الكتابة الفلسفية في الجزائر..
من الكتابة إلى النموذج
دراسة في أعمال الدكتور عبدالرزاق بلعقروز
العايب حيدر*
* باحث في فلسفة القيم وإبستمولوجيا العلوم الإنسانية، جامعة سطيف 2 - الجزائر.
مدخل
لا تزال مسألة الكتابة الفلسفية الجزائرية تطرح استفهامًا على كل منتسب لدارسيها، استفهامًا تفرضه طبيعة الفكرة والانسان والمؤسسة، هذا الثالوث الذي لا زال غير مستوفٍ لشروط تحقّقه التاريخي في الجزائر، ما يفتح باب التشكيك في الدور الحضاري والاجتماعي للفلسفة في هذا الوطن التاريخي والحضاري.
وكأنما كتب لها ألَّا تكون إلَّا ترفًا عقليًّا وخبزًا عائليًّا يقتات منه صنوف الأساتذة العاملين، إذ لما تزال تقبع فلسفاتنا بين التأريخ البيداغوجي للفلسفة والمحاولات المقطوعة عن أصولها التي تخولها من تشكيل مذهب فلسفي.
أما عن ملامح التمذهب الفلسفي فلا زالت الأقلام تتفاعل مع بعض المدارس والافكار الفرعية لبعض الفلسفات مع غياب شبه كلي للترجمة، على خلاف الأشقاء المشارقة الذين كان لهم الفضل في ترجمة مئات الكتب التي عرفت بالفلسفة في ربوع الوطن العربي خاصة مع النصف الثاني من القرن العشرين، وحاليًّا نجد أشقاءنا من المغرب وتونس قطعوا شوطًا كبيرًا مع الترجمة، وهذا ما لم يفصل فيه أكاديميو الجزائر بعد.
حقيقة عرفت الجزائر عديد من الأساتذة الذين يشهد لهم بالكفاءة العلمية والكتابة المنهجية الرصينة والأفكار الأصيلة على غرار عبدالله شريط، الربيع ميمون، كريبع النبهاني، مولود قاسم نايت بالقاسم، عبدالمجيد مزيان، أحمد عروة، محمود يعقوبي، عمار طالبي، أبو القاسم سعد الله، عبدالرزاق قسوم، الهادي حسني،..... ممن أثروا بكتاباتهم المكتبة الجزائرية، وأناروا بأفكارهم العقل الجزائري في أحلك أيام الأزمات من بعد الاستقلال إلى ما بعد العشرية السوداء.
ومن حذا حذوهم من طلبتهم المعاصرين الذين باتوا بدورهم يشكلون قطبًا للدرس الفلسفي الجزائري الآني، هذا ما يفتح باب السؤال على مصراعيه، عن هذه القدرات التي من شأنها خلق نموذج فلسفي يجمع بين عالمية السؤال الفلسفي وخصوصية الإبداع الفكري.
أسئلة نبتغي طرحها في هذا المقال الوجيز عن أحد نماذج الكتابة الفلسفية الجزائرية الحالية ممثلة بكتابات الأستاذ عبدالرزاق بلعقروز أحد أعمدة الفلسفة الجزائرية، من تلك الأسئلة التي نطرحها:
إلى أي مدى يمكن الحديث عن «روح للفلسفة» بالجزائر بلغة الأستاذ محمود يعقوبي أكثر من مجرد الحديث عن فلسفة بالمفهوم المعرفي التاريخي، علمًا «أن وجود الروح الفلسفية هي التي تجعل الإنسان فيلسوفًا، مثلما أن الروح العلمية هي التي تجعل الإنسان عالمًا. وإذا لم يكن بإمكان كل إنسان أن يكون عالمًا، فكذلك ليس بإمكان كل إنسان أن يكون فيلسوفًا، وحتى إذا ما وقع بالفعل أن اجتمع الأمران في شخص واحد فهو ليس عالمًا بما هو فيلسوف ولا فيلسوفًا بما هو عالم»؟[1]
هذه الروح الفلسفية التي نُجمل خصائصها في حب الاطّلاع، وشهوة المعرفة، والبحث عن ماهية الأشياء وعن عللها القصوى، التجريد والنظرة الكلية، التحليل والتركيب، النقد والمحاجة، الدقة والوضوح، الاستقصاء وشدة الانتباه، حب الحقيقة والتزامها، النزاهة العقلية، النقد الذاتي، الجرأة العقلية وترك التقليد، المنهجية وعدم الاستباق، الكفاءة اللغوية والقدرة على الفهم والإفهام، هذه المميزات التي تتضافر في تكوينها؛ الروح العلمية والروح المنطقية والقدرة اللغوية؟[2]. إلى أي مدى يطول استبعاد الخطاب الفلسفي من قضايا مصيرية للأمة الجزائرية؟
ألم يكن -كما يقول الأستاذ عبدالرحمن بوقاف- «أن غياب الطرح الفكري لقضايا خطيرة كان من العوامل التي أطالت المحنة الجزائرية، ولا شك في أن محاولة التغييب هذه تعود إلى المراهقة السياسية التي تنزع إلى الحلول السهلة؛ كالاقتصار على الحل الأمني المتعثر في مواجهة العنف وفتح المجال أمام الاقتصاد الموازي في مواجهة البطالة والقضاء على القطاع العام وتحطيمه باسم الخوصصة واقتصاد السوق»؟[3].
إلى أي مدى يمكن الحديث عن انحراف للسؤال الفلسفي في الجزائر والنموذج الفكري الجزائري عمومًا؟ مثلما أكد على ذلك محمد بابا عمي حينما قال: «إن الجزائر غداة الاستقلال وقد كانت أوان الثورة التحريرية متناغمة، محددة الهدف والوسيلة، إلَّا أنه بعد الاستقلال مباشرة أخطأت في السؤال، فضل سيرها وغدا سؤالها الجديد غير سؤالها الذي نفخ فيها الروح قبل سبع سنين، فبعدما كان: كيف نحقق الحرية والوجود الحضاري بالاعتماد على الذات لا على الغير في وقت قياسي وبأقل تكلفة ممكنة؟ صار السؤال بُعيد الاستقلال: ما هو اللون العالمي الذي نحتمي تحت ظله؟؛ الشيوعية الروسية، أم الليبرالية الأمريكية؟ ثم من منا يكون الأسبق لدفع الفاتورة السخية قبل غيره؟ أي من يكون أكثر خيانة من الآخر؟ فغرّر بالشعب، وضاع الأمل، وافتقد المعنى... ولا تزال الجزائر إلى اليوم تعاني ويلات هذا الانحراف»؟[4].
ثم متى، وكيف تأخذ الفلسفة دورها المناط بها، أي التفكير خارج الأطر المغلقة من مؤسسات وأقسام إلى الواقع المعاش، لنستنطق الواقع فلسفة؟
صحيح أن هناك عديد الجهات التي تحمل في ثنايا خطابها هذا الطموح وهاته الآمال على غرار الجمعية الفتية للدراسات الفلسفية في الجزائر المعروفة بـ«الجمعية الجزائرية للدراسات الفلسفية» والتي جاء في عددها الأول يناير 2014م، وعلى لسان رئيس تحريرها الأستاذ محمد جديدي ما نصه: «نعتقد أن الجمعية انبرت منذ تأسيسها إلى مواصلة العمل على نشر الفكر والوعي الفلسفيين ليس داخل الجامعة بل خارج أسوارها، وعدم الانطواء والتقوقع الفلسفي داخل قاعات ومدرجات الدرس البيداغوجي، متجاوزة عقبات النطاق والتقييد الأكاديميين، فاسحة المجال عبر التواصل الواسع من تصحيح أحكام مسبقة يعج بها مجتمعنا الجزائري وتعاني منها الفلسفة»؟[5]
وعمومًا إلى متى تصير الكتابة الفلسفية نموذجًا فلسفيًّا له أصوله ومقاصده واستشرافه لقضايا المجتمع التربوية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية؟
أولًا: الفلسفة في الجزائرالواقع والرهان
1- مكاسب وحدود الدرس الفلسفي الجزائري
في مجرى حديثه عن الممارسة الفلسفية داخل المؤسسة التربوية والجامعية، حدّد الأستاذ زواوي بغورة عديد العقبات التي تواجه مجرى الممارسة الفلسفية، نعتقد أنه يمكن تحديدها في عقبتين:
الأولى: عقبة أيديولوجية مرتبطة أساسًا بسياسة الدولة وتوجهها الثقافي والاجتماعي والديني، يقول الأستاذ زواوي: «لعل من بين العناصر التي ميّزت المنظومة التربوية والجامعية هو خضوعها المباشر للقرارات السياسية الكبرى المحددة لتوجهات المجتمع، ولقد تجسّدت تلك القرارات بشكل آلي في المنظومة التربوية والجامعية، وهكذا نجد قرارات من مثل ديمقراطية التعليم، والجزأرة، والتعريب والأسلمة، وإن كان ذلك من دون تصريح وإعلان، تتحقق وتعمل بشكل فاعل سلبًا وإيجابًا، وفي مختلف أطوار المنظومة التربوية في الجزائر. إن هذه القرارات والرهانات السياسية بالدرجة الأولى قد وجدت مجالها التطبيقي أول ما وجدته في حقل الفلسفة»[6].
