تلقيّ النص القرآني والمكوِّن الجمالي..
قراءة في التجليات - في ظلال القرآن أنموذجًا
الدكتور بهلول شعبان*
* أستاذ محاضر، كلية الآداب، جامعة سعيدة، الجزائر.
مقدمة
المكوِّن الجمالي هو ذلك النصّ الذي حاور به الدارس النص القرآني من ناحيته الجمالية والإعجازية، وبذلك التقى النصان «الجمال/ المكتوب»؛ فأدى إلى إنشاء نص إبداعي، واكتشاف نظرية فنية جمالية، والمكون الجمالي نص فني قرأ به الأديب النص المكتوب بمنهج يأخذ بأهمية النشاط اللغوي في العمل الأدبي، وهو مبدأ ينتقل فيه الدارس من النظر الفلسفي والتقعيد إلى التفعيل.
وقد كانت غاية النص الجمالي هو اكتشاف تلك الأبعاد الجمالية التي غفل عنها الكثير من الدارسين، تتلمس تلك الأبعاد في النص المكتوب، كما نجد آثارها في الذات المتلقية وفي النفس المتذوقة، وفي إشراقات الروح، وامتداداتها في المتعة العقلية. إن «فلسفة الجمال الفني المعاصرة على اختلاف مواقفها تلح على أن المنظور الوحيد للعمل الأدبي، هو الإدراك الجمالي الخالي من أية غاية، ومن ثم نرى أن مسألة ماهية النقد لم تطرح، بصورة جدية إلَّا مع أصحاب الاتجاه الجمالي»[1].
أدرك الدارس أبعاد هذا المكون القرائي في الحياة والنفس، ذلك «أنّ عمر الفن وتاريخ الوعي الجمالي هو عمر الإنسان وتاريخ حياته، فالإنسان هو ذلك الكائن الذي وهبه الله -عز وجلّ- القدرة على الإحساس بالجمال وتذوق الفنون، وبالتالي القدرة على الإبداع والخلق الفني الذي يتذوقه ويشعر به في كلّ ما يحيط به من مظاهر الحياة الطبيعية والصناعية من حوله»[2].
وقد أيقن الدارس أنّ قيمة الكلمة الجمالية ومدى فعاليتها في التركيب اللغوي، هي السبيل الوحيد والأوحد التي تمتلك مفاتيح النفوس والولوج إلى عالمها، وإضاءة كهوفها بالكلمة الجميلة، وملامسة جدرانها بالعبارات الندية والإيحاءات الشّفافة، ويشير في هذا الصدد إلى قضية جوهرية؛ هي أن الجمال لا يكون على حالته وهو في ذلك ديمومة متغيرة.
ولذلك فالنص القرآني لا تنتهي عجائبه الجمالية، فهو يتّجه من الكمال إلى الكمال، والجمال لا يكون على وجه واحد، وتجديد آليات التلقي والاستعداد التام هما اللذان يجدّدان مظاهر الجمال وأحواله؛ ذلك أنّ «الأنواع تتقدم وتجمل ولا تبقى على حال واحدة»[3].
هذه القيمة الجمالية التي خبت في نفس القارئ المعاصر، هي التي يعمل الدارس من خلال نصه؛ القارئ الجمالي على إحيائها وبعثها، فقد أصبح المتلقي يقرأ النص القرآني بروح جامدة وشعور باهت، أومن باب اللجوء للترويح والتبرك، هروبًا من الأزمات اليومية التي تقهر هذا الإنسان البائس.
ومن ثم يبقى النص مغلقًا دائمًا من هذه المقاربة؛ ذلك «أنّ الجمال شعور، والذي يشعر بهذا الجمال هو الإنسان، وهي صفة طبيعية فيه، فهو يفهم الجمال بواسطة مشاعره، أو أنّ الجمال صفة في الأشياء تدرك بمشاعرنا، إلَّا أن هذا الشعور مرن غير جامد»[4].
وبما أن الجمال هو صفة غير ثابتة متطورة في الشيء ذاته أولًا، وفي تغيير الشعور من لحظة إلى أخرى، وهو متعدّد من فرد إلى آخر «فإنّ الأشياء تكون جميلة وغير جميلة في الواقع من فرد لآخر»[5].
يعمل الدارس من خلال نص القارئ ذو المرجعية الجمالية على لفت القرّاء الى هذه الطاقة النفسية، وإلى هذا الذوق وإلى تلك الملكة الفطرية؛ ذلك أن الكون وبكل موجوداته قائم على أساس جمالي، «والجمال صفة متحققة في الأشياء، وهو سمة بارزة من سمات هذا الوجود، وأنّ النفس تفطن إلى الجمال وتحسّه وتستجيب إليه، ولكن حظ هذه النفوس منه متفاوت، وهي تدركه بداهة بغير تفكير وتستقبله في فرح وسرور»[6].
فهو يعمل على إعانة القارئ لإدراك النواحي الجمالية حتى يجعل إدراكه هيّن سهل، يحتاج فقط إلى يقظة وفطنة، والأصل في الجمال الفطنة «الواقع أنّ الجمال مرده إلى الذوق، فلا شأن له بالحجج والبراهين والأدلة. وتكون صلة الذوق بالحقيقة من حيث جمالها، لا من حيث البرهنة عليها. فالحقيقة حقيقة سواء أعجبتك أم لم تعجبك»[7].
فالموقف الجمالي ليس مجرّد موقف ذاتي ينطوي على استجابة شخصية فحسب، وإنّما هو -أيضًا- موقف وجداني يجعلنا نربط الموضوع الجمالي بالحساسية لا بالقصور العقلي، فعلى حين آخر أنّ جانب المعرفة يبدو بشكل جلي في شتى مظاهر نشاطنا العقلي العادي كالإدراك الحسي، والفهم العقلي، والسلوك العملي.
أمّا التأمل الجمالي على النقيض من ذلك، فهو تعاطف وجداني ومظهر يتجلى بوضوح فيعيدنا إلى بداية حالة من حالات الوعي أو الشعور، يحدث فيها نوع من الإسقاط أو التقمّص الوجداني للموضوع الجمالي، يدخل الكاتب أو القارئ في شكل من الامتزاج والتداخل مع النص المكتوب أو النص الكوني، «وليس التقمص الوجداني سوى تلك الحالة الجمالية التي تقضي على آخر حاجز يفصل بين الحياة الوجدانية عن الحياة العقلية، فلا تبقى هناك معرفة من جهة ووجدان من جهة أخرى، بل تصبح هناك معرفة متضخمة بالعاطفة، وعواطف مشبعة بالمعرفة، وعندئذٍ لا يلبث الإنسان المزدوج أن يخلي السبيل أمام الإنسان الواحد المتكامل، وبذلك يتم له الصلح مع نفسه، ويتهيَّأ له التوافق الحقيقي الذي هو سرّ كلّ سعادة»[8].
إنّ النص الجمالي في منهج القراءة عند المؤلف يمثّل ذلك الفضاء الذي تشيع فيه الذات المتأملة حياتها، وتتبع فيه روحها ونوازعها، وتنعكس عليه رغباتها وأشواقها، وفي هذا النوع من الخلوص تستحيل الذات إلى ذلك الشيء فتعيد خلقه في تشكيل جديد وفق تصورها ورؤيتها.
وبهذه الاستحالة في الموضوع الجمالي النصي أو الكوني المتأملين ينقل إلى الذات القارئة ما في الموضوع الجمالي من انتظام وإيقاع، وما ترسمه من أطياف ومشاعر ونغمات وظلال، فإنّ قراءتك للنصوص الرفيعة المتفردة وقد دربت جمالياتها ولامست آهاتها لا تكاد تبارحها حتى تنعم بكل جزئياتها الفنية وخصائصها الكلية، وكأنك في قصر عظيم تكتشف فيه بهوًا بعد بهو، وغرفة خلف غرفة وقد تزينت جميعها بلوحات فنية بديعة، وتأبى الخروج منه إلَّا بعد أن تقف على كلّ لوحة، وتتفرس كل قطعة، وتلامس كل تحفة، فتسحرك الرسوم والصنائع فيتوقف عالمك في هذه اللحظات وتنحبس أنفاسك وتفتر حركاتك إلَّا في اتجاه هذا الموضوع الجمالي.
