شعار الموقع

فعل القراءة بين إنتاج المعنى وإبداع المتلقي

محمد بعلي 2019-06-07
عدد القراءات « 2829 »

فعل القراءة بين إنتاج المعنى وإبداع المتلقي

 

الدكتور بَعـــلي محمد*

 

*       أستاذ محاضر بشعبة علوم الإعلام و الاتصـال، قسم العلوم الإنسانية - كلية العلوم الاجتماعية، جامعة عبدالحميد بن باديس - مستغانم – الجزائر، البريد الإلكتروني: baali_isic@yahoo.fr

 

 

مقدمـة

شكّلت القراءة بمختلف أشكالها وأنواعها على مر العصور حضورًا فعالًا ومتميزًا في حقل الدراسات الأدبية والنقدية القديمة منها والحديثة، حيث إنها حضيت بعناية كبيرة في مجال الدراسة والبحث من قبل المنظرين والنقاد باعتبارها ذات أهمية بالغة في الحركة الأدبية والفكرية على وجه العموم.

لذا فقد تعددت المدارس والنظريات وتسابقت فيما بينها من أجل دراستها دراسة متأنية ومفصلة، لغرض اكتشاف بنياته وتراكيبه الفنية والتفاعلية - التأويلية، فكل منهج من المناهج راح يدرس النص من زاوية مغايرة عن المنهج الآخر باعتماد على مرجعيته النظرية والفكرية لتقنيني الإطار العام الذي ينضوي تحته النص.

فتعددت المناهج كالبنيوية، ونظرية التناص، التفكيكية وجمالية التلقي، والتي تعتبر من أهم النظريات التي عنيت بهذا الطرح وذلك من خلال علاقة النص بالقارئ، مع كل من ياوس وايرز، وبواسطتهما يستطيع القارئ تلقي النص والتعامل معه بكل حرية وفق قراءاته ومستوياته الفكرية والثقافية.

ونظرًا للأهمية البالغة التي اكتسبتها عملية القراءة من قبل مختلف المناهج الأدبية والنقدية، فإن جل محاولات الباحثين والدارسين انصبت حول هذا العنصر، فمنظري القراءة –غريماس، فوكو، انغرادن– اعتمدوا كلية عليها من أجل استنباط مفاهيم ونظريات خاصة بها واكتشاف جمالياتها من خلال علاقتها بالقراء والنص أثناء تعاملهم معه.

بينما جمالية التلقي –آيزر، ياوس، كلاين– فقد أولوا أيضًا عناية خاصة بها؛ لأنها تعتبر في نظرهم الوسيلة الوحيدة والرابط الأساسي الذي يربط القارئ بالنص، وعليه نجدهم اعتمدوا على عنصر القراءة لوضع تصوراتهم لا على عنصر القراءة في تفكيك وتحليل بنية النص.

إذن يعتبر مفهوم «القراءة» من بين المفاهيم التي تشكل حجر الزاوية لنظرية التلقي في الأدب، حيث تبحث التوجهات الجديدة في مسألة القارئ وما له من علاقة بالنصوص التّي يواجها.

علمًا أنّ هذه التوجّهات خاصة الأدبية منها شكّلت ثورة على الأعمال السابقة التي كانت دائمًا تقدّس وتمجّد الكاتب والمؤلف، وذلك إمّا من ناحية تاريخانية النصوص أو شكلانيتها، كما هو سائد في المدرسة الشكلانية التي ترى في الشكل هو الأساس لتحديد طبيعة ونوعية النصوص ومن ثم استنتاج المعاني، إلَّا أن ذلك ليس صحيحًا، وإنّما المتلقي هو الذي يستنتج المعنى من النص وليس الشكل هو الذي يحدّد له المعنى.

-1-
نظرية التلقي: النشأة والأسس

زعزعت نظرية التلقي التقليد السائد الذي كان يتعامل مع النص بوصفه قاعدة ثابتة للتأويل، وابتعدت عن المفاهيم التأويلية القديمة واضعة القارئ في مركز مشروعها التأويلي، ومؤكّدة عدم الفصل بين النص المقروء والقارئ.

وهكذا أصبح للقارئ مهمة جديدة لا تختزل في التلقي السلبي للبحث عن المعنى الوحيد والمُحَدَّد سلفًا، وإنّما يقوم بملء فجوات النص وإدراكه وليس باعتباره كينونة ثابتة، كما يقوم أيضًا ببناء المعنى المتعدّد من خلال التفاعل معه، وهذا ما يطلق عليه فعل القراءة.

وبالتالي فإن الهدف المنشود الذي سعت إليه نظرية التلقي هو إدراك نظرية عامة للتواصل ذات اختصاصات متداخلة، وهي نظرية تحتوي على جميع الاختصاصات تتميز بالانفتاح على نظريات التواصل والسلوك وسوسيولوجية المعرفة[1].

ومن المعروف أن ظهور إشكالية التلقي كان في الدول الناطقة بالألمانية خاصة مدرسة Constance (ألمانيا الغربية)، حينما تكفّلت الدراسات الأدبية صياغة إشكالية القارئ والتلقي في الستينات، وترجع أهمية هذا العمل إلى الباحث ياوس عندما ألقى محاضرته سنة 1977 في جامعة Constance، حيث أَسَّسَ ياوس مقاربة تحت اسم «جمالية التأثير والتلقي» معارضة لجمالية الإنتاج والتمثيل، التي ترجع أصولها إلى كل من المقاربة الماركسية والشّكلانية.

ويقصد الباحث بالتأثير ذلك التفاعل الذي ينتج جراء تعامل القارئ مع النص وما يستهلكه ويستفيد منه، فالجمهور ما هو إلَّا أداة تضمن استمرارية إنتاج الأعمال على اختلاف أنواعها (أدبية، وفنية، وإعلامية).

فالجمهور أو المتلقي يمثّل الشريك الضروري للعمل المنجز، في حين يشير مفهوم التلقي إلى مختلف التجسيدات المتتابعة للعمل، وبالتالي فإنّ أيّ عمل كان ما هو إلَّا جهد مشترك بين الكاتب والقارئ «المتلقي بصفة عامة».

وهذا ما يؤكّده Robert Escarpait بقوله: «إنّ العمل الأدبي هو نتيجة نشاط الكاتب والقارئ من خلال التفسيرات والتأويلات التي ينشئها الجمهور المتلقي»[2].

وقد برزت ملامح هذا التوجه الجديد بصفة خاصة، عند رولان بارت Rolan Barthes، الذي أعلن «موت المؤلف»، هذا الإعلان الذي جاء متضمنًا عند حديثه عن الكتابة يقول: «الكتابة قضاء على كل صوت، وعلى كل أصل، الكتابة هي هذا الحياد، هذا التأليف واللف الذي تتيه فيه ذاتيتنا الفاعلة، إنها السواد، البياض الذي تضيع فيه كل هوية ابتداء من هوية الجسد الذي يكتب»[3].

