فلسفة الاغتراب
بين المعنى الاشتقاقي والمفهوم الاصطلاحي
مروفل كلثوم*
* قسم العلوم الاجتماعية، جامعة سيدي بلعباس - الجزائر.
إن الحياة الاجتماعية للإنسان في تغيّر مُستمر من حيث الوقائع والأحداث والوسائل وسُبل العيش، وفي تغيّرها تحمل معها ما هو جديد عليه، يُحتم عليه التعامل معه بشكل ما لم يألفه بعد. وحتى تقع الألفة ويحدث ما نُسميه بالتوافق، يجد الإنسان نفسه يعيش مشاعر اليأس وفُقدان معاني وجوده وأهدافه، كما يُعايش مشكلة في إحساسه بالانتماء إلى عالم يملؤه ما هو غير مألوف بالنسبة له، مما يُؤثر فيه كعنصر اجتماعي.
هذه المُؤشرات في مُجملها تعني ما يُطلق عليه مُصطلح «الاغتراب»، ولا شك أن مثل هذه الحالة -إذا ما عايشها الإنسان في أي مجال من مجالات حياته أنقصت من تقديره لذاته، وأثَّرت سلبًا في دافعيته للإنجاز، وأفقدته الإحساس بالاتزان ممّا يؤدّي به إلى انخفاض قدرته على الأداء- تُشعره بأنه ضائع وبلا جذور، وأن المسافة بينه وبين غيره قد تباعدت، ويُصبح ما يربطه بالآخرين هو المنفعة والمصالح الخاصة، ولم يعد هناك مكان للمبادئ العليا والقيم الإنسانية السامية، فمثل هذه الكلمات أصبحت شيئًا ينتمي إلى الماضي البعيد.
فالإنسان يُصبح مُنفصلًا انفصالًا لم يسبق له مثيل عن الطبيعة والمجتمع والدولة وحتى ذاته، وتمثّل هذه الموضوعات بالنسبة له «آخر» لا سبيل إلى التواصل معه، ويكون عاجزًا عن تحقيق ذاته على نحو حقيقي. وهذا الانفصال عن «الآخر» والبعد عن الذات هو ما يسمى بـ«الاغتراب» (Aliénation).
وعليه نحاول التعرف على مفهوم «الاغتراب» والتعرف على أنواعه وأبعاده.
تعريف الاغتراب لغة
عرّفه ابن منظور بقوله: «غرب: أي ذهب وتنحّى من الناس، و«التغرُّب» يعني البعد و«الغربة والغرب» يعني النزوح عن الوطن، و«الغريب» هو البعيد عن وطنه»[1].
وكلمة «اغتراب» هي ترجمة للكلمة الإنجليزية (Alienation) والكلمة الفرنسية (Aliénation) المشتقان من الأصل اليوناني (Alienare)، والذي يعني نقل ملكية شيء ما إلى آخر، أو يعني الانتزاع أو الإزالة[2]، وهذا الفعل مأخوذ من كلمة لاتينية أخرى (Alienus) ويعني الانتماء إلى «الآخر»، وهذه الأخرى مشتقة من كلمة (Alius) بمعنى «الآخر» أو «آخر». وقد استخدمت الكلمة اللاتينية (Alienatio) –قديمًا– للتعبير عن الإحساس الذاتي بالغربة أو الانعزال (DETACHMENT) سواء عن الذات أو الآخرين[3].
مفهوم الاغتراب اصطلاحًا
نعود إلى كلمة غربة في فضائها العربي، فقد استُخدمت في سياقين أساسيين: ديني من ناحية، ونفسي – اجتماعي من ناحية أخرى.
في السياق الديني لم ترد كلمة الغربة في القرآن، وإن كانت «الفكرة» نفسها، أعني انفصال الإنسان عن الله، قد عبّرت عنها بوضوح قصة خلق آدم وهبوطه من الجنة إلى الأرض، كما وردت في سورة البقرة على وجه الخصوص.