-1-
أساسيات الكتابة والرؤية الجمالية
فالنص الظلالي من حيث خصائصه الأسلوبية له لمسات ومسحات جمالية، ومن خلال قلم صاحبه يحبّب القرّاء إلى النص القرآني من المدخل الجمالي الذي افتقده القرّاء، وبه تتجدّد العلاقة في ودّ وحب لتهذيب النفوس وتربيتها بالنص الجمالي لعله يمنح الإنسان التوازن والتناغم الداخلي والخارجي مع العالم والكون، ومع فتح الآفاق الإنسانية على عالم الغيب والشهادة، وينتقل الناس من مرحلة الجفاء إلى مرحلة الجمال والتذوق، يقول المؤلف: «وعشت في ظلال القرآن أحسّ التناسق الجميل بين حركة الإنسان كما يريدها الله وحركة هذا الكون الذي أبدعه الله»[9]، «ومن ثم عشت في ظلال القرآن هادئ النفس مطمئن السريرة، قرير الضمير، عشت أرى يد الله في كل حادث وفي كل أمر، عشت في كنف الله ورعايته، عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها»[10].
يؤكد النص الأول من الظلال حقيقة جمالية كان يعيشها المؤلف، هو ذلك التناسق العجيب داخل النص القرآني في حركة الإنسان، وحركة الكون، وإرادة الله. ويؤكد النص الثاني نتيجة ذلك التذوق والمتعة اللتين وجدهما في نفسه فـ«الجمال هو الذي يدخل البهجة والسرور في النفوس عندما يرى، وهو مظهر متغير للجمال الأعلى الخالد -الله- الذي هو مصدر كل جمال، وما الطبيعة إلَّا وجه لنفسه العظيم»[11].
ويعلّق سيد على أصالة الجمال وفطرته في النفس، «فالجمال عنصر أصيل في هذه النظرة، زينة ركوب الخيل، وليست النعمة هي مجرد تلبية الضرورات من طعام وركوب، بل تلبية الأشواق الزائدة على الضرورات تلبية حاسة الجمال ووجدان الفرح والشعور الإنساني المرتفع على ميل الحيوان وحاجة الحيوان»[12].
لقد كان العرب يجهلون قواعد الجمال ولكنهم كانوا يدركونه بحسهم وبشعورهم وذوقهم الفطري، منظر الجمال عند الراحة والسرح، ويشعرون بذلك الإحساس الذاتي، «فإذا حكمت بأن هذه الوردة جميلة فليس ذلك نتيجة قياس حتمي منطقي أو نتيجة تجربة، وإنما هو نتيجة تحكم ذاتي فردي، وكأنه أمر صادر عن وعينا الجمالي»[13].
ذلك أنّ «الجمال شيء يقع في النفس عند المميّز»[14]، ويقوم هذا القارئ المميّز بترجمة ذلك الأثر الجمالي في نص إبداعي.
وحينما نتتبع النص الظلالي الآتي نجده ينبع من ذوق جمالي، وأثر نفسي من خلال وعي كامل بسورة طويلة متعددة الموضوعات، يجمعها في حقيقة كلية كبرى ذات أحداث تتحرك في فضاء جمالي فسيح، فسورة «النحل» كما يقول عنها المؤلف: «وفي هذا المجال الفسيح يبدو سياق السورة وكأنه حملة ضخمة للتوجيه والتأثير، واستجاشة العقل والضمير، حملة هادئة الإيقاع، ولكنها متعددة الأوتار ليست في جلجلة الأنعام والرعد، ولكنها في هدوئها تخاطب كل حاسة وكل جارحة في الكيان البشري، وتتّجه إلى العقل الواعي كما تتّجه إلى الوجدان الحسّاس إنها تخاطب العين لترى، والأذن لتسمع، واللمس ليستشعر، والوجدان ليتأثر، والعقل ليتدبر، ويحشد الكون كله؛ سماءه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره وجباله وبحاره وفجاجه وأنهاره وظلاله وأكنانه نبته وثماره وحيوانه وطيوره، كما تحشد دنياه وآخرته وأسراره وغيوبه. كلها أدوات توقع بها على أوتار الحواس والجوارح والعقول والقلوب، مختلف الإيقاعات التي لا يصمد لها، فلا يتأثر لها إلَّا العقل المغلق والقلب الميت والحس المطموس»[15].
إنّ هذا التعبير الجميل القائم على أساليب التضاد والمقابلة يلفت كيان القارئ إلى النص المكتوب «القرآن» والنص المفتوح «الكون» ويدعوه لإدراك الجمال المكنون في النص والكون معًا، حاشدًا كل طاقاته العقلية وجوارحه، داعيًا إياه إلى تحريك شعوره، ليعيش لحظة التناسق والتناغم والتكامل، وفي ذلك يجتمع الحس والعقل لإدراك ماهية الجمال. ولا شك في أن الشيء الذي لا يختلف عليه أحد هو الشعور بالسعادة والانسجام والتناغم والراحة النفسية شرط أساسي للإحساس بالجمال... فالإحساس بالجمال هو تجربة نفسية في المقام الأول وليست شيئًا محدودًا أو مطلقًا»[16].
يتحوّل الكاتب في كل تجربة قرائية من الفعل القرائي إلى الفعل الإبداعي ليقرّب القارئ من النص القرآني عبر الجسر الجمالي، ويتحوّل النص الظلالي من الترجمة والتفسير إلى التشكيل الأدبي الرفيع، تميّزه الخصائص الفنية البديعة، وتعلوه البصمات الجميلة التي تختلف كثيرًا عن الشروح والتفسيرات السابقة.
ويكتسب النص الأدبي صبغة جمالية من خلال المغايرة للمألوف فتتردّد أصداؤها في هيكله فتهبه خصائص التفرّد والتنوّع، وهذا الأخير يعتبر أحد العوامل المؤثرة في شعور المتذوق بالمتعة، والتنوّع ضدّ المماثلة والمحاكاة، فهو يشعرنا بالاستمتاع والجمال ويلوّن مشاعرنا بتلونها فيكسر خط التراتب في أنفسنا ويمنحنا حياة جديدة.
فالعمل الجميل هو الذي يحدث نوعًا من الانفصال عن غيره، والأصيل هو الحدث المبتكر الذي يصدمنا بجدّته ويفاجئنا بتميّزه فيثير فينا الدهشة والذهول، ويقذف فينا الإعجاب، وينتزعه منا انتزاعًا، «فالإعجاب (ladmiration) إن هو إلَّا الإحساس الجميل بعينه، والعمل الأصيل -أيضًا-، هو ذلك الإنتاج الصادق الذي تنكشف لنا حقيقته كسّر يُذيعه علينا الفنان للمرة الأولى، فنعجب كيف ظللنا نجهله كلّ هذا الزمن؟ وليس يكفي أن نقول: إنّ العمل الأصيل لا بدّ أن يبدو لنا جديدًا وكأنّنا نشهده للمرة الأولى، بل لا بدّ من أن نضيف إلى ذلك -أيضًا- أنّنا نحن أنفسنا نصبح جددًا أمام العمل الفني»[17].
والجمال في خلقه إبداعات فريدة لا يمكنها أن تحلّ مكان غيرها ولا يكون غيرها مقامها، ولكن لا يكون ذلك من العدم بل هو أخذ من القديم ووعي بالجديد فيخرج لا هذا ولا ذاك، وإنما هو الإبداع في أبهى صوّره الفريدة كاللون الذي ينتج عن طريق عمليات المزج.
ونشعر من النص الظلالي ومن رهافة ألفاظه أنها تدعو إلى الإحساس بجمال النص، وبانفتاح العقل وإحياء القلب وشفافية الحس، فالمنهج القرائي بهذا النص أو المكون الجمالي يكون قد تجاوز مقصدية؛ افعل ولا تفعل إلى عالم الجمال والإبداع والأنس والطمأنينة، ثم تأتي مرحلة افعل ولا تفعل، ولقد قالها عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) وقالها الوليد بن المغيرة واستشهد بقوليهما المؤلف في ذلك، فالأول قال: «لما سمعت القرآن رقّ له قلبي فبكيت، ودخلني الإسلام» وتذكر رواية أخرى أنه لما سمع القرآن قال: «ما أحسن هذا الكلام وأكرمه».
وقال الثاني عن القرآن: «إنّ لقوله لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنّه ليحطم ما تحته، وإنّه ليعلو وما يُعلى عليه»[18].