أما العقبة الثانية؛ فهي مشكلة تقنية بالأساس، ترتبط بمسألة تعريب المنظومة التربوية وعدم كفاءة المؤطرين والمكونين والأساتذة لمادة الفلسفة، وذلك خلال فترة السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، فقد اعتبر زواوي بغورة مثلًا كتاب «الوجيز في الفلسفة» للأستاذ محمود يعقوبي نسخة مترجمة بتصرف وانتقاء كبيرين للكتاب المدرسي المعتمد في فرنسا Nouveau précis de philosophie الصادر سنة 1960 [7].
من ذلك أيضًا الإصلاحات التي جرت على قدم وساق من قبيل الإصلاح التربوي لسنة 1992م الذي تبلور عنه البرنامج الجديد للفلسفة سنة 1993 حيث يختلف كليًّا عن الوجيز، وذلك بإدخال «التعليمية في الفلسفة la didactique»، حيث كان «جديد هذا البرنامج الذي يتلاءم ويتّفق كذلك مع مرحلة سياسية في الجزائر، هي مرحلة الفوضى والحرب غير المعلنة، يتمثل في تقليصه لمواضيع الفلسفة واستبعاده للمحاور الفلسفية الأساسية، كالألوهية ومصير الإنسان والروح والمادة، واستحداث مادة الفلسفة الإسلامية في السنة الثانية ثانوي، من منظور سلفي يتماشى ورؤية علي سامي النشار الذي جعل من فلاسفة الإسلام مجرد مشائين وتابعين لأرسطو... هذه التعليمية التي بقيت دعوى فارغة، لأن هنالك انعدام شبه كلي للأساتذة المؤطرين في هذه المادة»[8].
أما عن حدود ومكاسب برنامج الفلسفة على مستوى التعليم الثانوي، فقد حدّدها الأستاذ بغورة في النقاط التالية:
1- توسع مكانة الفلسفة من الناحية الكمية، أي أصبحت تشمل سنتين (الثانية والثالثة بحجم ساعي مقبول مقارنة ببعض الدول العربية).
2- أصبح التأطير جزائريًّا بالكامل، وهذا في ظرف وجيز في إطار سياسة الجزأرة، ما أثّر سلبًا من حيث محدودية المعارف ونقص التكوين وغلبة المعارف العامة على المعارف الفلسفية.
3- سطحية الإصلاحات التي عرفها برنامج الفلسفة لم ترتقِ حتى إلى ما كان معمولًا به قبل 1980، فكل الكتب بعد الوجيز تتَّسم بالسطحية والاختزالية والتبسيطية، ما جعلها تخلو من كل روح فلسفية.
4- القائمون على الإصلاح لن يكونوا إلَّا أولئك الأساتذة والمفتشين الذين كانوا مدرسين للمادة ويعانون من قلة الإمكانات كالتفرغ للبحث التربوي، مع ضعف التواصل بالفلسفات الحديثة والمعاصرة، وكذا الطرق الجديدة في التعليم.
5- يعاني تدريس الفلسفة سواء الثانوي أو الجامعي من الانغلاق والعزلة.
6- الإضافة الجديدة للبرنامج تسطيره للأهداف، وتقديمه لطرق تحليل المقال وتحليل النص الفلسفي.
7- يشكو البرنامج من نقائص عديدة خاصة من حيث محتواه المعرفي والفلسفي بدعوى التبسيط.
8- يشكو البرنامج من كل تجديد من ناحية المعلومات والأفكار والموضوعات، فهي شبه باهتة[9].
وعن ميزة التعليم الفلسفي على مستوى التعليم الجامعي، فبدوره خضع للتعريب في منتصف الستينات من القرن العشرين، وتم الاستعانة بأساتذة من المشرق ومصر خصوصًا، وبقيت إلى نهاية السبعينات حكرًا على جامعة الجزائر، إلى أن تم فتح قسم للفلسفة بوهران وقسنطينة بداية الثمانينات، ومنتصف التسعينات تم فتح قسم بالمدرسة العليا بالجزائر والقسم الثاني بالمدرسة العليا بقسنطينة.
إن التعليم الجامعي إلى غاية منتصف الثمانينات كان قائمًا على مجموعة من المقاييس السداسية تعطى خلال 3 سنوات، يتحصل بموجبها الطالب على شهادة ليسانس تخوّله للتدريس بالثانوية أو مواصلة الدراسات العليا. ومع منتصف الثمانينات شرع العمل بنظام جديد، المقاييس السنوية لمدة أربع سنوات، وتم إلغاء دبلوم الدراسات المعمّقة في التكوين ما بعد التدرج.
أما أبرز المشكلات التي تواجه تعليم الفلسفة في الجامعة، فإنه إلى جانب غياب شبه كلي للكتاب الفلسفي والمكتبة والمعوقات التي تواجه الباحثين في شبه المكتبات الجامعية، فإن هذه النقاط تتمثل في:
1- المقاييس في ظل غياب إطار مختص تبقى مجرد مداخل عامة للفلسفة (عقبة العام).
2- أحادية اللغة التي يعاني منها الطالب وعدد كبير من أساتذة التعليم الجامعي (عقبة اللغة).
3- غياب مكتبة جامعية، ما يؤدي إلى نقص تدريس الفلسفة وإن توفر الإطار المدرسي والبرنامج الدراسي (عقبة النص).
4- الانفصام التام بين الثانوية والجامعة والجامعة والثانوية (عقبة القطيعة المرحلية).
5- أثر نظام المقاييس على اختيار مواضيع التخرج؛ فلسفة سياسية، فكر عربي، فلسفة إسلامية، على شكل أصول الفقه وعلم الكلام، أو شخصيات مثل: الغزالي، ابن تيمية، ابن نبي[10].
2- توجهات الكتابة الفلسفية في الجزائر
يعتقد الأستاذ بغورة أنه لا يمكن للكتابات المتوافرة أن تشكل مذهبًا أو بالأحرى هنالك فوبيا من إعلان الانتماء لمذهب معين: «فمن دون شك فإن أفضل حديث عن الخطاب الفلسفي في الجزائر، هو الحديث الذي يتناول بالدراسة والتحليل والنقد التيارات الفلسفية الممثلة في الساحة الثقافية الجزائرية، ولكن عدم التصريح والتأسيس لتيارات فلسفية نتيجة الضعف في التكوين والخوف من الانتساب الصريح لهذا التيار أو ذلك ما عدا التيار السلفي، وهذا نتيجة للمناخ المعادي للاختلاف في وسط تغلب عليه الثقافة الدينية العامة أو ما سميناه بالسلفية الشكلية. كل هذا يصعب تصنيف الكتابة الجامعية الفلسفية إلى تيارات فلسفية واضحة المعالم والمميزات، وإن كان من البديهي القول: إن مجموع تلك الكتابات تنتمي بطريقة أو بأخرى إلى تيارات معينة أو إلى ايديولوجيات معينة...»[11].
هذه التوجهات تتمثل في:
* تاريخ الفلسفة، وتمثله: كتابات كريبع النبهاني، وكذا كتابات الربيع ميمون، كتابات عمار طالبي، عبدالرزاق قسوم، أبو عمران الشيخ، وعبدالحميد خطاب... هذا الرباعي الأخير في التأريخ للفلسفة الإسلامية من خلال تحقيقات لفلاسفة مسلمين وكتابات عن فلسفاتهم، وكذا عبدالرحمن بوقاف في كتاباته عن الفلسفة المعاصرة.
* المنطق وفلسفة العلوم: من خلال أعمال محمود يعقوبي في المنطق الصوري، وكذا مقالات الدكتور موساوي في المنطق الرياضي.
* الفلسفة السياسية والأخلاقية: عرفت هذا المجال كتابات الدكتور عبدالله شريط، والدكتور عبد المجيد مزيان.
* الخطاب الاجتماعي: ولئن كانت تلك التيارات تشكّل في مجملها الخطاب الفلسفي الجامعي فإن هنالك خطابًا فلسفيًّا اجتماعيًّا، ذلك أن «ليس الخطاب الفلسفي في الجزائر هو الخطاب الجامعي الأكاديمي أو خطاب المؤسسة الفلسفية، بل هو كذلك ذلك الخطاب القائم خارج المؤسسة الرسمية، والذي ينتشر في الكتابات السياسية والتاريخية والأدبية والصحفية وفي العلوم الإنسانية وخاصة التاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والأدب»[12].
نذكر من ذلك كتابات مالك بن نبي، مصطفى لشرف، مولود قاسم نايت بلقاسم، رضا مالك، محمد أركون، محمد حربي، علي الكنز، أبو القاسم سعد الله، بختي بن عودة...[13]
* أسلمة المعرفة: الذي خصّه الأستاذ بغورة بفصل كامل وإن لم يدرجه ضمن توجهات الكتابة السابقة، إلَّا أنه يعتبره أحد أكبر التيارات الفاعلة في الجزائر، وإن كان موقفه منه ذا شجون، معتبرًا إياه أحد الخطابات السلفية التي تفعل سلبًا في الكتابة الفلسفية.