ولكن حين أراد ابن عربي ( 1160 - 1240) أن يسمّي هذه الفكرة، وأن يطلق كلمة تحدّد فعل الخلق والهبوط هذا، لم يجد سوى كلمة «الغربة» وفعل «الاغتراب»، فقد كتب في «الفتوحات المكية» يقول ما نصه: «إن أول غربة اغتربناها وجودًا حسيًّا عن وطننا غربتنا عن وطن القبضة عند الإشهاد بالربوبية لله علينا، ثم عمرنا بطون الأمهات، فكانت الأرحام وطننا فاغتربنا عنها بالولادة»[4].
والجدير بالذكر أن هذه الفكرة الدينية نفسها، أي الانفصال عن الله، قام السهروردي حكيم الإشراق (1155 - 1161) بإجراء تنويعات فلسفية عرفانية عليها، في قصته الرمزية التي تحمل هذا العنوان الدال: «الغربة الغربية»، فهي قصة تبيّن الانفصال عن «مشرق الأنوار»، أي الأصل، والسقوط في عالم البرزخ، وكيف أن الحكمة اللدنية «المشرقية» تقود الصوفي إلى أن يعي «غربته الغربية»، أي أن يدرك عالم البرزخ بوصفه «غربًا» يقوم قبالة المشرق»[5].
وكذا وجدنا كلمة الاغتراب في سياقها النفسي والاجتماعي، تحفل بتنوّع قي تراث اللغة العربية، ابتدءً من الشعر حتى التصوف، لكن قبل أن نعرض لهذا السياق بالتحليل نود أن نُنبّه أولًا إلى أمرين:
الأمر الأول: هو أن كلمة الاغتراب أو الغربة تعني كما ورد في معاجم اللغة العربية على اختلافها، النزوح عن الوطن أو البعد والنوى أو الانفصال عن الآخرين، وهو معنى اجتماعي بلا جدال، غير أن الذي لا جدال فيه كذلك هو أن مثل هذا الانفصال لا يمكن أن يتم دون مشاعر نفسية، كالخوف أو القلق أو الحنين، تسبّبه أو تصاحبه أو تنتج عنه.
الأمر الثاني: هو أن الإنسان العربي على الرغم من أنه لما كان يحيا في كنف قبيلة ينتمي إليها ويتعيّن بها، حتى إنه لم يكن يعرف إلَّا من خلالها، فإن ذلك لم يقف حائلًا دون ظهور ألوان من التمرّد أو القلق الجماعي والفردي على حد سواء.
أما السياق النفسي – الاجتماعي الذي وردت فيه كلمة الغربة في فضاءات الفكر العربي القديم تمثّلت بداية في مجال الشعر، فسوف نجد أن كلمة اغتراب كانت تجيء في إطار التعبير عن تجربة حية كابدها الشاعر القديم إلى حد التمزّق، وكان قوام هذه التجربة ذلك الوعي الشقي بأن حياته إنما هي غريبة عنه كالشيء المعار له فيما يقول المهلهل بن ربيعة التغلبي:
أرى طول الحياة وقد تولى
كما قد يسلب الشيء المعار
ويبلغ هذا الوعي الشقي مداه عندما يدرك الإنسان أنه موجود من أجل الموت: يقضي عمره مغتربًا، حتى يجيء الموت ويضع له النهاية، فيما يرى بشر بن أبي خازم الأسدي:
ثَوى في مُلحَدٍ لا بُدَّ مِنهُ
كَفى بِالمَوتِ نَأيًا وَاغتِرابا
رَهينَ بِلىً وَكُلُّ فَتىً سَيَبلى
فَأَذري الدَمعَ وَاِنتَحِبي انتِحابا
ولكننا في الواقع لا نجد تعبيرًا عن الاغتراب بمعناه النفسي – الاجتماعي أبلغ ولا أعمق، من ذلك الذي نجده عند الأديب أبي حيان التوحيدي الذي قصد بالغريب الإنسان الشقي الذي ينطق وصفه بالمحنة بعد المحنة، والذي يعيش في هذا العالم بشعور الاقتلاع، إذ لا يقوى على الاستيطان في وطن بُني بالماء والطين، والغريب الحق هو ذلك الذي يكون غريبًا وهو في الوطن وبين الآخرين، وهو إن كان وسط الجماهير والأغيار لا يضيع فيهم ولا يبتلع في هذا الكائن بلا اسم «الناس» ويضل غريبًا عنهم.