وهذا الحكم الجمالي وهو في صورة من النقد التأثيري يشبه حال القارئ المتذوق وهو يقول: «فإنّي أشعر بأنّي مع الموضوع الجمالي الذي أنا بإزائه وقد نفذت إلى صميم شعور الآخر، وإن كان الآخر هو العمل نفسه»[19]. لقد اندمج القارئان القديمان كلية مع النص القرآني ثم خرجا منه بهذه الأحكام الذوقية الفطرية.
وكان ذلك قبل اعتبار القرآن نصوص أمر ونهي، فإنّ الإحساس بالجمال هو الذي يحرّك المتلقي نحو الحركة والعمل، وهو الذي يقود الإنسان إلى الإعجاب والمتعة والأنس ثم الاستجابة والأثر، وذلك ما يقوم به نص القارئ الجمالي في الظلال.
والعجيب أنّ القرآن يجمع بين جمال النص وجمال قائله، وهذا الجمال لا ينتهي أبدًا، وتلك الأمور هي التي تحرّك في نفس المتلقي استمرار ذلك بصور مختلفة غير متشابهة، «والإحساس بالجمال هو إحساس ممتع يُثير البهجة والانشراح والنشوة في النفوس، ويودّ الإنسان أن يعاوده هذا الإحساس من حين لآخر، لأنه يخفف عنه كدر الحياة ويساعده على تحمّل متاعبها ومواجهتها بصدر رحب»[20].
لقد أراد الكاتب لنصوصه بكل أشكالها أن تخاطب الحس الجمالي أوّلًا ثم تأتي الفكرة ثانية نحو العقل، وهي في أنصع الأثواب وغاية الجلاء وأرقّ الألفاظ وأسلس التعابير، «فالذي يحدّد العمل الأدبي ويعطيه قيمته وكيانه وشكله الفني هو الأدب نفسه بكل ما ينطوي عليه من تقاليد وقيود واتجاهات فنية»[21].
ومن جهة أخرى تبرز بصمة الكاتب في تحديد الأثر الجمالي، «فالذي يحدّد قيمة العمل الفني في النهاية هو قدرة الفنان، ومدى تمكّنه من فنّه وسيطرته عليه، وإدراكه لخفايا هذه الصنعة، وإلمامه بالأعمال الفنية المعاصرة والسابقة، ومدى وعيه بها وإدراكه لها»[22].
هذا إذا علمنا أنّ سيد قطب قد جمع بين فلسفة العقاد الفكرية والأدبية وبين النظرية الجرجانية في النظم والنقد.
-2-
قصدية الفكرة بين المكون الجمالي والأثر الإيحائي
صار المكون الجمالي عند الكاتب مدخلًا أساسيًّا لرصد التجليات الجمالية للكون والنص، وتتبّع روعة التناسق الذي يجمعهما واكتشاف غاياتهما التأثيرية والإيحائية، «إنّ معجزات هذا الكتاب أنّه يربط كل مشاهد الكون وكل خلجات النفس إلى عقيدة التوحيد. ويحوّل كل ومضة في صفحة الكون أو في ضمير الإنسان إلى دليل أو إيحاء.. و هكذا يستحيل الكون بكل ما فيه معرضًا لآيات الله، تبدع فيه يد القدرة، وتتجلى آثارها في كل مشهد ومنظر، وفي كل صورة فيه وظل.. إنّه لا يعرض قضية الألوهية والعبودية في جدل ذهني ولا في لاهوت تجريدي ولا في فلسفة ميتافيزيقية، ذلك العرض الميت الجاف الذي لا يؤثر فيه ولا يوحي. إنما يعرض هذه القضية في مجال المؤثرات والموحيات الواقعية من مشاهد الكون، ومجالي الخلق، ولمسات الفطرة وبديهيات الإدراك. في جمال وروعة و اتّساق»[23].
لقد استعان الكاتب في تبليغ التجربة الجمالية ولمساتها الشعورية عن طريق التعبير، فإذا كان موضوع العمل الفني يتّضح هو نفسه بالمعنى، فإنّ هناك هالة أخرى من المعاني والظلال والإيحاءات لا تشعّ إلَّا من خلال جمال التعبير، وما يتّسم به الموضوع من عمق وتنوّع. فالأديب وهو يجول في عالمه الساحر بالمفهوم الأدبي يحوّل موضوعه إلى ذات ناطقة بالدلالات مشحونة بالإشراقات والفيوض الإبداعية والأبعاد الإنسانية؛ ذلك «أنّ المبدع يعيش موضوعه بمسحة إنسانية راقية وسيل من العواطف يغسله كلّ مرة. وكأنّ العمل الفني يملك من اللغات ما لا يحصى، فيوحي لمن شاء بما شاء بأسمى المعاني الدينية، وفي ذلك اختلاف الأذواق»[24].
تبرز نصوص الظلال في جانبيها الجمالي والفني ذلك الحشد المكثف لكل الأدوات التي يدرك بها ذلك الجمال؛ من عقل ووجدان وإحساس وجوارح وذوق فطري، ذلك «أن السمع والبصر يقدمان للعقل المادة، والعقل ينفذ إلى ما في المادة من نسبة ومعنى، وعلى هذا الأساس فالجمال مدرك من مدركات العقل»[25].
وتعمل نصوص الظلال على تحريك تلك الأدوات وتنشيطها واستخراج طاقاتها وتحريرها من الغفلة والسبات، فالجمال هو الذي يصنع الحياة ويبعث الحركة في النفوس، ومادام النص القرآني يعرض ذلك المهرجان من الخلائق الكونية، وما تحوزه من مظاهر الجمال، وأنّ النفس غافلة عن تلك الكنوز، فإن النص الجمالي في الظلال يعمل على تحريك الإحساس وتوجيهه نحو تلك المدركات، فلذلك فالمؤلف يرى أنّ هناك نفوسًا ميتة وعاطلة «فلا يتأثر بها إلَّا العقل المغلق والقلب الميت والحس المطموس»[26].
فسورة «النحل» وهي تخاطب كيان الإنسان الكامل عقلًا ووجدانًا وحواسَّ، وهي تعرض شريط النص الكوني والنص القرآني، فإنها تدفع القارئ نحو التدبر والتأمل، وقد أحصى الدارس تلك المظاهر الكونية مقدمًا إياها في ذلك النص الإبداعي بغية إدراك الجمال المبثوث بين أطياف النص، وهو يتفق مع الغزالي في استخدام تلك الأدوات في إدراك الجمال، يقول هذا الأخير: «يدرك الجمال الحسي بالبصر والسمع وسائر الحواس، أما الجمال الأسمى فيدرك بالعقل والقلب، أمّا إن كان الجمال يتناسب مع الخلقة وصفاء اللون فإنّه يدرك بحاسة البصر، وإن كان الجمال بالجلال والعظمة وعلو الرتبة، وحسن الصفات والأخلاق، وإرادة الخيرات لكافة الخلق وإفاضتها عليهم على الدوام فيدرك بحاسة القلب»[27].
فالجمال من خلال هذا التعريف هو عملية تفاعلية بين المكونات الأساسية في الإنسان؛ «العقل/القلب/الإحساس»، وإن كان الغزالي قد حدَّد الجهات المؤثرة في المعرفة الجمالية للأشياء تفاعلًا وتصنيفًا، فإن سيد يشير إلى حركاتها وتفعيلها ولفت الانتباه إليها في العملية القرائية أثرًا واستجابةً، وتشريح تلك العملية الجمالية من خلال تفصيل الأشياء المعروضة في النص، وحركتها في الواقع باتِّباع الأفق الخطي للقراءة التعاقبية لسورة النحل وشريطها الطويل كما أشار إليها الكاتب «فأما الظلال العميقة التي تلوّن جو السورة كله فهي الآيات الكونية تتجلى في عظمة الخلق، وعظمة النعمة، وعظمة العلم والتدبير.. كلها متداخلة.. فهذا الخلق الهائل العظيم المدبر عن علم وتقدير، ملحوظ فيه أن يكون نعمة على البشر، لا تُلبِّي ضروراتهم وحدها، ولكن تلبي أشواقهم كذلك، فتسد الضرورة، وتُتخذ للزينة، وترتاح بها أبدانهم وتستروح لها نفوسهم، لعلهم يشكرون..»[28].