تصب نظرية التلقي جل اهتمامها على آلية الاستجابة والأدوات التي يحملها المتلقي عندما يواجه نصًّا ما، فلتلقي غاية جمالية ومعرفية تشترك في تحصيلها الحواس والثقافة والتأمل والخيال، والمتلقي يعيد بناء الأثر المعرفي في النص، ولكنه في الوقت ذاته يتذوق أبعاده الجمالية[4].

جدير بالذكر أن هذه النظرية تستبعد دراسة النص على أساس منهج يهتم بحياة الكاتب؛ لأن النص في ذاته أو في ارتباطه بصاحبه لا يمثل فنًّا ما لم يخضع لعملية الإدراك، «فالإدراك وليس الخلق، الاستقبال وليس النتاج هو العنصر المنشئ للفن»، وهذا يتم بواسطة القارئ خلال تفاعله مع النص، ولكي يتحقق التفاعل بالصورة التي يرونها كان تركيزهم على أهمية الدور الواسع الذي ينهض به القارئ عبر مجموعة من الإجراءات المنظمة في عملية القراءة[5].

-2-
جذور نظرية التلقي

فيما يخص الجذور التاريخية والمرتكزات التأسيسية لنظرية التلقي، يقف روبرت هولب عند خمسة من المصادر الفكرية التي رآها مؤثرة في ظهور هذه النظرية ورواجها، هي[6]:

- الشكلانية الروسية.

- بنيوية براغ.

- ظواهرية رومان إنجاردن.

- هرمنيوطيقا هانز - جورج غادامير.

- سوسيولوجيا الأدب.

تأثر منظرو مدرسة كونستانس في ألمانيا الغربية آنذاك، الذين كان لهم الفضل في رواج النظرية، بهذه المصادر. ففيما يتصل بالمدرسة الشكلانية توقف المؤلف في نظريتهم الأدبية عند جملة من العناصر كان لها تعلقها بنظرية التلقي، كالأداة الفنية وما تحدثه من تغريب للتصورات في العمل الأدبي وكالوقوف على سيرة الكاتب وفاعليتها لدى المتلقي.

في هذا المجال، يقول ياوس: «إن المنهجين -الماركسية والشكلانية- يهملان القارئ ودوره الخاص الذي ينبغي للمعرفة الجمالية والمعرفة التاريخية أن تعتبره، لأنه هو الذي يتوجه إليه العمل الأدبي بالأساس، لأن الناقد الذي يحكم على مؤلف جديد، والكاتب الذي يبدع عمله تبعًا لنموذج عمل سابق، سلبيًّا كان أم إيجابيًّا، ومؤرخ الأدب الذي يقوم بتأويل العمل تاريخيًّا، من خلال ربطه –العمل- بالحقبة الزمنية والتقليد المنبثق منهما: فكل هؤلاء هم أيضًا وأولًا قراء قبل أن يعقدوا مع الأدب علاقة تأمل تصبح بدورها منتجة. فضمن الثالوث المكون من -المؤلف والعمل والجمهور-، فإن هذا الأخير ليس مجرد عنصر سلبي، بل يتجاوز ذلك إلى تنمية طاقة تساهم في صنع التاريخ، لذلك لا يعقل أن يحيا العمل الأدبي في التاريخ دون المشاركة الفعلية لأولئك الذين يتوجه إليهم»[7].

فيما يتعلق بظواهرية رومان إنجاردن فكان كتابه «الخبرة بالعمل الفني الأدبي» الذي ظهر في ألمانيا عام 1968م، لافتًا لأصحاب نظرية التلقي من حيث اهتمامه بالعلاقة بين النص والقارئ.

لقد رفض إنجاردن فلسفته الظواهرية ثنائية الواقع والمثال في تحليل المعرفة، ورأى أن العمل الفني يقع خارج هذه الثنائية، فلا هو معين بصورة نهائية ولا هو مستقل بذاته، ولكنه يعتمد على الوعي ويتشكل في هيكل أو بنية مؤطرة، تقوم في أجزاء منها على الإبهام الناشئ عما تشتمل عليه من فجوات أو فراغات يتعين على القارئ ملؤها. ومن ثم فإن العمل الفني الأدبي في حاجة دائمًا إلى هذا النشاط الإنساني الذي يعمل فيه القارئ خياله كذلك من أجل أن يكمل العمل ويحققه عيانيًّا[8].

من ثم يتضح جليًّا أن نظرية التلقي عند إنجاردن تنطلق انطلاقة جمالية، وتعنى أساسًا بالنص كموضوع للإدراك والدراسة، مهتديًا في ذلك بدراسة الآليات التي تحكم توجيه النص وجهة خاصة، وتتم دراسة المعنى عن طريق آلية تحليلية هي التداولية، التي تهتم بدراسة فعل القول من أوجهه المختلفة لاستخلاص المعنى المراد[9].

يرى إنجاردن أن العمل الأدبي أو الفني يقوم على أفعال قصدية من قبل مؤلفه تجعل من الممكن للقارئ أن يعايشه بوعيه كقارئ، أو تعني المعايشة هنا نوعًا من التداخل عبر التجربة القرائية بين المؤلف والقارئ، ذلك النص الذي لا يأتي كاملًا من مؤلفه، بل هو مشروع دلالي وجمالي يكتمل بالقراءة النشطة التي تملأ ما في النص من فراغات[10].

أما مدرسة براغ البنيوية فقد وقف هولب على أعمال أهم منظر للأدب فيها وهو جان موكاروفسكي تلك الأعمال الممهدة لنظرية التلقي، ذلك بأن موكاروفسكي لم يفصل العمل الأدبي بما هو بنية عن النسق التاريخي وعن مرجعياته التاريخية... وبهذا الوصف يتوجه إلى متلقٍّ هو نفسه نتاج للعلاقات الاجتماعية المتغيرة، وبهذا المتلقي للعمل وليس بمنشئه، يناط فهم المقصد الفني الكامن في العمل.

في هذا المجال، نجد أن تيار «جمالية التلقي» جاء موازيًا للبنيوية لا منبثقًا عنها، فقد كان مقال الناقد الألماني الشهير ياوس في نهاية الستينات المعنون بـ«التغير في نموذج الثقافة الأدبية» المنطلق الحقيقي لتوجه هذا التيار الجديد[11].

بالنسبة لجادامير وموقفه من المنهج العلمي وانحيازه إلى النشاط التفسيري -الهرمنيوطيقي- بأركانه الثلاثة، على أساس أنه المرتكز الصالح لتحديد إمكانية الرؤية، وسعيه نحو تأسيس وعي ذي طابع تاريخي عملي، هو قبل كل شيء وعي بالموقف التفسيري، وتطويره لمصطلحين كان لهما أهميتهما لدى رواد نظرية التلقي، هما «التاريخ العملي» و«أفق الفهم». ومن هذا التوجه الهرمنيوطيقي ينتقل هولب إلى التوجه الاجتماعي النفسي عند لوفينتال وتناوله مشكلة العلاقة بين العمل والمتلقي على هذا الأساس[12].