والمعنى نفسه لكلمة الغريب والغرباء هو ما نجده في مجال آخر من مجالات الفلسفة العربية، فالغريب هنا هو من يجتنب المجتمع وما يشيع فيه من معتقدات، وينفصل عن العامة والناس، وهذا ما قصد إليه ابن باجة في كتابه «تدبير المتوحد» من خلال قوله: «وكأن السعداء إن أمكن وجودهم في هذه المدن فإنما يكون لهم سعادة المفرد (...)، وهؤلاء هم الذين يعنيهم الصوفية بقولهم الغرباء؛ لأنهم و إن كانوا في أوطانهم وبين أترابهم و جيرانهم غرباء في آرائهم قد سافروا بأفكارهم إلى مراتب أخر هي لهم كالأوطان (...)، ونحن في هذا القول نقصد تدبير هذا الإنسان المتوحد»[6].
هذا النص يضع بين أيدينا كشفًا حاسمًا عن طبيعة معنى الغربة الذي يحتمله مفهوم التوحّد، فالغربة تأخذ معنى التوحّد، أي تموضع الذات في ذاتها و تموضعها في وطن موحّد الآراء، ويُلقب ابن باجّة المتوحّد بالنابتة، أي الفرد المنعزل الذي يعيش في نفسه أو مع غيره.
كما أن لفظ المتوحّد يطلق على مجموعة أفراد دفعة واحدة، إذ طالما أن الجماعة لم تأخذ بعادات هؤلاء المتوحّدون ولم تتبع تقاليدهم، فإن هؤلاء -كما سمَّاهم ابن باجة نقلًا عن الفارابي و المتصوفة- يظلون رجالًا «غرباء» وسط عائلاتهم ومجتمعهم؛ ذلك لأنهم مواطنو الحكومة الكاملة، الذين تدفعهم جرأتهم العقلية إلى استباق حدوثها. ولا شك أن هذا النوع من الاغتراب له دلالة إيجابية ومستحبة.
فالكلمة العربية «غريب» تدل إذن على أمرين مختلفين: أحدهما مقبول مستحسن والآخر مرذول مستهجن، وهذا الازدواج في الدلالة لا يقتصر على الكلمة العربية فحسب، ونجده أيضًا في النظريات الأوروبية الحديثة.
لذا أحاول أن أستعرض معنى كلمة «اغتراب» في الفلسفة الغربية، على أساس أن الكلمة يكمن فيها كمون النفط في باطن الأرض، فما على المرء إلَّا أن يجيد الحفر أي التحليل في الكلمة، حتى ينبثق المعنى أو الحقيقة من داخل الكلمة ذاتها.
وفي هذا العرض شيء من التحليل، نوجّهه إلى الكلمة اللاتينية (Alienatio) مع التطرق قليلًا إلى اشتقاقاتها في اللغات الأوروبية الحديثة والكلمة العربية (غربة)، وإن كان تحليلًا يستند إلى اعتقاد آخر، هو أن الكلمة لا يتضح معناها تمامًا لو عزلناها عن سياقها اللغوي العام، فضلًا عن سياقها التاريخي، فاللغة لا تعدو أن تكون خلقًا وتعبيرًا اجتماعيًّا في الوقت نفسه.
استخدمت كلمة اغتراب في السياق القانوني لتدل على نقل أو تحويل أو تسليم أي شيء إلى شخص آخر، وهذا ما دلَّت عليه هذه الكلمة في العصور الوسطى للدلالة على فعل يفيد قيام شخص ما بتغريب شيء يملكه –كالأراضي والمنازل– أي يصبح ما يملكه من عقار أو مال أو غير ذلك خلال عملية النقل شيئاً آخر غيره، غريبًا عنه لأنه قد دخل ضمن نطاق ملكية إنسان آخر.