يصف الدارس جوّ السورة ونصَّها وصفًا جماليًّا، ويعرض تفاصيل التناسق التركيبي والدلالي «كل أولئك في تناسق ملحوظ بين الصور والظلال، والعبارات والإيقاعات، والقضايا والموضوعات»[29].
ومن الوصف العام إلى إيقاظ الاستقبال الجمالي بالتوصيف الأدبي «ونعمة البحر وأحيائه تُلبِّي كذلك ضرورات الإنسان وأشواقه، فمنه اللحم الطري من السمك وغيره للطعام. وإلى جواره الحلية من اللؤلؤ ومن المرجان، وغيرهما من الأصداف والقواقع التي يتحلّى بها أقوام ما يزالون حتى الآن. والتعبير كذلك عن الفلك يشي بتلبية حاسة الجمال لا بمجرد الركوب والانتقال: {وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ}، فهي لفتة إلى متاع الرؤية وروعتها رؤية الفلك «مواخر» تشق الماء وتفرق العباب.. ومرة أخرى نجد أنفسنا أمام التوجيه القرآني العالي إلى الجمال في مظاهر الكون، بجانب الضرورة والحاجة، لنتملَّى هذا الجمال ونستمتع به، ولا نحسّ أنفسنا داخل حدود الضرورات والحاجات. كذلك يوجهنا -السياق- أمام مشهد البحر والفلك تشق عبابه إلى ابتغاء فضل الله ورزقه، وإلى شكره على ما سخر من الطعام والزينة والجمال في ذلك الملح الأجاج، {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}»[30].
فالجمال حاجة نفسية تدفع صاحبها إلى تجسيدها في عالم الوجود قائمة في عمل مبدع أو التعبير عنها في قالب فني تكون اللغة وسيلته، فالجمال غريزة فطرية، بل هو حياة الإنسان كلها، ونشاطه الدائم وصوته القائم، ويبقى «العالم هو بداية الإحساس بالجمال ورؤية الطبيعة الساحرة حولنا وهي تنبض في أبهى صورها خلال الزمان وهي تجسيد له، تدفق للشعورية في أعماقنا»[31].
فالقارئ الجمالي عند سيّد يعمل في اتجاهين؛ اتجاه يلفت به انتباه الملتقي إلى الجمال المبثوث في هذا الكون، واتجاه يلفته إلى جمال النص في شكل نصوص إبداعية أو نظريات، أو قواعد، كما جاء في كتابه «التصوير الفني في القرآن»، وهو يجمع بين الوظيفة والجمال، وذلك للوصول بالقارئ إلى الجمال المطلق الجمال الإلهي، ولا يكون ذلك إلَّا بمعرفة الخالق من خلال صفاته وهو ما أدرك حقيقته بنفسه؛ «عشت في كنف الله ورعايته، عشت أستشعر إيجابية صفاته تعالى وفاعليتها..»[32].
-3-
تنمية الذائقة الجمالية
يعمل الدارس على تجذير الخاصية الجمالية وامتلاكها وتنميتها من خلال التوجه إلى الكون، «والذين يتفكرون هم الذين يدركون حكمة التدبير، وهم الذين يربطون بين ظاهرة كظاهرة المطر وما يُنشئه على الأرض من حياة وشجر و زروع وثمار، وبين النواميس العليا للوجود، ودلالتها على الخالق وعلى وحدانية ذاته ووحدانية إرادته ووحدانية تدبيره، أما الغافلون فيمرون على مثل هذه الآية في الصباح والمساء، في الصيف والشتاء، فلا توقظ تطلّعهم، ولا تُثير استطلاعهم ولا تستجيش ضمائرهم إلى البحث عن صاحب هذا النظام الفريد»[33].
فالتوجُّه الواعي إلى الكتاب المفتوح واندفاع الإنسان نحو هذا الكون متأملًا ومستبصرًا متذوقًا تكوينه الجمالي تنمي فيه هذه العملية الذائقة الجمالية، والإحساس بروعة الخلق، وكمال الإبداع وتتفتق لديه طاقة العمل الفني وتسري فيه روح الخلق والابتكار والنشوء، وترقى النفوس نحو التهذيب والسمو وشفافية الروح وتتوق إلى مرتقى الطهارة والصفاء.
ذلك أنّ الجمال نراه سابحًا أمام العين البصيرة في كل خلق، يصدر من كل أطراف الكون، نحسه في مظاهر العالم الطبيعي، نرى الجمال مبثوثًا في الأزهار وألوانها، وفي الأشجار وتناسقها، وفي النباتات وأشكالها، وفي الطيور وأصواتها، وفي ضياء الشمس ونور القمر وخرير المياه، وهمس النسمات، «وهكذا يبدو الكون في أجمل صورة فيستمتع الإنسان بجمال الخالق في خلقه»[34].
تلك هي غاية النص الظلالي وقصدية القارئ الجمالي، هي إيقاظ العقل والقلب والإحساس، لتنطلق أولًا من جمال الشيء إلى جمال صاحب الشيء ومن المصنوع إلى الصانع، لمعرفة صاحب النظام الفريد، المعرفة اليقينية القلبية التي تدرك جمال صانع الأشياء من جمال الأشياء، فتكون الاستجابة لهذا البديع في أرقى شفافية، ورقة وسهولة وطاعة من منافذ الجمال الأخَّاذ؛ ذلك أن «القلب أشد إدراكًا من العين، فالقلب يدرك الأمور الشريفة الإلهية، وأن المثل الأعلى للجمال هو الله»[35].
يقوم القلب أثناء التجربة الحسية لعالم الشهادة بمحاولة إدراك جمال المكنونات الملفوفة في عالم الغيب «وجمال الله سبحانه أكمل الجمال»[36].
وبذلك «ندرك بوضوح أن الإدراك الأولي للجمال يتم عن طريق الحواس، فإذا ارتقى وجلّ وشرف الجمال، يدرك عن طريق القلب»[37].
ولذلك فسيّد يعمل ألَّا يتوقّف الناظر عند جمال الشيء وحدوده، بل يتجاوزه إلى مصدر الجمال وموجده، وتلك هي النظرة الفلسفية للجمال في الفكر الإسلامي، فالفارابي يتصور الجمال بقوله: «الجمال والبهاء والزينة في كل موجود، هو أن يوجد وجوده الأفضل، ويبلغ استكماله الأخير، وإذا كان الأول وجوده أفضل الوجود، فجماله إذن فائتِ لجمال كل ذي جمال، وكذلك زينته وبهاؤه وجماله بجوهره وذاته، وذلك في نفسه ومما يعقله من ذاته»[38].
فالجمال الكامل المطلق الفائت لكل جمال، هو مصدر يستمد منه كل جمال، وهو الله -سبحانه وتعالى- جماله في المقام الأول والأخير وفي الدرجات الأزلية، فجماله الخالص هو فوق كل جمال موجود سواه، وهذا الإدراك هو الطريق الحقيقي إلى الله وتعليق النفوس به، وهو الذي تنعم الأرواح في ظلّه بشفافية مطلقة، «وتقرّب الإنسان من الله تقريبًا يجعله يعرف الجمال الأصيل المتمثل بالجمال الأعلى، معرفة حقة، ويكتشف أن جمال العالم المادي ما هو إلَّا انعكاس للجمال الإلهي»[39].
هذا الإدراك الذي خبا نوره في النفوس هو الذي يعمل سيّد على بعثه وإحيائه منطلقًا من الأشياء العاكسة القائدة إلى مصدر المنعكس عليه، «وعندما ينتهي استعراض آيات الخلق، وآيات النعمة، وآيات التدبير في هذا المقطع من السورة يعقب السياق عليه بما سبق هذا الاستعراض من أجله. فقد ساقه في صدد قضية التعريف بالله سبحانه وتوحيده وتنزيهه»[40].
يمتد ذلك الانتعاش الجمالي إلى لفت الانتباه إلى الطبيعة وتحليل عناصرها وظيفةً وجمالًا، «وفي مقابل الجبال الرواسي يوجّه النظر إلى الأنهار والجواري، والسبل والسوالك، والأنهار ذات علاقة طبيعية في المشهد بالجبال، ففي الجبال في الغالب تكون منابع الأنهار، حيث مساقط الأمطار، والسبل ذات علاقة بالجبال والأنهار، وذات علاقة كذلك بجو الأنعام والأحمال والانتقال، وإلى جوار ذلك معالم الطرق التي يهتدي بها السالكون في الأرض من جبال ومرتفعات ومنفرجات، وفي السماء من النجم الذي يهدي السالكين في البحر والبرّ سواء»[41].