بعد ذلك، يعرج هولب على جوليان هيرش وما لفت إليه النظر في دراسة تاريخ الأدب من ضرورة التركيز لا على الأعمال ومنشئيها، بل على الآثار التي أحدثها هؤلاء المنشئون في زمنهم وبعد زمنهم، في نفوس المتلقين الذين يدركون قيمة تلك الأعمال ويقررونها.

ثم ينهي هولب هذا الاستعراض التاريخي بوقفة من شوكنج، الذي قدّم بديلًا من البدائل القليلة للأفكار السائدة عن تاريخ الأدب، من شأنه أن يمهد الطريق كذلك لنظرية التلقي، وذلك عندما ركز دراسته على سوسيولوجيا الذوق، ففي هذا التوجه لم يعد المؤلف وعمله الأدبي يحتلان مكان الصدارة، بل انصرف الاهتمام أساسًا إلى المتلقي وإلى الظروف الاجتماعية التي تم فيها التلقي[13].

زد على ذلك، يؤكد روبرت هولب أن كل المحاولات التي تتبلور من أجل صياغة نظرية في التلقي، إنما هي متصلة بنظرية الاتصال؛ لأن القصد من كل ذلك هو تقدير وظائف الإنتاج الأدبي والتلقي والتفاعل وكل ما يتصل بذلك. ويؤكد ذلك كل من ياوس وآيزر.

من جانب آخر، نجد دراسات مختلفة لها الاهتمام نفسه، كالدراسات المبكرة لفرجينيا وولف عن القارئ العادي، والدراسات المنضوية تحت ما يسمى «نقد استجابة القارئ»، وكذلك دراسات بعض نقاد الاتجاه البنيوي في اهتمامهم بالقارئ كما عند تودروف ورولان بارت، وكذا دراسات عمالقة السيميولوجيا كإمبرتو إيكو وغيره[14]. وردًّا على بعض نقائص هذه الاتجاهات جاءت نظرية التلقي لتحد من الاهتمام بالنص فقط دون المؤلف.

-3-
مفهوم القراءة

حاولت نظريات القراءة وضع مجموعة من المفاهيم التي يُمكنها أن تساعد في فهم فعل القراءة، خاصة وأنه بمثابة نشاط متعدد الوجوه، نشاط معقد وينمو في اتجاهات كثيرة، ذلك أن استهلاك أي نص لا يمكن أن يتحقق بعيدًا عن هذه القاعدة الأساسية.

وسنحاول فيما يلي التطرق فقط لبعض التعاريف التي قدَّمها أبرز الباحثين المهتمين بنظريات القراءة والتلقي.

تعرف القراءة لغة كما جاء في لسان العرب «قرأ الكتاب، يقرأُه، ويقرُؤُه، قرأً، وقراءة، وقرآنا: تلاه. وقرأ عليه السلام: أبلغه إياه، وقرأ الشيء قرْءاً وقرآناً: جمعه وضم بعضه إلى بعض، وأقرأه إقراءً: جعله يقرأ»[15].

وتعرف ليلى كرم الدين القراءة على أنها: عملية معقدة تتضمن عدة عمليات أو قدرات عملية لغوية فرعية تنظم على مستويات متتالية، ابتداء من استقبال الرموز والأشكال البصرية المختلفة، ثم إدراكها، ثم فهم معانيها عن طريق الربط بينها وبين الخبرات الماضية للفرد ومن ثمة التمكّن من القيام بنوع من الحكم على المواد المقروءة[16].

في السياق نفسه، تعرف سيزا قاسم القراءة بأنها «خبرة محددة في إدراك شيء ملموس في العالم الخارجي ومحاولة التعرف على مكوناته وفهم هذه المكونات: وظيفتها ومعناها، وترى أن هناك أربعة مستويات للقراءة: يبدأ الأول بالإدراك وهو مستوى حسي يعتمد على الحواس: الشم أو البصر أو السمع أو اللمس، وهو إدراك حسي مادي موجود في عالم الواقع.

يتعلق الثاني بالتعرف الذي ينطوي على عملية ذهنية تتضمن الطبيعة السيميوطيقية لهذا الشيء. فرغم أن هذا المدرك شيء مادي ينتمي إلى عالم الواقع. إلَّا أنه ذو طبيعة خاصة، إنه «علامة» أي ينتمي إلى نظام سيميوطيقي. علمًا أن العلامة شيء مادي مزدوج البنية: مادي «سمعي أو بصري أو لمسي»، ومعنوي الدلالة.

يرتبط الثالث بالفهم وهو محاولة فك شفرة العلامة الذي يفضي إلى الدلالة. يتطلّب هذا المستوى درجة من التعلُّم يمكّن من فهم الدلالة. أما المستوى الرابع والأخير فهو التفسير أو الاستيعاب الذي يقوم على محاولة معرفة ما إذا كانت هذه الدلالة تنطوي على مستوى أعمق يحتاج إلى التفسير، أي قد تكون الدلالة المتعرف عليها غير كاملة، وهو ما يستلزم البحث عن شفرة جديدة تكمل الشفرة الأولى وتوصل المعنى الثاني، أي معنى المعنى»[17].

وعليه، فإن القراءة عملية مركبة تتألف من عمليات متشابكة يقوم بها القارئ وصولًا إلى المعنى الذي قصده الكاتب، واستخلاصه، وإعادة تنظيمه، والإفادة منه، والقراءة بهذا المفهوم وسيلة لاكتساب خبرات جديدة تتناغم مع طبيعة العصر التي تتطلّب من الإنسان المزيد من المعرفة الحديثة والمتجددة، كما تتطلّب تطوير القارئ لقدراته العقلية ولأنماط التفكير ولأنساقه الفكرية وتنمية رصيد الخبرات لدى الفرد.

3-1- القراءة عند رولان بارت

اهتم رولان بارت كثيرًا بجمالية القراءة، ووقف طويلًا عند ما تثيره في القارئ من رغبة واشتهاء، فتحدث عن الافتتان بالنص والتلذذ بمفاتنه والانجذاب إليه بفعل سحره، واعتبر أن القراءة نوع من إعادة كتابة النص وإطلاق إنتاجيته. لكن النص القادر على إحداث تلك الرعشة الجميلة هو النص الذي يربك القارئ ويخلخل موازينه الثقافية والنفسية واللغوية، فهو يقتنص المتلقي بواسطة نظامه الدلائلي الخاص وبواسطة أحابيله الفنية المنصوبة[18].