واضح من هذا المعنى القانوني والاشتقاقي لكلمة (Alienatio) أن عنصر الإرادة والقصد عنصر أساسي فيه، بقدر ما هو أساسي فيما يسمّى في القانون بالتصرّف القانوني مثل عقد البيع والوصية والهبة وغير ذلك من ألوان التصرّف القانوني التي تقوم على الحرية من قبل الذات والأنا[7]. وهذا ما يعرف بالاغتراب الإيجابي.
لكن هذا العنصر ليس هو الوحيد لمصطلح الاغتراب من معنى، فثمة عنصر آخر لا يقل عنه أهمية، وأعني به الاستيلاء ووضع اليد، أو الإلزام من قبل الآخر، وفي ذلك يكون الاغتراب أقرب شيء إلى المصطلح اللاتيني (Traditio) في القانون الروماني الذي كان هيجل على علم وافٍ به، فهذا المصطلح يعني العرف أو التقليد الذي ينطوي على القسر والإجبار أو الاستحواذ من جانب آخر[8]، وهذا ما يسمّى بالاغتراب السلبي.
لهذا إذا أردنا أن نفهم مصطلح «الاغتراب» فهمًا جدليًّا فعلينا أن نضع في الحسبان هذين العنصرين المتناقضين سويًّا، وهما الوجود من أجل الذات، والوجود من أجل الآخر، وهذا ما التفت إليه هيجل عندما صاغ المصطلح، ليعبّر به عن واقع تاريخي كان يحفل بشتى ألوان التناقض والتطاحن، ففي الفترة السابقة كان العرف الإقطاعي صورة من الاغتراب السلبي ناضلت ضده فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر لكي تؤكّد حقوق الإنسان غير القابلة للانتزاع والنقل، ومن أجل أن تؤكد في الوقت نفسه دور التعاقد الاجتماعي في تكوين المجتمع المدني والسياسي.
وقبل هيجل ومع مطلع العصر الحديث استخدم فيلسوف هولندي من فلاسفة القانون الدولي جورتيوس «Grotius» (1583-1645) الكلمة اللاتينية (Alienatio) والفعل (Alienare) ليبيّن حقوق الملكية في المجتمع المدني، أي حقوق النقل والتسليم حيث يرى أن الفرد ينتقل من الحالة الطبيعية التي كان يعيش فيها متمتعًا بحقوق مطلقة إلى حالة المجتمع المدني، حيث يتنازل هو وغيره من الأفراد عن هذه الحقوق فيخلعونها طواعية وعن اختيار على إنسان واحد معيّن يمثّل السلطة السياسية، وقد وجدت هذه الفكرة صداها العميق لدى أصحاب نظرية «العقد الاجتماعي» أمثال هوبز، وجون لوك، وجون جاك روسو فاستخدموا مصطلح «الاغتراب» للدلالة على المعنى الأخير، أعني نقل الملكية السياسية[9].
وعليه فالاغتراب بهذا المعنى القانوني يتضمّن ما يمكن تسميته بـ«تشيُّؤ» (Reificatio) العلاقات الإنسانية، أي تحوُّل الموجودات الإنسانية الحية إلى «أشياء» أو «موضوعات» جامدة تحوُّلًا يمكن أن تظهر معه في سوق الحياة كما لو كانت بضائع أو سلعًا قابلة للبيع والشراء، كما نتبيّن أن الكلمة الإنجليزية قد قيلت هي أيضًا في سياق يصف وضعًا تاريخيًّا، قوامه التناقض بين حرية النقل والبيع والشراء على نحو ما كان يتمتع به الأمير أو السيد من جهة، وفقدان هذه الحرية على نحو ما كان يعاني منه الأجير أو العبد من جهة أخرى.