نجد ذلك القارئ الجمالي يتحرّك كثيرًا عارضًا نصّه الجمالي وهو بصدد التعقيب على قوله تعالى في سورة غافر: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ}[42].
تبدأ القراءة الجمالية منطلقة من البنيات النصية التي توجّه القارئ توجيهًا جماليًّا تذوقيًّا، وتكرارها يُشير إلى مركزية القراءة الجمالية ومقصدتيها {مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا}، ثلاث مرات، هذا التكرار هو الذي يحدّد جوهر وماهية القراءة ومركزية النظر (الاختلاف/ الألوان).
وهي البنيات التي جعلت المؤلف يتناولها تناولًا جماليًّا فيعقب على ذلك؛ «إنها لفتة كونية عجيبة من اللفتات الدالة على مصدر هذا الكتاب، لفتة تطوف في الأرض كلها تتبع فيها الألوان والأصباغ في كل عوالمها في الثمرات وفي الجبال، وفي الناموس، وفي الدواب والأنعام، لفتة تجمع في كلمات قلائل، بين الأحياء وغير الأحياء في هذه الأرض جميعًا، وتدع القلب مأخوذًا بذلك المعرض الإلهي الجميل الرائع الكبير الذي يشمل الأرض جميعًا»[43].
-4-
البنى اللفظية والتركيبية في تشكيل النص الجمالي
ينفتح الفضاء الفني لتحليل العناصر الجمالية، ويتتبع المؤلف الصورة المشهدية شارحًا تفاصيلها الإبداعية ليلقي في روع المتلقي اللوحة الفنية، ويوقظ الخبرة الذاتية لتساهم في تشكيل الصورة بامتداد أجزائها وأثرها في النفس، وهي وظيفة يقوم بها المتلقي، «وألوان الثمار معرض بديع للألوان يعجز عن إبداع جانب منه جميع الرسامين في جميع الأجيال، فما من نوع من الثمار يماثل لونه لون نوع آخر، بل ما من ثمرة واحدة يماثل لونها لون أخواتها من النوع الواحد، فعند التدقيق في أي ثمرتين أختين يبدو شيء من اختلاف اللون»[44]
وتبقى بنية اللفظ تسيطر على توجيه الفعل القرائي في جدول تداولي بين النص المكتوب ونص القارئ، «وينتقل من ألوان الثمار إلى ألوان الجبال نقلة عجيبة في ظاهرها ولكنها من ناحية دراسة الألوان تبدو طبيعية، ففي ألوان الصخور شبه عجيب بألوان الثمار وتنوعها وتعددها، بل إنّ فيها أحيانًا ما يكون على شكل بعض الثمار وحجمها كذلك حتى ما تكاد تفرق من الثمار صغيرها وكبيرها»[45].
تتّجه هذه القراءة إلى الأشياء وتقليبها للكشف عن خصائصها الجمالية، وذلك التدوير والتثوير للألفاظ الذي يمارسه النص الجمالي ما هو في نهاية المطاف إلَّا تحريك للقلب نحو الجمال والإبداع، ونقل الانطباع الأدبي التأثيري إلى «النفس عن طريق ما تحمله مهمة الفن والأدب من قيم موضوعية وقيم جمالية»[46].
«واللفتة إلى ألوان الصخور وتعدّدها وتنوّعها داخل اللون الواحد بعد ذكرها إلى جانب ألوان الثمار تهزّ القلب هزًّا، وتوقظ فيه حاسة الذوق الجمالي العالي، التي تنظر إلى الجمال نظرة تجريدية، فتراه في الصخرة كما تراه في الثمرة على بعد ما بين طبيعة الصخرة وطبيعة الثمرة، وعلى بعد ما بين وظيفتها في تقدير الإنسان، ولكن النظرة الجمالية المجردة ترى الجمال وحده عنصرًا مشتركًا بين ذلك وهذه وتلك. يستحق النظر والالتفاف»[47].
تنبثق من هذا النص الرؤية الجمالية عند سيّد قطب التي تجرّد الجمال من المنفعة والوظيفة، بل تراه عنصرًا متحرّرًا وخاصية في كل الأشياء التي أوجدها صاحب الجمال المطلق الكامل، وبذلك فالجمال عنده غير مرتبط بالوظيفة والأخلاق وإنما يرتبط بحقيقة الشيء، فهو لا يخضع لمعايير الخير والشر، والوظيفة، وإنما هو «علاقة تثير الشعور بالارتياح بين عوامل ثلاثة؛ هي الموضوع الخارجي المتناسق، والبيئة المحيطة، والنفس المدركة، ولا يفوتنا ما ورد في هذا الاستنتاج من علاقة بين الموضوع والذات، أو الرابطة بينهما والمتمثلة في صفة من صفات الجمال وهي التناسق، إنّ الفن يهتم أساسًا بالتناسق البديع، بين جزيئات العمل الفني نفسه، ومن خلال هذا التناسق يشعر المتذوق بالراحة النفسية، التي يسببها التناسق الذي يحدث داخله»[48].
يستطرد المؤلف في فتح مجال واسع للنص الجمالي «هذا الكتاب الكوني الجميل الصفحات، العجيب التكوين والتلوين، يفتحه القرآن ويقلب صفحاته ويقول: إنّ العلماء الذين يتلونه ويدركونه ويتدبرونه هم الذين يخشون الله {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}[49]، وهذه الصفحات التي قلّبها في هذا الكتاب هي بعض صفحاته، والعلماء هم الذين يتدبرون هذا الكتاب العجيب، ومن ثم يعرفون الله معرفة حقيقية، يعرفونه بآثار صنعته، ويدركونه بآثار قدرته، ويستشعرون حقيقة عظمته برؤية حقيقة إبداعه، ومن ثمة يخشونه حقًّا ويتّقونه حقًّا، ويعبدونه حقًّا، لا بالشعور الغامض الذي يجده القلب أمام روعة الكون، ولكن بالمعرفة الدقيقة والعلم المباشر.. وهذه الصفحات نموذج من الكتاب.. والألوان والأصباغ نموذج من بدائع التكوين الأخرى وبدائع التنسيق التي لا يدركها إلَّا العلماء بهذا الكتاب، العلماء به علمًا واصلًا. علمًا يستشعره القلب، ويتحرك به، ويرى به يد الله المبدعة للألوان والأصباغ والتكوين والتنسيق في ذلك الكون الجميل»[50].
يقود المؤلف القارئ إلى الإيمان عن طريق الجمال للوصول إلى الحقيقة الإلهية، وكأني به في هذا الموضع يمارس وظيفة الناقد الذي يأخذ بيد القارئ إلى معرفة النص ومعرفة الطبيعة في بعديهما الجمالي، «إن مقصود الجمال يبدو مقصودًا قصدًا في تصميم هذا الكون وتنسيقه، ومن كمال هذا الجمال أنّ وظائف الأشياء تؤدّي عن طريق جمالها، هذه الألوان العجيبة الأزهار تجذب النحل والفراش مع الرائحة الخاصة التي تفوح، ووظيفة النحل والفراش بالقياس إلى الزهرة هي القيام بنقل اللّقاح، لتنشأ الثمار، وهكذا تؤدي الزهرة وظيفتها عن طريق جمالها. والجمال في الجنس هو الوسيلة لجذب الجنس الآخر إليه، لأداء الوظيفة التي تقوم بها الجينات، وهكذا تتم الوظيفة عن طريق الجمال. فالجمال عنصر مقصود قصدًا في تصميم هذا الكون وتنسيقه، ومن ثم هذه اللفتات في كتاب الله المنزّل إلى الجمال في كتاب الله المعروض»[51].
تعمل ريشة سيّد في الظلال من خلال القارئ الجمالي على تحرّيك القلب والعقل والحواس نحو هذه الخلائق المبثوثة في الكون، ذلك أنّ «الطبيعة هي العمل الفني لله.. وأنّ الجمال مطروح في هذا الوجود، وأنّه واقع في بنية الأشياء والعالم، وبذلك فالجمال صفة من صفات هذا الوجود»[52].
