمكان والفكرة.

والإسلام بالنسبة لمالك بن نبي يأتينا «بهذا الضوء الذي يحوط الإنسان ويجعله محترمًا في عيني أخيه الإنسان. إنه يأتي بهذا السبب السامي الذي يفرض احترامه مهما كان لونه وجنسه وقوميته واعتقاده، وهو يضع لفلسفة الإنسان هذا الأساس الميتافيزيقي»[44].

من هنا يؤكّد ابن نبي على كون الإسلام ليس مصدر إلهام للتعامل مع المشكلات فهمًا وتحليلًا وتفسيرًا وعلاجًا فحسب، بل يتجاوز ذلك إلى بيان الأبعاد العملية لهذه القناعة فيرى أنّ «دور الإسلام باعتباره مصدر إلهام لن يكون دور دين أو مجال مساحي مجرّد، وإنما دور مجتمع قائم بذاته على الأرض، فهو يتّصل حينئذٍ اتصالًا نوعيًّا بالدور التاريخي للرجل المسلم»[45].

يقول مالك بن نبي في هذا السياق: «لكي يمكن بناء نظام تربوي اجتماعي، ينبغي أن تكون لدينا فكرة واضحة عن العلاقات والانعكاسات التي تنظّم استخدام الطاقة الحيوية في مستوى الفرد وفي مستوى المجتمع»[46].

وهكذا يتبيّن لنا لزامًا على أية محاولة للبناء إو إعادة بناء مجتمع ما بعد الاستقلال أن تنطلق من هذه النقطة بالذات، أي إن بناء المجتمع التاريخي ينطلق من صياغة فلسفة تربوية واضحة يتجلّى من خلالها خصائص النموذج التربوي المنشود لكل من الفرد والمجتمع[47].

فالإسلام إذن هو الإطار المرجعي الأساسي في بناء الإنسان الذي يصنع التاريخ ويوجّهه. الإسلام هو الذي يحفز الإنسان إلى استئناف دورته الحضارية من جديد، وهو الذي يحدّد له موقعه الفعّال في التاريخ.

إنّ وجود التخلّف في تاريخ الأمة إنّما هي في الحقيقة تعبير عن داء خطير هو داء قصور الأداء الذي يعود إلى ضعف الحافز النفسي، والذي يعود بدوره إلى داء تشوّه الرؤية الكونية مقرونة بقصور منهج التفكير وتشوّهه، أي إنّ الأمر في أساسه يعود قبل كل شيء إلى تشوهات في تكوين الأمة المعرفي والنفسي والوجداني التي لا يمكن معالجتها دون أن نتعرّف على حقيقتها، وأن نجعلها في بؤرة وعينا بجهود الإصلاح؛ حتى يمكن للأمة أن تتخلّص من داء غبش الرؤية وضعف الحافز وقصور الأداء[48].

فالوعي بقضية المقوّمات يعدّ ضرورة لأنّ «... قضية المقومات تكتسي أهمية بالغة، لأنّ الوعي بها، هو الذي يوسّع أفق الإنسان ليستوعب باهتمامه، وتجديد خبراته، وشحذ قدراته الإنجازية كل المجالات والميادين والآفاق التي تختزن إمكانات التسخير الضرورية لتأصيل وتفعيل حركته الاستخلافية، وضمان حيوية اطرادها باستمرار»[49].

يطرح مالك بن نبي سؤالًا مفاده: ما هي رسالة المسلم؟ وقد جاء جوابه إجمالًا: إنقاذ نفسه وإنقاذ الآخرين[50].

وينتهي في تحليله وتحديده لدور المسلم ورسالته إلى أنّ المسلم «إذا أراد أن يقوم بدور الري بالنسبة للشعوب المتحضرة، والمجتمع المتحضّر، وأراد أن يقدّم المبرّرات الجديدة التي تنتظرها تلك الأرواح التي تتألم لفراغها وحيرتها وتيهها، إذا أراد المسلم ذلك، فليرفع مستواه بحيث يستطيع فعلًا، القيام بهذا الدور؛ إذ بمقدار ما يرتفع إلى مستوى الحضارة بمقدار ما يصبح قادرًا على تعميم ذلك الفضل الذي أعطاه الله له (أعني دينه)، إذ عندها فقط يصبح قادرًا أيضًا على بلوغ قمم الحقيقة الإسلامية، واكتشاف قيم الفضيلة الإسلامية، ومن ثم ينزل إلى هضاب الحضارة المتعطشة فيرويها بالحقيقة الإسلامية وبالهدى»[51].

