على ضوء تحوُّلات الربيع العربي
كيف يُبنى الاستقرار السياسي في الدول العربية؟
محمد محفوظ
مفتتح
يُغري المشهد العربي، وبالذات منذ انطلاق تحوّلات الربيع العربي ومتوالياتها السياسية والاجتماعية والأمنية، إلى معاودة النظر في مفهوم الاستقرار السياسي، وما هي السبل الحقيقية لإنجازه في أي بلد عربي؟ وهل تغوّل السلطة السياسية وأجهزتها الأمنية، ورفض مستويات المشاركة الشعبية في الحكم والشأن السياسي، يعدّ ضمانة للحفاظ على الأمن والاستقرار السياسي؟ أم أن تجربة الربيع العربي أثبتت عكس ذلك تمامًا؟
فالسلطات السياسية مهما أوتيت من قدرة عسكرية وقوة أمنية، إلَّا أنها إذا انفصلت عن شعبها، وأضحت تطلّعات شعبها بعيدة أو غير منسجمة مع تطلّعاتها، فإن النتيجة أن ما تمتلكه السلطة من قوة، هي قوة خادعة. بمعنى، ليست كافية لإنجاز مفهوم الاستقرار السياسي العميق. لأن ثمة شروط مختلفة في كل التجارب السياسية لتحقيق مفهوم الاستقرار السياسي. وهي شروط متعلّقة بمستوى رضا الشعب عن سلطته السياسية، ومدى قدرة السلطة على تلبية حاجات وتطلّعات الشعب على المستويين السياسي والاقتصادي.
ولكي نجيب عن هذا السؤال الحيوي والمركزي في آن على ضوء تحوّلات الربيع العربي، سنؤسس لمقاربة الإجابة من خلال العناوين الفرعية التالية:
1- في معنى الاستقرار السياسي.
2- الديمقراطية والاستقرار السياسي.
3- العدالة والاستقرار السياسي.
4- مفهوم قوة الدولة وضعفها.
في معنى الاستقرار السياسي
كثيرة هي الحقائق والمعطيات الموجودة في المشهد السياسي الإقليمي والدولي التي تؤكّد أن الاستقرار السياسي في الدول الحديثة اليوم، لا يمكن تحقيقه بالقمع والغطرسة وتجاهل حاجات الناس وتطلّعاتهم المشروعة. فالترسانة العسكرية ليست هي وسيلة جلب الاستقرار وحفظه. كما أن زهو القوة وخيلاءها وأوهامها، ليس هو الذي ينجز مفهوم الاستقرار.. فالعديد من الدول تمتلك ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية متطوّرة، وكل مظاهر القوة المادية إلَّا أن استقرارها السياسي هشّ وضعيف، ومع أي ضغط أو تحوّل، نجد التداعي والاهتراء والضعف.
وفي المقابل نجد دولًا لا تمتلك أسلحة عسكرية ضخمة، ولا مؤسسة أمنية متطوّرة، إلَّا أن استقرارها صلب ومتين، وقادرة بإمكاناتها الذاتية من مواجهة الأزمات ومقاومة المؤامرات، وحفظ استقرارها وأمنها العام..
فالاستقرار السياسي في جوهره ومضمونه، ليس وليد القوة العسكرية والأمنية، مع ضرورة ذلك في عملية الأمن والاستقرار، وإنما هو وليد تدابير سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية، تجعل من كل قوى المجتمع وفئاته عينًا ساهرة على الأمن ورافدًا أساسيًّا من روافد الاستقرار. وتُخطئ الدول وترتكب حماقة تاريخية بحق نفسها وشعبها، حينما تتعامل مع مفهوم الاستقرار السياسي بوصفه المزيد من تكديس الأسلحة أو بناء الأجهزة الأمنية، فالاستقرار الحقيقي يتطلَّب خطوات سياسية حقيقية تعمّق من خيار الثقة المتبادلة بين السلطة والمجتمع، وتُشرك جميع الشرائح والفئات في عملية البناء والتسيير.
ولذلك نجد أن الدول المتقدّمة عسكريًّا وأمنيًّا والمتخلّفة سياسيًّا، هي التي يهتز فيها الاستقرار السياسي لأبسط الأسباب والعوامل، أما الدول التي تعيش حياة سياسية فعّالة، وتشترك قوى المجتمع في الحقل العام وفق أسس ومبادئ واضحة، هي الدول المستقرة والمتماسكة والتي تتمكّن من مواجهة كل مؤامرات الأعداء ومخططاتهم.
فقوة الدول واستقرارها اليوم، لا يمكن أن تقاس بحجم الأسلحة وقوة الترسانة العسكرية أو عدد الأجهزة الأمنية، وإنما تقاس بمستوى الرضا الشعبي وبمستوى الثقة وبمستوى الحياة السياسية الداخلية، التي تفسح المجال لكل الطاقات والكفاءات للمشاركة في الحياة العامة.
فالاستقرار السياسي اليوم لا يتأتَّى بالمزيد من الإجراءات الاحترازية أو تكثير لائحة الممنوعات والاستثناءات، وإنما ببناء حياة سياسية حقيقية تتنافس فيها الأفكار والتصوّرات والمشروعات بوسائل سلمية – ديمقراطية.
