شعار الموقع

المفاهيم وحدودها المعرفية والتاريخية لدى المفكر طه عبدالرحمن

الناصر عمارة 2019-06-06
عدد القراءات « 1001 »

المفاهيم وحدودها المعرفية والتاريخية

لدى المفكر  طه عبدالرحمن

الدكتور الناصر عمارة*

 

*         باحث وأستاذ بجامعة عبدالحميد بن باديس، مستغانم، الجزائر، البريد الإلكتروني:

amara_naceur@yahoo.fr

 

 

 

إن النواة الفاعلة في تجديد الخطاب الفلسفي الحضاري وقيمه الأخلاقية والعملية لدى المفكر طه عبدالرحمن، هي المفاهيم باعتبارها الدافعية الأساسية للتفكير ومركز المسؤولية في تجديد الفلسفة الإسلامية العربية، وتوجيه القيم داخلها وتأسيس هويتها الاصطلاحية بما يخدم كونيتها المخصوصة، وابتعادها عن المحاكاة والتقليد؛ حيث «يتصدّر التحدّيات المعنوية ما يُواجهه [المجتمع المسلم] من تيه فكري متمثّل في فتنة مفهومية كبرى لا يعرف كيف يخرج منها»[1].

وبذلك تكون «المفاهيم المسؤولة» في خطابه المعرفي-الحضاري معالمَ لتأسيس المخرَج من التيه الفكري للمجتمع المسلم، عبر إقامة الأدلّة ودفع الاعتراضات عنها حتّى تمتلك قاعدتها المنطقية، وتأثيلها اللغوي والمضموني الذي يخدم استقلالها وهويتها.

إذا كانت المفاهيم أفكارًا في كلمات فهذا يعني أنها تختزن في داخلها أبعادًا إنسانية ذات فاعلية تاريخية ومعرفية؛ فهي مُعطاة للتاريخ لأن لحظة ظهورها هي لحظة تقدّمٍ في الزمن، كما أن قابلية انفهامها هي مَلَكَة تاريخية مستمدّة من انتقال نصوص التراث إلى الوعي؛ وهي مُعطاة للمعرفة لأنها تقدّم شيئًا للفهم يختلف عمّا تقدّمه الألفاظ الأخرى في اللغة، فإذا علمنا أن «اللغة تتغلّب على جميع الاعتراضات الموجّهة ضدّ كفايتها، وتتساوى كليّتها مع كليّة العقل»[2]، فإن المفاهيم هي مكانُ تَركُّزِ الكليّات اللغوية الدافعة إلى التعقّل، فتنتجُ عن ذلك كفاية حجاجية وإشارية منعكسة في الانفهام الذي يتحوّل، عبر توجيه خطابي معيّن، إلى معرفة.

في الحاجة إلى المفاهيم: مشروع استئناف المعنى

تقوم المفاهيم بأداء وظائف متعدّدة في المشروع الفلسفي للمفكر طه عبدالرحمن، أهمها رفع «الغفلة» عن الفيلسوف ودَفعِه إلى «اليقظة» عبر كشف الأسباب الموضوعية للممارسة الفلسفية، وفي هذا يقول: «فلنصطلح على تسمية هذه الغفلة الخاصة بالفيلسوف باسم «عَمى الفيلسوف» أو «العَمى الفلسفي»، فالعَمى الفلسفي عندنا هو عبارة عن الجهل بالأسباب الموضوعية للممارسة الفلسفية، خطابًا وسلوكًا، فيتقرر، إذن، أن الفلسفة لا تتمحّض لها اليقظة، بل تقارنها غفلة على قدرها؛ حيث إن المتفلسف يكتفي بالوقوف على المضامين الفلسفية، تصورات وأحكام، ولا تتطلّع قريحته إلى الوقوف على الأسباب التي تكوّنت بها هذه المضامين، فلا تنفعه اليقظة في المضامين إلَّا بالقدر الذي تضرّه الغفلة عن الأسباب»[3].

وليس من سبيلٍ إلى اليقظة في أسباب المضامين الفلسفية أكثر نفعًا من سبيل اللغة باعتبارها المجرى الموصِّل إلى المنابع العميقة لتَكوُّن المضامين الفلسفية في نواة المفاهيم، ومنه وجب «الوقوف على الأسباب اللغوية التي يُتوسّل بها في إنشاء واستثمار المفاهيم الفلسفية في أصولها، أليست هذه الأسباب هي الوسائل التي يُتوصل بها إلى المقاصد الفلسفية؟»[4]، إلَّا أن الوقوف على الأسباب اللغوية، بأدوات النظر المنطقي، يخضع للحدود التاريخية والمعرفية المتضمّنة في لغة الوسائل ولغة المقاصد.

إن المفاهيم الفلسفية ليست معطاة في اللغة بكُلّيتها، فهي محلُّ ازدهار وانحطاط، وُضوحٍ والتباس، لأنها تمتلك حياتها الداخلية الخاصة، تمتلك تاريخها وحدودها الأنطولوجية التي تسمح بالنقد والتعارض والحجاج..، بل «لن نستغرب أن تكون القيم الكونية، التي نعتبرها أدوات إقناع بامتياز، معيّنة بواسطة المفاهيم الأكثر التباسًا في فكرنا»[5].

وما الالتباس إلَّا دليل على حياة المفهوم داخل اللغة، حياة يريدُ الفيلسوف طه عبدالرحمن الكشفَ عن أسبابها اللغوية؛ إذ إنه وكما يقول الفيلسوف الفرنسي بول ريكور: «اللغة بريئة، إنها أداةٌ ورمز، لأنها لا تتكلّم، بل هي متكلَّمة»[6].

ولذلك يُنبّهنا الفيلسوف طه عبدالرحمن إلى ضرورة أن «نتركَ الاعتقاد السائد بأن المفهوم الفلسفي مدلول مجرّد من اللفظ ومن اللافظ، وأن نستبدل مكانه الاعتقاد بأن هذا المفهوم إنما هو مدلول لا ينفكّ عن اللفظ ويقصدُ إليه اللافظ قصدًا»[7].