وبعيدًا عن الانتقادات التي فيها ما انبنى على تشكيك غير مؤسس أحيانًا (اتهامه لتيار الأسلمة بأنه وليد السبعينات فهو رد على الاتحاد السوفياتي ما جعله يحظى بدعم الدول الغربية، أو أن له مؤسساته المختلفة التي تدعمه حتى العسكرية منها،...).
عن تيار الأسلمة فإنه يمكن ترسيم تلك الانتقادات على شاكلتين: أحدهما أيديولوجي والآخر منهجي، أما الأيديولوجي فقد كتب المؤلف قائلًا: «إنه لا يكفي القول: إن إسلامية المعرفة جزء من استراتيجية الحركة الاسلامية، ولا الدول الداعمة للحركة الإسلامية ولا البديل المعرفي للحركات الإسلامية، ولا النقد الإسلامي للمعرفة الغربية. إن إسلامية المعرفة تطرح مشكلة أكبر من هذا، ولغاية أكثر خطورة، إنها تطرح عملية تأسيس المعارف وقيامها، ومعيار المعارف ومبادئها، إنها تطرح إمكانية تأسيس المعرفة على الهوية، الهوية ليس المبدأ المنطقي، ولا الانتساب السياسي والثقافي، بل الانتماء الديني بشكل خاص. خطاب إسلامية المعرفة يطرح مشكلة خطيرة، لأنه يريد تأسيس المعارف على الدين وسلطته، وعلى الدين الإسلامي وسلطته حصرًا»[14].
ومن ذلك عقده لمماثلة بين «إسلامية المعرفة» و«ماركسية المعرفة»، أيضًا بين «المعهد العالمي للفكر الإسلامي» و«أكاديمية السوفيات»، وبين «طه جابر العلواني» و«تروفيندو نيسوفيتسليسينكو».... ليعتبرها مسألة سلطة وإرادة وليس مسألة معرفة موضوعية[15].
أما الثاني أي المنهجي فيتهمها بإهمال النظري على حساب العملي، وذلك لأنها تقدّم البحث في المنهج على البحث في النظرية، موقفه هذا يجسده النص التالي: «يحاول خطاب الإسلامية أن يكون إجابة لأزمة المجتمعات الاسلامية، والأزمة في منظوره هي أساسًا أزمة فكرية، بل هي الأزمة الكبرى الناجمة عن الجمود والتوقف عن مسايرة الركب الحضاري، وأن سائر الأزمات التي تعاني منها إنما هي في منهج الفكر... وفي نص الإسلامية هنالك ما يمكن تسميته بميثولوجيا المنهج، لا لعدم مشروعية البحث في المنهج والتأكيد عليه، بل لأن الإصرار على المنهج يعني استبعادًا -ولو استبعادًا مؤقتًا- لمشكلات النظرية والاعتقاد بأن المشكلات، كل المشكلات عملية، ويمكن حلّها بطرق عملية أو بمنهج عملي، أما النظرية فلا تطرح مشكلة لأن خطاب الإسلامية يعتمد على قاعدة البساطة والفطرة والإيمان وغيرها من المبادئ التي تعكس آليات التأويل في الأسلمة، فالدين والعقيدة والشريعة كلها بسيطة والتعقيد جاء من الفلسفة والفلاسفة وعلماء الكلام الذين انحرفوا عن الصواب، من هنا نعتقد أن التركيز على المنهج له وجهان، وجه التقليل من النظرية، ما دامت هنالك نظرية مقدًمة سلفًا، ممثًلة في الدين أو العقيدة، أو تدقيقًا في تأويل معين للعقيدة،... والوجه الثاني من القول بالمنهج، هو أن المسائل المطروحة على إسلامية المعرفة مسائل عملية تحتاج إلى حل، والحل مرهون بإرادة المعرفة وليس بالمعرفة، بامتلاك الوسيلة وليس بالنظرية، من هنا يتخذ التخطيط والبرمجة أحد الوسائل الجوهرية في إسلامية المعرفة»[16].
ثانيًا: الوعي بالفلسفة الغربية في الكتابة الفلسفية في الجزائر:
الأستاذ بلعقروز قارئًا لنيتشه
تعمّدنا تخريج هذا العنوان الفرعي على هذا النحو؛ بمعنى كلمتي «وعي» و«في» على نحو ما هما مرتبطتان بالكيفية التي تم بموجبها قراءة تراث الغرب في النص الفلسفي الجزائري، هذا «الوعي» قوامه الولوج إلى هذا التراث بشكل عمودي لا أفقي، أو قراءة استشكالية أكثر منها تاريخية لهذا التراث، وذلك على خلاف ما كان سائدًا ومعمّرًا لعقود.
ولا يفوتنا تأكيد أستاذنا على أهمية متابعة الحضور النيتشوي في الفكر المعاصر، بما هي نزعة تُحيل إلى شكل من أشكال التفلسف تمامًا مثلما الأفلاطونية تحيل إلى نزعة أكثر من إحالاتها على أفلاطون ذاته، هذا من جانب.
أما من جانب ثانٍ فإن المتمرس بالاستراتيجية النيتشوية يكون كالسائح الجوال في ربوع الفلسفات والثقافات المتعددة ومحاورًا للأديان وتعاليمها، ومطالعًا لتقنيات التأويل التي كان يمارسها رواد الفلسفة الحديثة، إضافة إلى مساءلة قيمتها والكشف عن محدودية نتائجها[17].
فنيتشه يعدّ حجر الزاوية في تفكيك بُنى التراث الغربي رؤى وتاريخًا، جعلت من كل من يقرأ في نيتشه -ولا أقول لنيتشه- يحظى برؤية نقدية حصيفة، كذلك فإن هذا الوعي وهذه القراءة في نصوص نيتشه جعلت من أستاذنا يفتح جبهات كانت غامضة وغير معهودة في المتن النيتشوي، ويستنطق بموجبها مقولات تأسيسية للتراث الغربي عمومًا والنسق النتشوي على وجه الخصوص وفق أحدث نظريات القراءة، جمعت بين البعد الإيتيقي والبعد الأنطولوجي للحقيقة والبعد المنهجي للأركيولوجيا ونمط اللامعقولية كأحد فتوحات الكتابة الفلسفية المعاصرة.
كل هذه أخرجت للقارئ الأكاديمي أمورًا كان يجهلها عن نيتشه عدا أفكاره حول الأخلاق والدين، والتي كثيرًا ما تم عرضها بشكل خطّي عام، وإن ساهمت في إثراء المكتبة العربية والجزائرية إلَّا أنه ساهم في استسهال الكتابة واستكسال العقول، فالجماليات والحقيقة والارتيابية والأركيولوجيا والتراتبية هي الجديد الأهم الذي أضافه الأستاذ خاصة من خلال أعماله «نيتشه ومهمة الفلسفة» كذلك «المعرفة والارتياب».
وهذا طبعًا -أي قراءة التراث الغربي- ليس ترفًا عقليًّا أو من منطلق فتح باب الشرود والانبهار، بل كشف الأستاذ عن أفق آخر لتعاملنا مع هذا التراث فمن خلال نيتشه تبيّن أوجه النسبية والتحيّز والخصوصية بدل الكونية للمشروع الفلسفي، ومن خلال نيتشه بتنا نتحدّث عن قراءة منظورية ومقاربات وإمكانات متعدّدة للوعي في مقابل الكونية[18].
في كتابه «نيتشه ومهمة الفلسفة: قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة» عالج الأستاذ مسألة بغاية الأهمية، إنها شرط لكل قراءة ممكنة عن نيتشه وهي مسألة التراتب hierarchie فبعد تحليل إيتيمولوجي وآخر وضعي تركيبي للمصطلح، بدا مصطلح التراتب مرتبطًا أساسًا وظيفةً وتكوينًا بالبعد الديني، كالتراتب الحاصل بين عناصر الوجود: الله والملائكة والإنسان، أو اللاهوت والناسوت، من أعلى إلى أسفل، وإعطاء الأفضلية للفوقي على الدوني.
هذه الرؤية التراتبية وإن كانت مرتبطة بالكنيسة، والتراتب الهرمي في رؤيتها للوجود وهيكلة الكنيسة، فإنها تضرب بجذورها إلى أفلاطون الذي أحدث أول تراتب بقي حضوره جليًّا أم ضمنيًّا في الرؤية الغربية أو الدينية أو الفلسفية، ونقصد بالتراتب الأفلاطوني التراتب الأنطولوجي بين عالم المثل وعالم الواقع، وإعطاء الأولية للأول على الثاني، فهو موقف فلسفي وديني، حتى الفيلسوف الألماني كانط الذي ادَّعى فيما يعتقده نيتشه تخلّصه من الرؤية الدينية تحت شعار الأنوار، بدا إن هو إلَّا لاهوتي بثياب فلسفية.