فالعراق هذا البلد القوي على الصعيدين الأمني والعسكري، لم يستطع أن يحافظ على نظامه السياسي الشمولي، لكون المجتمع هو الضحية الأولى لهذا النظام القمعي والشمولي.
فالاستقرار السياسي ومن وحي التجربة العراقية والتجارب السياسية الأخرى، لا يأتي من خلال نظام شمولي، يقمع الناس ويئد تطلّعاتهم ويحارب مصالحهم الحقيقية. لذلك نجد أن الدول التي تُحكم بأنظمة قمعية وشمولية، هي المهدّدة أكثر في أمنها واستقرارها.
فالأمن المجرّد لا يُفضي إلى الاستقرار، والقوة العسكرية بوحدها لا تتمكّن من مواجهة تحديات المرحلة؛ لهذا كله فإننا ندعو كل الدول العربية والإسلامية، إلى إعادة صياغة وعيها وفهمها لمقولة الاستقرار السياسي، لأن الرؤية التي ترى أن سبيل الاستقرار هو المزيد من الإجراءات والاحترازات والتضييق على حريات الناس، رؤية أثبتت التجربة قصورها وخطأها. فالقمع لا يصنع أمنًا واستقرارًا، بل يضاعف من عوامل وأسباب الانفجار السياسي والاجتماعي.
لهذا فإن المجالين العربي والإسلامي اليوم، بحاجة إلى صياغة رؤية ووعي جديدين، تجاه مسألة الاستقرار السياسي؛ لأن الرؤية السائدة في الكثير من الدول والبلدان لم تحقّق الاستقرار، بل على العكس من ذلك تمامًا، إذ إن أي خطر داخلي أو خارجي حقيقي كشف وَهْمَ الاستقرار الذي كانت تعيشه العديد من الدول والبلدان.
وفي تقديرنا ورؤيتنا أن مكونات الاستقرار السياسي في المجالين العربي والإسلامي هي:
1- وجود مصالحة حقيقية بين مشروع السلطة ومشروع المجتمع، بحيث إن كل طرف يقوم بدوره الطبيعي في عملية البناء والعمران. فالاستقرار السياسي لا يمكن أن يتحقّق على الصعيد الواقعي بعيدًا عن انسجام الخيارات السياسية والثقافية بين السلطة والمجتمع. والدول التي تعيش حالة حقيقية من الوئام والانسجام على صعيد الرؤية والخيارات بين السلطة والمجتمع، هي الدول المستقرة والقادرة على مواجهة كل التحديات والمخاطر.
لذلك فإننا نرى أهمية أن تخطو الدول العربية والإسلامية والمهدّدة في أمنها واستقرارها، إلى بلورة مشروع وطني متكامل للمصالحة بين السلطة والمجتمع، فالاستقرار السياسي الحقيقي يكمن في مستوى الانسجام السياسي والاستراتيجي بين السلطة والمجتمع.
2- وجود الثقة المتبادلة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع. فالأنظمة التي لا تثق بشعبها أو الشعب الذي لا يثق بحكومته، فإنه مهدّد بشكل حقيقي في أمنه واستقراره؛ لأن الأمن الحقيقي والاستقرار العميق هو الذي يستند إلى حقيقة راسخة وهي توفر الثقة العميقة والمتبادلة بين السلطة والمجتمع. هذه الثقة هي التي تنمح القوة لكلا الطرفين. فقوة المجتمع في انسجامه السياسي مع نظامه السياسي، وقوة النظام السياسي في ثقة المجتمع به وبخياراته السياسية والاستراتيجية؛ لذلك فإن الاستقرار السياسي يتطلّب وبشكل دائم العمل على غرس بذور الثقة بين السلطة والمجتمع.
ولا ريب أن خلق الثقة المتبادلة بين الطرفين، يحتاج إلى مبادرات حقيقية وانفتاح متواصل ومستديم بين مختلف القوى، حتى يتوفر المناخ المؤاتي للثقة والرضا المتبادل بين السلطة والمجتمع.
3- توفر الحريات السياسية والثقافية.. فلو تأمّلنا في العديد من التجارب السياسية على هذا الصعيد، لاكتشفنا وبشكل لا لبس فيه أن الدول التي تتوفر فيها حريات وتمنح شعبها بعض الحقوق، هي الدول المستقرة والتي تتمكن من مواجهة التحديات والمخاطر. أما الدول التي تمارس السياسة بعقلية الاستئصال والتوحّش وتمنع شعبها من بعض حقوقه ومكتسباته السياسية فإنها دول مهدّدة في استقرارها وأمنها؛ لأنه لا يمكن لأي شعب أن يدافع عن دولة هو أول ضحاياها. لهذا فإن الاستقرار السياسي هو وليد طبيعي لتوفر الحريات في الداخل العربي والإسلامي.
ومن يبحث عن الاستقرار السياسي بعيدًا عن ذلك، فإنه لن يحصل إلَّا على أوهام القوة والاستقرار. واللحظة التاريخية التي نعيشها اليوم على أكثر من صعيد، تتطلّب تجديد فهمنا ووعينا لمعنى الاستقرار السياسي، والانخراط الفعلي في بناء المكونات الأساسية لخيار الأمن والاستقرار.
