الدين والظمأ الأنطولوجي
حسين منصور الشيخ*
* كاتب من السعودية.
الكتاب: الدين والظمأ الأنطولوجي.
تأليف: الدكتور عبد الجبار الرفاعي.
نشر: مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد ودار التنوير – بيروت.
الطبعة: الأولى 2016م.
الصفحات: 270 من القطع الوسط.
مع أفول الحقبة الاستعمارية انشغلت معظم الدول المستعمَرة في تنظيم شؤونها الإدارية والاجتماعية لتبدأ بذلك مرحلة هي أقرب إلى الاستقلال الصوري، ذلك أن معظم هذه الدول تقاسمها نظامان مركزيّان تعايشا فيما بينهما في ظل حرب باردة، هما: النظام الرأسمالي الذي يتّكئ على منجزات الحضارة الغربية الحديثة في جوانبها العلمية والتقنية والصناعية، والنظام الشيوعي الذي يتّكئ على الفكر الماركسي ومفاعيله الأيديولوجية والثورية المناهضة لكافّة أشكال الهيمنة والاستحواذ الرأسماليين.
وقد تأثّرت المجتمعات الإسلامية، كما العديد من دول العالم الثالث، بالطروحات الماركسية وتمثّلاتها الاشتراكية والشيوعية والبعثية، وبخاصّة أن ذلك يتلاءم وحالة الرفض للنموذج الغربي الذي تركت دوله خلفها تاريخًا استعماريًّا بغيضًا مَقَتَهُ المسلمون مفضّلين عليه الخيار الماركسي ذي الطابع النضالي[1]. ومع تمكُّن هذه الطروحات، يبقى للحضور الغربي تأثيره في هذه المجتمعات، ذلك أنها كانت واقعة تحت نفوذه لحقبة زمنية طويلة، ونشأت بعض الأجيال في مؤسساته التعليمية، وظهرت العديد من مظاهر التمدّن من قبل سلطاته المحلية، وكان من الصعب إيجاد البديل المحلّي دون تأثر بالتركة الاستعمارية.
وفي مقابل التوجّهات الشرقية أو تلك الغربية، صدرت أصوات إسلامية تدعو إلى أن يكون لهذه المجتمعات هويتها ذات المرجعية الدينية المعاصرة. فظهرت محاولات سعت إلى الإفادة من المعطيات الفكرية للمدرستين الشرقية والغربية والتأصيل لها إسلاميًّا، فظهرت عناوين من قبيل: «الديموقراطية والإسلام»[2] و«الشيوعية والإسلام»[3] وغيرها من العناوين.
ﷺ أدلجة الإسلام فكرًا وممارسة
ومن الطبيعي ألَّا يكون التأثر بهذه التيارات على صورة واحدة أو مستوى واحد، إذ يتأثر أحد المفكرين بإحدى مفردات هذا التيّار أو ذاك، فيما تتأثّر حركة إسلامية بمفردة أخرى أو بمجموعة من المفردات. وممّا فرض حضوره على الخطاب الإسلامي المعاصر –بفعل الحضور الماركسي– هو: أدلجة الإسلام فكرًا وممارسةً. فـ«الأيديولوجيا
«Ideology (E)» «Idéologie (F)»: معنى ماركسي»[4]، كما يشير إلى ذلك المعجم الفلسفي.
وتأثّرًا بذلك، أصبح الانتماء إلى الإسلام يشير تارةً إلى مجرّد التعبُّد الفردي بين الإنسان وخالقه، وتارة إلى الالتزام الفكري الذي تغطّي فيه النظرة الإسلامية كافة مناحي الحياة، بما في ذلك الشأن الاجتماعي والتنظيم السياسي، وهو بهذا المعنى يقابل الأيديولوجية الماركسية من جهة، والنظام الرأسمالي من جهة أخرى.