والنتيجة هي أنّ التاريخ الذي يريد الإنسان صناعته من جديد لا يمكن تصوّره خارج الإطار المرجعي الواضح الذي يحكم حركة فكره وسلوكه ومنهجه في الحياة، فالأمة تستمد قيمتها ووظيفتها الحضارية والتاريخية والإنسانية الرسالية من إطارها المرجعي المعبّر في النهاية عن خصوصيتها الثقافية والحضارية التي سبق لها وأن تحقق نموذجها وتجربتها في التاريخ الذي عرفت به تحت مسمى الحضارة الإسلامية.

لقد تمَّ تفعيل القيم والمفاهيم والأفكار والمبادئ في الواقع بفضل تفعيل الرؤية الحضارية للأمة، وعندما تشوهت هذه الرؤية شلت فاعلية جميع القيم والمبادئ والأفكار، لقد حدثت عطالة للإنسان فقعد عن الفعل والحركة، وتوقفت عجلت الحضارة وخارت قواه الذهنية والنفسية والسلوكية، فأصبح الإنسان المسلم كَلًّا على مولاه أينما توجهه لا يأتِ بخير، وقد أثبتت تجربة الحضارة الإسلامية أن الإنسان متى ما افتقد للرؤية الكونية الحضارية فقد معها بالضرورة المحرك والقصد والهدف الذي تولّده هذه الرؤية، وتدفعه نحو تحقيق أهدافه الكبرى في الوجود.

إن منزلة الرؤية من مجموع عناصرها كمنزلة أجزاء الآلة في إطارها الكلي «... مثلها في ذلك مثل أجزاء الآلة المفككة؛ فعلى الرغم من نفاسة تلك الأجزاء، لا تفيد في شيء ما لم توضع في إطار كلّيتها؛ لتصبح أجزاء في كلّ فاعل، والعكس بالعكس، فإذا كان هناك تصور نظري لآلة من الآلات، لكنه لا ينسجم في كيان وبناء مادّي ملموس هو أجزاء تلك الآلة، التي تجعل التصوّر النظري حقيقة فاعلة، من دون تلك الأجزاء فإنه لا وجود لتلك الآلة، ولا لذلك التصوّر، ولا لتلك الرسوم النظرية العبثية»[52].

خامسًا: الإنسان والتربية

يرى مالك بن نبي أن عملية إعادة تّأهيل الإنسان وبنائه لا يمكن أن يُنظر إليها والتفكير في أمرها دون الحديث عن التّربيّة؛ ذلك لأنّ الإنسان يحتل موقعًا متميزًا في عملية التربية.

والمضمون التربوي لموقع الإنسان في الوجود والتاريخ يشير إلى جملة أمور منها:

أولًا: التأكيد على أن الإنسان عنصر رئيس من عناصر فلسفة التربية الإسلامية.

ثانيًا: ضرورة اشتمال المنهج التربوي المعتمد في بناء الإنسان على أهداف مهارية يتحقّق بموجبها استخلاف الإنسان على الأرض ويتمكّن من أداء مسؤولياته المناطة به[53].

غير أنّ مالك بن نبي لا يقصر الفعل التربوي على الفعل التعليمي فقط؛ لأنّ ذلك جزء من العملية التربوية الكلية المطلوبة، يمتد الفعل التربوي ليستوعب كل الوسائط الثقافية والاجتماعية والسياسية... التي من شأنها أن تؤثر بطريقة أو بأخرى في عملية التكييف الفكري والروحي والسلوكي للفرد والمجتمع، مع الوظيفة الوجودية للإنسان بصفة عامة، ومع الوظيفة الحضارية المتميزة للأمة بصفة خاصة[54].

إن السؤال الذي يطرح هنا هو كالآتي: «كيف نربي الإنسان تربية تجعله يعيش في مجتمعه، وينسجم مع مواطنيه في حركية شاملة أصيلة المنطلقات على جميع مستويات تكوينه في الحياة؟»[55].