فباعتبار أن كانط أعاد صياغة هذا التراتب من خلال قوله بعالم الظاهر والعالم الباطن/ الفينومان والنومان، وهو وإن كان قد أسّس للمعرفة من خلال الأول، فقد أسّس للأخلاق انطلاقًا من الثاني. فجذور نظريته الأخلاقية دينية بالأساس، وهو ما وسمه الأستاذ بلعقروز بعنوان فرعي: «الثقافة الدينية والفلسفية في شراك ضد الحياة».
وقوام هكذا رؤية نتشوية أن الاعتقاد الديني بوجود قوى عليا مفارقة تتحكم في مصائرنا، إنما مردُّها من خوف الإنسان من جملة قوى طبيعية نظرًا لغياب العلم عجز عن تفسيرها، فجعل منها إلهًا وقدرًا، وعلى هذا الأساس حدث تراتب في الوجود: عالم علوي وعالم سفلي، عالم مقدس وعالم ساقط، فهذه الآلهة هي وضع إنساني أصلًا خلع عنها مواصفاته هو، كلما كان الإنسان يتّصف بالقوة تارة وبالرحمة تارة نزع هذه الأوصاف على الآلهة، ومنه فكل لاهوت ناسوت.
أما الفلسفة بدورها تبنّت هذه الرؤية من خلال ثنائية الميتافيزيقا والواقع، النومان والفينومان، العقل والحس، يقول الأستاذ بلعقروز: «فالفلسفة إذًا امتداد للدين، لكن بوسائل أخرى لأنها مغلقة بإطار منطقي، ولغة استدلالية محكمة، ذلك أن الطريقة البدائية في التفكير التي كانت تملأ الكون بالآلهة والأشباح والقوى غير المنظورة، لم تقدر على الصمود في وجه العلم فلجأت إلى ابتكار لغة تعبيرية بأساليب منطقية صارمة ومحكمة، مرتكزها الأساسي هو الاعتقاد في القيم الموضوعية المطلقة التي كونت لنفسها عالمًا خاصًّا مستقلًا عن شروط الحياة الواقية استقرت فيه كل الأزليات التي عرفها العقل البشري عبر التاريخ، كالمثل الأفلاطونية والعلل الأولى الأرسطية، والأشياء في ذاتها الكانطية، لذا يمكن القول: إن اللاهوت التقليدي كرؤية للعالم قد اضمحل لكن ظلاله تمسك بالفلسفة، فاللاهوت يتراجع لكن الفلسفة متصاعدة.
أي إن التراتب الذي أقامه الإنسان في الفكر الديني القديم، بين الوجود الأرضي والمتعالي، هو نفسه الذي يمتد في الفلسفة من خلال توليد الفوارق وقسمة الوجود إلى ثنائيات متعارضة ومتفاضلة من حيث القيمة في قسمة الوجود إلى محسوس ومعقول إلى قسمة أدوات المعرفة إلى عقلية وحسية، وصولًا إلى التمييز في الطبيعة البشرية بين الجسد والنفس، لينحاز بعد ذلك هذا التمييز إلى إقامة الاختلاف والتراتب بين الأصل والنسخة، بين معرفة النفس والحس وبين المعقول والمحسوس، وكل هذا يتم بتقنيات مطلقة وعقلية لا يعرف حقيقتها إلَّا من يكون مصابًا ببعد النظر كما يقول نيتشه»[19].
لكن بأي حال يمكن تجاوز هكذا قراءة للوجود، أي القراءة الفلسفية ذات الأصول الدينية التي أقامت تراتبًا في الوجود؟
بهذا السؤال يفتح الأستاذ بلعقروز نافذة على الكتابة النيتشوية تكمن في «التأويل الإستطيقي للوجود»، أي بدلًا من ارتباط الفلسفة بالدين الذي اندس في الفكر الفلسفي خداعًا أكثر منه خلسة، سيكون هنالك منعرج بديل يسميه الأستاذ «المنعرج الإستطيقي للفلسفة». فقبل هذه التأويلية الجمالية كانت التأويلية الدينية والفلسفية ذات التراتب الأنطولوجي في بنية الوجود، لذا وجب استرجاع براءة الوجود بعيدًا عن التلاعب التراتبي، هذه البراءة التي مثلتها فلسفة ما قبل سقراط، أي كان الفلاسفة يحدسون الوجود ولا يتعقلونه، فهي بذلك عملية استدعاء وإعادة اعتبار لديونيزيوس الذي جعل منه نيتشة رمزية تمجّد الحياة ولا تنبذها، تقدّس الجسد والأرض بما هي عوالم يحياها الأقوياء والنبلاء، في حين تنبذ الروح والسماء بما هي عوالم لا ينشدها إلَّا الضعفاء والوضعاء.
يقول الأستاذ بلعقروز: «إن الجزء البنائي من فلسفة نيتشه يتّجه إلى تكليف الفن وظيفة تحرير الإنسان من ثقل التراتب النافي للحياة والمقزّم لقيمتها على الأرض، هذا الأخير يتجلّى في أعراض توحي كلها بمرض أصاب الثقافة الحديثة، ولهذا يبرز التأويل الجمالي للوجود حسب نيتشه بمثابة «نسخ للحياة la sève de la vie» التي يمثل ديونيزيوس رمزها الجمالي، وكتباشير لثقافة جديدة تعمل على تخليص الإنسان من طغيان المعقولية المنحدر نسلها من السقراطية كرمز فلسفي وأبولونية –نسبة إلى أبولون– كرمز فني»[20].
من هكذا تأويل سينفتح كما يرى أستاذنا على الفكر الغربي إبستيمي بديل لا يستمد مشروعيته من مشروع العقلانية ذات الجذور البارمنيدية والسقراطية والأفلاطونية، التي نضجت على نحو أكثر مع عصر الحداثة، بل سينفتح خطاب جديد وراديكالي ينسف المشروع الحداثي الغربي من الداخل، يستمد مشروعيته من اللامعقولية بفوضاها وتدفقها، إنها انتصار لهرقليدس على حساب برمينيدس وسقراط فلسفيًّا، وانتصار لديونيزيوس على حساب أبولون فنيًّا، أي «ينتج عن هذه القراءة البديلة أن التراتب الأنطولوجي الجديد سيكون فارقًا بين أبولون سقراط من جهة، وديونيزيوس من جهة أخرى، أو اختلاف بين العقل الذي ينحو منحى الوضوح والنظام والاتزان وبين الغريزة في فوضاها وتدفقها وعفويتها، ثم مفاضلة بينهما من خلال اتباع استراتيجية التقليل من قيمة العقل والتحكم فيه بوساطة الفن... أو بعبارة أخرى: إن سيد التراتب البديل ليس هو الخطاب الفلسفي العقلاني إنما هو التعبير الفني الخلَّاق، نيتشه بهذه القراءة يُعد الواضع لهذه القسمة الثنائية الأساسية في الثقافة والفكر الغربيين بين التجربة العقلية والتجربة الجمالية، وهي قسمة تناظر إلى حد بعيد التقسيم الحديث بين المعقول واللامعقول، أو بلغة التحليل النفسي بين الوعي واللاوعي»[21].
هذا وقد رصد الأستاذ بلعقروز ثلاثة مفاهيم للتراتب تتوزّع على مجالات سلطوية ومعرفية وأخلاقية:
1- التراتب بمعنى الاختلاف في الأصل: وهنا يرتبط معنى التراتب بالمنهج الجينيالوجي على وجه الخصوص بما هو منهج كشفي لا عن المصادر والأصول؛ لأن نيتشه لا يؤمن بالمطلقيات أساسًا، وإنما الكيفية الأولى التي تشكّلت من خلالها كل منظومة سواء معرفية أو قيمية.
وإن كان أستاذنا قد حدّد نوعين من هذه الجينيالوجية؛ جينيالوجيا تاريخية للافكار باعتمادها منظورًا زمانيًّا متسلسلًا منطقيًّا وعقلانيًّا للأفكار ارتسم معالمه مع الفيلسوف الألماني هيغل في كتابه فينومينولوجيا الروح 1807، هذا النوع إنما رصد لصيرورة الأفكار وتطورها انطلاقًا من أبسط مظاهر العقل إلى أرقاها.
أما النوع الثاني وهو المقصود بالتحليل فهي جينيالوجيا نيتشوية أرَّخ لها الأستاذ بكتاب نيتشه التاريخي جينيالوجيا الأخلاق 1887، وهو منهج عرض فيه نيتشه مقاربة جديدة لإعادة النظر في جميع القيم السائدة في الثقافة الغربية الحديثة مثل طرح تساؤلات عن أصل أحكامنا القيمية كقيمتي الخير والشر، أو عن الظروف - السياقات التي تمَّ فيها ابتداع هذه القيم، يقول الأستاذ: «القراءة الجينيالوجية التي اعتمدها نيتشه لا تتبع منظورًا زمنيًّا خطيًّا غايته تبرير الوعي البشري انطلاقًا من تشكُّلاته التاريخية المختلفة والمتصاعدة التي تصل من خلاله إلى المطلق على النحو الذي نجده عند هيغل، إنما هي قراءة شاكَّة وسيئة الظن، قراءة تمارس أسلوب الكشف والفضح والتعرية»[22].