وهذا ما يفسّر «الغفلة» أو العَمى الفلسفي الذي يمنع من الوصول إلى الأسباب اللغوية الثاوية تحت كل اتِّجاه فلسفي يتوسّل بالمفاهيم ليُحاجج عن قضاياه، معتقدًا أن إضفاء طابع التجريد على تلك المفاهيم يسمح له بأن يضع تلك الفلسفة فوق النقد والمساءلة.

لقد لاحظ روبرت بلانشيه (Robert Blanché) أنه حتّى «الحجاجية الفلسفية، في دفاعها عن بعض القيم أو مهاجمتها، تبقى صعبة التجلّي والوضوح، بل إنها تبعث على الحيرة، وذلك عندما نرى أن المذهب [الفلسفي] الواحد يعتمد على قيم متعارضة، فقد انتقلت النظرية الديكارتية حول الحيوان-الآلة إلى الميل الطبيعي الفلسفي لدى مالبرانش (Malebranche)وامتدّت إلى مفهوم الإنسان-الآلة لدى لامتري (La Mettrie)، أو في انقسام أنصار هيغل بين يمين ويسار، (..) وفي حالة غير استثنائية يُغيّر فيلسوف من مذهبه الأساسي لأسباب غريبة عن كل قيمة أخلاقية، سياسية دينية أو جمالية، فقد أصبح هوسرل (Husserl) الناقد الأكثر قساوة للنزعة النفسية، مُحرقًا ما كان مولعًا به»[8].

ولهذه الأسباب يكون ربطُ المفهوم الفلسفي بالقيم المغذيّة له أحدَ أكبر مساعي المفكر طه عبدالرحمن في فلسفته، ذلك أن هذا الربط يُكسب المفهوم الفلسفي معناه، وفي «المعنى» يُقيم التصوّر الأكثر أهمية لعملية بناء المفاهيم واستثمارها في لسانها المخصوص بما هو مجالها الذي «تحيا» داخله وتُبدع وتُحقّق شرط انفهامها، كما يُجنّبُ هذا الربطُ تعارضَ القيم وانقلابَ الفلسفة على نفسها وتناقضَ مساراتها.

لقد لاحظ المفكر طه عبدالرحمن أن «المفهوم الفلسفي ليس مفهومًا تصوّريًّا كالمفهوم العلمي ولا مُدرَكًا ذوقيًّا كالمدرَك الأدبي، وإنما مفهومًا منفهمًا، ولا انفهام من غير اقتران بالصورة اللفظية في لسان مخصوص، (..) و«المفهوم المنفهم» هو الذي اختصّ باسم «المعنى»، إذ المعنى هو كل مفهوم لا انفكاك له عن اللفظ ولا عن اللّافظ»[9].

فيكون اكتساب المفهوم الفلسفي للمعنى من باب التحامه بلفظه ولافظه وتلك قاعدة كلّ «مفهوم منفهم» حيث الانفهام هنا هو طريق المرور من المفهوم إلى الواقع، إذ «المعنى هو خاصيةٌ تُحوِّلُ المنطوقات المجرّدة إلى أفعال تمريرية. والأفعال التمريرية ذات معنى بدلالة خاصة جدًّا للكلمة، وهذا النمط من المعنوية هو الذي يُمكّن اللغة من الارتباط بالواقع»[10].

وإذا عرفنا هذه الأسباب، عرفنا غرض المفكر طه عبدالرحمن من تفعيل معنوية المفاهيم الفلسفية والبحث في تأثيلها اللغوي؛ إذ الغرض، إذن، هو فتح طريق نحو العمل بما هو مشروع تجديدي للخطاب الفلسفي العربي انطلاقًا من المعرفة بالأسباب اللغوية الكامنة وراء تصنيع المفاهيم وإنشاء المصطلحات.

لكلّ مشروع فلسفي تجديدي حدوده، والحدود، بالمعنى الإبستيمولوجي للكلمة، هي الأطر التي ترتسم عند نضج المشروع وبلوغه مرحلة الاستخدام والتداول، ومعلومٌ أن كل مشروع معرفي يُوضع قيد التداول يصبح في صلب دائرة الملاحظة والقراءة والفهم بما هي «حدود من الخارج»؛ كما يصبح محلّ مراجعة داخلية لصاحب المشروع في صور التغيير والتبديل والتحوير بما هي «حدود من الداخل»، وبذلك فهي حدود «طبيعية» ناتجة عن حدود اللغة ذاتها؛ وما حديث المفكر طه عبدالرحمن عن الحق العربي في الاختلاف الفلسفي والحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، إلَّا ترسيمًا للحدود المعرفية بين الثقافات واللغات والأديان والفلسفات والقيم.

فما الحدود التاريخية والمعرفية لمشروع بناء المفاهيم لدى الفيلسوف طه عبدالرحمن؟ وما الأبعاد التي تتّخذها المفاهيم الفلسفية في مشروعه المعرفي - الحضاري التجديدي؟

الحدود التاريخية للمفاهيم: تاريخ المفهوم والتجربة الإنسانية

لقد مثّل بناء المفاهيم وتجديدها مسألة محورية في مشروع المفكر طه عبدالرحمن في تجديد العقل والمنهج وعلم الكلام، والتأسيس لحداثة إسلامية، وترسيم الحق في الاختلاف الفلسفي والفكري، غير أن هذا المشروع يندرج ضمن صيرورة تاريخية خاصة، وهذا يعني أن «أثر» التاريخ على المفهوم الفلسفي له أسباب في «تاريخ» اللفظ وأسباب في «تاريخ اللافظ»، «ألا ترى أن المضمون الفلسفي لا ينفكّ عن عبارته ولا عن سياقه ولا عن صاحبه ولا عن تاريخه، فضلًا عن أنه يتطلّع إلى أن تتفاعل فيه، على رسوخه في التجريد، جميع جوانب التجربة الإنسانية»[11].