كيف يمكن أن نحقّق مستويات الاندماج والتكيّف والتوازن والفاعلية للإنسان في حركة التاريخ والمجتمع والأمة؟

إنّ الفعل التربوي التجديدي يعدّ القاسم المشترك بين كل المنظومات والمؤسّسات التي يتكوّن منها المجتمع، ويؤدّي كلّ منها دوره في تلبية حاجاته في المحافظة على توازنه وهويته وحيويته، وكل منظومة أو مؤسّسة لا تؤدي دورها التربوي، تعتبر عضوًا ميتًا أو مميتًا[56]، فالكيان الاجتماعي يضعف من حيوية المجتمع ويحدّ من فعاليته الحضارية؛ لذلك ينبغي أن يظلّ الفعل التربوي في عمق اهتمامات كل منظومة أو مؤسّسة في المجتمع، وأن يُشكِّل باستمرار المقياس الموضوعي الأوّل لمردوديتها وفعاليتها الاجتماعية[57].

أشرنا في العناصر السابقة إلى قول مالك بن نبي في كتابه «وجهة العالم الاسلامي»: «أننا لا نواجه تغيّرًا في النظام السياسي، بل إنّ التغيّر أصاب الإنسان ذاته، والإنسان هو الذي تغيّر، وفقد همّته الحضارية، وقدرته على الفعل المنهجي الهادف المؤثّر، الذي يمكّنه من إحداث تركيب ديني جديد للتراب والوقت، ومؤهّلاته التي ترفعه إلى مستوى القدوة والقدرة. فـ«ليست التربية مجموعة من القواعد والمفاهيم النظرية التي لا سلطان لها على الواقع، على عالم الأشخاص، وعالم الأفكار، وعالم الأشياء، وليست هي من إنتاج المتعالمين وبحار العلوم، الذين يعرفون جميع كلمات المعاجم، دون، أن يلمّوا بما تترجم عنه هذه الكلمات من وقائع، خيرًا كانت أم شرًّا (...) بل هي وسيلة فعّالة لتغيير الإنسان، وتعليمه كيف يعيش مع أقرانه، وكيف يكوّن معهم مجموعة القوى التي تغيّر شرائط الوجود نحو الأحسن دائمًا، وكيف يكوّن معهم شبكة العلاقات التي تتيح للمجتمع أن يؤدي نشاطه المشترك في التاريخ»[58].

من هنا يتبيّن لنا كيف قام مالك بن نبي بصياغة مفهوم للتربية على أنه مشروع متكامل لتحضير (من الحضارة) الإنسان وتأهيله للمساهمة في بناء المجتمع التاريخي المتحضّر، بحيث تضمّن هذا التعريف الموضوع والأداة والهدف والوجهة النهائية للمشروع التربوي والاستخلافي[59].

فالعملية التربوية هي التي تجعل الإنسان يغيّر من ذاته فيغيّر التاريخ، لأنّ التغيير سنة من السنن التاريخية والاجتماعية التي لا يمكن للإنسان أن يدخل التاريخ أو يعيد صناعته من جديد ما لم يغيّر الكثير مما استقر في نفسه بالتعبير القرآني، والذي حدّده مالك بن نبي في: الأفكار الميتة التي لم يعد لها دور وتأثير في عالمنا المعاصر فقد كان لها حضورها وتأثيرها في عالم الأنفس والآفاق في زمانها، وقد تم استهلاكها في حينها وقد آتت أكلها في الزمان والمكان الذي وجدت فيه، أو الأفكار المميتة التي تأتينا من خارج منظومتنا الفكرية والثقافية والقيمية والحضارية، ذلك أنّ الأفكار مثل النباتات لها أرضها التي تنبت فيها وتصلح للإنسان الذي صنعها أو غرسها، فإذا ما انتقلت إلى أرض غير أرضها أصبحت مميتًا لكل حي، في الوقت الذي يراد منها أن تبعث الحياة في الأفراد والمجتمعات، لكن العكس هو الذي يحدث.