وبالتالي مفهوم القراءة عند رولان بارت يتخذ شكلًا مميزًا، «القراءة وحدها تعشق الأثر الأدبي وأن نقيم معه علاقة شهوة، فأن نقرأ معناه أن نشتهي الأثر، وأن نرغب أن نكونه»[19].

إن مفهموم النشوة هي ما عبر عنه بلذة النص التي أشرنا إليها، وهو تعبير جعله رولان بارت عنوانًا لأحد كتبه المهمة والذي صدر سنة 1973م، معتبرًا بذلك القراءة هي العنصر الذي يساعد القارئ على القيام بدور فعلي إيجابي، من خلال هذا العشق الذي ينشأ بين الطرفين.

إن القراءة من هذا المنطلق ليست فعلًا بسيطًا، ليست فعلًا بصريًّا، وليست عملية تلقّي الخطاب كأن النص حدد نهائيًّا، بل إنها أشبه بقراءة الحكماء للعالم من خلال التأمل والنظرة الثاقبة والبحث عن المسالك المؤدية للمعرفة.

ومن هنا يميز بارت بين القراءة التي هي اندماج في النص واستمتاع به، وبين النقد الذي هو خطاب موازٍ للنص يستهدف تقويمه أو الحكم عليه. إن رولان بارت الذي قيل عنه: إنه أمات المؤلف، قد نادى بحياة القارئ وبأحقيته في إنتاج النص وفي إعادة كتابته؛ لأن العلاقة -عنده- بين الكتابة والقراءة ليست علاقة إرسال واستقبال، أو علاقة إنتاج واستهلاك، وإنما هي علاقة تشكّلات وفق منطق خاص هو منطق السنن النصي الذي لا يلزم القراءة باتخاذ وجهة معينة، وإنما يبني ملابسات دلالية تعطيها حق المبادرة والمثابرة، وتسمح لها باقتحام منطقة الإنتاج بإعادة ترتيب أنظمة الكتابة وتشغيلها لصنع معنى النص أو أحد معانيه.

3-2- القراءة لدى ياوس

3-2-1- مفهوم القراءة

ينطلق ياوس في نظريته عن التلقي من قضية التاريخ الأدبي الذي يجب أن يعاد النظر فيها، وينبغي إعادة بنائها تأسيسًا على الاستجابة والأثر الناتج عن قراءة النص.

حاول ياوس[20] أن يخلّص الأدب الألماني من الثنائية المفروضة عليه بتأثير المذهب الماركسي في النقد، ومذهب الشكلية الروسية، فالتعارض بين الاتجاهين قائم على أساس أن القارئ الماركسي يتعامل مع النص الأدبي من خلال التفسير المادي للتاريخ، فهو في نظر ياوس قارئ يستقبل النص تحت وطأة الجبرية المذهبية لتقاليد ماركس، وبالتالي فهو معزول تمامًا عن جمالية النص.

وأما القارئ في مذهب الشكلية الروسية فهو يستقبل النص معزولًا عن مواقفه التاريخية، وغاية همَّه أن يقف عند البناء الشكلي. وقد انتهى ياوس من محاولاته في التغلّب على هذا الانقسام إلى رؤية جديدة تضع القارئ في موضعه المناسب من النص. وقد أطلق على هذه الرؤية «جمالية الاستقبال»[21].

عمد ياوس إلى استعراض المناهج والنظريات التي عالجت تاريخ الأدب، وناقشت جوانب النقص فيها بدءًا من التاريخ الأدبي بشكله التقليدي وصولًا إلى الماركسية والشكلانية، ووصل إلى أنها تتميز إما بفصل الجمالي عن التاريخي، بحيث لا يهتم التاريخ الأدبي الخالص بعلاقة الظاهرة الأدبية بالأحداث التاريخية الأخرى دون أن يهتم بها في جماليتها الخاصة. وأن تتميز بفصل الماضي عن الحاضر، أو تتجاوز السمة التاريخية للظاهرة الأدبية وتتناولها باعتبارها مجموعة من الكليات المتعالية عن الزمن والتاريخ[22].

في السياق نفسه، وفي مقال لياوس سنة 1969 تحت عنوان: «التغير في نماذج الدراسات الأدبية» حدّد ياوس مناهج التاريخ الأدبي، وجاء مقاله موحيًا بالثورة على النماذج الحديثة في استقبال النص؛ لأن أصحاب هذه المناهج عزلوا أنفسهم عن الخبرات الجمالية التاريخية، زاعمين أن المنهج الحديث يمثل في تاريخ الدراسات الأدبية إبداعًا غير مسبوق بنظير[23].

وعليه فإن المنهج الذي يسعى إليه ياوس في نظرية التلقي هو القادر على استدعاء الخبرات، وترجمتها إلى حاضر جديد، ثم يقرر ياوس أن فن الماضي قادر على الحديث، وعلى تقديم إجابات لنا مرة أخرى.

جدير بالذكر أن أهم ما ألحَّ ياوس[24] عليه هو ضرورة التوحد بين الأدب والتاريخ، ذلك أن التعامل مع النص إنما يتم بمعيارين لا غنى لأحدهما عن الآخر، وهما: معيار الإدراك الجمالي لدى المتلقي، ومعيار الخبرات الماضية التي يتم استدعاؤها في لحظات التلقي. ذلك أن الخبرات الجمالية التي كشف عنها التعامل مع النص بواسطة القراء في عصور سابقة هي بمثابة دليل يساند، ويغني في سلسلة الاستقبالات من جيل إلى جيل. كما يرى ياوس بأن الأدب والفن لا ينتظمان في تاريخ نسقي إلَّا إذا نسبت سلسلة الأعمال المتتابعة، للذات المنتجة وكذا الذات المستهلكة، بمعنى التفاعل بين المؤلف والجمهور[25].

إن العمل الأدبي ليس جوهرًا ثابتًا يحيا بمعزل عن المتلقي، إنه يحيا ويكتسب فعالية إذا تمَّ استقباله من طرف قارئ، إن الأدب باعتباره سيرورة حديثة متواصلة ومنسجمة، لا يتأسَّس بصفته تلك إلَّا في اللحظة التي يصبح فيها موضوعًا لتجربة القراء[26].

من جانب آخر، يرى ياوس أنه لا يوجد عمل بدون تأثير، وهو ما يفترض مسبقًا وجود متلقٍّ، وأحكام المتلقي هي التي توضّح أعمال المؤلف[27]، وإن كان هناك من يرجع تمييز ياوس بين التأثير الصادر عن النص والتلقي المشروط بآفاق التوقع والانتظار لدى القارئ إلى المرحلة الثانية من فكره النظري التي راجع فيها مقولاته النظرية الأولى.