نشعر ونحن نقرأ هذه النصوص الظلالية أنّ بصمة الناقد المبصر قد تجلت ملامحها في ذلك الاستطراد، وهي محاولة لمساعدة القارئ للذهاب بعيدًا في هذا الاتجاه التذوقي، ولذلك فهو يتفطّن للتذوق الفطري الذي يستشعره في ذاته، «فالنقد الجمالي لا يقصي عملية التذوق بصفة مطلقة، ولا الإحساسات الناتجة عن الذوق الرفيع المهذب بالممارسة والخبرة التي تفيد القارئ العادي الذي لا يستطيع إدراك ما في العمل الأدبي من جمال ومتعة دون أن يأخذ بيده الناقد ويدربه على التذوق»[53].
يكاد المنحى التأثيري من السبك الأدبي يتجلّى عند المؤلف للكشف عن الجمال في الكتاب المفتوح والكتاب المقروء، ذلك «أن فكرة التأثير فكرة إنسانية متغلغلة في القدم، فقد تنبه الناس منذ العصور القديمة إلى أنّ الأدب نوع من الإبانة، وآلة للتوصيل الفكري، وأنّ نجاحه يكون على قدر نفاذه إلى عقول سامعيه أو متلقيه»[54].
وقد استفاد الكاتب في منهجه النقدي والتأثيري من تلك الأصول والقواعد الموضوعية التي تدحرجت من كتابه «النقد الأدبي مناهجه وأصوله»، إلى نصوصه الإبداعية والفكرية والدينية.
فإذا كان المؤلف قد تعامل مع آيات الكون تعاملًا جماليًّا، فإنّ المكون الجمالي في دراسة آيات النص القرآني يعدّ مطلبًا خالصًا باعتباره نصًّا لغويًّا في غاية الإعجاز والتماسك والتناسق الفني، وقد صار المدخل الجمالي مشروعًا بالنسبة لصاحب الظلال، وهو «أن تبرز فيه -القرآن الكريم- الناحية الفنية، وتستخلص خصائصه الأدبية، وتنبّه المشاعر إلى مكامن الجمال فيه، وذلك هو عملي الأساسي في مكتبة القرآن»[55]، «ذلك الهدف البعيد، هو إعادة عرض القرآن، واستحياء الجمال الفني الخالص فيه، فهدفي هنا فني خالص محض، لا أتأثر فيه إلَّا بحاسة الناقد الفني المستقل»[56].
-5-
آليات القراءة الجمالية
يتجلّى ذلك المنحى الجمالي في طريقة القراءة والكتابة معًا، وفي اكتشاف جمال التناسق في النص القرآني والتعبير عنه، من خلال ريشة الناقد الجمالي، ففي تعقيبه على قوله تعالى في الآيات «261-274» من سورة «البقرة»، والتي أفرد لها مقطعًا خاصًّا، وهو يعقب على كل مشاهد المقطع وتناسقها «وبعد، فإن التناسق الجميل الملحوظ في تركيب كل مشهد على حدة، وفي طريقة عرضه وتنسيقه، هذا التناسق لا يقف عند المشاهد فرادى، بل إنه ليمد رواقه فيشمل المشاهد متجمعة من بدئها في هذا الدرس إلى منتهاها.. إنها جميعًا تعرض في محيط متجانس محيط زراعي! حبة أنبتت سبع سنابل، صنوان عليه تراب فأصابه وابل، جنة بربوة فأتت أكلها ضعفين، حبة من نخيل وأعناب، حتى السوائل والظل والإعصار التي تكمل محيط الزراعة لم يخلُ منها محيط العرض الفني المثير»[57]، ويمثل التناسق منفذًا واسعًا للمدخل الجمالي عند المؤلف فهو «ألوان ودرجات»[58].
يلخّص المؤلف صور ذلك التناسق بعد الدراسة بقوله: «وهكذا تتكشف للناظر في القرآن آفاق وراء آفاق، من التناسق والاتساق: فمن نظم فصيح، إلى سرد عذب، إلى معنى مترابط، إلى نسق متسلسل، إلى لفظ معبر، إلى تعبير مصور، إلى تصوير مشخص، إلى تخييل مجسّم، إلى موسيقى منغمة، إلى اتّساق في الأجزاء، إلى تناسق في الإطار، إلى توافق في الموسيقى، إلى افتتان في الإخراج.. وبهذا كله يتم الإبداع، ويتحقّق الإعجاز»[59].
تمثّل تلك الأدوات آليات وتقنيات جمالية، وعناصر للتحليل من زاوية التناسق، وخاصة حين يكشف عن التناسق العجيب في نفس الآيات بين الإنسان والأرض، «وهي الحقيقة الكبيرة وراء العرض الفني المثير، حقيقة الصلة بين النفس البشرية والتربة الأرضية، حقيقة الأصل الواحد، وحقيقة الطبيعة الواحدة، وحقيقة الحياة النابتة في النفس وفي التربة على السواء، وحقيقة المحقّ الذي يصيب هذه الحياة في النفس وفي التربة على السواء، إنه القرآن.. كلمة الحق الجميلة، من لدن حكيم خبير»[60].
يتفطّن سيّد قطب بحس الناقد إلى ذلك التناسق الفني بين البنيات النصية وإلى ذلك التكامل الرائع بين المشاهد التي تعرض حقائق النفوس والحياة، فيجتمع الموضوع والجمال، واللغة والفن والعرض المتجانس، وهو يعقب في نفس المقطع على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا}[61]، فهو «مشهد كامل مؤلف من منظرين متقابلين شكلًا ووضعًا وثمرةً، وفي كل منظر جزيئات، ينسق بعضها مع بعض من ناحية فن الرسم وفن العرض، ويتسق كذلك مع ما يماثله من المشاعر والمعاني التي رسم المنظر كله بتمثيلها وتشخيصها وإحيائها. نحن في المنظر الأول أمام قلب صلد.. فهو لا يستشعر نداوة الإيمان وبشاشته ولكنه يُغطّي هذه الصلادة بغشاء من الرياء، هذا القلب الصلد المغشّى بالرياء {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ} حجر لا خصب فيه ولا ليونة، يغطّيه تراب خفيف يحجب صلابته عن العين، كما أنّ الرياء يحجب صلادة القلب الخالي من الإيمان، وذهب المطر الغزير بالتراب القليل! فانكشف الحجر بجدبة ولم ينبت زرعه ولم يثمر ثمرة، كذلك القلب الذي أنفق ماله رئاء الناس، فلم يثمر خيرًا أو لم يعقب مثوبة»[62].
ينتقل الدارس من الشرح والتفسير إلى التصوير ورسم الحركات والحلقات والأوضاع، فبدا المشهد متحرّكًا معبّرًا عن ذاته حاضرًا بشخوصه كاشفًا عنها وعن بنيانها موظفًا رؤية كلية، تجمع بين المشاهد المتقابلة في موضوع واحد، «أما المنظر الثاني المقابل له في المشهد فقلب عامر بالإيمان، ندي بشاشة، {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ}[63]، ينفق ماله ابتغاء مرضاة الله، وينفقه عن ثقة ثابتة في الخير نابعة من الإيمان، عميقة الجذور في الضمير، وإذا كان القلب الصلد وعليه ستار من الرياء يمثله صفوان صلد عليه غشاء من التراب. القلب المؤمن تمثّله جنة خصبة عميقة التربة في مقابلة حفنة التراب على الصفوان، جنة تقوم على ربوة في مقابل الحجر الذي تقوم عليه حفنة التراب! ليكون المنظر متناسق الأشكال، فإذا جاء الوابل لم يذهب بالتربة الخصبة هنا كما ذهب بغشاء التراب هناك، بل أحياها وأنماها»[64].
يعقب على ذلك التناسق العجيب والتعبير الجميل، بتحليل عناصر التراكيب وإيحاءاته في ظل الحياة، «في جوّ الصورة وتماثل جزيئاتها، وفي توزيع هذه الجزيئات على الرقعة فيها، حيث يكون الصفوان تغشيه طبقة خفيفة من التراب، مثلًا للنفس المؤذية تغشيها الصدقة تبذل رياء -والرياء ستار رقيق يخفي القلب الغليظ-، وحيث توضع الجنة فوق ربوة، في مقابل الحفنة من التراب فوق الصفوان»[65].