فقد بينت التجربة التاريخية للعالم الإسلامي صحة هذه الفكرة التي أشار إليها مالك بن نبي في تحليلاته لمشكلات الإنسان والحضارة، لقد ظل العالم الإسلامي يراوح مكانه، ولم تتحقق له الانطلاقة الحضارية المرجوة وذلك بسبب عدم قدرته على الحسم والفصل في الأفكار الميتة والمميتة التي زادت من تورم أمراض حضارته ومشكلاتها، التي انعكست على وعيه ووجدانه وسلوكه وحضوره في التاريخ.

فما لم يتجاوز الحالة النفسية التي هو عليها من الانهزامية واليأس والإحباط وعدم الثقة بالنفس، نفسية الشعور بالانهزام أو الدونية وذهاب الاستحالة التي عطّلت طاقاته وكبّلت حركاته وأوهنت قواه الذهنية والنفسية عن البروز والإبداع.

لهذا يعتقد مالك بن نبي أنّ العمل التاريخي الذي يصنع الإنسان ينبغي أن يكون موافقًا للسنن التي أودعها الخالق في الأنفس أولًا، وفي الاجتماع ثانيًا، وفي التاريخ ثالثًا، وفي الهداية رابعًا، بحيث تكون حركة الإنسان في الفكر والحياة منسجمة مع مجموع السنن التي أشرنا إليها للتو.

يصف مالك بن نبي العمل التاريخي بأنه عمل هادف، عمل يرتبط بغائية معينة، بغض النظر عن طبيعة هذه الغائية صالحة أو غير صالحة. لذلك، فالحركة التاريخية التي يقوم بها هي نتاج النشاط الذهني والنفسي والسلوكي الذي يؤثّر حتمًا في تحريك عجلة التاريخ وتوجيهها، بمعنى أنّ كل عمل تاريخي ينبغي أن يكون له سبب يدفعه إلى الظهور، وهدف يسعى إلى بلوغه، وأرضية يتحرك فيها، إنها أرضية المجتمع والواقع، فإرادة الإنسان هي التي تحرّك التاريخ، وحركته إنما هي نتاج تدخّل الإنسان بفكره، ودينه وأخلاقه وعمله وماله، وفق ما أوضحه ابن نبي في كتابيه: مشكلة الثقافة، وشروط النهضة.

إنها الإرادة الخاضعة للتوجيه الذي يصبغ نمط تفكير الإنسان، باعتباره أولًا صاحب غاية باستطاعته تحقيقها في الزمان والمكان الدنيويين، فهو مفطور على نحو يؤهّله للتكيّف والتحوّل لتجسيد النموذج الإلهي في الحياة الدنيا، فيما لو أحسن استعمالها كأساس للتكليف الإلهي، فالإنسان مستخلف في الأرض، مطالب بحكم استخلافه بالتفاعل مع فضائه الزماني والمكاني للأخذ بالأسباب وتوجيه حركته لتحقيق العمران في الأرض وفق المنهج الإلهي[60].

وهو ثانيًا صاحب قدرة على تطويع الطبيعة وتسخير ما فيها لصالحه بما يخدم أهدافه الكبرى في الحياة، ويضمن له الحياة الطيبة. مما يسمح له بتحدّيد طبيعة نفسيته التي تعتزم تحدي الظروف التاريخية الصعبة، وهي في النهاية محصّلة للعملية التربوية التي تعمل على بناء الفرد في أبعاده المختلفة الذهنية والنفسية والعملية والمالية والجمالية، بحيث يعيد الإنسان الكرامة لنفسه أولًا، وأمام الآخرين ثانيًا، وبذلك يرفع الإنسان نفسه إلى مستوى الحضارة.

ﷺ خاتمة

نخلص في نهاية هذه الدراسة إلى أنّ الإنسان هو محور حركة التاريخ، فهو صانعها بإرادته وفكره وعلمه وعمله وماله. الإنسان الذي تتحكّم فيه عوامل نفسية تخص الفرد بنفسه وإرادته، واجتماعية تخص المجتمع في بنيته ووظيفته بكل أفراده الذين يعملون من أجل بلوغ هدف واحد، ويحملون فكرة كلية ورؤية حضارية، في وسط جغرافي واسع يحمل قيمًا اجتماعية راقية وأخلاقية نبيلة ومرامي سامية، تتدخل إرادة الإنسان في تحديد كل هذه العناصر.