يمكن تمييز الأثر عن التلقي حسب ياوس عند اعتبار عامل الزمن، فيكون الأثر الذي ينتجه العمل الأدبي بالظرف الذي ولد فيه، والذي شمله بجملة من المعطيات المؤثرة في نشأته وتكوينه، فهو يرتبط بذلك الماضي ويلازمه، ويأخذ منه قدرته إلى إحداث الأثر. أما التلقي فيكون حركة حرة منطلقة تتخطى عامل الزمن الماضي، وتدخل في حوار مع الحاضر -حاضر القراءة- من خلال جملة المعايير الجديدة التي قد تختلف عن تلك التي ولد فيها، وفي كنفها النص الأدبي فيكون التلقي مساءلة للنص في زمن غير زمنه ومن خلال قيم غير قيمه[28].

من جهة أخرى، يركز ياوس على أهمية الجماعات التأويلية التي تعرفها سوزان بينيت على أن: الجماعات التأويلية تتكون من الذين يشتركون فيما بينهم في مجموعة من الاستراتيجيات التأويلية، التي لا تتعلَّق بفعل القراءة بالمعنى التقليدين ولكن بعملية النصوص وتشكّل سماتها وتقرير أهدافها، إن هذه الاستراتيجيات تتواجد قبل فعل القراءة، ومن ثم يتشكّل معنى المادة المقروءة، والعكس ليس بالصحيح[29].

3-2-2- أفق التوقع

مما لا شك فيه أن مصطلح أفق التوقعات يلعب دورًا بارزًا في أطوار نظرية التلقي، حيث إن أفق توقع القارئ أو أفق الانتظار هو مفهوم إجرائي قدّمه ياوس ويعني به «الفضاء الذي تتم من خلاله عملية بناء المعنى، ورسم الخطوات المركزية للتحليل ودور القارئ في إنتاج المعنى عن طريق التأويل»[30].

وقد استخدم ياوس هذا المصطلح لوصف المعايير التي يستعملها القراء للحكم على النصوص الأدبية في أية حقبة معينة.

لقد أخذ ياوس مفهوم «الأفق» من غادامير مركبًا معه كلمة الانتظار التي أخذها من مفهوم «خيبة الانتظار» عند كارل بوبر، فقد وجد ياوس أن هذين المفهومين المعمول بهما في فلسفة التاريخ يحقّقان أمله في البرهنة على أهمية التلقي في فهم الأدب والتأريخ له[31].

يتضح جليًّا، أن ياوس يبني نموذجه على أساس «أفق التوقع» الذي يعد بمثابة السوابق أو الفكرة السابقة على فعل شيء ما، والمتلقي يقبل على العمل وهو يتوقع شيئًا ما. ومن خلال أفق التوقع يسمح القارئ لنفسه باستكمال الفجوات المقدمة وتعبئتها.

كما أن ياوس يستخدم مفهوم «أفق التوقعات» لوصف مسألتين: الأولى هي عمليات القراءة نفسها، أي ما يحدث عندما يقرأ قارئ نصًّا ما.

والثانية هي ما يترتب على هذه القراءة من إدخال نصوص بعينها إلى التاريخ الأدبي. والمسألتان غير منفصلتين، بل تتكاملان بطريقة تجعل سببًا ونتيجة للأخرى في الوقت ذاته. التاريخ الأدبي وفق هذا الطرح هو مجموعة من النصوص رشحتها القراءات المختلفة في أزمنة مختلفة طبقًا لمعايير هذه القراءات. فحين يفحص قارئ نصًّا ما فإنه يقارن بينه وبين النصوص السابقة التي تشكل أفق توقعاته[32].

إن النص الأدبي حسب ياوس يعاد تشكيله من خلال القراءة التي هي عملية تواصل دائم بين عناصر العمل الأدبي وثقافة القارئ، الذي يستند بدءًا إلى ثقافته الاجتماعية والنقدية، وذاكرته الأدبية، ثم يعيد تكوين الاستجابة بناءً على مدى التطابق بين أثر النص وأفق التوقع، أو بناء على مقدار البعد بينهما.

في مقال لياوس بعنوان: «theoty of Geners and Medieval literature» «نظرية الأجناس وأدب العصور الوسطى»، نشرها في كتابه «نحو جماليات التلقي»، يقول ياوس: إن أفق الانتظار ذاك الذي يتكون عند القارئ من خلال التراث أو سلسلة من الأعمال المعروفة السابقة، وبالحال الخاصة التي يكون عليها الذهن، وتنشأ عن بروز الأثر الجديد عن قوانين جنسه، حيث إن كل أثر أدبي ينتمي إلى جنس، وهذا ما يعود إلى التأكيد على أن كل أثر يفترض أفق انتظار[33]، بمعنى مجموعة من القواعد السابقة الوجود توجه فهم القارئ وتمكنه من فهم العمل بشكل تقييمي[34].

حسب ياوس، لا يمكن لعمل أدبي ما أن يكون جديدًا كل الجدة، ذلك أن كل عمل يذكرنا بعمل آخر قرأناه سابقًا، إذ يكون الجمهور مهيًّأً على نحو ما للتلقي بحيث يتصور بشكل أو بآخر ما الذي سيحدث وكيف ستكون النهاية استنادًا إلى تجارب سابقة تتحكم في عملية القراءة بوعي أو بغير وعي[35].

نشير هنا إلى أن ياوس وضع مجموعة من المبادئ التي رأى أنها ضرورية لأي منهج يعتمد تاريخ الأدب، ونوجزها في النقاط التالية[36]:

1- تبدأ أهمية العمل في اللحظة التي يلتقي فيها بالجمهور، فتتحقق وظيفته ويخرج إلى الوجود بفعل القراءة.

2- ظهور عمل جديد لا يعني جدة مطلقة، بل هو يستند إلى مجموعة من المرجعيات المضمرة والخصوصيات التي تعد مألوفة، أي إن العمل لا يأتي من فراغ، بالإضافة إلى أن الجمهور الذي يوجه إليه هذا العمل هو جمهور مسلح بمجموعة من المعايير اكتسبها من تجاربه الخاصة مع النصوص السابقة.

هكذا إذا أردنا أن نصف الكيفية التي يتم تلقي العمل بها، والتأثير الذي مارسه هذا العمل على الجمهور، ومجموع الأجيال اللاحقة، فينبغي إعادة أفق الانتظار الخاص بكل جمهور.

حصر علم التأويل الأدبي نظريته في التفسير، ولم يعبر البتة عن حاجته للفهم، وأهمل مسألة التطبيق إهمالًا أعطى التطور في اتجاه جمالية التلقي نجاحًا غير منتظر هو نجاح «تغيّر النموذج». وقد كانت فكرة أن الفهم يتضمن دائمًا بداية التفسير وأن التفسير بالتالي هو الشكل الظاهر للفهم[37].