واستخدمت كلمة الغربة في العصور الوسطى بمعانٍ مشابهة في اللغتين الإنجليزية والفرنسية، واللفظ الألماني (Fremd) يماثل اللفظ اللاتيني (Alinus) والإنجليزي (Alien)، حيث يعني الانتماء إلى الآخر والتعلّق به، وقد استخدم هذا اللفظ أصلًا للإشارة إلى معاني الغربة في مجال العلاقات الإنسانية، وهذا ما وجدناه في السياق النفسي والاجتماعي لمعنى الاغتراب.
يرى أحد الباحثين أن الإنسان المغترب عن ذاته، إنما هو ذلك الإنسان المجذوب الذي يخرج من ذاته إلى حدّ الذي يعلو معه على نفسه فيصل آخر الأمر، إما إلى الفناء فيما يجذبه ويستغرق اهتمامه، كالمتصوف مثلًا حين يبلغ مقام الفناء في الله، وإما إلى فقدان السيطرة تمامًا على نفسه وعلى أفعاله، كالمجنون الذي يفقد تمامًا، الشعور بنفسه من حيث هي مركز لتجربته[10].
ولا شك أن المعنى الاجتماعي للاغتراب لا ينفصل عن المعنى النفسي وإنما يرتبط به ارتباطًا وثيقًا؛ ذلك لأن المغترب نفسيًّا هو أيضًا مغترب اجتماعيًّا، بمعنى أن اغتراب الأفراد واضطرابهم كان في جانب كبير منه أثر من آثار نبذ المجتمع، أو تجاهله، أو مطاردته لهم ومن ثم كانوا غرباء بين الآخرين، تميّزوا بعد الانتماء إلى الآراء أو المعتقدات الشائعة المألوفة، ويشير إليهم أحد كتاب القرن الرابع عشر: «أنهم أولئك الذين ينحرفون، في حياتهم وأخلاقهم، عن الأسلوب المألوف لحياة الإنسان المؤمن»[11].
يبدو من هذه الإشارة أن المغتربين اجتماعيًّا هم والمهرطقون سواء، وهذا صحيح من ناحية أنهم جميعًا كانوا يشتركون في اتخاذ موقف المعارضة والرفض لما كان يشيع في مجتمعاتهم من معايير دينية واجتماعية.
أما كيف كان يتم اتّخاذ هذا الموقف، فهنا يتمثّل الاختلاف بين الفئتين، فلئن كان رفض المغتربين يتحقّق بطريقة وجودية - وجدانية، أي عن طريق اعتزال الناس والتوحّد والتفرّد، وما يصاحب ذلك من قلق واضطراب وحيرة وغير هذا من أحوال نفسية، فإن رفض المهرطقين كان يتمّ بطريقة عقلية، أي عن طريق اختيار مجموعة من الأفكار تتعارض مع الأفكار السائدة اختيارًا، يصاحبه قدر كبير من الثقة والتيقُّن بأن ما قد اختاروه، وإن عارض المعتقدات المألوفة، فهو الحق الذي سيكتب له، آخر الأمر، الانتصار والانتشار.
وجدنا أيضًا دلالة أخرى للاغتراب في السياق الديني، ويعدّ هذا المعنى من أقدم المعاني التي يمكن أن نتحدّث من خلالها عن الاغتراب، وفي هذا الإطار يمكن العودة –بظاهرة الاغتراب– إلى أفكار العهد القديم في سفر التكوين خاصة في القصة الإنسانية المتعلّقة بخلق آدم وانفصال حواء من أحد ضلوعه والهبوط من الجنة إلى الأرض. وهنا نلتقي بأول اغتراب في الكون، أو على وجه الدقة أول انفصال وأول ثنائية حقيقية، فحواء هي جزء من آدم لكنها غدت الآن جزءًا منفصلًا، وبمعنى آخر مغتربًا[12].