فالتاريخ في منظور مالك بن نبي مركب من عوالم ثلاثة تؤثر فيه وهي كالآتي:

1- تأثير عالم الأشخاص الذي يحدّد الأهداف والغايات. (غاية يحدّدها الأشخاص).

2- تأثير عالم الأفكار الذي يُعطي الحيوية والفعالية للإنسان. (فكرة أو أيديولوجية).

3- تأثير عالم الأشياء. (وسيلة).

4- شبكة العلاقات الاجتماعية التي تربط بين العوالم الثلاثة.

* الإنسان هو الذي يحدّد حركة التاريخ التي يتّسم بها المجتمع، وهو الذي يُنتج أسباب الحركة في التاريخ، وهو الذي يرسم وجهتها وآفاقها ويتطلّع إلى بناء المستقبل، فإذا تحرّك الإنسان تحرك المجتمع في التاريخ، وإذا سكن سكن المجتمع في التاريخ[61].

* حركة التاريخ التي يكون الإنسان صانعها ينبغي أن تكون محكومة بواقع وخصوصية الحياة الثقافية للمجتمع الذي يعيش فيه ويتطلّع إلى بنائه؛ لأنّ نجاح أي حركة تاريخية يكون مرهونًا بمدى نجاح التركيب الثقافي لعناصر الثقافة وتفاعلها الموجه لصنع تاريخ ومستقبل الإنسان[62].

* الإنسان الذي يمتلك فعالية كبيرة، ومنهجية محكمة، ولا يتوقّف عن السير في الأرض، الإنسان الذي يتبصّر القوانين التي تحكم حركة التاريخ في الحياة والأحياء، ولا يكرّر أخطاءه في التاريخ، ويبعث عن مواطن القصور وأسباب الضعف، ومكان الداء، وأن يحدّد من أين يبدأ وما هو موقعه في التاريخ وما هي رسالته في الحياة ووظيفته في الوجود كفرد، وكمجتمع وكأمة، الإنسان الذي يسعى إلى بلوغ مرتبة الشهود ويحقّق الاستخلاف والعمران والسيادة.

* الإنسان الذي يعرف نقطة بداية التاريخ، ويميّز بين مشاكل غيره بوصفها مشاكل تولّدت في إطار الدورة التاريخية الغربية، وبين مشاكله بوصفها ناتجة في إطار الدورة التاريخية الخاصة به.

* الإنسان الذي يُدرك أن ميزانية التاريخ ليست رصيدًا من الكلام، بل كتل من النشاط الإيجابي والمادي، التي تعتبر في حقيقتها ميزانيات من القيم التي تقزم على فصول الثقافة الأربعة: مبدأها الأخلاقي، وفلسفتها الجمالية، وفنها الصناعي، ومنطقها العملي.

* الإنسان الذي يبحث عن التوافق بين الفكر والعمل، المبدأ والواقع، الطموح والفعل، الفرد والمجتمع، الأصالة بالمعاصرة، الذات مع الآخر، الإسلام والحياة أو العالم.

* الإنسان الذي يعي حقيقة هامة مفادها أنّ الحضارة ليست شيئًا يأتي به سائح في حقيبته لبلد متخلّف، كما يأتي بائع لملبوسات البالية. بل كلّ مجتمع في التاريخ ينبغي أن يصنع حضارته بنفسه، بإمكاناته، بأفكاره ورسالته التاريخية، بتوجيه فكره وعمله وماله وفق غاية معينة، تحدّدها فلسفته في الوجود ألا وهي بناء الحضارة وتحقيق الاستخلاف.

* الإنسان الذي يؤمن بأنّ التنمية في أي مجتمع لا تكون راسخة الأركان، عميقة الجذور، وفائضة المردود، ما لم تكن نابعة من ذاتية المجتمع، متطابقة مع تصوراته وفلسفته في الحياة، متماشية مع متطلبات حياته واحتياجاتها؛ لأنّ التنمية لا تخدم مجتمعًا ما لم تتم داخل إطارها الاجتماعي المحدّد، الذي يعكس قيمه ومبادئه، وطرق عيش أبنائه وفلسفتهم في الحياة.