وخلاصة القول: إن هذا النوع من التراتب هو أداة منهجية كشفية لا ترتبط بمصادر الأشياء وإنما بكيفية تشكُّلها، هذه الكيفية وراءها إرادات تحاول شرعنة ذاتها من خلال التراتب؛ لذا فهي تتطلَّب قراءة لا نصية وإنما قراءة تأويلية تصبح من خلالها القراءة فنًّا تأويليًّا تكشف التلاعب وتُعرِّي تلك الإرادة، فيغدو كل شيء كنّا نعتقد -بفعل تراكمات الوعي التاريخي- أنه صحيح وحقيقي وبديهي، يستحيل إلى لعبة ومشروع للتخفي، فهو زائف لا أصيل، يفسره قول الأستاذ: «هذا التراتب لا ينكشف لمجرد القراءة الأولى، والسبب في ذلك هيروغليفية حروفه وتداخلها وفوضاها، هذا ما يتطلَّب منا أن نرفع القراءة ذاتها إلى مرتبة نجعلها فنًّا من الفنون، وعلى أن يتمَّ النظر إلى الظواهر والقيم كأعراض تقتضي الإحالة ورموزًا تستوجب التفكيك... إن الفلسفة تبعًا لهذا إذن علم أعراض، أو هي نظرية عامة لعلامات»[23].
2- التراتب بمعنى التفاضل: لئن كان المعنى الأول للتراتب يرتبط بوظيفة تأويلية كشفية، فإن الثاني يتجاوز دائرة الكشف إلى دائرة الحكم، فهو إذن «تحكم قيمي»، حيث يبدأ بإصدار أحكام لما هو خير ولما هو شر، لما هو جميل ولما هو قبيح، فبعد إحداث التراتب يتم إصدار الأحكام، كالتراتب الأنطولوجي بين عالم المثل وعالم الواقع، أو الفلسفي العقل والحواس. يجعلنا نحكم على ما له علاقة بالمثل أو العقل ونحكم على أنه أخلاقي أو حقيقي مطلق أو جميل، في حين كل ما له علاقة بالحس والواقع فهو قابع على نقائض الأحكام السابقة.
ومنه كما يقول الأستاذ: «فإن الجينيالوجيا بما هو ملاحقة للأصل هي مقدمة للنقد الحقيقي، أي التقييم والمفاضلة بين نمطين من القيم والوجود، وإذا كان سؤال الأصل هو: من؟ فإن سؤال القيمة هو: لماذا؟، لذلك فإن الجينيالوجيا لا تُؤوَّل أو تُكشف فحسب، بل هي تُقيّم، إنها تدرك أصل القيم. ولكن أيضًا قيمة الأصل: ما هي طبيعة القوى التي تنتج المعنى؟ هل توحي بالنبل أم بالخساسة والدناءة والانحطاط؟ ولماذا تنتج المعنى على ذلك النحو دون غيره؟ هل تهدف إلى إثبات الحياة أم إلى نفيها؟ هل هي تعبير عن صحة أم مرض؟»[24].
حيث كشف الأستاذ هنا أن التراتب بمعنى التفاضلي قائم على «ملكة الذوق» بما هي تشكيل للمنحى الإيتيقي في النقد، من خلالها يتم إعادة تصنيف القوى وإعادة بناء المنظومات الفاعلة. أكيد أن وراء إصدار أحكام المفاضلة قوة الاقتدار أو الإرادة، فقسمة الموجود إلى وجود مثالي وحسي، مطلق ونسبي، وقل ذلك على الأخلاقي وغير الأخلاقي التي ورثها الفكر الأوروبي الحديث منذ سقراط، إن هي إلَّا قسمة مخادعة نعتقد أنها بريئة، فما المانع من إعادة القلب ليس بمنظور عقلي طبعًا وإنما من منظور جمالي. فوحده الذوق الفني والجمالي من يحدس الوجود على حقيقته.
3- التراتب بمعنى الترويض والاصطفاء: بمعنى أن الإنسان الحالي هو نتاج عناصر تكوينية تاريخية محدّدة وفق التراتب القديم (أولوية العقلي على الحسي/ المثالي على الواقعي/ المثالي الأخلاقي والواقعي الدنيء) فهو إنسان مدجن. لذلك فإن التراتب الجديد الذي فرضه نيتشه ويؤسّس له من خلال مشروعه، هو الكشف عن الأصل المنحطّ للإنسان الحديث، و«هدفه في ذلك هو الانعتاق والخروج من سمات نموذج الإنسان الحديث والاتجاه نحو المستقبل، وذلك لخلق ما يصطلح عليهم بـ(أقوياء المستقبل)، والمطلوب أمام تحقيق هذا الهدف هو تهيئة الشروط والأساليب الملائمة لخلق صنف أقوى»[25].
أما عن العناصر المتدخلة في تشكيل الثقافة التاريخية المدجنة؛ فهما الدين والأخلاق، وكذا الدولة من خلال الفعل التربوي، لذا جاء نيتشه ليقلب رأسًا هذه العناصر والعمل على ترويض واصطفاء إنسان المستقبل الذي يطرحه نيتشه كأفق وكبديل؛ لكن ما وجه الفارق بين الاصطفاء التاريخي المألوف والاصطفاء النيتشوي؟ يقول بلعقروز: «الفارق إذن يبدو واضحًا بين غايات الاصطفاء والترويض كما تمارسها الأخلاق والدين، وبين الغايات التي يريدها نيتشه، إنه فارق في الأدوات والغرائز؛ فالأول تروض بغرائز الحقد والانتقام ورد الفعل. أما الثانية فمعيارها الوحيد هو القوة والإثبات»[26].
لكن ما مصير كل من الأخلاق والدين في هذه الحالة؟ يحرّر الأستاذ قائلًا: «الشيء الملاحظ على مستوى الكيفية التي يقرأ بها نيتشه الأديان أنها تكون مشؤومة عدمية إذا تركت لحالها تمارس مفعولها في البشر وبشكل مطلق عوض أن تظل سبيلًا للاصطفاء والترويض في أيدي الفلاسفة، أي إن الدين من دون الفيلسوف النيتشوي خطر على الحياة»[27].
ثالثًا: التجربة الحداثية الحيثيات والمسوغات
بعد تجربة الأستاذ مع الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه فتح نافذة على أحد أكبر التجارب الغربية في مجال الفكر والفلسفة وهي الحداثة، ويعد كتابه «أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي» الصادر عن منتدى المعارف 2013م، من أبرز الكتابات التي تناول فيها الحداثة بالتحليل والنقد.
يجعل الأستاذ بلعقروز نقد الحداثة يصب في اتّجاهين، الاتجاه الأول النقد الجذري والتدميري للحداثة وهو ما كان مع نيتشه والنيتشويين الجدد مثل فوكو ودريدا ودولوز، إضافة إلى بعض متفلسفة العرب المعاصرين مثل علي حرب ومطاع صفدي. أما النقد الثاني فهو النقد الترشيدي مع يورغن هبرماس.
ولئن كان النقد النيتشوي الأول أتى على مبادئ الحداثة بشكل جذري وهي مبدأ العقلانية ومبدأ الحرية ومبدأ التقدم، فإن الموقف الترشيدي مع هبرماس يتأسس على تفريق واضح بين التحديث باعتباره سيرورة تاريخية، وبين مبادئ التنوير والعقلانية كأحد مكاسب الحداثة، ما يعني أن التحديث هو ما يشكل انحرافًا في مقاصد الحداثة باعتبار العقلانية الأداتية التي أنتجها[28].
كما لم يفت عن الأستاذ في هذا الكتاب تناول النقد الحداثي من وجهة الخطاب الإسلامي المعاصر، مؤكدًا على وجود خطابات متباينة منها المنظور التمجيدي للحداثة الكلاسيكية ومبادئها مثل خطابات محمد أركون، واتّهم الأستاذ هذا الخطاب بقوله: «إن المنحى التمجيدي في استقبال الحداثة لا يفرق بين ظاهرة ثقافية غربية وجملة خصوصيات معرفية ولغوية تقع خارج هذه الدائرة؛ فالحداثة ظاهرة كونية لا خصوصية، واتّساعية لا جغرافية، وبالتالي مضمونها قيم كونية وحتمية فلسفية ورؤية وجودية، تتأسس على نسبية المعرفة والحقيقة وتجاوز الموروثات التاريخية أو العوائق الإبستيمولوجية نحو الحداثة...»[29].
ما يعني أن هذا الخطاب يعتقد بكونية التجربة الحداثية رغم الخصائص الثقافية والمعرفية وحتى اللغوية للعقل الغربي الحديث.
أما الاتّهام الثاني فهو أن المقولات التي تأسست عليها الحداثة باتت محل مراجعة وتفكيك من قبل العقل الغربي ذاته، وهذا ما لم ينتبه إليه صنف المقلدة من الخطاب الإسلامي للحداثة الغربية، يقول الأستاذ: «غير أن القول بالإشعاع الغربي للحداثة والتوكؤ على هذه اليقينيات، أي القول بالذاتية والعقلانية والحرية قد تراجع بريقها في الفكر الفلسفي المعاصر، بحيث أضحت هذه المقومات تهمًا ميتافيزيقية تكال وتخلع على الحداثة بسبب المحكّات الميدانية التي أضاءت ما كان معتمًا منها وأبانت عن لا معقوليتها وتجذّرها في نسق أيديولوجية يتأسس على عناصر لا عقلانية...»[30].