وهناك معنى يتعلّق باغتراب الإنسان عن الله أي انفصاله وهو يمثّل لحظة حاسمة في تاريخ الوجود الإنساني، وبمعنى أوضح يعني الخطيئة، والخطيئة بحسب التصوّر الديني في الكتاب المقدّس ليست مجرّد تعدٍّ على شريعة الله وأحكامه، وإنما هي في جوهرها انفصال عن الله.
وعبّر كيركيجارد المفكر الوجودي، عن وعي الإنسان بالخطيئة، ومن خلال هذا الوعي يضع ذاته وسط وجود جديد يتعلّق بالخطيئة، بمعنى أن الإنسان يُدرك ذاته بوصفه إنسانًا آخر على وعي بالانقسام العميق داخل ذاته، فالإنسان –كما يرى كيركيجارد- يقف وحده بسبب الخطيئة أمام الله، وهذا الوعي قد يكون موضع للعظة والعبرة، ويمكن أن يكون موضوع تأمّل صامت يقوم به ويضعه وجهًا لوجه أمام ذاته الخاصة، والإنسان قبل الخطيئة ليس أنا ولا يصبح أنا إلًّا في الخطيئة وبواسطة الخطيئة.
يقول كيركيجارد: « عندما تدرك الذات أنها موجودة أمام الله فإنها تُصبح لا متناهية، وفي هذه الحالة تعرف أنها خاطئة فقط، وفي هذه الحالة لا تعاني هذه النفس القلق والجزع واليأس[13].
يبدو أن مفهوم الغربة عند النزعة الوجودية يأخذ معنى مقاربًا نوعًا ما يتحدّد في فقدان الذات أمام ألَّا ذات، هذا ما يُعبِّر عنه هيدغر في قوله: «إنّ القلق يعزّل ويفتح الموجد على نحو يكون معه منفردًا بنفسه، لكن هذا الانفراد الوجوداني لا يحمل ذاتًا متشيئة في الفراغ الغافل لكون بلا عالم».
أما على مستوى السياق التاريخي لفكرة الاغتراب، يجمع الباحثون على أن «هيجل» هو أول من استخدم في فلسفته مصطلح الاغتراب استخدامًا منهجيًّا في كتابه «ظاهريات الروح»، لكن هذا لا يعني أنه صاغ تصوّره النسقي لهذا المصطلح من فراغ، بل كانت هناك محاولات سابقة تعدّ مصادر وأصول استمد منها هيجل فكرته الأساسية عن «الاغتراب»[14].
ومن هذا المنطلق عرّف هيجل الاغتراب بأنه حالة اللاقدرة أو العجز التي يعانيها الإنسان عندما يفقد سيطرته على مخلوقاته ومنتجاته وممتلكاته، فتوظف لصالح غيره بدل أن يسطو هو عليها لصالحه الخاص. وبهذا يفقد الفرد القدرة على تقرير مصيره والتأثير في مجرى الأحداث بما فيها تلك التي تهمّه وتُسهم بتحقيق ذاته وطموحاته «فقال هيجل: إن العقل يجد نفسه في حالة حرب مع نفسه ومخلوقاته، ولما يتمكّن العقل من تحقيق ذاته الفضلى لا بد له في نهاية المطاف من تجاوز عجزه بالتغلّب على المعوقات التي تفصله عن مخلوقاته وتحد من تحكمه بها»[15].
أما التغلّب على حالة الاغتراب –حسب هيجل- فيتمّ بقيام مجتمع حقيقي تندمج فيه جميع المصالح الخاصة والعامة. بهذا المفهوم توصل هيجل إلى ضرورة قيام دولة مركزية قوية كي يتمكّن المجتمع من أن يتحكّم بمصيره، ولا يتمّ هذا التحكّم طالما تسود فوضى المصالح الخاصة المتناقضة، وكذلك يكون الإنسان مغتربًا ما لم ينعم بالحرية الحقيقية التي تتحقّق في حياة الأمة وبالاندماج بين المصالح الخاصة والعامة[16].