فالحدود التاريخية لمشروع بناء المفاهيم الفلسفية وتجديدها نابعة من حدود التجربة الإنسانية ذاتها التي تمثّل «تاريخ اللافظ» وتحوّلاته.

تعكس التجربة الإنسانية للمفكر طه عبدالرحمن الأسباب التاريخية لمشروعه الفلسفي التجديدي التي تفسّر انتقاله من العقل المنطقي في «سلوك طريق الاستدلال في النقد والتحليل دون طريق الإرشاد أو التقرير، بل سَعَينا [الكلام للمفكر طه عبدالرحمن] حتّى في مسلماتنا، لا إلى أن نقرّرها تقريرًا ولو أن وضعها المنطقي يُجيز لنا ذلك، وإنّما قدّمنا لها أو ذيّلناها بتوضيحات وتمثيلات تتلقّاها العقول بالقبول»[12].

إلى العقل القيمي الذي يؤسّس لشرط المبادرة الفلسفية حيث إن «الفيلسوف المسلم، متى صان صلته بالمجال التداولي الخاص به، تزوّد من القيم العقدية واللغوية والمعرفية التي يتضمنها هذا المجال والتي لا ينفكّ يتفاعل معها في حياته –عن وعي أو عن غير وعي- بوصفه منتسبًا إلى أمة الإسلام»[13].

وبذلك انعكست تجربة الانتقال هذه على عملية بناء المفاهيم وتجديدها وكذا تبرير وجودها وحياتها في الخطاب الفلسفي العربي ضمن مجاله التداولي المخصوص.

يكشف المفكر طه عبدالرحمن نفسه عن التجربة التاريخية التي شكّلتْ حدود مشروعه الفكري، في قوله: «يرجع السبب الأول [الخروج من الشعر إلى الفكر] إلى هزيمة سنة 1967، فقد أصابتني، حقيقة، هذه الهزيمة بزلزال شديد (..) إذ كنتُ أنسب هذه الهزيمة إلى خلل أصاب عقولنا، واعتبرتُ أن هذا العقل الذي هزم العرب والمسلمين عقلٌ لا بد من أنه يمتاز بما يجعله أهلًا لهذا الانتصار (..) فاشتغلتُ بالدراسات المنطقية بالدرجة الأولى»[14].

فتجربة الهزيمة، بوصفها تجربة إنسانية تاريخية، هي حدود للمفاهيم نفسها، ففي المفاهيم تنعكس التجربة التاريخية للافظها فتتوسع بتوسّعها وتَنحَدُّ بحدودها، وبذلك وجدنا مُراد الفيلسوف طه عبدالرحمن في إطار الفلسفة العربية «هو الاشتغال بمفاهيم لها أسباب في مجالنا التداولي الإسلامي العربي دون أن تكون لها بالضرورة أسباب في مجالات تداولية أخرى غير عربية أو غير إسلامية، نجد من هذه المفاهيم مفهوم «الانتفاضة» ومفهوم «التبعية» ومفهوم «التطبيع» ومفهوم «الظلم»، فالمتفلسف العربي يحتاج إلى أن يُنشئ بصدد هذه المفاهيم خطابًا استشكاليًّا واستدلاليًّا يميّزه فلسفيًّا عن الخطابات الكبرى»[15].

ويظهر، إذن، من خلال هذه المفاهيم أنها مشحونة بقيم التجربة الإنسانية الذاتية للمفكر طه عبدالرحمن، ممّا يعني أنها محدودة في الانفهام بالحدود التاريخية التي تؤطّر نظرة المفكر إلى بناء المفاهيم وتأثيلها وتأصيلها في أفق الفلسفة العربية المعاصرة.

لقد نبَّهَ الفيلسوف طه عبدالرحمن إلى ضرورة شحن المفاهيم الفلسفية بالتاريخ بما يعطيها الدافعية للإبداع، إذ «إن المفهوم الفلسفي الذي لا توجد فيه بضعة من تاريخنا لا يمكن أن يثمر ولا بالأحرى أن يبدع؛ لأن الأصل في المفهوم الفلسفي أن يكون موصولًا بالزمان الماضي لأهله، ولا يُصار إلى وصله بزمان غيره إلَّا بدليل»[16]، بل «لا خروج للمتفلسف العربي من التقليد إلَّا بأن يأتي في قوله الفلسفي بهذه الأزمان الثلاثة (..) فيحمل مفهومه أثرًا من ماضيه ويحمل تعريفه عينًا من حاضره ويحمل دليله أفقًا من مستقبله»[17].

ولكن أيُّ تاريخٍ تُشحنُ به المفاهيم؟ إذ في الحقيقة لدينا ثلاث محطّات كبرى من التاريخ والتي يمكنها أن تنعكس على المتفلسف العربي اليوم:

1- محطّة تاريخ التراث الفلسفي الإسلامي العربي: حيث يدعو المفكر طه عبد الرحمن إلى «التعامل مع التراث كحقيقة تاريخية لا يمكن الانفصال عنها ولا تقسيمها»[18]، وهي المحطة التي تورّثنا «المناظرة» باعتبارها آلية لإنتاج المفاهيم أيضًا، أي بإمداد القوة الإشارية للمفاهيم الفلسفية بآلية دفاعية تُحصّنها ضد الاعتراضات والدعاوى التي تستهدفها من المتفلسفة المقلدين؛ إذ «لو أن «أهل اليقظة» حصّلوا مَلَكة منهجية عَمِل التغلغل في تجربة الإيمان على فتح آفاقها، لتمكّنوا من إقامة فكر إسلامي جديد يُحصّن هذه اليقظة، ويمنع عنها تقوّل القائلين وتحامل المغرضين»[19].

وبناء على هذه المنهجية في توليد المفاهيم المأصولة وتجديدها، وجدنا المفاهيم الفلسفية لدى المفكر طه عبد الرحمن مسحوبة، تأثيليًّا، إلى التراث الفلسفي الإسلامي العربي بوصفه فترة محدودة في الزمان، إذ لم يُعمّر الاشتغال بالفلسفة لدى المتقدمين طويلًا حتّى تبدّد في أشكال فكرية أخرى (كالتصوف والخطابة..).