* الإنسان الذي يضع في حسبانه أنّ التاريخ في أي مستوى من الحضارة يتم إنجازه، إنما يمثل النشاط المشترك للأشياء والأشخاص، والأفكار المتاحة. الإنسان الذي يصنع أفكاره الرئيسة بذاته. ويميّز بين المشكلة الجوهرية وأسبابها وأعراضها وآثارها. يدرك حينها أنّ جوهر المشكلة هو التغيّر الذي أصاب الإنسان المسلم الذي فقد همّته المحضّرة فأعجزه فقدها عن التمثّل والإبداع، وعليه أن يصفّي الموروثات السلبية للإنسان –إنسان ما بعد الموّحدين- النفسية والاجتماعية والثقافية التي أقعدته عن كل تجديد أو بناء أو تغيير وإصلاح.

 

 

 



[1] سورة الرعد، الآية 11.

[2] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عمر كامل مسقاوي، عبد الصبور شاهين، دمشق: دار الفكر الجزائر، ط4، 1407هـ/ 1987م، ص54.

[3] انظر: مالك بن نبي، دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين.

[4] مالك بن نبي، وجهة العالم الاسلامي، ص 37. نقلًا عن: عمر النقيب، مقوّمات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك بن نبي التربوي.. نحو نظرية تربوية جديدة للعالم الاسلامي المعاصر، الجزائر: الشركة الجزائرية اللبنانية، ط1، 1430هـ/ 2009م، ص 34.

[5] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص 38.

[6] عمر النقيب، مقوّمات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك بن نبي التربوي، ص 35.

[7] سورة البقرة، الآية 143.

[8] مالك بن نبي، تأملات، ص 190. نقلًا عن: مقوّمات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك بن نبي التربوي «نحو نظرية تربوية جديدة للعالم الاسلامي المعاصر»، ص35.

[9] مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عمر كامل مسقاوي، عبد الصبور شاهين، الجزائر، دمشق: دار الفكر، ط4، 1407هـ/ 1987م، ص82.

[10] نعمان عبد الرزاق السامرائي، في التفسير الإسلامي للتاريخ، الجزائر: دار الشهاب، (د ت)، ص 34.

[11] فؤاد السعيد و فوزي خليل، الثقافة والحضارة مقاربة بين الفكرين الغربي والإسلامي، ص 137-139.

[12] انظر: أحمد داود أوغلو، العالم الإسلامي في مهب التحولات الحضارية، تعريب وتحرير ومراجعة: إبراهيم البيومي، القاهرة: مكتبة الشروق الدولية، الطبعة الأولى، 1427هـ/2006م، ص 150 - 151.

[13] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص83.

[14] عمر النقيب، مقوّمات مشروع بناء إنسان الحضارة في فكر مالك بن نبي التربوي، ص 35.

[15] انظر: مالك بن نبي، شروط النهضة، مصدر سابق.

[16] مالك بن نبي، آفاق جزائرية للحضارة للثقافة للمفهومية، ترجمة: الطيب الشريف، الجزائر: مكتبة النهضة الجزائرية، ص161.

[17] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، الجزائر: دار الفكر، ط3، 1986، ص 53.

[18] المصدر نفسه، ص15.

[19] انظر: مالك بن نبي، شروط النهضة.

[20] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص 16.

[21] المصدر نفسه، ص 16.

[22] فؤاد السعيد - فوزي خليل، الثقافة والحضارة.. مقاربة بين الفكرين الغربي والاسلامي، تحرير: منى أبو الفضل - نادية محمود مصطفى، دمشق: دار الفكر، الطبعة الأولى 1429هـ/ 2008م، ص 131 - 132.

انظر أيضًا: عبد العزيز برغوث بن المبارك، المنهج النبوي والتغيير الحضاري، سلسلة الأمة، عدد 43، الدوحة: وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 1415هـ/ 1995م، ص 108-109.

[23] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص 18.

[24] فؤاد السعيد - فوزي خليل، الثقافة والحضارة..، ص 132.

انظر أيضًا: مالك بن نبي، شروط النهضة، ترجمة: عبد الصبور شاهين، بيروت: دار الفكر، ص51، 52.

[25] عمر النقيب، مقوّمات مشروع بناء إنسان الحضارة، ص 172.