وكما تمثّل هذه الاندفاعة نحو تطبيق الإسلام جانبًا إيجابيًّا في مقابل تبنّي الخيارات الفكرية الأخرى، يعُدُّ الدكتور عبد الجبار الرفاعي –في كتابه موضوع القراءة- «الصياغة الأيديولوجية للدين سببًا في تخفيض طاقته المقدّسة، وذلك بعد أن تهتك العالم وتُطفئ شعلة الروح التي يتلمّسها الإنسان فيه، وتجفف منابع ما يولّد معنى المعنى في مداراته، فيصاب الكائن البشري بالسأم والإحباط والضجر والغثيان، بعد أن يموت كل شيء من حوله، ويفتقر إلى ما يلهمه مزيدًا من الطاقة»[5].
وليبيّن أثر أدلجة الدين على المجتمعات، يقول الرفاعي: «ما وَضَع الدينَ اليوم في مأزق تاريخي: ترحيلُهُ من مجاله الأنطولوجي إلى المجال الأيديولوجي، هذا من جهة، ومن جهة أخرى، ازدراء بعض النخب للدين واحتقارهم للتديّن، إثر الفهم الساذج المبتذل لحقيقة الدين في فهمهم، والصدور -في أحكامهم– عن نمط التديّن الأيديولوجي الشائع» [ص 10].
وبديلًا عن الأدلجة، يقترح الدكتور الرفاعي تعميق الرؤية الدينية إلى المناحي الأخرى للدين، وبخاصّة الجوانب الأنطولوجية فيه؛ ذلك أنّ «دراسة الدين في بعده الأنطولوجي ينقلنا إلى أفق بديل يكشف الحضور الحقيقي للدين في كيان الكائن البشري وحاجاته الوجودية الدفينة إلى ما يروي ظمأه الأنطولوجي للمقدّس، ويفضح كل توظيف زائف للدين في صراعات المال والنفوذ والقوّة والهيمنة» [ص 11].
إن تركيز البعد الأيديولوجي للدين في ظلّ غياب الجوانب المعنوية والروحية التي تكتنزها المعطيات الدينية وتمتلئ بها نصوصه الدينية يُغَيِّبُ في الإنسان فرادته وذاتيته التي تختلف من إنسان إلى آخر، وتُذَوِّبُه في روح الجماعة وأتباع الحركة، كما أنها تغيّب النزعة الإنسانية في الأديان. ولهذا افتتح الرفاعي فصول كتابه بـ«نسيان الذات»، حيث «تتجاهل أدبيات الجماعات والأحزاب فردية الكائن البشري، ولا تتحدّث عن الهوية الشخصية عادةً. وهو ما يبدو ماثلًا في أدبيات الأحزاب اليسارية والقومية والجماعات الإسلامية التي تتعاطى مع الفرد بوصفه عنصرًا يذوب في مركّب الجماعة، وليس بوصفه وجودًا حقيقيًّا مستقلًا خارج إطارها، وتشدّد في مقولاتها وشعاراتها وتربيتها على أنّ مهمّة كل شخص في الحياة: الامتثال لما يؤمر به، والتنكّر لذاته، والذوبان في المركّب» [ص 17].
مع أن «الإنسان يولد بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألّم بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميره بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويلحد بمفرده. ويجتاحه بمفرده أيضًا: القلق، واليأس، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الروح، وانطفاء القلب، والسوداوية، والعدمية، والجنون... إلخ» [ص 15 – 16].
وعن نواتج تركيز الأيديولوجيا على حساب الأنطولوجيا، يشير المؤلف إلى أنه «في هذه المناخات لا يستفيق وعي الناس، ولا يستطيعون مواجهة ذواتهم، ويغرقون في تنويم وذهول، ينسون فيه أنفسهم، فضلًا عن حاضرهم ومصيرهم. وينخرط الناس في أزمات ومعضلات ومتاعب المجتمع، ولا يكفّون عن الاستغراق فيها كل يوم، والتورّط في كل ما هو خارج ذواتهم، فيما تغيب الذات، وربّما تُمحى نهائيًّا» [ص 21]، بل إن الرفاعي يشدّد على أن «اكتشاف العالم يبدأ باكتشاف الذات، وأن وعي العالم يبدأ بوعي الذات،... وأن من يفشل في إخماد حرائق ذاته يتعذّر عليه إخماد حرائق العالم» [ص 23 – 24].