2- محطة تاريخ التوقف عن الاشتغال بالفلسفة: وهي فترة طويلة بدأت بتهافت الفلاسفة والصدام بين الديني والفلسفي، ومرّت دون أن يظهر فيها نشاط إبداعي اصطلاحي أو مفاهيمي لفلسفة إسلامية عربية ممكنة، ويظهر أن الارتكاز إلى هذه الفترة في تأصيل أو تأثيل مفهوم فلسفي ما لن يُؤتي أكله بما أن المضمون الإشاري للفلسفة يغيب عن عبارية الخطابات المتشكّلة في هذه الفترة.

فضلًا عن أن هذه العبارية تفتقد إلى المعاني العملية التي تُكسبها طابع الممارسة الفلسفية، «علمًا بأن المدلول اللغوي عبارة عن الرصيد العملي التاريخي الذي يحمله هذا اللفظ، فيلزم أن المفهوم الفلسفي، على خلاف الاعتقاد الراسخ، يكون أشبه بـ«المعنى العملي» منه بالتصور النظري»[20]، فتكون إنتاجية المفاهيم الفلسفية وبناؤها انعكاسًا للرصيد العملي التاريخي الذي تحمله الألفاظ الحاملة للمفاهيم، فيلزم أن تتلوّن الألفاظ بلون حالة العصر وأحداثه عبر المدلولات التي تُصبغ على الأفهام قيم العصر وأحوال التاريخ.

3- محطة تاريخ الأزمة-الهزيمة: وهي الفترة التي بدأت بسؤال الأزمة الشهير: «لماذا تأخّر المسلمون ولماذا تقدّم غيرهم؟» والذي يُعاد طرحه في أسئلة الأزمة الفكرية لدى المفكر طه عبد الرحمن الناشئة أصلًا عن صدمة هزيمة سنة 1967، حيث يتساءل: «هل نحن في «أزمة فكرية» تضرب فيها آراؤنا ورؤانا بعضها بعضًا؟ أم نحن في «هزيمة فكرية» حلّت بنا لتخاذلنا في القيام بواجبنا أو لإنكار الآخر لحقوقنا؟ أم نحن في «فراغ فكري» أتى من موت أصاب الذهن والقلب فينا؟ أم نحن في «عجز فكري» نتج من ضعف أفهامنا أو من نقص معارفنا؟»[21].

وانطلاقًا من هذه الحدود التاريخية للأزمة والهزيمة تتولّد في التجربة الإنسانية تمثّلات للهزيمة والأزمة والفراغ والعجز هي أسبابٌ في بناء مفاهيم «الاستقلال»، «الانتفاضة»، «الاحتلال»، «الظلم»، «المقاومة»... وغيرها من المفاهيم التي يتمثّلها الفيلسوف طه عبدالرحمن انطلاقًا من الحدود التاريخية التي تنتهي عندها.

إن الحدود التاريخية لمشروع بناء المفاهيم الفلسفية وتجديدها لدى الفيلسوف طه عبدالرحمن، هي حدودٌ طبيعية وليست عائقًا أمام مشروعه؛ لأن ذلك يعني التحام المضمون الإشاري للمفاهيم بمقاصد لافظها وأهدافه، وعندئذٍ أمكننا الحديث عن المفكر طه عبدالرحمن بوصفه «مفكّر عصره»، في سياق الإجابة عن السؤال الكبير: «هل للأمة المسلمة جوابها الخاص عن أسئلة زمانها»[22].

ففي السؤال يظهر جليًّا أن المفاهيم الفلسفية، التي يمكن أن يُبدعها الفكر الإسلامي المعاصر، لا تتجلى إلَّا في خصوصية الأمة الإسلامية والتحامها بزمانها، إلَّا أن هذا الالتحام له حدوده الطبيعية في التاريخ والحدود هنا ليست نهايات مُميتة بل هي نوافذ زمنية لاستئناف بناء خطابات تجديدية ومبدعة.

الحدود المعرفية للمفاهيم: التجذير والاستنزاف الإشاري

يُذكّرنا الدرس اللغوي المعاصر بأن اللغة الطبيعية تمتلك منطقها الخاص، كما أنها حجاجية بطبعها، وهذا يعني أن لها من بين خصائص كثيرة، خاصية انفصالها النسبي عن لافظها بما يسمح لها بالتحكّم في التوجيه الإشاري لعباريتها عبر نظامها الداخلي (النحوي والدلالي..).

وهذا ما يُبرّر الفروق الجوهرية بين اللغات في قدرتها على التوجيه الإشاري؛ إذ «إن اللغات الطبيعية ليست صورية، وهذا ما يُفسّر أن الذوات المتكلِّمة لا يمكنها إرساء لغتها كنسق مغلق ومُنتهٍ»[23]، فيكون من المعاني التي تقصدها الذوات المتكلِّمة ما يقع داخل دائرة المقاصد ومنها ما يقع خارجها، وهي ظاهرة لغوية تزداد كثافة في بعض اللغات وتقلّ في بعضها الآخر، «ولمّا كانت الألسن التي وُضع بها القول الفلسفي متعدّدة، جاز أن تختلف المضامين الفلسفية باختلاف الألسن التي تنقلها»[24]، فتتشكّل بذلك خطابات فلسفية متجاورة ألسنيًّا ومتحاورة في المضامين والمقاصد.

إن القدرة على تجذير المفهوم الفلسفي وجعله «كُلّيانيًّا» وعميقًا ومنفهمًا هي الحدود التي تضعها اللغة أمام كل مشروع لبناء المفاهيم وتجديدها؛ إذ «إننا نغامر بالتفلسف دون العلم بوضع اللغة في كلّيتها، كوسيط بين الإنسان والعالم بين الإنسان والإنسان، بين الذات والذات نفسها»[25].