-4-
فعل القراءة وبناء المعنى عند وولف گانگ إيزر

4-1 مفهوم القراءة

يطرح آيزر فكرة أنه إذا كان التشكل الدلالي للنص يشترط إشراك القارئ الذي يقوم بتحقيق البنية التي تقدم له من أجل الكشف عن المعنى، فإنه لا يجب نسيان موقع القارئ داخل النص. وعلى النص أن يأخذ بعين الاعتبار هذا الموقع إذا كان يراهن على وجهة نظر متحركة للقارئ. فتكوّن المعنى لا يشكل شرطًا بسيطًا من الشروط التي يتطلبها وجود القارئ، إن هذا التشكل يستمد معناه من كون أن هناك شيئًا ما يحدث للقارئ أثناء هذه السيرورة. وإذا كان الأمر كذلك فإن النص باعتباره موضوعًا ثقافيًّا سيحتاج إلى ذات لا تشتغل لحسابه، بل من أجل امتلاك القدرة على التأثير في القارئ[38].

لم يهتم إيزر بما هو متكون وإنما بما يمكن أن يتكون، أي بتشكل النص في وعي القارئ الذي يسهم في بناء معناه. ولذلك اعتبر أن للأدب قطبين، هما القطب الفني وهو النص كما أبدعه المؤلف، والقطب الجمالي وهو التفعيل الذي ينتجه القارئ.

وهذا يعني أن الإنتاج الأدبي لا يتطابق مع النص الأصلي ولا مع القراءة، وإنما هو الأثر الذي يحدث نتيجة تفاعل القارئ مع ما يقرؤه، ومن ثم لا ينبغي البحث في النص عن معنى مخبوء، وإنما ينبغي استطلاع ما يعتمل في نفس القارئ عندما يقرأ. وهو إذ يقرأ فإنما يقرأ على هدى من النص، وبإرشاد الترسيمات التي يوفرها له والتي تتكفل القراءة بتنفيذها. فهو إذن قارئ مُقَدر في بنية النص ذاته[39].

حسب آيزر فإن «القراءة هي شرط مسبق ضروري لجميع عمليات التأويل الأدبي، كما لاحظ ذلك من قبل «والترسلاتوف W. Slatoff» في كتابه «بصدد القراء»، يقول: يشعر المرء بأنه سيكون مضحكًا قليلًا إذا كان عليه أن يبدأ بالإلحاح على أن الأعمال الأدبية توجد في جانب منها على الأقل لكي تكون مقروءة، وبأننا نقوم بالفعل بقراءتها، وإن من المفيد أن نفكر في ماذا يحدث عندما نفعل ذلك؟ ولنقل هذا بكل صراحة؛ فمثل هذه التصريحات تبدو بديهية لدرجة أنه لم تكن هناك حاجة لذكرها. مع ذلك، فإنه ليس هناك أحد ينكر مباشرة بأن للقراء والقراءة وجودًا فعليًّا»[40].

لقد احتل البياض موقعًا رئيسيًّا في تأمل آيزر، حيث عرَّفه مثل موقع «اللاتحديد» لإنغاردن... ومع أن جزءًا كبيرًا من هذا المقال المبكر خصص للبياضات واللاتحديد، إلَّا أن الشيء الذي يتكون منه البياض بالضبط لم يتم تحديده نهائيًّا، لكن يمكن للمرء أن يتخيل أن غياب هذا التعريف كان مقصودًا من قبل آيزر[41].

جدير بالذكر أن آيزر كان قد انطلق في بحثه ضمن نظرية التلقي من محاولة التعرف على الطريقة التي يمكن للقارئ من خلالها بناء المعنى، وكذا الظروف التي تنتج فيها معاني النصوص، حيث يرى أن المعنى هو نتيجة تفاعل بين القارئ والنص، فأي خطاب ليس نصًّا تمامًا وليس القارئ تمامًا.

وانطلاقًا من هذا يحدد آيزر ثلاثة ميادين يرى ضرورة البحث فيها وهي:

1- النص، فهو عبارة عن هيكل عظمي، لا بد للقارئ أن يبث فيه الروح من خلال ملء فجواته.

2- التركيز على عملية القراءة في حد ذاتها، والاهتمام بكيفية تشكيل القارئ للصور الخيالية لكي تصبح ممارسة.

3- التركيز على بنية النص التوصيلية من أجل فحص التفاعل بين النص والقارئ.

ومن هنا نفهم أن آيزر لم يهتم فقط بكيفية إنتاج المعنى ولكن بحث أيضًا في الآثار التي يحدثها النص في القارئ نتيجة تفاعلهما معًا.

4-2- التفاعل والتواصل بين النص والقارئ

إن القراءة إذن نشاط مكثّف وفعل متحرك، كما أنها ليست «مجرد صدى للنص بل هي احتمال من بين احتمالاته الكثيرة، والمختلفة، وليس القارئ في قراءته كالمرآة، لا دور له، إلَّا أن يعكس الصور والمفاهيم والمعاني، فالأحرى القول: إن النص مرآة يتمرأى فيه قارئه على صورة من الصور، ويتعرف من خلاله، على نفسه بمعنى من المعاني[42].

إن التفاعل بين بنية النص ومتلقيه يتم عند فعل القراءة، وهذا التفاعل جوهري في كل عمل أدبي، ولذلك لفت علم الظواهرية الانتباه إلى إن دراسة العمل الأدبي ينبغي أن تسعى إلى فهم النص فهمًا يتجاوز شكله.

ويمكننا القول: إن للعمل الأدبي قطبين: القطب الفني والقطب الجمالي، فالقطب الفني يرجع إلى النص الذي أنتجه المؤلف، في حين يعود القطب الجمالي إلى التجسيد الذي يحققه القارئ لهذا النص.

هذه القطبية تعني أن العمل الأدبي لا ينحصر في النص نفسه ولا في تجسيده الذي يتعلق بدوره بالظروف المحيطة بتحقيق القارئ له، ولو كانت هذه الظروف جزءًا لا يتجزأ من النص، ومكان العمل الأدبي إذن هو المكان الذي يلتقي فيه النص والقارئ، وهو بالضرورة ذو طابع افتراضي، نظرًا لكونه لا يمكن أن ينحصر لا في حقيقة النص ولا في الاستعدادات النفسية للقارئ.

يركز آيزر على أنه لكي تنجح عملية التواصل وينتهي القارئ إلى تشكيل المعنى النصي الذي غالبًا ما يزعزع تجربته المكتسبة ويعطل توجيهاته الخاصة، فلا بد للنص أن ينطوي على مجموعة من العناصر أو العوامل الموجهة التي تسمح له بمراقبة سيرورة التفاعل التواصلي القائم بينه وبين القارئ، إن هذه العناصر الموجهة لا يمكن أن تمتلك أي محتوى محدد مسبقًا[43].