معللًا بعض المآزق التي نعيشها نتيجة لغياب الأنطولوجيا في البعد الديني، فيقول: «منطق الفكر الوثوقي ينشأ من شعور المرء بوجود وجهٍ واحد للحقيقة، وطريق خاص به لاكتشافها، وهو ما يسوقه للاعتقاد بامتلاك الحقيقة المطلقة، واستباحة كل فعل عدواني ينتهك الأخلاق والدين. من هنا يصبح تأويل النصوص الدينية -في سياق رهانات العصر– ضرورةً تفرضها الحاجة لإلغاء المسافة الثقافية بين الماضي والحاضر، وتحرير النصوص من الاغتراب التاريخي، ومن كل التأويلات والتفسيرات والشروح التي تطمس ما تكتنزه هذه النصوص من بؤر مضيئة ورؤًى ومفاهيم ساميةٍ تنتج ألفةً وانسجامًا وتناغمًا بين هذه النصوص وعصرنا» [ص 27 – 28].
وبعد حديثه عن المفردة الأولى، وهي غياب الذات في الخطاب الإسلامي، ينتقل إلى الحديث عن غياب النزعة الإنسانية في الفصل الثاني الذي سمّاه: «نسيان الإنسان» الذي انطلق فيه من الحديث عن سيرته الذاتية، لتكون مدخلًا للإشارة إلى تجربته في انضمامه إلى الحركات الإسلامية، حيث تغيب في أدبيات هذه الحركات الأبعاد الدينية التي تغذي النزعة الإنسانية لدى المتديّن، حيث يدعو في هذا الفصل إلى تفسيرٍ للدين «لا يختزله في المدوّنة الفقهية فقط، ولا يقوم بترحيله من حقله الروحي المعنوي القيمي الأخلاقي إلى حقل آخر، يتغلب فيه القانون على الروح، ويصبح الدين أيديولوجية سياسية صراعية، أو أيديولوجية تهدر طاقاته الرمزية والجمالية والروحية والمعنوية.
يسعى هذا التفسير إلى اكتشاف وظيفة الدين الأصيلة في إنتاج معنى لحياة الإنسان. وهي وظيفة عجزت معظم الجماعات الإسلامية اليوم عن إدراكها، وأغرقت نفسها ومجتمعاتها في نزاعات ومعارك يتجلى فيها كل شيء، سوى الأخلاق، وقيم التراحم والمحبة في الدين» [ص 94].
ثم يشرح ما يريده من النزعة الإنسانية في الدين، فيقول: «أعني بـ(الإنسانية في الدين): تجديد الصلة بالله، وذلك يبدأ بتجديد الصلة بالإنسان، لكن الغائب الأكبر هو الإنسان في خطاب معظم الجماعات الإسلامية، وبعض المبشرين بالأديان.
أعني بـ(الإنسانية في الدين): الخلاص والتحرّر من (نسيان الإنسان) في أدبيات الجماعات الإسلامية والدعوة، والاعتراف ببشريته ومكانته في الأرض، وتصحيح نمط علاقته بربه، وتحويلها من صراع مسكون بالخوف والرعب والقلق، إلى علاقة تتكلم لغة المحبة وتبتهج بالوصال مع معشوق جميل» [ص 94 – 95]. ويستمر في بيانه للمعاني الإنسانية الغائبة في الدين والتي يطالب باستحضارها في الخطاب الإسلامي المعاصر، وذلك بهدف استرجاع مكان الإنسان في هذا الخطاب.