فكل التحديات والمخاطر لا يمكن مواجهتها إلَّا باستقرار سياسي عميق، ولا استقرار حقيقي إلَّا بديمقراطية وتنمية مستدامة؛ لذلك فإن الخطوة الأولى والاستراتيجية في مشروع مواجهة تحديات المرحلة ومخاطرها المتعدّدة هو بناء أمننا واستقرارنا على أسس ومبادئ حقيقية تزيدنا منعة وصلابة وقدرة على المواجهة.
الديمقراطية والاستقرار السياسي
وعديدة هي الدول والنخب السائدة، التي تعتقد أن سبيل استقرارها، واستمرار سيطرتها وهيمنتها على مجتمعها، هو بالمزيد من الإجراءات والأنظمة التي تكبّل المواطنين وتمنعهم من حرية الحركة وتحول دون ممارسة الكثير من حقوقهم ومكتسباتهم المدنية.
لذلك فإن هؤلاء يتعاملون مع مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي بوصفه صنو الأمن وتوأم تقييد الحريات وملازمًا للكثير من الإجراءات المقيّدة للحريات والمانعة من ممارسة الحقوق. وعلى ضوء هذا الفهم للاستقرار وطريق الوصول إليه، فإن هذه النخب مع أي مشكلة تتعرّض لها أو أزمة تصيبها، لا تفكر في أسبابها الحقيقية وموجباتها العميقة، وإنما تعمل على زيادة الاحتياطات والاحترازات الأمنية، وكأن غياب الاستقرار أو تعرّضه لبعض الهزّات، هو من جراء تراخي الأمن.
وهكذا فإن هذه الرؤية تتعاطى مع مسألة الاستقرار ليس بوصفه محصّلة نهائية للعديد من الشروط الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية، وإنما بوصفه نتاج القوة المادية وممارستها تجاه الفئات أو النخب الاجتماعية الأخرى.
ومن هنا نفهم طبيعة الخوف والحذر الذي تُبديه النخب السائدة في العديد من الدول، من الحرية وتوسيع حقائقها وآليات عملها في الفضاء الاجتماعي. فتجعل وفق هذا المنطق قيمة الاستقرار مناقضة لقيمة الحرية وحقوق الإنسان. وإذا أردنا الاستقرار فعلينا أن نُضحي بقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. ولا سبيل إلى الجمع بين هذه القيم في الفضاء الاجتماعي. فيتم شراء الاستقرار بمنع الحرية وبانتهاك حقوق الإنسان الأساسية. وهكذا توفرت في العديد من الدول تقاليد لتعزيز الاستقرار السياسي والاجتماعي، مؤدّى هذه التقاليد هو أن طريق الاستقرار هو التضحية بحريات الناس وحقوقهم الأساسية وبالمزيد من تعظيم دور الإجراءات التنفيذية والعملية كمقيد لحركة الناس وحرياتهم.
وفي مقابل هذه الرؤية التي تتعاطى مع مفهوم الاستقرار من زاوية أمنية محضة، هناك رؤية أخرى تحاول أن توفّق بين مطلب الاستقرار السياسي والاجتماعي وضرورات الحرية ومتطلّبات صيانة حقوق الإنسان. وأنه لا تناقض جوهري بين هذه الضرورات والمتطلّبات والاستقرار السياسي والاجتماعي. بل على العكس من ذلك تمامًا. حيث إن طريق الاستقرار الحقيقي لا يمرّ إلَّا عبر بوابة ممارسة الحرية ونيل الحقوق والمكاسب المدنية. وإن أي محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية، بين الأمن وحقوق الإنسان، سيفضي إلى المزيد من تدهور الأوضاع وانهدام أسباب الاستقرار الحقيقية.
ويُخطئ من يتصوّر أن طريق الاستقرار يمرّ عبر التضحية بحريات الناس أو التعدّي على حقوقهم؛ وذلك لأن هذه الممارسات بتأثيراتها المتعدّدة وانعكاساتها المتباينة، ستزيد من فرص عدم الاستقرار وتدهور الأوضاع.
فالطريق إلى الاستقرار السياسي والاجتماعي هو ممارسة الحرية وصيانة الحقوق الإنسانية والمدنية.
ولذلك نجد في المشهد السياسي العالمي أن الدول التي تُنتهك فيها الحقوق وتنعدم فيها فرص ممارسة الحرية والديمقراطية، هي ذاتها الدول التي تعاني الأزمات السياسية والاقتصادية، وتعيش الاضطرابات الاجتماعية، وتعاني الأمرين من جراء غياب معنى الاستقرار السياسي والاجتماعي الحقيقي.
أما الدول الديمقراطية التي تصون حقوق مواطنيها وتعمل على تعزيز فرص المشاركة لدى مختلف فئات المجتمع في الحياة العامة، هي الدول التي تعيش الاستقرار والأمن، وهي البعيدة عن موجبات الاندحار وأسباب تدهور الأوضاع.