وهنالك المنظور الناقد لمظاهر الحداثة الغربية، الذي يتأسس على مساءلة قيمية إزاء محكمات الحداثة الغربية ومبادئها، والذي يمثّله محمد أركون وعبدالوهاب المسيري، ولسنا نعتقد أن هكذا خطاب إنما هو يرفض الحداثة بإطلاق؛ إذ «إن مراد المساءلة القيمية ليس هو نبذ الحداثة الغربية بإطلاق؛ وإنما ترشيدها واستجلاب النافع منها، بإدخال التخلّق الديني إلى مجمل الفاعليات الإنسانية النظرية العلمية منها والعملية»[31].
من هكذا خطابين يطرح الأستاذ بلعقروز مقاربة أو خطابًا ثالثًا قوامه المنظور التركيبي أو الحداثة برؤية حضارية، وهي حداثة معنوية بخلاف الحداثة المادية التي عرفها الغرب، يقول الأستاذ: «إن حاجة الوعي الإسلامي العربي في صناعته إلى حداثة مخصوصة وليس إلى تفكيك عالمه الثقافي ونسبنة قيمه وتدميرها أو الاستمساك بمبادئ الحداثة الكلاسيكية، فمشكلات ليست جوهرية مثل مشكلات الغرب في أسئلته حول مسوغات الوجود والمعنى والقيمة. إن مشكلاتنا نتاج ظروف تاريخية وأفولنا الحضاري نتاج ظروف أيضًا، وبهذا فإن مشروعنا التحديثي يفتقر إلى التركيب لا إلى التفكيك، التركيب المنهجي الذي لا يجتزئ الفعل التحديثي، ولا يفاضل بين عناصره، ثم بناء منظومة العلوم النقدية التركيبية التي تعيد الاعتبار الكلي في البناء الحضاري»[32].
هذا التركيب المنهجي والتكامل الوظيفي للفعل الحداثي يجد ضماناته في الأسس التالية:
1- الروحانية الأخلاقية: أي كيف يمكن للدستور الأخلاقي أن يحدّد قوة التماسك للأفراد الذين يريدون الدخول إلى دورة حداثية جديدة، هذه الروح الأخلاقية التي يعتبرها الأستاذ منحة من السماء إلى الأرض تأتيها مع نزول الأديان عندما تولد الحداثات والحضارات، ومهمتها في دائرة المجتمع ربط الأفراد ببعضهم من أجل حياة وصيغة وجودية قاصدة تحقّق الأمن الوجودي الذي يدفع أسئلة القلق الفلسفي عن الإنسان والتوجيه الثقافي نحو الارتقاء السلوكي والعمراني والمنهجي والمعرفي، وذلك بعيدًا عن منطق التدين المكدس الذي يقبع داخل جدران الجوامع التي بدت ظاهرة جلية في عصور الانحطاط الإسلامي كمؤشر للفردانية والتمزّق الاجتماعي؛ لذلك فإن الإيمان في المنهجية الحضارية هو إمداد المجتمع من جديد بنسق الحياة، والرياح التي منحته الدفعة الأولى للحركة.
2- النزوع الجمالي: ذلك أن للذائقة الجمالية قيمة كبرى في سلّم القيم الحداثية وعناصر المشروع الحضاري، أو كما يقول الأستاذ: «الفن صيغة من صيغ الحياة والأداة الجمالية نموذجًا تأويليًّا للعالم»، أو كما يقول: «إننا بحاجة إلى هذا التأويل الجمالي للحياة، ومن هنا لزم إيلاء الجمال قيمة مركزية؛ لأنه بالذوق الجميل الذي ينطبع في فكر الفرد يجد الإنسان في نفسه نزوعًا إلى الإحسان في العمل، وتوخيًا للكريم من العادات، فهناك، إذن، صلة متينة بين الحقيقة والجمال، وتركيبهما هذا أساس للفعل الحداثي الحضاري المتكامل».
3- من الحقيقة النظرية إلى الحقيقة الفعلية: بمعنى «إن الفكرة لا تلد نشاطًا أو تكون هي جنين نشاط إنما هي فكرة ميتة أو محتضرة، وحداثة الإنسان النظري والثقافة المجردة هي علامة على حياة آفلة وإرادة واهنة، تسترسل مع الميتافيزيقا باحثة عن الحقيقة في العوالم المجردة والملفوظات الفارغة. [ومنه] إن وصل المعرفة بالحياة في إطار صيرورة غائية هو مسلك إتقان المنطق العملي»[33].
هذا وما فتئ الأستاذ يتحدّث عن رهانات لحداثة إسلامية متّصلة كبديل عن عقلانية الحداثة الغربية المنفصلة، ومن باب المقارنة نصوغ كلا الحداثتين على أساس الجدول الآتي[34]:
ميزات عقلانية الحداثة الغربية |
العقلانية الإسلامية ومرتكزات الحداثة المتصلة |
1- نزع القداسة عن المعرفة، واختزالها في تنمية دوافع القوة والهيمنة. 2- هيمنة العقل الأداتي واستعماره على الحياة. 3- متتالية العلمانية والرؤية العلمانية للوجود والتاريخ. |
1- تظافر العقل والإيمان في ترشيد مسيرة الإنسان. 2- وحدة التفسير والقيمة أو الآية والمعنى في قراءة الطبيعة. 3- تكامل الملكات الإدراكية الإنسانية. |
رابعًا: نحو نموذج جديد للفلسفة
لعل ما يتبادر للوهلة الأولى ونحن نصطدم بآخر ما نشر الأستاذ بلعقروز ونقصد كتابه «مدخل إلى الفلسفة العامة» هو سؤال شعر به العشرات من طلبته، يتعلق أساسًا بغاية الأستاذ بنشر هذا الكتاب من جهة، ومن الجهة الأخرى ما قد يضيفه هذا الكتاب إلى الرصيد المعرفي للكتابة الجزائرية خاصة ونحن نلحظ وجود ثراء معرفي عن الفلسفة العامة.
أما من حيث مكانة هذا الكتاب، فهل هي بداية لمسار أم بداية لنهاية؟ بمعنى متى يمكن للمهتم بالشأن الفلسفي كتابة مدخل إلى الفلسفة العامة؟ هل في بدايته الأولى وهو لا يزال يمتلك تلك العموميات محاولًا تأريخها فهي بذلك بداية لمسار. أم بداية لنهاية أي بحيث يحاول صاحب هذا العمل جمع ما تم إدراكه خلال مساره المعرفي والأكاديمي؟
في حقيقة الأمر يبدو الأمر أعمق من ذلك بكثير، فالمسألة تتعلّق على نحو أكثر بتجديد الكتابة الفلسفية وحملها على غير ما كانت عليه من كتابة تأريخية تقف عند مجرد عرض الأفكار والفلاسفة عرضًا كرونولوجيًّا، وبالتالي فهو تجديد يحاول خلق مواقف أكثر منه تلقين معارف، دون أن يهمل هذا الأخير طبعًا، يقول الأستاذ بلعقروز في ديباجة كتابه: «ما يستوجب الإشارة إليه قبل الولوج إلى قضايا الكتاب والاندماج الفكري والروحي للمشكلات التي نعرض لها بالتحليل والتشخيص، أو بالمساءلة والتأويل، أن المداخل الكبرى للفلسفة العامة في مجمل الإنتاجية الفكرية المتداولة قد عمدت إلى ترسيخ مداخل معهودة تكتفي بالمباحث التي ألَّفها طلبة الفلسفة في دراستهم دون أن تتجرأ إلى إضافة مستجدات المعرفة الفلسفية في حقولها المعاصرة، مصوغة هذا بعنوان الانضباط مع البرامج المبررة، وحدود الطاقة الاستيعابية للمتلقي، وهذا ليس على التحقيق سوى ترسيخ لنمط من الفكر الفلسفي لا ينهض الهمم، ولا يقوي الإرادة أو يأخذ بها نحو مسالك السؤال والمجاوزة»[35].
فالمسألة أكبر من أن تعد قضية معرفية عبر ذهان التلقي والتبني. إنما المسألة مرتبطة باعتبارها مشكلة وجدان وخلق مواقف تجاوزية، هذا ما ينقص الدرس الفلسفي بوجه الخصوص. خاصة أن المتأمل لمضامين الكتاب يجد أستاذنا يلح على ضرورة إعادة الاعتبار للفلسفة الشرقية على الأقل من باب الإنصاف التاريخي، حتى لا يعتقد البعض أنها مسألة انتماء وذهنيات ضيقة، هذا من جهة.