إن الروح أو العقل في نظر هيجل، هو وحده الذي يعرف بوعي ذاته على أنها ذاته هو، ويعرف بوعي عالمه على أنه ذاته هو، والاغتراب يتمثّل في عدم قدرة العقل أو الروح على التعرّف على ذاته الحقة.
بعد هيجل بدأت تظهر النظرية الأحادية إلى مصطلح الاغتراب، أي التركيز على معنى واحد هو المعنى السلبي الذي طغى على المعنى الإيجابي حتى كاد أن يُخفي معالمه، وأصبح الاغتراب وكأنه مرض أصيب به الإنسان الحديث، عليه أن يقضي على هذا المرض ويتبرأ منه، وهذا يعني أن مصطلح الاغتراب قد أخذ ينقد ما كان يتميّز به –عند هيجل خاصة– من ازدواج في المعنى.
لقد كان كارل ماركس من أبرز الفلاسفة الذين جاؤوا بعد هيجل واهتموا بفكرة الاستلاب كإحدى أشكال الاغتراب، ويمكن القول: إن مفهوم ماركس عن الاغتراب تأثّر بفيورباخ وهيجل منتقلًا من مفهوم فلسفي إلى مفهوم اجتماعي – اقتصادي وبخاصة كما يظهر في كتابه مقالات 1844 الاقتصادية والفلسفية التي بلور فيها أسس مفهومه الجديد، ومع أنه كان لهيجل وفيورباخ تأثير كبير ومباشر في ماركس.
إلَّا أنه تجاوز المفاهيم المثالية للاغتراب في الفكر الأوروبي، وربما يرجع ذلك إلى وضوح وبساطة المفهوم الذي يطرحه وارتباطه المباشر بالواقع المادي للإنسان، ليظهر أن الاستلاب حالة عامة في المجتمعات الرأسمالية التي حوَّلت العامل إلى كائن عاجز وسلعة بعد أن اكتسبت منتجاته قوة مستقلة عنه ومعادية له قال: «إن العامل في ظل النظام الرأسمالي يهبط إلى مستوى السلعة ويصبح حقًّا أكثر السلع تعاسة، وتزداد تعاسته بازدياد قوة إنتاجه وحجمها يصبح العامل سلعة رخيصة بقدر ما ينتج من سلع وبتزايد قيمة عالم الأشياء تتدنى قيمة الإنسان»[17].
وهكذا، فإن القضية المادية التي تتَّخذ نقطة بداية في نظرية ماركس تقرّر أولًا واقعة تاريخية، فتكشف الطابع المادي للنظام الاجتماعي السائد الذي يقوم فيه اقتصاد غير موجّه للعلاقات الإنسانية. وفي الوقت نفسه فإن قضية ماركس نقدية أيضًا، إذ تعني أن العلاقة السائدة بين الوعي والوجود الاجتماعي هي علاقة زائفة ينبغي تجاوزها، وهكذا فإن حقيقة الموقف المادي تتحقّق في سلب هذا الموقف.
وعلى الرغم من تعدّد الموضوعات التي تناولتها مؤلّفات ماركس تباينها، فثمة خيط فكري واحد يربط بينها هذا الخيط يهدف إلى قلب الفلسفة أو الميتافيزيقا التقليدية –في نظر ماركس- فلسفة هيجل في المقام الأول فقد حوّل ماركس الاغتراب عند هيجل من اغتراب إبداعي إلى اغتراب إنتاجي، بمعنى أنه جعل المادية تحلّ محلّ المثالية، فالإنسان هو الذي يصير مغتربًا وليس الروح المطلق، ولا يمكنه أن يحقّق إنسانيته إلَّا بالعودة إلى ذاته من خلال إشباعه لحاجاته وتحقيق ضروراته. هذا يعني أن الاغتراب في هذه الحالة يقوم على تقسيم العمل والملكية الخاصة.