[26] مالك بن نبي، شروط النهضة، ص 21.

[27] Voir: Noureddine Khendoudi,La Theorie de la civilisation chez Malek Bennabi Editions EL-BORHANE, Alger, Editions TOUGUI, Paris,1993, p35.

[28] عبد الوهاب بوخلخال، قراءة في فكر مالك بن نبي، ط1، كتاب الأمة، عدد 151، السنة 32، الدوحة قطر: وزارة الأوقاف والشؤون الاسلامية، ذو القعدة 1433هـ/ سبتمبر أكتوبر 2012م، ص 97.

[29] مالك بن نبي، وجهة العالم الإسلامي، ص15.

[30] عبد الوهاب بوخلخال، قراءة في فكر مالك بن نبي، ص 98.

[31] انظر: سليمان الخطيب، أسس مفهوم الحضارة في الإسلام، الزهراء للإعلام العربي، الطبعة الأولى 1406هـ/ 1986م، ص 69 وما بعدها.

[32] طاهر سعود، التخلّف والتنمية في فكر مالك بن نبي، بيروت: دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1427هـ/ 2006م، ص 128 - 129.

راجع أيضًا: مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، شبكة العلاقات الاجتماعية، ترجمة: عبد الصبور شاهين، دمشق: دار الفكر، ص109.

[33] المصدر نفسه، ص 48.

[34] مالك بن نبي، مشكلة الثقافة، ترجمة: عب الصبور شاهين، الجزائر: دار الفكر، ط4، 1984م، ص 61.

[35] سورة الصف، الآية 9.

[36] مالك بن نبي، مجالس دمشق، دمشق: دار الفكر، ط2، 1427هـ/2006م، ص172.

[37] مالك بن نبي، وجهة العالم الاسلامي، ص 38.

[38] عبد الوهاب بوخلخال، قراءة في فكر مالك بني، ص 107.

[39] يحدّد كرين برينتون مفهومه للرؤية الكلية للعالم بقوله: «هذا النوع من الأفكار التي آمن بها العامة بشأن القضايا الكبرى المتعلقة بمصير الإنسان عن الخير والحق والجمال، وعن النافع ونمط الحياة التي ينبغي على الإنسان أن ينشدها لنفسه على الأرض... إننا بصدد دراسة الرأي، بل الرأي العام دون الفكر بمعناه الشكلي». (انظر: كرين برينتون: تشكيل العقل الحديث، ترجمة: شوقي جلال، عالم المعرفة، عدد 82، أكتوبر 1984م، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، ص 14).

كما عرّف علي زيعور في الموسوعة الفلسفية العربية النظرة العامة للعالم بقوله: «نسق من الأفكار والمواقف والمفاهيم عن العالم... ولذلك فإن المجمل لتلك الأفكار يقترب جدًّا من مفهوم الفلسفة... النظرة العامة إلى العالم تبحث في المجال عينه الذي هو الفلسفة، والأفكار (الأيديولوجيا) (أو علم الأفكار) وعلاقة الفكر بالوجود الاجتماعي». (انظر: علي زيعور: مادة عالم، الموسوعة الفلسفية العربية، تحرير معن زيادة، الجزء الأول، بيروت: معهد الإنماء العربي، الطبعة الأولى، ص578.

[40] فؤاد السعيد وفوزي خليل، الثقافة والحضارة.. مقاربة بين الفكرين الغربي والإسلامي، ص 177.

[41] رضوان السيد، القرآن والتاريخ.. الرؤية القرآنية في الأمم والحضارات، مجلة التفاهم، العدد 32، السنة التاسعة، ربيع 2011م/1432هـ، مسقط، سلطنة عُمان: وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، ص 9-10.

[42] المرجع نفسه، ص10.

[43] عمر النقيب، مقوّمات مشروع بناء إنسان الحضارة، ص244.

[44] مالك بني، فكرة الأفروآسيوية، ص 229. نقلًا عن: عمر النقيب، مقوّمات مشروع بناء إنسان، ص244.

[45] المصدر نفسه، ص 231.

[46] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص 78.

[47] عمر النقيب، مقوّمات مشروع بناء إنسان الحضارة، ص177.

[48] عبد الحميد أبو سليمان، الإصلاح الإسلامي المعاصر، دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة الأولى 1427هـ/ 2006م، ص 54 - 55.