بعدها ينتقل في الفصل الثالث للحديث عن تجربة الدكتور علي شريعتي التي يدعو فيها إلى قراءة هذه التجربة بكل موضوعية وتجرّد، ذلك أنه يأخذ على هذه التجربة إيغالها في أدلجة الخطاب الإسلامي متأثرة في حينها بالأيديولوجية الماركسية، وهو ما يدعو الرفاعي إلى تجاوزه للانطلاق إلى إبراز الجوانب الأنطولوجية في الدين وما يكتنزه من معنويات عالية تسمو بالإنسان فردًا وجماعة. يقول حول تجربة شريعتي: «مع أن قراءة شريعتي الأيديولوجية تلتقي بالماركسية، غير أنه عمل على تلوينها دينيًّا، فعمد إلى تفسير وتأويل النصوص والرموز والمواقف والأحداث وسلوك الشخصيات الكبيرة في الإسلام في ضوء ما يتناغم مع مطمحه في أدلجة الدين. فشخصيات، مثل: علي بن أبي طالب والحسين وزينب وأبي ذر، هي نماذج ثورية، نقدية توعوية، تغييرية، ومفاهيم: الجهاد والشهادة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي إطار المجتمع اللاطبقي التوحيدي الذي يقوم بالقسط والعدل بين الناس» [ص 124 – 125].
كما يقول منتقدًا تجربته: «شريعتي غالبًا ما ينسى الذات، فيقفز للتفكير في المجتمع، يفتّش مباشرة عن رسالة للدين في المجتمع، بل يريد أن يرى أثرًا إيجابيًّا للدين هناك، فيرحّل الدين مباشرة إلى المجتمع، من دون أن يمرّ بصناعة الذات.
الدين لا تتحقّق مهمّته في المجتمع إلَّا من خلال إعادة بناء الذات، بالمعني الأنطولوجي العميق. بمعنى أن إفقار الذات إفقار للمجتمع، وإعادة بناء المجتمع تبدأ بإعادة بناء الذات» [ص 148].
ويؤكد ما بدأ به كتابه في الفصل الرابع الذي عنونه بـ(التجربة الدينية والظمأ الأنطولوجي للمقدّس)، فيقول: «إن معنى كون الدين يشتغل على إرواء الظمأ الأنطولوجي هو: أنه يشبع حاجاتٍ لا يمكن أن يشبعها العقلُ والخبرة البشرية، إنه يهتمّ بأزمة المعنى وسبل معالجتها، إنه يعالج فقدان معنى الحياة في عالم اليوم، وكيفية إنتاج هذا المعنى. وأية محاولة لنسيان مهمته في بناء الذات وإقحامه في مجالات أخرى، يتحوّل معها إلى وحش مفترس وسمّ زعاف يُفسد كل شيء» [ص 173].
وهي نقطة يؤكدها من جديد في فصول الكتاب التالية. ولكن ما قد يؤخذ على الكتاب أنه ذهب إلى إرجاع العديد من الأزمات التي تعيشها المجتمعات الإسلامية إلى غياب النظرة الأنطولوجية للدين وتعميقها والتركيز على الجوانب الفقهية والكلامية في الإسلام، وترحيله التدين من حالته الأنطولوجية إلى الأيديولوجية. وقد وقف عند هذه النقطة في التحليل، ولا يبعد أن غياب ذلك يعود لعوامل تاريخية واجتماعية، وكذلك سياسية، ركّزت جانبًا معينًا على حساب جوانب أخرى، وهو ما لم تتطرّق إليه فصول الكتاب بالدراسة والتحليل.
[1] اقرأ حول هذه الفكرة: الحضارة الإسلامية بين دواعي النهوض وموانع التقدّم، الدكتور عبد الهادي الفضلي، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي – بيروت، ط1، 2013، ص 207 – 214.
[2] مما صدر مبكّرًا في ذلك: كتاب «الديمقراطية في الإسلام» للكاتب المصري عباس محمود العقّاد، سنة 1952م.
[3] مما صدر مبكّرًا: كتاب «الشيوعية والإنسانية في شريعة الإسلام»، للعقّاد أيضًا، سنة 1955. وكتاب: «اشتراكية الإسلام» الدكتور مصطفى السباعي، سنة 1959م.
[4] المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية - القاهرة، ط 1982م، ص 29، مادة (أيديولوجيا). والمعجم الكبير، مجمع اللغة العربية - القاهرة، ط2، 2006م، ج1/ 645، مادة (أيديولوجيا).
[5] ص 10 من الكتاب.