وهذا ما يجعل المتفلسف العربي يتساءل عن الإمكانات الخاصة التي توفرها اللغة العربية لبناء المفاهيم الفلسفية بالشكل الذي يجعلها أكثر تجذّرًا وأكثر قابلية للحياة، كما يبحث في اللسان العربي عمّا يجعل من فلسفة عربية مخصوصة في لسانها فلسفة كونية، في مقابل كونية الفلسفة الغربية التي تواجه هي نفسها سؤال الكونية والتجذير والخلود.

فقد لاحظ دريدا (Derrida) أن «هذا التراث الغامض من النصوص الفلسفية الذي لا يمكن استنزافه والذي أسمّيه «مستقبلها» [الكلام لدريدا] يتجلّى في النصوص اليونانية والألمانية أكثر من الفلسفة الفرنسية، ومع احترامي العظيم لكبار المفكرين الفرنسيين، إلَّا أنني أحمل دائمًا تصوّرًا بأن نوعًا معيّنًا من التحليل الصارم يمكن له أن يذيب نصوصهم ممّا يجعلها عادية وسريعة الاستنزاف. على النقيض تمامًا فإن نصوص أفلاطون وهيدغر التي أشعر تجاهها أنني في مواجهة الهاوية، حفرة دون قعر، يمكن أن أضيع فيها»[26].

وبهذا المعنى فإن الفلسفات محدودة بالألسن التي تتكلّمها، وتختلف قدراتها الإشارية حسب التاريخ الفلسفي الذي يُغذّي المفاهيم، ويعطيها القوة التجذيرية اللازمة للبقاء حية داخل النصوص، وغير مستنزفة في القراءات ولا فاقدة للمعنى في التأويلات والأفهام التي تريد أن تتملّكها.

يرتكز الفيلسوف طه عبد الرحمن إلى التعدّد اللساني والاختلاف التداولي من أجل بناء تصوّر معرفي لإمكانية إنتاج المفاهيم في اللسان العربي وضمن مجاله التداولي المخصوص؛ حيث «يتضح أن علاقة المعنى الاصطلاحي بالمعنى اللغوي، متى عدلنا عن طريق الاستنساخ الأعمى للمفاهيم الفلسفية، تُمكِّن، بفضل تفاوت شكل هذه العلاقة الدلالية وقدرتها من لسان إلى آخر، من انطلاق إنتاجية المفهوم الفلسفي ومن اشتغالها بما يناسب مقتضياته التداولية في كل لسان، وعندئذٍ فقط، لن يُقهر الفكر الفلسفي على نمط واحد من التفكير تجمد عليه العقول جميعًا، وإنما يصير مخيّرًا بين أنماط مختلفة يضاهي بعضها بعضًا، إذ يجوز ألَّا يكون المفهوم الفلسفي في إحدى اللغتين هو عينه في اللغة الأخرى»[27].

غير أن للألسن درجات متفاوتة في القدرة على تجذير المفاهيم ومقاومة الاستنزاف الذي يُمثّله «الاستهلاك الآني» للمضمون الإشاري للمفاهيم الفلسفية[28]، بسبب ضيق المجال التداولي ومحدوديته، فإذا أخذنا، مثلًا مفهوم «التطبيع»، فإن إشاريته المفهومية تنتهي عند حدود المجال التداولي لمصطلح التطبيع الذي يأخذ المعنى السياسي المحدود في تقريب العلاقات المختلفة بين بلدين أو أمّتين في حالة عداء، ويكون من الصعب جدًّا أن يتمدّد المجال التداولي لمصطلح «التطبيع» ليشمل «انفهامات» أخرى يمكنها أن تصبح مدلولات فلسفية.

إن الحدّين المعرفيين لبناء المفاهيم الفلسفية واللذين يمكن اعتبارهما الأكثر أهمية، هما، إذن، حدّ التجذير وحدُّ الاستنزاف الإشاري؛ وقد تبيّنتْ للفيلسوف طه عبد الرحمن الحدود التي يمكن أن يصل إليها العقل المنطقي نفسه في بناء المفاهيم، إذ قد صرّح قائلًا «لمّا استكملتُ اختصاصي في المنطقيات، تبيّنت لي حدود هذه المنطقيات نفسها، كما تبيّن لي أن العقل الذي هزم المسلمين عقل محدود»[29].

فيكون الحدّ المعرفي، في هذا السياق، ناشئًا من الضبط المنطقي لصياغة المفهوم الفلسفي وحمله على محمل المناظرة (الدعوى، الاستدلال، الاعتراض، الإبطال..)، حيث يرى أن «تحصيل الأدلة المبطلة هو أحد الطرق الموصّلة إلى إنتاج أضداد هذه المفاهيم في مجالها التداولي الأصلي أو إعادة إنتاجها في غير هذا المجال، وكلا الحالين -«الإنتاج» و«إعادة الإنتاج»- يدل على نهوض الهمة إلى الإبداع»[30].

غير أن ذلك يجعل البنية المنطقية للمفاهيم في مواجهة البنية اللسانية التي تستمد قوتها الإشارية من الخاصية الطبيعية للغة، حتّى إن «عالم المنطق لا يصمد دائمًا أمام محاولة تحوّله إلى عالم لساني»[31]؛ لأن الفرق بين العالمين يكمن في الحمولة الأنطولوجية في البنية المنطقية والبنية اللسانية، وهي الحمولة التي تستند إليها المفاهيم في تمثّل حقيقة ما؛ ولذلك سيكون لزامًا مواجهة المجال التداولي بالمجال الأنطولوجي، مواجهة البنية المنطقية للمفاهيم بالشكل الاستعاري للمفاهيم؛ إذ بهذا المعنى نفهم لماذا تكون «اللغة الطبيعية المكان الأمثل للخطاب الفلسفي»[32]، لأنه المكان الذي يسمح بظهور المفاهيم الفلسفية بحمولتها الأنطولوجية التي تمنحها القدرة التجذيرية وتمنع عنها الاستنزاف الإشاري.