ومن جهة ثانية إيلاؤه الاهتمام بالكتابة الفلسفية الأكاديمية في الجزائر وبالتراث الفلسفي الإسلامي المعاصر، وذلك ليس من باب الانتماء بقدر ما يرتبط الأمر بمعرفة الذات التي حتمتها الانفجارات المعرفية المعاصرة، خاصة وأن مقولات من قبيل كونية الفلسفة والعقل الكلي هي مقولات جرى تفكيكها على أكثر من صعيد، سواء الغربي ناهيك عن الإسلامي.
ما بدأ به الأستاذ في هذا الكتاب إعطاء تصور عن مفهوم الفلسفة رغم إقراره أن الفلسفة كمفهوم هو تصور هلامي لا يُمكن القبض عليه وصياغته صياغة مطلقة، ما يعني استحالة الحديث عن مفهوم شامل ووحيد للفلسفة، فكما يقول الأستاذ: «الفلسفة تعاش كتجربة، ملمحها هو الإبداع، تنطلق من مشكلات عصرها، وترتبط بالسياق الاجتماعي والتاريخي للأمة التي نشأت فيها، كما ترتبط بالسياق اللغوي والأدبي والذي يتناسب مع مقتضياتها البنيوية والدلالية والبيانية، فضلًا عن الاختلاف الفكري للفلاسفة والتصنيف القومي لهم»[36].
سؤال نطرحه على الأستاذ: هل هذا الموقف يوقعنا فيما يمكن الاصطلاح عليه بـ«العدمية المفهومية»؟.
الأمر في حقيقته ليس كذلك، إنه ليس نفيًا للمفهوم ولا للفلسفة، بل هو عين الاعتراف بالتعدّد، تعدّد يمكن أن تجتمع فيه ملامح الإنسانية من شأنها إعطاء مقاربة وليس تعريفًا جامعًا مانعًا لمفهوم الفلسفة.
إذ الفلسفة من منظور هذه المقاربة تغدو «تاريخ أفكار وتمرينًا على التفكير وفقًا لقيم الفكر الفلسفي - النقد، المساءلة، الفحص، الشك، المنهجية، الحوار، التدمير...- وهي التزام أخلاقي اتجاه ما هو مخالف للفطرة الإنسانية، بما في ذلك الهيئة الخلقية الروحية التي انطوت عليها نفس الإنسان ويكون الغرض منها الوصول إلى الحق»[37].
وقد حدّد للفلسفة ثلاثة أبعاد هي:
1- البعد التاريخي: بما هو أرضية خصبة في الاشتغال على نصوص الفلاسفة بالتفكيك وإعادة التركيب دون تنميط العقول بقوالب تفكيرهم.
2- البعد الإرادي: بما هو إيقاظ لطاقة العقل على التفكير والإبداع والاعتماد على الذات في فعل التفلسف بهدف الإسهام في الكونية الفلسفية انطلاقًا من الخصوصية الإبداعية.
3- البعد الأخلاقي أو الإيتيقي: بما هو المسلك الفطري الرشيد نحو إعادة قيمة المعنى، واستعادة المصوغات الوجودية أو أسئلة المعنى الكبرى[38].
هذا ويوكل الأستاذ بلعقروز للفلسفة وظائف أربعة تتداخل فيها مراعاة النظرة الكونية للإنسان، ومتطلباته الفكرية والنفسية، وكذا تشعب المعارف وتعقدها في الوقت الراهن، وهذه الوظائف هي:
1- إن أول مهمة للفلسفة التجديد أو معرفة الحق والعمل به: أن يأخذ التجديد صناعة المفهوم واستثماره في مجالات أخرى. فالتجديد يتمثّل في فك الارتباط بين المفهوم والواقع، وكذا العقل، فالمفهوم ليس مرآة للواقع ولا انعكاسًا للعقل، والفلسفة وفق ذلك تسائل مصانعه التكوينية من جهة، وإخراجه من مجاله التداولي وتنويه استعماله في مجالات أخرى كيما يثمر وينتج.
ويوضح الأستاذ بلعقروز ذلك بمفهوم: اللاشعور، فهذا الأخير يعود مصنعه التكويني إلى فرويد، لكنه صار أداة ناجعة من أدوات المساءلة والتوصيف لدى فوكو في مقاربته لتاريخ الأنظمة المعرفية مثلًا، أو لدى كلود ليفي شتراوس في حفره للبنى اللاشعورية الثقافية المستبطنة خلف الممارسات، ومع هابرماس في تخليص التفكك الاجتماعي من العراقيل اللاشعورية الجماعية.
والتجديد الذي ارتضاه الأستاذ بلعقروز لنفسه، والذي وكل به غيره، هو مراعاة دائرة حياتنا وما يعتريها من هموم، وفتح مسالك معرفة الحق والعمل به، وفي الوصل بين المعرفة والحياة، والتدبير الواعي لرهانات حياتنا، وذلك وفقًا للرهانات التالية:
- إعادة الاعتبار إلى الرؤية الكونية التوحيدية كبديل للمنظورية النسبية الغربية.
- التوافق والتوازن بين مصادر المعرفة المطلقة والنسبية، أي بين الوحي الممد بالأسئلة الكلية والنهائية (أسئلة المأتى والمعنى والمصير)، وبين السنن الكونية والنفسية في عالم الإنسان والكون.
- مركزية نظام القيم في توجيه الحياة الاجتماعية، وضبط آلياتها داخليًّا، والتأسيس لإنسان التعارف خارجيًّا.
- إعادة الاعتبار للرحم الكوني بتقديم مشروع متكامل حول البيئة.
- الجمع بين الأصالة والتعددية الثقافية، أو بين الخصوصية والكونية.
2- ثاني مهمة هي التوضيح: وذلك بتمييز الأفكار عن الأيديولوجيا كيما تكون مفهومة، وهذا على خلاف ما قد يُروج عن الفلسفة كعلم معقّد، حتى وإن كان عصرها هو عصر التعقيد، فإن هنالك من ارتضى هذه المهمة للفلسفة يأتي الأستاذ بلعقروز على ضرب نموذجين أحدهما رائد الوضعية المنطقية فيتجنشتين الذي رأى في الغاية من الفلسفة التوضيح المنطقي للتفكير وأن الفلسفة ليست مذهبًا أو عقيدة. وكذلك نموذج ألتوسير الذي فكّ الارتباط بين الأيديولوجيا والمعرفة العلمية.
3- التشخيص: والذي يعود للفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه والفرنسي ميشال فوكو؛ حيث قصد بها الأول النظر إلى المشروع الفكري والفلسفي لأي ثقافة كأعراض تحيل إلى طبيعة القوى التي تفعل وتؤول من دوافع إرادة القوة، ومنه تشخيص هذه الأعراض لكشف منطق القوة القابع خلف الأفكار التاريخية والتي تحاول تدجين العقول والثقافات والإنسانية الحاضرية والمستقبلية بغطاء المعقولية.
أما فوكو فقد رأى أن الفلسفة لم تعد بالفعالية ذاتها مثلما كانت على عهد هيغل مثلًا بترسيم الغايات الكبرى، ففعالية الفلسفة ليست بمنأى عن العلوم الإنسانية الأخرى والمختلفة، فعالية غير مستقلة. وهنا مكمن الداء الذي وجب تشخيصه لجعل الفلسفة تفعل وتدبر لكل استقلالية.
4- المساءلة والنقد: وتمثل روح العمل الفلسفي وعصبه، إنها ليست مجرد طلب للمعرفة بقدر ما تنطوي على نوع من المحاكمة العقلية[39].
خامسًا: نحو تجديد السؤال الفلسفي في الجزائر
أبرز ما يلفت الانتباه في خاتمة الكتاب هو عرض لمحاولات رأى فيها الأستاذ بلعقروز إمكانات ومشروع لتجديد السؤال الفلسفي، يقول: «السؤال في الفلسفة يقوم مقام الشرط الذي به تحصل المعرفة، وذلك لانبنائه على الاستفهام والاستدعاء والطلب والتداعي... إن ذيوع ثقافة الاستشكال والمساءلة والنقد ملمح صحة على الجسد الفلسفي، ولم تتوقّف قوة السؤال عن نشاطها إلَّا يوم أن هيمنت ميتافيزيقا التمركز الفلسفي بحجبها لتوارده وتكوثره، وإدراج التفكير في نسق الاتجاه التحليلي والتفريعي والتشعيبي لنمط من التفكير، بصب نفسه كدلالة على وحدة حياة روحية وفعالية إبداعية، ومتى أدركنا هشاشة أطروحة الأبوية الفلسفية أمكننا إعادة بعث الحياة في الحس التساؤلي، واتخاذه هاديًا لنا في التفكير. وفي المقابل تفتيت الاعتقاد بوجود سؤال (نمط) يمكن اتخاذه نموذجًا عامًّا يحتذى به»[40].
وفي سبيل تجديد السؤال الفلسفي، يفترض الأستاذ بلعقروز الأخذ بعين الاعتبار الضوابط التدليلية والتوجيهية والتبليغية، وتتمثل أساسًا في:
- الطرح المسؤول.
- الطرح الدقيق والمضبوط، غير ذي صياغة مغلقة، وذلك في سبيل الإبقاء على وجه الاعتراض، وهو البعد الإيتيقي للسؤال الفلسفي، لأنه يُبقي المجال مفتوحًا للنقد والاختلاف.