إن الشيء الأساس في قراءة عمل أدبي ما هو التفاعل بين بنيته ومتلقيه، وهذا يعني «أن للعمل الأدبي قطبين، قد نسميهما «القطب الفني والقطب الجمالي»، الأول هو نص المؤلف، والثاني هو التحقّق الذي يُنجزه القارئ، وفي ضوء هذا التقاطب يتضح أن العمل ذاته لا يمكن أن يكون مطابقًا لا للنص ولا لتحققه بل لا بد أن يكون واقعًا في مكان ما بينهما»[44].

4-3- القارئ الضمني

يعتبر مصطلح «القارئ الضمني» le lecteur implicite [45] من بين أهم المفاهيم التي أنتجتها نظرية التلقي، فقد اعتبره وولف غانغ آيزر بمثابة الأداة الإجرائية المناسبة لوصف التفاعل الحاصل بين النص والقارئ. فهو يرى أن أصول القارئ الضمني متجذرة في بنية النص، فهو بنية نصية تتطلع إلى حضور متلقٍّ ما دون أن تحدده بالضرورة[46].

القارئ الضمني عند آيزر محدد من خلال حالة نصية واستمرارية لنتاج المعنى، على أساس أن النتاج من صنيع القارئ أيضًا لا من صنيع الأديب وحده. وهذا يعني «أن القارئ الضمني موجود قبل بناء المعنى الضمني في النص، وقبل إحساس القارئ بهذا التضمين عبر إجراءات القراءة»[47].

في هذا الصدد يجري آيزر تمييزًا بين القارئ الضمني والقارئ الفعلي، ويشير إلى أن القارئ الضمني ليس ذلك الشخص الذي يمسك النص في يده ويقوم بعملية القراءة الفعلية، بل هو القارئ الذي يخلقه النص، ولا يمكن أن يتطابق مع القارئ الفعلي. ولما كان النص ينشئ قارئه فإن خصائص النص ذاته تحدد مسبقًا طريقة قراءته، علمًا أن القارئ لا يعيد كتابته حسب ما يريد، بل يخضع في تجربته الجمالية مع النص إلى قيود يفرضها النص نفسه مرة أخرى. فالبرغم من أن القارئ الفعلي يستخدم ملكاته المعرفية والتخييلية لملء فجوات النص اعتمادًا على أفقه الخاص، إلَّا أن هذه الصورة المرئية لا تشكل من فراغ، لأنه في الواقع يستخدم التفاصيل التي يوفرها النص[48].

كما يستعرض آيزر في دراسته للقارئ الضمني تصنيفات جديدة من القراء نذكر منها مثلا: القارئ الفذ l’archilecteur الذي يمثل عند ريفاتير مجموعة من المخبرين يجتمعون معًا عند نقاط العقدة في النص ويثبتون بذلك حقيقة أسلوبية من خلال ردود أفعالهم المشتركة[49].

نجد أيضًا ما يسميه ستانلي فيش بالقارئ المطلع lecteur informé الذي يعتبره متكلمًا كفئًا للغة التي يبنى منها النص، قارئ يمتلك قدرة أدبية إذ أن هذا القارئ هو وحده الذي يستطيع أن يراقب ردود أفعاله الخاصة على البنية السطحية ويصححها باستمرار لأن كفاءاته وقدراته تسمح له بذلك. إذن فالقارئ المطلع هو القارئ الحقيقي الذي يقوم بكل ما بوسعه من أجل أن يجعل نفسه مطلعًا[50].

خاتمـــة

إن ممارسة القراءة في جوهرها تحتكم إلى ضوابط أدبية مختلفة، على حسب مقاربات يراها القارئ في مشروع تأويله الفني بينه وبين النص، ومع هذه النظرة التأويلية فإن بعض المستنيرين كانوا يرون أن ما قدّموه من مبادئ وقوانين للتأويل ليست قطعية ملزمة، وإنما هي ظنية تأطيرية تمنع من الشك والتضليل، ولذلك فلا مانع من الاختلاف في وجاهتها.

بحيث نخلص للقول: إن فعل القراءة وعملية بناء المعنى، تصب كلها في مفهوم المشاركة ومغازلة النص الذي هو قادر على استقطاب القارئ ودفعه إلى تحقيق هويته وبناء معناه، حيث لا يمكن إنتاج نص إلَّا من خلال المراحل المختلفة أو المتتابعة للقراءة غاية في التعرف دائمًا على مكونات وخصائص العالم الخارجي أو الداخلي ربما لكاتب النص.

وما هو ملاحظ أن مفاهيم آيزر ومصطلحاته التي ارتبطت بـ«فعل القراءة» لديه، جاءت مكملة لمفاهيم ياوس في «تحطيم أفق الانتظار» وإعادة كتابة تاريخ الأدب، ولمفاهيم إيكو في حدس القارئ المتعاون بعوالم النص الممكنة واستشراف آفاقه المرتقبة في بنيتها التاريخية والاجتماعية.

فجميع أعمال هؤلاء إذا ساهمت في تحديد معالم وخطوات تقدم نظرية التلقي التي ما جاءت إلَّا لتجعل نصب أعينها الاهتمام بالقارئ والقراءة «مكونات النص»، ولتغيّر مسار البحث من التركيز على النص وصاحبه إلى التركيز على القارئ وكيفية استنباطه المعنى من النص.

 

 



[1] محمد الداهي، التلقي العربي لدون كيخوتي...

Source: http://www.thaqafat.uob.bh/show.asp?no=66.Le 03/03/2008.

[2] أرمان وميشال ماتلار، تاريخ نظريات الاتصال، ترجمة: نصر الدين لعياضي والصادق رابح، بيروت - لبنان: المنظمة العربية للترجمة، ط3، 2005، ص 161.

[3] رولان بارت، درس السيميولوجيا، ترجمة: عبدالسلام بن عبدالعالي، دار توبقال للنشر، الطبعة الثانية، 1986، ص81.

[4] مراد حسن فطوم، التلقي في النقد العربي، دمشق: الهيئة العامة السورية للكتاب، 2013، ص 5.

[5] عباس محمود عبدالواحد، قراءة النص وجماليات التلقي، القاهرة: دار للفكر العربي، 1996.ص ص 18-19.

[6] عبد الناصر حسن محمد، نظرية التوصيل وقراءة النص الأدبي، المكتب المصري لتوزيع المطبوعات، القاهرة، 1999، ص 78.

[7] H.R Jauss. Pour une esthétique de la réception. traduction: claude maillard .ed Gallimard.  Paris. 1978. p44 - 45.

[8] روبرت هولب، نظرية التلقي، ترجمة: عز الدين إسماعيل، مصر: المكتبة الأكاديمية، 2000، ص13.

[9] عصام الدين أبو العلا، آليات التلقي في دراما توفيق الحكيم، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2007، ص21.

[10] جواد الزيدي، فينومينولوجيا الخطاب البصري، دمشق: دار الينابيع، ط1، 2010، ص 82.