فالتجارب السياسية والاجتماعية في العديد من مناطق العالم، تعلّمنا أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، ليس المزيد من تقييد الحريات، وإنما بصيانة الحرية وتعزيز وقائع وحقائق حقوق الإنسان في الفضاء الاجتماعي، فكلما توفرت أسباب الحرية وصيانة الحقوق الأساسية في الفضاء الاجتماعي، اضمحلت أسباب الأزمة وتلاشت عوامل النكوص وتدهور الأوضاع. وخطيئة تاريخية وحضارية كبرى حينما يتمّ التعامل مع مفهوم الاستقرار وكأنه مناقض لمفهوم الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لأن هذا الفهم هو الذي يقود إلى الاستبداد بكل صنوفه، بدعوى المحافظة على الاستقرار. ولكن ومن خلال تجارب العديد من الأمم والشعوب فإن الاستبداد يحمل في بنيته وأحشائه كل عوامل الاضطراب وأسباب الفتن وموجبات التفكك السياسي والاجتماعي. فبدون معادلة متوازنة بين الاستقرار والحرية، بين السلطة وحقوق الإنسان، لن تتمكن مجتمعاتنا العربية والإسلامية من صيانة استقرارها والمحافظة على أمنها الوطني والقومي.
وكل محاولة لفك الارتباط بين الاستقرار والحرية، أو السلطة وحقوق الإنسان، هي في المحصلة النهائية دقّ إسفين في مشروع الاستقرار السياسي والاجتماعي؛ لأنه لا يمكن أن نحصل على الاستقرار الحقيقي بانتهاك الحقوق وتكميم الأفواه، لأن هذه تزيد من تدهور الأوضاع وتؤسّس على الصعيدين السياسي والاجتماعي لكل أسباب الاضطراب والفوضى والتمرّد. فالعلاقة جدُّ عميقة بين الاستقرار والحرية، فلا حرية بدون استقرار سياسي واجتماعي واقتصادي، كما أنه لا استقرار بدون حرية مؤسسية تسمح لجميع المواطنين من المشاركة في إدارة وتسيير شؤون حياتهم المختلفة.
ولعلنا لا نبالغ حين القول: إن العديد من أزماتنا ومشاكلنا في المجالين العربي والإسلامي، هي من جرّاء الخلل في العلاقة بين الاستقرار والحرية. فالنخب السائدة تسعى من خلال عملها وإجراءاتها إلى تلبية حاجات أحد الأطراف وهو الاستقرار، حتى ولو كانت هذه التلبية على حساب متطلّبات وقواعد الحرية.
والنخب السياسية والاجتماعية الأخرى تكافح أيضًا من أجل الحرية دون الأخذ بعين الاعتبار قواعد الاستقرار السياسي والاجتماعي. وهكذا ومن خلال هذا الخلل ينتج الكثير من المشاكل والأزمات. فالإجراءات التي لا تتحدّد بسقف الحرية وحقوق الإنسان، تكون إجراءات ظالمة ومفزعة ومؤسّسة للحروب الداخلية الكامنة والصريحة. كما أن المطالبة بالديمقراطية التي لا تراعي قواعد اللعبة وثوابت المجتمع والوطن، تفضي إلى صراع مفتوح يضيع فيه الاستقرار، كما تتضاءل فيه فرص الحرية والديمقراطية؛ لذلك فإن عالمنا العربي، وهو في سياق تحرّره من أزماته الداخلية ومشاكله الذاتية، هو بحاجة إلى إعادة تنظيم العلاقة بين الاستقرار وحاجاته، والحرية ومتطلّباتها.
لأن العلاقة الإيجابية والدينامية بين الاستقرار والحرية، هي البداية الصحيحة للخروج من أزمات الراهن بأقل خسائر ممكنة. وهنا يتطلّب أن تلتفت النخب العربية والإسلامية السائدة إلى متطلبات الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، كما يتطلّب من قوى المجتمع الأخرى أن تأخذ بعين الاعتبار وتحترم حاجات الاستقرار السياسي والاجتماعي، فنحن بحاجة إلى أن نلتفت إلى متطلّبات الحرية، دون دفع الأمور إلى الفوضى والصراعات المفتوحة، كما نحترم قواعد الاستقرار دون التحجّر والجمود واليباس.
فالمطلوب علاقة تفاعلية ودينامية بين متطلّبات الحرية وحاجات الاستقرار. وذلك من أجل أن ينطلق مجتمعنا في التغيير والتطوير على قواعد متينة من الاستقرار الاجتماعي، وإن التطوّرات المتسارعة التي تجري في المنطقة اليوم، تجعلنا نؤكّد أن طريق الاستقرار السياسي والاجتماعي، لا يمرّ عبر المزيد من الإجراءات والاحترازات الأمنية مع أهميتها وضرورتها، وإنما عبر إعادة تشكيل الحياة السياسية بحيث يتسنّى لجميع قوى المجتمع وتعبيراته المشاركة في بناء الوطن وتعزيز وحدته الداخلية وتمتين أواصر العلاقات بين مختلف المكونات.
فالاستقرار السياسي والاجتماعي اليوم، في الكثير من البلدان العربية والإسلامية، بحاجة إلى حزمة من الإجراءات والخطوات السياسية، التي تستهدف رفع الاحتقانات الداخلية وبلورة الأطر والمؤسسات للمشاركة الشعبية وإعادة تأسيس العلاقة بين متطلبات الحرية ومشاركة الناس في شؤون حياتهم المختلفة وحاجات الاستقرار والنظام، بحيث لا تقود خطوات الإصلاح إلى فوضى، بل إلى بناء متراكم وعمل وطني متواصل، يستهدف تطوير التجربة وتحديثها، وإزالة عناصر الخلل والضعف منها.