يعمل الدارس على تحريك البصر وتقليب النظر بالمدخل الجمالي لتحقيق نوع من الحركة في عالم الواقع، وحركة في القلب وفي النفس، ومن ثم في الواقع وفي عالم الناس، وذلك يمثّل قارئًا حركيًّا، «إنه المشهد الكامل المتقابل المناظر، المتسق الجزئيات، المعروض بطريقة معجزة التناسق والأداء الممثل بمناظره الشاخصة لكل خالجة في القلب وكل خاطرة، المصور للمشاعر والوجدانات بما يقابلها من الحالات والمحسوسات، الموحي للقلب باختيار الطريق في يسر عجيب»[66].
يبرز النص السابق الآليات المستخدمة في تحليل النصوص كالتقابل، والاتّساق والتناسق والتصوير، فالتقابل يعين الدارس على التقاط الصور المتضادّة والخطوط المتعارضة، «حيث يرسم كل خطّ لوحته كاملة بكل عناصرها، فتتجاور اللوحتان في تعارض شديد وحوار صامت عنيف، فيزداد القارئ معرفة بجوهر الأشياء»[67].
ويزيد التقابل الأشياء وضوحًا وتمايزًا وانكشافًا، فهو «أمر أساسي للمعرفة الإنسانية فيه تقع الاختلافات، ولولا ذلك لوجدنا أنفسنا أمام أشياء تتوالى على نحو عشوائي، ولا تكون قابلة للإدراك»[68].
أما من الوجهة الأسلوبية فإنّ هذه الخاصية تساهم في استثمار الصور المتباينة، «ربما كانت مزية التقابل وفضله في إنتاج أدبية النص وشعريته أقوى وأظهر في كل العناصر الأسلوبية الأخرى التي لها نفس الوظيفة»[69].
يعرض الكاتب الصور المتقابلة على طريقة القرآن الكريم ويتجلّى التأثُّر واضحًا بهذا الأسلوب، «والصورة الأدبية في القرآن عُنيت عناية كبيرة بهذه المقابلة الواضحة القوية، وهذه المقارنة العميقة الدقيقة، التي تنتقل من الجزئيات إلى الكليات، حتى تتم الصورة كاملة الوضوح، بارزة المعالم، قوية التأثير»[70].
ذلك أنّ ميزة التقابل الجمالية تكمن في رصف التراكيب المتضادة، وفي تجاور المعاني المتقابلة والظلال والإيحاءات المتوازية، وهي تتداول فيما بينها في انتظام عجيب، وفي «نسق خاص، وبما فيها من إيقاع موسيقي، وانفعال نفسي، وبين ما يقابلها في صورة كلية أخرى، وهي على النقيض تمامًا على سابقتها»[71].
أما الاتّساق فهو تلك الآلية التي استعان بها الباحث لينظر في العلاقات القبلية والبعدية بين المتواليات، وليبيّن أهم الوسائل اللغوية التي تساهم في ترابط النص وتحقيق وحدته الشاملة، ففي قراءته للآيتين فقد كشف فيهما عن بنيتين: داخلية وخارجية، فالأولى تمثّلت في روابط الإحالة والحذف والوصل، أمّأ الثانية فتمثّلت في المقام أو المحيط الزراعي، وعلاقة الإنسان بالأرض وصورة الإنبات بينهما، «وتتمثّل البنية الداخلية في اعتماد الوسائل اللغوية التي تربط أواصر مقطع ما، وتكمن الخارجية في مراعاة المقام، أي أنّ المتلقي يضع في اعتباره كلّ ما يعرفه عن المحيط»[72].
والاتّساق كآلية دراسية تشمل جملة من العناصر النحوية والبلاغية والمعجمية وطرق التعبير والعرض والصوت، والمكونات الدلالية التي تحقق وحدة النص، ويتوقّف «الاتساق داخل نص ما، على شيء آخر غير البنية، بمعنى أنّ هناك علاقات معينة، إذا توافرت في نص ما، تجعل أجزاءه متآخذة مشكلة بذلك كلًّا موحّدًا. تعدّ طبيعة هذه العلاقات دلالية»[73].
لقد قامت الكتابة عند الأديب سيد قطب على مرتكزات محورية شكّلت في النهاية قاعدة هرمية ثلاثية الأبعاد يتموقع في زواياها أطراف أساسية هي: «المبدع/ العمل/ القارئ» وبها يكتمل الخطاب وتتمّ عمليات التواصل والتأثير والاستجابة الجمالية، ويتداول من خلالها انعكاسية الأثر، فالمبدع هو معلّم ماهر قادر على الاستقبال والاستجابة، وله ذائقة فنية قادرة على معايشة المواقف المتجدّدة وتصويرها في نسج لغوية في غاية الروعة والجمال، وبطريقة تمكّنه من توصيل تجربته الجديدة المؤطرة بالتشكيل الفني والقادرة على الحفر في أعماق المتلقين الذين لا يملكون في نهاية القراءة إلَّا إظهار الإعجاب وحال كل واحد منهم يقول: هذا الذي وجدته في نفسي، وهذا الذي كان يشغل فكري واستولى على فؤادي وأرّق مضجعي، بل إنّ تجربة الكاتب الجمالية قد تفتح للقرّاء أفق تجارب جديدة مع موضوع الجمال.
فالعمل الأدبي الراقي هو ذلك الذي يلتفت حوله عدد كثير من القراء معجبين بالعمل الفني ومشاركين في صنع تجارب فتية، وبذلك الأثر الجمالي المبثوث في ثنايا الخطاب والقائم في فضاء النص تنمحي الحواجز وينساب الأثر جامعًا شتات النفوس فاتحًا مغاليقها، ولا يكون ذلك إلا بفضل فنان قادر على التعمق في التجربة.
فـ«الفنان هو الذي يرى الوجود من خلال ذاته يحاول إدراكه وتغييره، والتعبير عنه، والوجود هنا بكل نواحيه طبيعية كانت أو اجتماعية أو نفسية أو فكرية»[74]، ولقد كان هدف الأديب سيد قطب أن يجدّد مناهج قراءة النص القرآني، وعمليات التلقي بطرق مداخل الأبواب الجمالية.
فالموضوع الجمالي له القدرة المدهشة على صرف اهتمامنا وإدراكنا وحصرهما في جوهره، وهو يحجب عنا كل ما يشغلنا عن ماهية الجمال، كما أنه يدمجنا داخل الأثر الفني وخصائصه، ونكون بهذا الصرف أمام الموضوع الجمالي في نوع من المشاهدة المركزة، والمواجهة الجمالية، فنعانق عالم النص وعالم الخلق، وكأنّنا في جزيرة الإبداع، ونحن في درجة عالية من التذوق والتوحّد بموضوع الجمال.
وقد طوقنا الاندهاش والإعجاب في حالة من الاستغراق وتوقف النشاط الذاتي والإرادي، فالجمال من حيث أثاره النفسية «إنّه الإحساس الذي يسري في نفوسنا متى استمتعنا بمشاهدة الجمال يتجسّد في حياتنا يغمرها في جميع مظاهرها وألوانها الطبيعية أو الصناعية»[75].
يمثّل المكون الجمالي أحد مقومات المنهج القرائي في النص الظلالي، ويعتبر من أهم الآليات القرائية لتحريك فاعلية الأثر والاستجابة واكتشاف الأبعاد الفنية والأدبية في النص. وبه وبغيره من المكونات الأخرى جسّد إنجازًا قرائيًّا منفردًا جاء لملء تلك الفجوة التي أحدثها العامل الزماني، والمصطلح القديم بين النص والمتلقي، ومن ثم يمثّل هذا العمل الحلقة التواصلية لسّد تلك الثغرة الخطيرة، وإعادة القارئ إلى الفاعلية والاستجابة.
النص الظلالي نص منفتح قابل للقراءة المنتجة وتجديد التجربة الإبداعية، فالنص الإبداعي هو الذي يُغري قارئه، فهو عالم جديد يستدعي من خلال منهجه وآلياته عوالم قابلة للإنشاء، وهذه إحدى الخصاص التي تميّز الظلال عن غيره من القراءات السابقة بخاصيتيه الأدبية والجمالية.