لقد وضع الفيلسوف طه عبد الرحمن قاعدتين منهجيتين لوضع المفاهيم وصَوغ أحكامه الخاصة، في قوله: «والحق أننا نتّبع في وضع مفاهيمنا وصوغ أحكامنا قاعدتين منهجيتين نقديتين خاصتين بنا، كل واحدة منهما تفيد في التمرّس بالإبداع بقدر ما تفيد في ممارسة النقد: أولاهما صيغتها هي كالتالي: كل أمرٍ منقول معترضٌ عليه، حتى تثبت بالدليل صحته (..) وقد نسمّي هذا النوع من النقد باسم (النقد الإثباتي). والقاعدة المنهجية الثانية المتبعة صيغتها هي كالتالي: كل أمرٍ مأصول مسلّم به، حتى يثبت بالدليل فساده (..) وقد نسمّي هذا النوع الثاني من النقد باسم (النقد الإبطالي)»[33].

فتصبح ثنائية الإثبات والإبطال ملازمة للحدود المعرفية التي تحدّ المفاهيم الفلسفية حال تمدّدها الإشاري؛ إذ يتلاشى المفهوم معنويًّا عند الإثبات ويتراجع أنطولوجيًّا عند الإبطال، وفي كلتا الحالتين يقف المنطق حائلًا أنطولوجيًّا أمام التوسّع الطبيعي للمضمون الإشاري في اللغة الطبيعية.

عندما يحافظ المفهوم الفلسفي على طاقته الإشارية في الألسن المختلفة فإنه بذلك يندفع نحو الكونية متجاوزًا بذلك الحدود التي تضعها اللغات الطبيعية في مسألة الانفهام، بل «إن التواصل الحي للمفاهيم الفلسفية يضفي عليها ألوانًا تختلف باختلاف الألسن الطبيعية والمجالات التداولية، هذا الاختلاف الذي من شأنه أن يجدّد ويغني على الدوام الإمكانات الاستشكالية والاستدلالية التي تتعلّق بهذه المفاهيم»[34].

ومنه تكون اللغة العربية في مواجهة تحدّيات توليد المفاهيم الفلسفية من قدرةٍ على التجذير ودفعٍ للاستنزاف الدلالي وحصولٍ للكونية، وفي هذا الاتجاه يرى الفيلسوف طه عبد الرحمن «أن المفهومية أيسر وأظهر في اللغة العربية منها في غيرها من اللغات الفلسفية، ذلك أن استقلال الوزن هو استقلال لقالب مفهومي؛ إذ إن كل مادة لغوية أُفرِغت فيه صِيغَ منها بالضرورة مفهوم مستقل، في حين أن الزيادة [في الألسن الفلسفية الأخرى] لا تصوغ بالضرورة مفهومًا، وغاية ما تفعله هو أنها تعين على صوغه، ولئن سلّمنا بما صار يقال ويُعتقد من أن الفلسفة هي طلب المفاهيم، وإن لم يكن هذا قولنا ولا معتقدنا، أصبح اللسان العربي أقرب إلى الفلسفة من غيرها، ألا ترى كيف أن الوزن هو مثال لتوليد المفاهيم»[35].

أي إن الوزن في اللغة العربية يأخذ شكل الأنموذج «البراديغم» اللفظي الذي يُبنى على أساسه قالب المفهوم الفلسفي، وبهذه الطريقة تمتاز اللغة العربية عن بقية اللغات، وفي قدرتها أيضًا على إضفاء صبغة قومية على كونية الفلسفة حتّى أصبح عنده أن «كل مفهوم، أيًّا كان، يمكن أن يكون موضع تفلسف»[36]حسب خصوصيات الميزان اللغوي العربي الذي يوفّر للمفهوم الفلسفي قاعدته اللفظية التي تُكسبه خاصية «الانفهام»، فـ«الأصل في المفهوم الفلسفي أن يكون منفهمًا من صورته اللفظية ومنتسبًا إلى المجال التداولي»[37].

وعلى هاتين الخاصيتين «الانفهام» و«الانتساب» يقوم فعل توليد المفهوم الفلسفي ويصبح قادرًا على «الاختلاف» و«الاعتراض» و«الإثبات»..

إذا عَلِمنا أن «مفهومية» المفهوم الفلسفي مقترنة باللفظ الذي يوزن به، و«معلومٌ أن الفيلسوف، عندما يضع اسمًا لمفهومه، يضع له في نفس الوقت مدلولًا مخصوصًا يكون بمثابة تعريف يميّزه عن غيره، وهذا المدلول الموضوع هو الذي يُطلق عليه عادة اسم (المدلول الاصطلاحي)»[38].

غير أن الإشكال في الميزان الذي يولّد المدلولات المخصوصة لأسماء المفاهيم، أي ميزان المدلولات الاصطلاحية، بما يسمح بالدفع بالقوة الإشارية للمفهوم الفلسفي إلى مجاله التداولي، وهنا، يضع الفيلسوف طه عبد الرحمن مفهوم التأثيل بوصفه تأصيلًا وإكثارًا وتنمية؛ حيث إن «تأثيل المفهوم الفلسفي هو تزويد الجانب الاصطلاحي منه بجانب إشاري يربطه بالمجال التداولي للفيلسوف، واضعًا أو مستثمرًا له، فإذن يكون القوام التأثيلي للمفهوم الفلسفي هو جانبه الإشاري الذي يربطه بالمجال التداولي للفيلسوف»[39].

ممّا يعني أن للمفهوم الفلسفي حدودًا تأثيلية هدفها ربطه بمجاله التداولي ومحاصرته داخله، فيقترن الجانب الإشاري بالمجال الذي يحدّده التأثيل بوصفه نوعًا من البحث في الأسباب اللغوية للمفهوم الفلسفي في مقابل فتح آفاق دلالية لاستثمار المفهوم الفلسفي في مجالات تداولية مستحدثة.

لقد أبدع الفيلسوف طه عبد الرحمن، الطرق التي بها تتولّد المفاهيم وخَلّصها ممّا يُوجب التقليد والاستنساخ، يقينًا منه «بأن المفاهيم هي المدخل الأول لتحصيل المعرفة، والوسيلة الأساسية لضبط السلوك المعرفي للأشخاص»[40].