وهذه المهام ليست مستحيلة، وإنما هي ممكنة وتتطلّب من جميع الأطراف الاهتمام بالنقاط التالية:
1- إن القوة الحقيقية اليوم في أي مجتمع، لا تقاس بمستوى الكفاءة العسكرية أو الإجراءات الأمنية المحكمة، وإنما تقاس القوة اليوم بمستوى الانسجام والرضا بين مؤسسة الدولة والمجتمع بكل مكوناته وتعبيراته. فالدولة التي تمتلك أحدث الأسلحة، ولكنها منفصلة أو مفصولة عن شعبها هي دولة ضعيفة؛ وذلك لأن قوتها الحقيقية ليس في الأسلحة والمعدات العسكرية، وإنما في رضا المجتمع عنها، وفي كفاح المجتمع في الدفاع عنها بكل مؤسساتها وهياكلها. والدولة التي لا تمتلك الأسلحة الحديثة ولا الثروات الطبيعية الهائلة، إلَّا أنها تعبير حقيقي عن مجتمعها، فهي دولة قوية لأنها محتضنة من قبل شعبها ومجتمعها. فقوة الدول ليس في ترسانتها العسكرية، بل في انسجامها مع مجتمعها في خياراتها ومشروعاتها. لذلك كله فإن استقرار الدول اليوم مرهون إلى حد بعيد على قدرة هذه الدول في التفاعل مع قضايا مجتمعها والتعبير عن تطلّعاته وحاجاته.
2- إن بناء العلاقة الإيجابية والمتطوّرة بين الدولة والمجتمع في المجال العربي، بحاجة إلى جهود مشتركة بين الطرفين. فالدولة تتحمّل مسؤولية مباشرة في خلق الأجواء والوقائع التي تدفع الواقع صوب التفاعل الإيجابي بين الدولة والمجتمع. كما أن المجتمع بقواه المتعدّدة يتحمّل مسؤولية مباشرة في إطار تطوير العلاقة بين الدولة والمجتمع في التجربة العربية المعاصرة. فمؤسسات المجتمع المدني ليست بديلًا عن الدولة، كما أن مؤسسات الدولة ليست بديلًا عن فعاليات المجتمع الأهلية والمدنية. فالاستقرار السياسي والاجتماعي بحاجة إلى جهود مشتركة ونوعية تقوم بها مؤسسات الدولة كما يقوم بها المجتمع عبر مؤسساته الأهلية والمدنية. فالاستقرار هو نتاج عمل متواصل ومتراكم يتّجه صوب تعزيز حرية الإنسان وحقوقه الأساسية، كما أنه لا يُغفل أو يتجاهل حاجات المجتمع إلى الأمن والاستقرار.
فالطريق إلى استقرار أوضاع العالم العربي اليوم، بحاجة إلى مبادرات وطنية نوعية، تتّجه صوب إصلاح الأوضاع وتدشين مرحلة سياسية جديدة قوامها ممارسة الحريات وصيانة حقوق الإنسان.
العدالة والاستقرار السياسي
ثمّة علاقة عميقة، وعلى أكثر من مستوى، تربط قيمة الاستقرار السياسي والاجتماعي في أي تجربة إنسانية، وقيمة العدالة. بمعنى أن كل المجتمعات الإنسانية تنشد الاستقرار، وتعمل إليه، وتطمح إلى حقائقه في واقعها، إلَّا أن هذه المجتمعات الإنسانية، تتباين وتختلف في الطرق التي تسلكها، والسبل التي تنتهجها للوصول إلى حقيقة الاستقرار السياسي والاجتماعي.
فالمجتمعات الإنسانية المتقدّمة حضاريًّا، تعتمد في بناء استقرارها الداخلي السياسي الاجتماعي على وسائل الرضا والمشاركة والديمقراطية والعلاقة الإيجابية والمفتوحة بين مؤسسات الدولة والسلطة والمجتمع بكل مؤسساته المدنية والأهلية وشرائحه الاجتماعية وفئاته الشعبية؛ لذلك يكون الاستقرار هو بمثابة النتاج الطبيعي لعملية الانسجام والتناغم بين خيارات الدولة وخيارات المجتمع. بحيث يصبح الجميع في مركب واحد، ويعمل وفق أجندة مشتركة لصالح أهداف وغايات واحدة ومشتركة.
لذلك غالبًا ما تغيب القلاقل السياسية والاضطرابات الاجتماعية في هذه الدول والتجارب الإنسانية، وإن وجدت اضطرابات اجتماعية أو مشاكل سياسية وأمنية، فإن حيوية نظامها السياسي ومرونة إجراءاتها الأمنية وفعالية مؤسساتها وأطرها المدنية، هي العناصر القادرة على إيجاد معالجات حقيقية وواعية للأسباب الموجبة لتلك الاضطرابات أو المشاكل.
وإذا تحقّق الاستقرار العميق والمبني على أسس صلبة في أي تجربة إنسانية، فإنه يوفر الأرضية المناسبة لانطلاق هذا المجتمع أو تلك التجربة في مشروع البناء والعمران والتقدّم.