[49] الطيب برغوث، الفعالية الحضارية والثقافة السننية، الجزائر: دار قرطبة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1425هـ/ 2004م، ص 145.

[50] مالك بن نبي، دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين، بيروت - دمشق: دار الفكر المعاصر، ط1، 1423هـ/ 2002م، ص48.

[51] المصدر نفسه، ص 37 - 39.

[52] عبد الحميد أبو سليمان، الرؤية الكونية الحضارية القرآنية.. المنطلق الأساس للإصلاح الإنساني، ضمن كتاب: المنهجية الإسلامية، (تأليف جماعي)، الجزء الأول، القاهرة: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، و هيرندن - فيرجينيا - الولايات المتحدة الأمريكية : المعهد العالمي للفكر الإسلامي، الطبعة الأولى 1431هـ/ 2010م، ص 271.

[53] أحمد محمد حسين الدغشي، نظرية المعرفة في القرآن الكريم وتضميناتها التربوية، الأردن: المعهد العالمي للفكر الاسلامي، دمشق: دار الفكر ط1، ذي القعدة 1422هـ/ يناير 2002م، ص 170.

[54] الطيب برغوث، مقدمة في الأزمة الحضارية والثقافة السننية تحليل لأهمية المعطى الثقافي التربوي، الجزائر: دار قرطبة للنشر والتوزيع ط1، 1425هـ/ 2004م، ص 35.

[55] أسعد السحمراني، مالك بن نبي مفكرا إصلاحيا، بيروت: دار النفائس، ط2، 1986م، ص198.

[56] فالأفكار الميّتة عادة ما تسيطر على الأذهان وتتجلّى في سلوك الأفراد والمجتمعات. يقول عالم الاجتماع المعاصر إدغار موران Edgar Morin «لا يخضع الأفراد لمجتمعهم وثقافتهم بل لآلهتهم وأفكارهم. وانبثقت الآلهة والأفكار،... كإشعاعات جماعية من خلال الأذهان البشرية، وأصبحت كيانات مفعمة بالحياة والفردانية، تغذّيها تجمعات لمؤمنين بها. وبمفعولها الاسترجاعي على الأذهان، التي بدونها لا تعني شيئًا، تصبح هي كل شيء، وقد اكتسبت قوة غير معقولة تستمده من آمالنا، ورغباتنا، وقلقنا وخشيتنا. لقد أفرزنا نحن هذه المخلوقات الروحية، لكنها أضحت تُخضعنا وتهيمن علينا... إنّ الأفكار التي تهيمن علينا هي أفكار قوية، وأفكار أسطورية ذات قوة بشرية وإلهية. تستخدم الأفكار البشر، وتقيدهم بسلاسل، وتجمح انخراطهم في طريقها... وكما قال فيكتور هيجو: «نحن نرزح تحت رحمة هذه الآلهة، وهذه الوحوش، وهذه العمالقة، ألا وهي أفكارنا، وغالبًا ما تدوس هذه الأطراف المتنازعة الفظيعة أرواحنا بأقدامها». انظر: دغار موران، النهج إنسانية البشرية الهوية البشرية، ترجمة: هناء صبحي، أبو ظبي، الإمارات العربية المتحدة: هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث (كلمة)، ط1، 1430هـ/2009م، ص 323 - 324).

[57] المرجع نفسه، ص 37.راجع أيضًا: مالك بن نبي:

* وجهة العالم الإسلامي.

* مشكلة الأفكار في العالم الاسلامي.

* ميلاد مجتمع.

[58] مالك بن نبي، ميلاد مجتمع، ص 100.

[59] عمر النقيب، مقوّمات مشروع بناء إنسان الحضارة، ص49.

[60] السيد عمر، الأنا والآخر من منظور قرآني، دمشق: دار الفكر، الطبعة الأولى، 1429هـ/ 2008م، ص43 - 44.

[61] مالك بن نبي، حديث في البناء الجديد، ترجمة: عمر كامل مسقاوي، المكتبة العربية للطباعة والنشر، بيروت، ص 50.

[62] أسعد السحمراني، مالك بن نبي مفكرًا إصلاحيًّا، 161.