[11] تيري إيجلتون، مقدمة في نظرية الأدب، ترجمة: أحمد حسان، القاهرة: نوارة للترجمة والنشر، ط2، 1997، ص67.

[12] روبرت هولب، نظرية التلقي، مرجع سبق ذكره.

[13] المرجع نفسه، ص 14.

[14] تيري إيجلتون، مقدمة في نظرية الأدب، مرجع سبق ذكره، ص 67.

[15] ابن منظور، لسان العرب، طبعة دار الفكر، بيروت.

[16] أسامة عبد الرحيم علي، فنون الكتابة الصحفية والعمليات الإدراكية لدى القراء، القاهرة: إيتراك للنشر والتوزيع، ط1، 2003، ص 44.

[17] بوكروح مخلوف، التلقي في الثقافة والإعلام، القاهرة: دار مقامات للنشر والتوزيع، 2011، ص 22.

[18] Barthes R: Le bruissement de la langue, essais critiques IV Paris Seuil 1984, pp 37 - 47.

[19] رولان بارت، النقد والحقيقة، ترجمة: إبراهيم الخطيب، مجلة الكرمل، العدد 11، 1984،  ص26.

[20] هانز روبرت ياوس هو أحد أساتذة جامعة كوستانس الألمانية في الستينات، وهو باحث لغوي متخصص في الأدب الفرنسي، كان هدفه المعلن منذ البداية هو الربط بين دراسة الأدب والتاريخ، ولد سنة 1921 وتوفي سنة 1997، وكان لأستاذ ياوس هانز جورج غادامير، الذي درس على يديه في جامعة هايديلبيرغ، أكبر الأثر على أفكاره التي دارت حول معنى التأويل وعلاقة ما يتوقعه القراء من العمل الأدبي.

[21] محمود عباس عبد الواحد، قراءة النص وجمالية التلقي، مرجع سبق ذكره، ص 27.

[22] عبد الكريم شرفي، من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة، بيروت، الجزائر: الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، 2007، ص 151.

[23] محمود عباس عبد الواحد، قراءة النص وجمالية التلقي، مرجع سبق ذكره، ص 29.

[24] للتعرف أكثر على أهم المنطلقات الإجرائية التي تقوم عليها نظرية التلقي حسب ياوس، انظر:

محمد مريني، سوسيولوجية القراءة، المغرب: دار النشر جسور، 2007، ص ص 140-144.

[25] H. R. Jauss. Pour une esthétique de la réception. Op. cit. p39.

[26] مليكة دحامنية، فصول في القراءة والتأويل، أطروحة دكتوراه في الأدب العربي، كلية الآداب، جامعة الجزائر 2، 2010-2011، ص33.

[27] عصام الدين أبو العلا، آليات التلقي في دراما توفيق الحكيم، مرجع سبق ذكره، ص 21.

[28] حبيب مونسي، نظريات القراءة في النقد المعاصر، وهران: دار الأديب، 2007، ص107.

[29] عصام الدين أبو العلا، آليات التلقي في دراما توفيق الحكيم مرجع سبق ذكره، ص 22.

[30] بشرى موسى صالح، نظرية التلقي، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، 2001، ص 45.

[31] عبد الناصر حسن محمد، نظرية التوصيل وقراءة النص الأدبي، القاهرة: دار النهضة العربية، 2002، ص 109.

[32] مخلوف بوكروح، التلقي في الثقافة والإعلام، مرجع سبق ذكره، ص 52.

[33] ا يمكن استيعاب المصطلح ما لم نضف عليه مفهومًا تكميليًّا يطلق عليه ياوس «المسافة الجمالية» التي يعرفها على أنها الفرق بين درجة الشكل المحدد لعمل جديد، وتلحظ هذه المسافة بشكل واضح في العلاقة بين الجمهور والنقد. والمسافة الجمالية هي مقدار الانحراف الكائن بين أفق انتظار القارئ وما يقوله النص. ومن خلال ردود أفعال القراء يمكننا أن نعرف مقدار هذه المسافة الجمالية. انظر:

H. R. Jauss. Pour une esthétique de la réception. Gallimard. Paris. 1978.

[34] عبد الناصر حسن محمد، نظرية التوصيل وقراءة النص الأدبي، مرجع سبق ذكره، ص ص 112-113.

[35] مليكة دحامنية، فصول في القراءة والتلقي، مرجع سبق ذكره، ص 32.

[36] عبد الناصر حسن محمد، مرجع سبق ذكره، ص 116.

[37] هانز روبرت ياوس، «علم التأويل الأدبي حدوده ومهماته»، ترجمة: بسام بركة، مجلة العرب والفكر العالمي، لبنان: مركز الإنماء القومي، العدد الثالث، 1988، ص 55.

[38] فولفغانغ آيزر، الإدراك والتمثل وتشكل الذات القارئة، ترجمة: سعيد بنكراد، الرباط: مجلة علامات، العدد 17، ص 119.

[39] محمد خرماش، فعل القراءة وإشكالية التلقي، بحث مقدم لمؤتمر النقد الأدبي السابع، إربد - الأردن: جامعة اليرموك، 20 - 22/7/ 1998.

[40] فولفغانغ إيزر، فعل القراءة، نظرية جمالية التجاوب (الأدب)، ترجمة: حميد الحميداني، الجلالي الكدية، منشورات مكتبة المناهل، ص11.

[41] روبرت هولب، نظرية التلقي، مرجع سبق ذكره، ص85.

[42] علي حرب، قراءة ما لم يقرأ.. نقد القراءة، ضمن مجلة الفكر العربي المعاصر، ع6، س1989، ص 41.

[43] عبد الكريم شرفي، من فلسفات التأويل إلى نظرية القراءة، مرجع سبق ذكره، ص ص 220 - 221.

[44] فولفغانغ آيزر، فعل القراءة.. نظرية جمالية التجاوب (الأدب)، مرجع سبق ذكره، ص12.

[45] يشير روبرت هولب إلى أن آيزر قد استعار هذا المفهوم عن واين بوث في مفهومه للمؤلف الضمني على نحو ما عرضه في كتابه «بلاغة الفن القصصي». لمزيد من التفاصيل انظر: روبرت هولب، نظرية التلقي، ص 136.

[46] روبرت هولب، مقدمة إلى نظرية التلقي، مرجع سبق ذكره، ص 205.

[47] عبد الكريم شرفي، من فلسفات التاويل إلى نظريات القراءة، مرجع سبق ذكره، ص 185.

[48] مخلوف بوكروح، التلقي في الثقافة والإعلام، مرجع سبق ذكره، ص 56.

[49] Corinne Grenouillet. Lecteurs et Lectures des communistes d’aragon. Presses universitaires Franc-Comtoises. Paris. 2000. p11.

[50] Pascal Alain Ifri. Proust et son narrataire. Droz. Géneve. 1983. P 31.