فالتقدّم لا يحصل في مجتمعات تعيش الفوضى والاضطرابات المتنقلة، وإنما يحصل في المجتمعات المستقرة، والتي لا تعاني من مشكلات بنيوية في طبيعة خياراتها، أو شكل العلاقة التي تربط الدولة بالمجتمع والعكس.
فالمقدمة الضرورية لعمليات التقدّم الاقتصادي والعلمي والصناعي، هي الاستقرار السياسي والاجتماعي، وكل التجارب الإنسانية تثبت هذه الحقيقة. ومن يبحث عن التقدّم بعيدًا عن مقدّمته الحقيقية والضرورية، فإنه لن يحصل إلَّا على المزيد من المشاكل والمآزق، التي تعقّد العلاقة بين الدولة والمجتمع وتربكها وتدخلها في دهاليز اللاتفاهم واللاثقة.
وفي مقابل هذه المجتمعات الحضارية – المتقدّمة، التي تحصل على استقرارها السياسي والاجتماعي، من خلال وسائل المشاركة والديمقراطية والتوسيع الدائم للقاعدة الاجتماعية للسلطة، هناك مجتمعات إنسانية، تتبنى وسائل قسرية وتنتهج سبل قهرية للحصول على استقرارها السياسي والاجتماعي.
فالقوة المادية الغاشمة، هي وسيلة العديد من الأمم والشعوب، لنيل استقرارها، ومنع أي اضطراب أو فوضى اجتماعية وسياسية، وهي وسيلة على المستوى الحضاري والتاريخي، تثبت عدم جدوائيتها وعدم قدرتها على إنجاز مفهوم الاستقرار السياسي والاجتماعي بمتطلّباته الحقيقية وعناصره الجوهرية.
لأن استخدام وسائل القهر والعنف، يُفضي اجتماعيًّا وسياسيًّا، إلى تأسيس عميق لكل الأسباب المفضية إلى التباعد بين الدولة والمجتمع، وإلى بناء الاستقرار السياسي على أسس هشّة وضعيفة، سرعان ما تزول عند أية محنة اجتماعية أو سياسية.
وتجارب الاتّحاد السوفيتي ويوغسلافيا والعراق، كلها تثبت بشكل لا مجال فيه للشك، أن العنف لا يبني استقرارًا، وأن القوة الغاشمة لا توفر الأرضية المناسبة لبناء منجزات حضارية وتقدّمية لدى أي شعب أو أمة.
فلا استقرار بلا عدالة، ومن يبحث عن الاستقرار بعيدًا عن قيمة العدالة ومتطلّباتها الأخلاقية والمؤسسية، فإنه لن يحصد إلَّا المزيد من الضعف والهوان.
فتجارب الأمم والشعوب جميعها تثبت أن العلاقة بين الاستقرار والعدالة، هي علاقة عميقة وحيوية، بحيث أن الاستقرار العميق هو الوليد الشرعي للعدالة بكل مستوياتها. وحين يتأسَّس الاستقرار السياسي والاجتماعي، على أسس صلبة وعميقة، تتوفر الإمكانية اللازمة لمواجهة أي تحدٍّ داخلي أو خطر خارجي.
فالتحديات الداخلية لا يمكن مواجهتها على نحو فعّال، بدون انسجام عميق بين الدولة والمجتمع، كما أن المخاطر الخارجية، لا يمكن إفشالها بدون التناغم العميق بين خيارات الدولة والمجتمع، وكل هذا لن يتأتَّى دون بناء الاستقرار السياسي والاجتماعي على أسس العدالة الأخلاقية والمؤسسية.
وإن الإنسان أو المجتمع، حينما يشعر بالرضا عن أحواله وأوضاعه، فإنه يدافع عنها بكل ما يملك، ويضحّي في سبيل ذلك حتى بنفسه. وأي مجتمع يصل إلى هذه الحالة فإن أكبر قوة مادية، لن تتمكن من النيل منه أو هزيمته.
فالاستقرار السياسي والاجتماعي المبني على العدالة، هو الذي يصنع القوة الحقيقية لدى أي شعب أو مجتمع.
لهذا فإن المجتمعات التي تعيش الاستقرار وفق هذه الرؤية والنمط، هي مجتمعات قوية وقادرة على مواجهة كل التحديات الداخلية والخارجية.
ونحن كمجتمعات عربية وإسلامية اليوم، وفي ظل التحديات الكثيرة، التي تواجهنا على أكثر من صعيد ومستوى، بحاجة إلى هذه النوعية من الاستقرار، حتى نتمكن من مجابهة تحدياتنا، والتغلّب على مشاكلنا والتخلّص من كل الثغرات الداخلية التي لا تنسجم ومقتضيات الاستقرار العميق.
مفهوم قوة الدولة وضعفها
من أين تستمد الدول قوّتها، وما هو المعيار الحقيقي والجوهري لتحديد قوة الدولة أو ضعفها؟ حيث من الضروري على المستويات الاستراتيجية والسياسية والاقتصادية، أن نحدّد المعيار الأساسي الذي يحدّد قوة الدول وضعفها. وذلك حتى يتسنّى لنا كشعوب ومجتمعات العمل من أجل توفير عناصر القوة في فضائنا ودولنا، وطرد كل عناصر الضعف والتراجع.