ومن ثمّ كانت تلك الدعوة الواضحة والصريحة من المؤلف نفسه لمعايشة التجربة الظلالية ثمّ مجاوزتها إلى الضفة الأخرى، النص الأصل «القرآن الكريم»، ولذلك يتجاوز المنهج القرائي المعادل اللغوي والمقابل الديني إلى الأثر الذي ينشئه النص في عالم النفس والحياة إلى تجلية المقاصد التي تتحقّق في محيط الإنسان، وهي من أقوى العوامل المؤثرة في المتلقي وفي منظومته الفكرية والتصورية وحاسته الجمالية، والقادرة على التوجيه والتربية والاستجابة.
يفعّل هذا المكون القرائي من خلال الاتجاه التأثيري الانطباعي المعطيات النصية في اتجاهاتها الإيحائية والدلالية لتحقيق قدر كبير من الأثر والاستجابة والفاعلية، وهو تحوّل ممّا يقوله النص إلى ما يحدثه النص، وما ينشره في النفس ومحيطها من الدلالات الغائبة عن المتلقي التي يقوم الظلال بترجمتها، ولا يتأتَّى ذلك إلَّا باستنطاق البنى النصيَّة وتقصِّي دلالتها الخفية.
فالقراءة عند هذا المؤلف نوع من الاستغراق النصِّي والحدثي، والتوحُّد بهما إلى درجة الرحلة العابرة للمكان والزمان لتحقيق نوع من التواصل الوجداني والشعوري، لإثراء التجربة الروحية، والعودة برصيد كبير من الفيوضات الربانية، وإغناء التشكيل الإبداعي الجمالي بالإيحاءات التي تصنع وعي القارئ وتوسّع دائرة الخيال المؤثرة في استجابته، وتكون قد عبّدت جسور التواصل الجمالية بالنص والمتكلّم في مواقف متجدّدة لتشكيل فضاءات إبداعية لاحتواء التجربة.
[1] كريم رمضان، فلسفة الجمال في النقد الأدبي مصطفى ناصف نموذجًا، ديوان المطبوعات الجامعية، 2009م، ص5.
[2] راوية عبد المنعم عباس، الحس الجمالي وتاريخ الفن، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، ط1، 1998م، ص9.
[3] عباس محمود العقاد، مراجعات في الأدب والفنون، بيروت: منشورات المكتبة العصرية، صيدا، 1983م، ص46.
[4] كريم رمصان، فلسفة الجمال في النقد الأدبي، ص18.
[5] عز الدين إسماعيل، الأسس الجمالية في النقد العربي، القاهرة: دار الفكر العربي، ط3، 1974، ص76.
[6] محمد قطب، منهج الفن الإسلامي، بيروت: دار الشروق، ط6، عام 1983م، ص310.
[7] كريم رمضان، فلسفة الجمال في النقد الأدبي، ص20
[8] زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية، مشكلة الفن، دار مصر للطباعة، ج3، ص190.
[9] سيد قطب، في ظلال القرآن، القاهرة-بيروت: دار الشروق، ط11، 1405هـ-1985م، طبعة منقحة مصوبة فيها إضافات تنشر للمرة الأولى، ج1، ص11.
[10] المصدر نفسه، ص13.
[11] جبرائيل سليمان جبور، كيف أفهم النقد؟ نقد وردّ، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، عام1403هـ - 1983م، ص53.
[12] في ظلال القرآن، ج4، ص2161.
[13] محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، بيروت: دار العودة، 1982م، ص310.
[14] جبرائيل سليمان جبور، كيف أفهم النقد؟ نقد وردّ، ص62.
[15] في ظلال القرآن، ج4، ص2158.
[16] نبيل راغب، مجلة الفيصل، مجلة ثقافية شهرية، ع: 67 نوفمبر 1982، ص124.
[17] زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية، مشكلة الفن، دار مصر للطباعة، ج3، ص 128.
[18] ينظر: سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، بيروت - القاهرة: دار الشروق، ط7، (1402هـ-1982م)، ص12-13.
[19] زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية، مشكلة الفن، ص191.
[20] كريب رمضان، فلسفة الجمال في النقد الأدبي ، ص 23
[21] محمد زكي العشماوي، فلسفة الجمال في الفكر المعاصر، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، 1970م، ص38.
[22] محمد زكي العشماوي، فلسفة الجمال في الفكر المعاصر، ص38
[23] في ظلال القرآن، ج4، ص2108.
[24] زكريا إبراهيم، مشكلات فلسفية، مشكلة الفن، ص38.
[25] ينظر: نبيل راغب، مجلة الفيصل، ص126.
[26] في ظلال القرآن، ج4، ص2158.
[27] علي شلق، الفن والجمال، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، عام 1984م، ص74-75.
[28] في ظلال القرآن، ج4، ص2159.
[29] في ظلال القرآن، ج4، ص2159.
[30] المصدر السابق، ص2163.
[31] راوية عبد المنعم عباس، الحس الجمالي وتاريخ الفن، ص9.
[32] في ظلال القرآن، ج1، ص13.
[33] المصدر نفسه، ج4، ص2162.
[34] راوية عبد المنعم عباس، الحس الجمالي وتاريخ الفن، ص69.
[35] علي شلق، الفن والجمال، ص75.
[36] علي شلق، الفن والجمال، ص74-75.
[37] كريب رمضان، فلسفة الجمال في النقد الأدبي.. مصطفى ناصف نموذجًا، ص57.
[38] الفارابي، كتاب السياسة، تحقيق: فوزي نجار، بيروت: المطبعة الكاثوليكية، 1964م، ص46.
[39] كريب رمضان، فلسفة الجمال في النقد الأدبي، ص59.
[40] في ظلال القرآن، ج4، ص2164.
[41] المصدر السابق، ص، ن.
[42] سورة فاطر، الآية: 27-28.
[43] في ظلال القرآن، ج5، ص2942.
[44] المصدر السابق، ص 2942.
[45] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[46] محمد مندور، الأدب وفنونه، القاهرة: نهضة مصر للطبع والنشر، 1974م، ص173.
[47] في ظلال القرآن، ج5، ص 2942
[48] كريب رمضان، فلسفة الجمال في النقد الأدبي، ص60.
[49] سورة فاطر، الآية: 28.
[50] في ظلال القرآن، ج5، ص2973.
[51] في ظلال القرآن، ج4، ص2943.
[52] ينظر: كريبب رمضان، فلسفة الجمال في النقد الأدبي ص60.
[53] ينظر: سيّد قطب، القاهرة - بيروت: النقد الأدبي أصوله ومناهجه، دار الشروق، ط2003، ص117.
[54] كريبب رمضان، فلسفة الجمال في النقد الأدبي، ص75.
[55] سيد قطب، مشاهد القيامة في القرآن، بيروت - القاهرة: دار الشروق، ط7، (1403هـ - 1983م)، ص9.
[56] سيد قطب، مشاهد القيامة في القرآن، ص12.
[57] في ظلال القرآن، ج1، ص.310.
[58] سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص87.
[59] سيد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص142.
[60] في ظلال القرآن، ج1، ص310.
[61] سورة البقرة، الآية: 263.
[62] في ظلال القرآن، ج1، ص309.
[63] سورة البقرة، الآية: 264.
[64] في ظلال القرآن، ج1، ص309.
[65] سيّد قطب، التصوير الفني في القرآن، ص40.
[66] في ظلال القرآن، ج1، ص309.
[67] بهلول شعبان، جمالية التنويع الأسلوبي، رسالة ماجستير، مرقونة، (1428هـ - 2007م)، ص128.
[68] السيد إبراهيم، نظرية الرواية، دراسة المناهج، النقد الأدبي في معالجة فنّ القصة، القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998م ص25.
[69] مختار حبار، شعر أبي مدين التلمساني، (الرؤيا والتشكيل)، دراسة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، ص149.
[70] الدكتور صلاح الدين عبد التواب، الصورة الأدبية في القرآن الكريم، -لونجمان- القاهرة: الشركة المصرية العالمية للنشر ط1، 1995م، ص135.
[71] الدكتور صلاح الدين عبد التواب، الصورة الأدبية في القرآن الكريم، ص135.
[72] محمد خطابي، لسانيات النص.. مدخل إلى انسجام الخطاب، الدار البيضاء - المغرب، بيروت - لبنان: المركز الثقافي العربي، ط2، 2006، ص14.
[73] محمد خطابي، لسانيات النص، ص16.
[74] محمد زكي العشماوي، فلسفة الجمال في الفكر المعاصر، ص38.
[75] راوية عبد المنعم عباس، الحس الجمالي وتاريخ الفن، ص6.