إذ إن العناية بالمفاهيم بناءً وتجديدًا واستثمارًا، هي أولوية في مراتب تحصيل «اليقظة» الحداثية الإسلامية، «فما لم يستطع العربي أن يُبدع المفاهيم من عنده، ويبدع العلاقات فيما بينها، ويبدع صيغ الاستنتاج من هذه العلاقات التي أقامها بين هذه المفاهيم فلن يكون فيلسوفًا»[41].

فالمفاهيم مفاتيح التفكير ونوافذ إلى الإجابات عن أسئلة الإنسان العربي المتراكمة في التاريخ، والمؤجّلة بسبب ضعف الخطاب، وعجز الفكر والغفلة عن أسباب الإبداع والحداثة.

يمكننا أن نعتبر مفهوم «اليقظة» أحد أهمّ مفاتيح التفكير في مشروع بناء المفاهيم الفلسفية العربية لدى المفكر طه عبد الرحمن، على الرغم من أنه لم يتوسّع في جذوره الفلسفية، إلَّا أنه وضعه في حدود التجربة الإيمانية المؤطَّرة بالمناهج العقلية، طارحًا السؤال: «فكيف إذن نجعل هذه اليقظة [اليقظة الدينية-العقدية] متكاملة لا متنافرة ومتجددة لا متحجرة؟ أو قل كيف نجعل هذه اليقظة متيقظة؟ (...) [مجيبًا]: فلا سبيل إلى حصول التجدّد في اليقظة الإسلامية بغير طريق التوسّل في تأطير وتنظيم وتأسيس هذه التجربة الإيمانية العميقة بأحدث وأقوى المناهج العقلية، وأقدرها على مدّنا بأسباب الإنتاج الفكري»[42].

غير أنه إذا كانت المناهجُ العقليةُ تدفعُ التجربةَ الإيمانية إلى التجلّي اليقِظ، فإن اليقظة نفسها لا تكون متيقظة إلَّا إذا تأسّستْ أنطولوجيًّا، أي إلَّا إذا كان لها تجذير فلسفي عميق؛ إذ «إن اليقظة هي يقظة فلسفية، وهذا يعني أنها متأصّلة بذاتها في تَبْيينٍ أصلي تتغذّى منه الفلسفة نفسها وبنفسها»[43].

أي إن المفهوم الفلسفي، في مثال مفهوم «اليقظة»، يقعُ بين مجالين تداوليين، مجال اشتغال الفلسفة بالتجربة (التجربة الإيمانية لدى الفيلسوف طه عبد الرحمن) وهو المجال الذي يقابله حدّ الاستنزاف الإشاري، حيث تعمل التجربة على استهلاك الطاقة الإشارية للمفاهيم من خلال الفرق بين المفهومية النظرية والمفهومية العملية؛ ومجال اشتغال الفلسفة بذاتها وتَغَذِّيها من نفسها والذي يقابله حدّ التجذير، حيث يستمدّ المفهوم قوته التجذيرية مِن تَغَذِّيه الفلسفي كما يفقد تلك القوة عندما يزيدُ تَغَذِّيه من خطابات أخرى.

إن الاندماج في الفضاء المفهومي الكوني الذي يدعو إليه المفكر طه عبد الرحمن هو مدخل لتأسيس الفعل الحداثي، الذي «يجدُ رقيّه في الممارسة الإسلامية بما لا يجده في ممارسة غيرها»[44].

بناء على «إيجاد» الفاعلية العقلانية التي تسمح بالاستقلال الفلسفي والاختلاف الفكري دون أن يكون ذلك محلّ تعارض أو تناقض مع روح الحداثة، ويعبّر عن هذه الفاعلية العقلية بـ«التكوثر» إذ «لا «يتكوثر» إلَّا العقل، والمقصود بذلك أن العقل لا يُقيم على حال، وإنما يتجدّد على الدوام ويتقلّب بغير انقطاع، فعلى خلاف ما ساد ويسود به الاعتقاد الموروث عن اليونان، ليس العقل جوهرًا مستقلًا قائمًا بنفس الإنسان، وإنما هو أصلًا فاعلية، وحق الفاعلية أن تتغيّر على الدوام»[45].

فبفضل هذه الفاعلية أمكن للفيلسوف العربي أن يُفلت من قبضة «كونية» الفلسفة وأن يتخلّص من «عنف المسار المفرد في الفلسفة»[46] والذي ينعكس على تصوّر مفرد وعنيف لمفهوم الحداثة الغربية التي تعبّر عن نفسها في «عبارة «حداثتنا» «Notre» «modernité» التي تؤدّي إلى معضلة كتلك التي تخفيها عبارة «التاريخ نفسه»، إذ يتعلّق الأمر بمعرفة ما إذا كانت هناك حجة ذات قيمة تستطيع أن تُجنّب خطابًا يعتزّ بعالميته وبوضعه في التاريخ الحاضر، الغموضَ والالتباس»[47]، لأن ذلك يؤدّي إلى مصادرة كبرى للتاريخ في صيغة «زماننا «Notre» temps» التي تخفيها صيغة «التاريخ نفسه»»[48].

فالحداثة الغربية كونية استنادًا إلى هذه الحجة المنطقية - التاريخية، فيكون طريق تأسيس حداثة إسلامية بدفع هذه الحجة وبيان أوجه الاعتراضات عليها عبر إبطال دعوى كونية الفلسفة وإثبات صبغتها القومية، وإحصاء الاعتراضات العامة عليها[49] ممّا يمهّد الطريق إلى حصول حق الاختلاف الفلسفي والفكري والتأسيس لحداثة إسلامية.

إن مشروع بناء المفاهيم وتجديدها لدى المفكر طه عبد الرحمن ليس مشروعًا معرفيًّا فقط بل هو مشروع حضاري حداثي أيضًا، يريد أن يُشيّد للذات الإسلامية العربية حداثتها بِردّ الذات إلى ذاتها؛ إذ «كما أن هناك حداثة غير إسلامية، فكذلك ينبغي أن تكون هناك حداثة إسلامية»[50].