للإجابة عن هذا السؤال المركزي، بإمكاننا القول: إن الكثير من الإجابات والتصورات نستطيع اختزالها في إجابتين ورؤيتين وهما:
1- إن الدولة القوية هي التي تمتلك إمكانات عسكرية واقتصادية هائلة، وتتمركز كل القرارات والصلاحيات في يدها. فتساوق هذه الرؤية بين المركزية والقوة.
فالدول ذات الطابع الشمولي والمركزي في سياساتها واقتصادها هي من الدول القوية، حتى ولو كان الشعب يعيش القهر والحرمان والاضطهاد. والمشروعات التقدمية التي سادت المجال العربي في الحقب الماضية، عملت على تأكيد هذه الرؤية، وإعطائها بعدًا أيديولوجيًّا. لذلك رفعت هذه المشروعات شعارات: لا صوت يعلو فوق صوت المعركة، ووحدة العرب في قوتهم. والمقصود بالقوة هنا القوة العسكرية والمادية. ولكننا وبعد تجارب ومحن مريرة مع هذه المشروعات، لم ننجز قوتنا القادرة على حمايتنا من المخاطر الخارجية والتحديات الداخلية. ولم نحقّق انتصارنا على عدونا الحضاري التي توقّفت كل المشروعات والسياسات من أجل التركيز على محاربته ودحره. ولكننا على الصعد كافة لم نحصد إلَّا الهزائم والانكسارات والإخفاقات.
فالمليارات التي صرفت على مؤسساتنا العسكرية والدفاعية لم تمنع العدو من الوصول إلى عواصمنا ومناطقنا الحيوية. والمركزية في الإدارة وصنع القرار، التي طبّلنا لها كثيرًا لم نحصد من ورائها إلَّا التأخر عن ركب الحضارة والعالم المعاصر.
ولقد أبانت لنا التجارب الماضية والمعاصرة، أن قوة الدول العسكرية ليست هي القوة الحقيقية القادرة على إنجاز تطلّعات الشعب أو الدفاع عن أمنه وحدوده. بل على العكس من ذلك، حيث إن الدول التي استندت في بناء قوتها إلى هذه الرؤية، لم تصمد أمام الأزمات والتحديات.
فالاتّحاد السوفيتي بكل ما يمتلك من ترسانة عسكرية ضخمة وأجهزة أمنية عملاقة، لم يستطع الصمود أمام تطلّعات شعوبه المشروعة. فتلاشى في فترة زمنية وجيزة.
والعراق هذا البلد الذي يمتلك أقوى الجيوش وأقسى الأجهزة الأمنية والقمعية وصلت الولايات المتحدة الأميركية إلى عاصمته في غضون (20) يومًا فقط و(130) قتيلًا.
فالدول التقدمية والأيديولوجية، والتي استخدمت كل إمكانات الدولة لتعميم أيديولوجيتها وقهر الناس على خياراتها ومتبنياتها السياسية والثقافية، هي ذاتها الدول التي أجهضت كل مشروعات التحرّر الحقيقي والخروج من مآزق الراهن.
ودول المشروع التقدمي لم تزدنا إلَّا ضعفًا وتشاؤمًا؛ وذلك لأن الإنسان هو أرخص شيء لديها. تصادر حرياته، تمتهن كرامته، تحاربه في رزقه وكسبه، يُقهر ويُهان ويُسجن ويُعذب لأتفه الأسباب. دولة اختزلت الجميع في دائرة ضيقة، لا تتعدى في بعض الأحيان شخص الأمين العام.
ولا نعدو الصواب حين القول: إن هذه الدولة بنمطها القروسطوي وعنفها وجبروتها وعسكرتها لمجتمعها، أجهضت الكثير من الآمال والتطلّعات. ولا يمكن بأي حال من الأحوال، أن نقول عن هذه الدول: إنها دول قوية؛ وذلك لأنها لم تستطع أن تنجز مشروعاتها وأهدافها، بل على العكس من ذلك، حيث إنها أنتجت النقيض. فأنتجت الاستبداد والقمع وتكميم الأفواه بدل الحرية، وتحوّلت إلى مزرعة خاصة لفئة محدودة بدل العدالة والاشتراكية، وعمّقت في الفضاء الاجتماعي والسياسي كل مستلزمات التفتت والتجزئة والتشظّي بدل الوحدة والاتّحاد.
وهكذا نصل إلى حقيقة شاخصة، تبرزها خبرة الإنسانية جمعاء عبر العصور، أن الدولة التي تنفصل عن مجتمعها وتحاربه في معتقداته واختياراته الثقافية والسياسية، وتفرض عليه نظامًا قهريًّا، فإن مآلها الفشل وفقدان المعنى من وجودها.
2- إن قوة الدول تُقاس بمستوى ديمقراطيتها وانسجامها على صعيد الخيارات والسياسات مع شعبها ومجتمعها.
والثروات الطبيعية والإمكانات العسكرية لا تتحوّل إلى عنصر قوة، حينما يكون هناك جفاء بين الدولة والمجتمع. ونحن نرى أن هذا هو المعيار الحقيقي لقوة الدول وضعفها.