- راهنية السؤال؛ أي أن يقتصر على ما دعت إليه الضرورة وقادت إليه الحاجة.
- الأخذ بعين الاعتبار حال المتلقي وقدراته الإدراكية والاستعابية، فهذا الأخير مراتب ومستويات.
ويستوقفنا الأستاذ بلعقروز على أهم الأسئلة التي تطرح في واقعنا الثقافي، وذلك كمثال على عدم مراعاة تلك الشروط الآنفة الذكر، قول بعضهم: «هل نأخذ بالحداثة أم نرفضها؟؟.
وهو سؤال -على حد تعبير أستاذنا بلعقروز- مغلوط؛ ذلك أنه قُدّم على أساس أن الجواب يكمن في القول بنعم أو لا، والتي تحيل إلى انعدام منطقة أخرى خارج هذه الثنائية المتضادة على شاكلة التفكير خارج الصندوق، يقول الأستاذ بلعقروز: «إن الوهن الأساسي الذي تنطوي عليه مثل هذه الأسئلة، هو أنها تحدّد للمجيب الإطار المرجعي الذي يجب أن يفكر فيه ويستشكل مفاهيمه في فضائه، ونظرًا لهذه المسالك الضيقة في التفكير وجب فحص الأسئلة التي تطرح في عالم اليوم، واختبار مقدرتها الاستفهامية»[41].
كما يلحّ الأستاذ بلعقروز على ضرورة امتلاك مفردات المعجم الفلسفي على مستوى مناهج الحوار ومسالك التفاعل النقدي من جهة، وبناء الذهنية ذات الحس النقدي للذات وللآخر من جهة أخرى، هكذا فقط يكون فعلنا الفلسفي عنصرًا قويًّا من عناصر إمداد الثقافة الوطنية الجزائرية بمنظومة من القيم تكون ذات نسق حضاري قوي[42]، هذه المفردات تتمثل في:
1- إتقان ثقافة السؤال الفلسفي: وقوامه الوصل بين الفلسفة والحياة، أي ما نعيشه في واقعنا، خاصة ونحن ندرك أن السؤال الفلسفي ليس واحدًا، لا من حيث هو كسؤال ولا من حيث الجواب عنه، ولا من حيث الفكرانية التي ينتمي إليها واللغة التي يتقولب فيها؛ لذا ينبغي على السؤال الفلسفي أن يكون سؤالًا مسؤولًا من خلال توجيهه إلى دوائرها الثقافية ومشاريعنا الإصلاحية، من هذه الأسئلة التي يمتلئ بها واقعنا الجزائري: الإصلاح، الثقافة، التعليم، الهوية، التسامح، تحول القيم... فهي أوسع وأعمق من حيث القيمة والفاعلية من تلك الأسئلة التي تطرح على مستوى التقنية، والحداثة، والثقافة الشاملة، إلى غير ذلك.
2- القصد في المعرفة الفلسفية: إذ على النشاط الفلسفي أن يكون قاصدًا يرسم أهدافًا يرمي لبلوغها، هذه القصدية تتمثل في: حفظ المقومات الأساسية لروح الثقافة التي تنسج وتقوي الصلات الاجتماعية الجزائرية، وتضم عناصرها ومكوناتها، كذلك أن يقصد إلى تفعيل منظومة القيم خاصة في مسائل أخلاقيات الحوار ومناهج التفاعل والتثاقف وفق الوسائل المعاصرة، كذلك من أوجه القصد الحد من وطأة صراع الإرادات والأيديولوجيات.
3- تشغيل الخطاب الخارجي للفلسفة: أي الخروج من ذهان «الفكر يحلل ذاته»؛ إذ على الدرس الفلسفي الخروج من مجرد تحليل المذاهب الفلسفية والدراسة التاريخية للفلسفة، وفي مقابل ذلك الاغتناء من أدوات ومعاجم العلوم، وهذا الخروج له وظيفة مزدوجة:
أ- التخفيف من النزاعات بين العلوم، أي لم نعد نتحدث عن تخصص بقدر ما نلحظ نزعة التخصيص وما يفرضه هذا من الانغلاق، ومهمة الفيلسوف هنا هي تحقيق التكامل المعرفي بين هذه العلوم.
ب- إدخال مكتسبات العلوم الأخرى إلى موضوعات الفلسفة ما يكسبها الطابع الإجرائي والعملي، مثال ذلك: فلسفة القيم –تجدر الإشارة إلى أن للأستاذ بلعقروزالفضل في فتح تخصص ماستر وآخر دكتوراه جمع فيه بين فلسفة القيم والعلوم الإنسانية بجامعة سطيف– لا يبقى منحسرًا في القيمة في التاريخ أو أعلام القيم، وإنما وجد استحضار مقاييس ومواد أخرى مثل: القيم والمشكلات الاجتماعية (حقل السوسيولوجيا)، القيم ومناهج التربية (علوم التربية)، القيم والإعلام (الإعلام والاتصال)، القيم والتنمية... فضلًا عن إدخال هذه القيم إلى المؤسسات عبر تلقين طلبة الفلسفة بقيم تخص المؤسسات الاجتماعية كأن تشكل لهم ثقافة أخلاقيات القانون، أخلاقيات الطب، إلى غير ذلك..[43].
[1] محمود يعقوبي، أصول الخطاب الفلسفي: محاولة في المنهجية، ديوان المطبوعات الجامعية، الجزائر العاصمة، 1995، ص147.
[2] المرجع نفسه، ص149.
[3] عبد الرحمن بوقاف، في تقديمه لكتاب زواوي بغورة، الخطاب الفكري في الجزائر بين النقد والتأسيس: في التاريخ والهوية والعنف، حيدرة - الجزائر العاصمة: دار القصبة للنشر، 2003، ص6.
[4] محمد بابا عمي وطه كوزي، من الكمون إلى الفعل الحضاري: سؤال العلاقة بين الفكر والفعل، ط1، البرج البحري - الجزائر العاصمة: دار كتابك، 2015، ص22.
[5] محمد جديدي، في تقديمة للعدد الأول من مجلة دراسات فلسفية، يناير 2014، ص13.
[6] زواوي بغورة، الخطاب الفكري في الجزائر بين النقد والتأسيس: في التاريخ والهوية والعنف، ص ص170-171.
[7] المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[8] المرجع نفسه، ص ص173 - 174.
[9]المرجع نفسه، ص ص175 - 176.
[10] المرجع نفسه، ص ص181 - 182.
[11] المرجع نفسه، ص ص191 - 192.
[12]المرجع نفسه، ص202.
[13]المرجع نفسه، الصفحة نفسها.
[14] الزواوي بغورة، المرجع السابق، ص 79.
[15]المرجع نفسه، ص 80.
[16] المرجع نفسه، ص ص 83 -84.
[17] عبد الرزاق بلعقروز، نيتشه ومهمة الفلسفة: قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة، الدار العربية للعلوم ناشرون، منشورات الاختلاف، مؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم، ط1، 2010، ص ص16-17.
[18] نقصد بالكونية: رؤية تجعل من التراث الغربي كونيًّا ومشروعًا عالميًّا تحت غطاء الإنتاج الإنساني فتعمل على استحضار هذا الخطاب والعمل على تبنيه في نسقها المغاير لنسق ذلك التراث.
[19] عبد الرزاق بلعقروز، نيتشه ومهمة الفلسفة: قلب تراتب القيم والتأويل الجمالي للحياة، ص 110 - 111.
[20] المصدرنفسه، ص ص 143-144.
[21] المرجع السابق، ص ص145-146.
[22] المصدرنفسه، ص55.
[23] المصدر السابق، ص60.
[24] المصدر نفسه، ص65.
[25] المصدر نفسه، ص80.
[26] المصدرالسابق، ص83.
[27] المصدر نفسه، ص85.
[28] عبد الرزاق بلعقروز، أزمة الحداثة ورهانات الخطاب الإسلامي، ص ص 23-26.
[29]المصدر نفسه، ص27.
[30] المصدرالسابق، ص30.
[31] المصدر نفسه، ص50.
[32] المصدر نفسه، ص50.
[33] المصدر السابق، ص ص 55-56.
[34] لتفصيل عناصر الجدول إلى نحو أكثر انظر: عبدالرزاق بلعقروز، من عقلانية الحداثة الغربية إلى عقلانية الإيمان التوحيدي: نحو حداثة إسلامية متصلة، مجلة إسلامية المعرفة، السنة 19، العدد 76، ربيع 2014.
[35] عبدالرزاق بلعقروز، مدخل إلى الفلسفة العامة، منشورات ضفاف، دار الأمان، كلمة، منشورات الاختلاف، ط1، 2015، ص11.
[36] المصدرالسابق، ص27.
[37] المصدر نفسه، صفحة نفسها.
[38] المصدرنفسه، الصفحة نفسها.
[39] المصدر السابق، ص ص36-38.
[40] المصدرنفسه، ص111.
[41] المصدرالسابق، ص112.
[42] المصدر نفسه، ص117.
[43]المصدر السابق، ص ص 118ــ 120.