وبهذه العبارة يُعيد الفيلسوف طه عبد الرحمن توجيه الفكر إلى منحى مختلف، يحفظ فيه هويته الفلسفية والحداثية المخصوصة، عبر إنشاء مفاهيم مرتبطة بلسانها ومجالها التداولي؛ فإبداع المفاهيم الإجرائية واستثمارها معرفيًّا ومنطقيًّا ليس طريقًا إلى تجديد المفاهيم لذاتها بل هو طريق إلى تجديد «اليقظة» الفلسفية للعالم الإسلامي العربي، أو جعلِ اليقظة متيقظة.

وليس استثمارُ التراثِ الإسلامي العربي في بناء المفاهيم وتجديدها استثمارًا ماضويًّا انغلاقيًّا بل هو محاولة ربطِ الذات بالذات والإنسان بالإنسان والعقل بالعقل..؛ إذ لا إبداع للمفاهيم إلَّا في تجربة الذات بذاتها وإلَّا سقطَ هذا الإبداع نفسه في مجال تجربة الآخرين، وكانت المفاهيم الفلسفية المستحدثة استنساخًا لا يُقدّم شيئًا للمعرفة ولا يُعطي روحًا لحداثة إسلامية ممكنة.



[1] طه عبد الرحمن، روح الحداثة: المدخل إلى تأسيس الحداثة الإسلامية، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 2006، ص 11.

[2] Hans-Georg Gadamer, «Vérité et Méthode, les grandes lignes d’une herméneutique philosophique», trad. Pierre Fruchon, Seuil, Paris, 1996, P 424.

[3] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة:  الفلسفة والترجمة، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1995، ص 20.

[4] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة:  القول الفلسفي.. كتاب المفهوم والتأثيل، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1999، ص 119.

[5] Perelman Ch, L. Olbrechts-Tyteca, «Traité de l’argumentation», T1, PUF, Paris, 1958, p188.

[6] Ricœur, «Lectures I: Autour du politique», Seuil, Paris, 1991, P133.

[7] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: القول الفلسفي.. كتاب المفهوم والتأثيل، مرجع سابق، ص127.

[8] Robert Blanché, «Le Raisonnement», PUF, Paris, 1973, P233.

[9] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: القول الفلسفي.. كتاب المفهوم والتأثيل، مرجع سابق، ص185.

[10] جون سيرل، العقل واللغة والمجتمع: الفلسفة في العالم الواقعي، ترجمة: سعيد الغانمي، بيروت: الدار العربية للعلوم، الجزائر: منشورات الاختلاف، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط 1، 2006، ص205.

[11] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة:  الفلسفة والترجمة، مرجع سابق، ص21.

[12] طه عبدالرحمن، روح الدين: من ضيق العَلمانية إلى سَعة الائتمانية، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 2، 2012، ص17.

[13] طه عبد الرحمن، سؤال العمل: بحث عن الأصول العملية في الفكر والعلم، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 2012، ص50.

[14] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، بيروت: الشبكة العربية للأبحاث والنشر، ط 1، 2013، ص 17.

[15] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، المرجع نفسه، ص121.

[16] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 2، مرجع سابق، ص121.

[17] المرجع نفسه، ص16.

[18] طه عبد الرحمن، في أصول الحوار وتجديد علم الكلام، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 2، 2000، ص19.

[19] طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 2، 1997، ص10.

[20] طه عبد الرحمن، سؤال العمل، مرجع سابق، ص42.

[21] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، مرجع سابق، ص7.

[22] طه عبد الرحمن، الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 2005، ص15.

[23] Jürgen Habermas, «Logique des sciences sociales et autres essais», trad.: Rainer Rochlètz, PUF, 1987, P241.

[24] طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، مرجع سابق، ص53.

[25] Ricœur, «La métaphore vive», Seuil, Paris, 1975, PP 384 - 385.

[26] Richard Kearny, «States of Mind: Dialogues with contemporary thinkers on the European mind», Manchester University Press, UK, 1995, PP163 - 164.

[27] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 2، مرجع سابق، ص184.

[28] ولربما انعكس هذا على مفاهيم مثل: «التطبيع»، «المقاومة»، «الاحتلال»، «الظلم»...

[29] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، مرجع سابق، ص18.

[30] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص14.

[31] Oswald Ducrot, «Logique, Structure, Enonciation, Lectures sur le langage», Minuit, Paris, 1989, P75.

[32] Jean Hyppolite, «Logique et Existence», PUF, Paris, 1961, P65.

[33] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص ص13-14.

[34] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 2، مرجع سابق، ص184.

[35] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 2، مرجع سابق، ص ص 145-146 .

[36] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، مرجع سابق، ص122.

[37] طه عبد الرحمن، فقه الفلسفة: 2، مرجع سابق، ص 121.

[38] المرجع نفسه، ص 121.

[39] المرجع نفسه، ص129.

[40] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، مرجع سابق، ص165.

[41] طه عبد الرحمن، الحوار أفقًا للتفكير، مرجع سابق، ص155.

[42] طه عبد الرحمن، العمل الديني وتجديد العقل، مرجع سابق، ص ص 9-10.

[43] Martin Heidegger, «Ontologie, Herméneutique de la factivité», Traduit de l’allemand par: Alain Boutot, éd. Gallimard, Paris, 2012, P 38.

[44] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص 18.

[45] طه عبد الرحمن، اللسان والميزان أو التكوثر العقلي، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط 1، 1998، ص21.

[46] Ricœur, «Lectures I», op.cit, P 137.

[47] Ricœur, «La Mémoire, l’histoire, l’oublie», Seuil, Paris, 2000, P 386.

[48] IBID, P 401.

[49] يُنظر: طه عبد الرحمن، الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، الدار البيضاء، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط2، 2006، ص ص 52-53.

[50] طه عبد الرحمن، روح الحداثة، مرجع سابق، ص 17.