فالدولة التي تعيش التوتر مع شعبها، ولا تنسجم خياراتها مع خياراته، فهي دولة ضعيفة في المحصلة النهائية حتى ولو امتلكت كل الثروات والإمكانات العسكرية. أما الدولة التي تشرك شعبها في القرار وصناعة المصير، وديمقراطية في بنيتها وممارساتها، فهي دولة قوية وقادرة على مجابهة المخاطر حتى ولو كانت فقيرة في مواردها وثرواتها وإمكاناتها العسكرية.
فقوة العرب والمسلمين اليوم في حريتهم ومستوى انسجام الدولة مع خيارات وتطلّعات شعبها.
والديمقراطية هي حجر الأساس في قوة الدول وضعفها؛ لذلك فإننا نرى أن كل مبادرة، تأخذها الدولة، وتستهدف توسيع مستوى المشاركة الشعبية في صناعة القرار وتسيير الأمور، هي مبادرة وخطوة تساهم في تعزيز قوة الدولة، أو بناء هذه القوة على أسس جديدة أكثر قدرة وفعالية.
وإن النهج السياسي المعتدل، والذي يتعاطى مع كل الأمور والقضايا والحقائق السياسية والاجتماعية بعقلية منفتحة ومتسامحة، هو القادر على توسيع هوامش الحرية في المجتمع، وهو المؤهل لمراكمة الفعل السياسي الراشد في المجتمع. وفي المقابل فإن النهج الاستئصالي، هو الذي يفاقم الأزمات ويعقدها ويحول دون بلورة نهج سياسي معتدل، ويدخل الدول والمجتمع في دوامة العنف والتطرّف.
إننا مع الدول القوية التي تستند إلى القانون وتحترم حقوق الإنسان، وتدافع عن كرامة شعبها. حيث إن الدولة القوية المسيّجة بسياج القانون والحرية والمسؤولية، هي القادرة على التفاعل والتكامل مع مجتمع مؤسسي - مدني، يمارس وظائفه الحضارية اعتمادًا على إمكاناته وآفاقه.
وإن التحوّل نحو الحرية والديمقراطية في أي مجتمع، بحاجة إلى وعي عميق بضرورتها وأهمية وجودها في البناء الوطني السياسي والثقافي والحضاري، وهذا الوعي بحاجة لكي يترجم إلى وقائع قائمة وحقائق مشهودة.
وإن تنمية روح المسؤولية والتسامح والحقوق والكرامة، كلها عوامل تساهم في تنمية الحس الديمقراطي في المجتمع.
وإننا وفي ظل هذه التطوّرات المتسارعة والتحديات المتلاحقة، أحوج ما نكون إلى ممارسة القطيعة المعرفية والعملية مع تلك الرؤية التي تتعامل مع مفهوم القوة بعيدًا عن خيارات المجتمع وتطلّعاته المشروعة. وبناء مفهوم القوة ليس على أساس امتلاك أحدث الأسلحة، أو ضخامة الترسانة العسكرية، وإنما على أسس التوافق والانسجام بين الدولة والمجتمع.
هذا الانسجام الدينامي والفعّال هو أساس قوة الدولة. ولا يمكن لنا وفي ظل هذه الظروف إلَّا الانخراط في مشروع تصحيح العلاقة وبناء القوة على أساس الانسجام بين الدولة والمجتمع. ولا ريب أن تحقيق الانسجام يتطلّب من الدولة القيام بخطوات ومبادرات، تستهدف توسيع المشاركة الشعبية وإزالة الاحتقانات وتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة.
فالقوة الحقيقية اليوم تتكثف في مستوى التناغم بين مؤسسة الدولة والمجتمع بمختلف تعبيراته وشرائحه. والفرصة اليوم مؤاتية للقيام بصنع فرص ومبادرات في هذا السياق.
والوظيفة الكبرى للجميع تتجسّد في تكثيف الفعل الثقافي والاجتماعي لتحرير دينامية التحوّل الديمقراطي من كوابحها ومعوقاتها الذاتية والموضوعية، حتى تأخذ الديمقراطية موقعها الأساس في تنظيم الخلافات وضبطها، وحتى تتَّجه كل الجهود والطاقات نحو البناء والسلم والاندماج الاجتماعي والوطني، وتعميق موجبات العدل والمساواة والمسؤولية.
والاستقرار السياسي اليوم لا ينجز في الكثير من الدول والبلدان العربية والإسلامية، إلَّا بتوافق حضاري بين الدولة والمجتمع. والإخفاق هو نصيب أي مشروع يُقصي المجتمع ويُهمِّش دوره في الحياة. كما أن النجاح تتبلور أسبابه وتتجمّع عناصر إرادته من خلال التوافق الحضاري بين الدولة والمجتمع. والتوافق هنا يعني المشاركة والتفاعل والمراقبة والشهود والتكامل.
وخلاصة القول: إن ما تؤكّده تحوّلات الربيع العربي، أن طريق الاستقرار السياسي العميق في كل البلدان العربية، هو تطوير نظام الشراكة السياسية، وتوسيع القاعدة الاجتماعية للسلطة وإيجاد معالجات حقيقية وفعّالة للمسألة الاقتصادية والمعيشية. دون ذلك تبقى السلطات السياسية ضعيفة، حتى لو كانت مدجّجة بالسلاح، ومحمية من أجهزة أمن بالغة القمع والخبرة.