إلَّا أن مفهوم ماكس فيبر (1864 - 1920) للاغتراب جاء على خلاف ماركس، حيث رأى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر أن العجز حالة عامة ولا تقتصر على العامل، بل تتصف بها جميع العلاقات الاجتماعية، فيؤكد أن العالم والجندي والباحث والأستاذ الجامعي وغيرهم لا يسيطرون على وسائلهم ومنتجاتهم بفعل كونها مستقلة عنهم في كثير من الأحيان، كذلك يمكن القول: إن المواطن عاجز تجاه الدولة حتى في المجتمعات الديمقراطية، فهي التي تسيطر عليه في واقع الأمر، وليس هو الذي يسيطر عليها فعلًا. لقد اكتسبت مناعة تمكّن الحاكم من التعالي على شعبه حتى عندما يكون منتخبًا من قِبله، فالدولة لا تُشرك المواطنين حقًّا في صنع القرارات المهمة، وكثيرًا ما يتفاجأ المواطن بالقرارات والأحداث السياسية بما فيها تلك التي يكون لها تأثير كبير في تقرير مصيره[18].
أما مفهوم عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركهايم (1858 - 1917) للاغتراب فقد ربطه بفكرة تفكّك القيم والمعايير الاجتماعية والثقافية وفقدانها السيطرة على السلوك الإنساني وضبطه، وقد تمّ ذلك في أوروبا نتيجة الثورة الصناعية وما رافقها من ازدهار الروح الرأسمالية وإضعاف القيم والمعايير التقليدية.
وهذا ما سمّي (Anomie) في مؤلفات إميل دوركهايم، يشير هذا المصطلح إلى حالة تدهور المعايير التي تضبط العلاقات الاجتماعية، فتنشأ عن ذلك أزمات حادة بين عدة فئات متنافسة أو متناحرة، ما يهدّد الإحساس بأهمية التضحية في سبيل المجموع؛ إذ تستعمل الفئات القوية وسائل غير عادلة في فرض إرادتها على الفئات الضعيفة، ما يهدّد التماسك الاجتماعي بالوصول حتى إلى درجة التفسّخ والنزاع، فالاغتراب هنا شكل من أشكال انهيار العلاقات الاجتماعية[19].
إذن بدأ موضوع الاغتراب في مختلف تنوّعاته ينتشر من خلال الفكر النقدي والتحليلي بشكل خاص في مختلف الثقافات البارزة، ولا يُستثنى من ذلك الثقافة العربية، إذ نجد بعض بذوره لدى كثير من المفكرين العرب، تعبيرًا عن إحساسهم بالعجز الداخلي في علاقاتهم بالمجتمع ومؤسساته، كما بالعجز الخارجي باعتبار أن مختلف البلدان العربية بدأت تخضع بعد نيل الاستقلال لهيمنة خارجية من قِبل المجتمعات المتقدمة في أوروبا بخاصة، والولايات المتحدة الأمريكية ما بعد الخمسينيات من القرن العشرين التي تمثّل شكليًّا بدايات مرحلة السيادة.
تبيّن لنا مما سبق أن مفهوم الاغتراب ما يزال غامضًا ومتعدّد المعاني على الرغم من تزايد الاهتمام به، وكونه موضوعًا محوريًّا في مختلف النشاطات الفكرية من فنون تعبيرية، وفلسفة، وعلوم اجتماعية، ولقد تبيّن لنا أيضًا أن بعض الباحثين شدّدوا في هذا المجال على حالة العجز، فيما شدّد البعض الآخر على تفكّك القيم والمعايير والرموز، كما شدّد بعض على مشاعر العزلة وعدم الانتماء واللامبالاة، فيما مال بعض آخر إلى التركيز على تجارب عدم الاكتفاء الذاتي والقلق، والعبث والوحشة.
وعليه يمكن حصر أنواع الاغتراب فيما يلي:
أولًا: الاغتراب الثقافي: ويُراد به ابتعاد الفرد عن الثقافة الخاصة بمجتمعه، وثقافة المجتمع تتألف من العادات والتقاليد والقيم السائدة في ذلك المجتمع ومخالفة المعايير التي تضبط سلوك أفراده حيث نجد الفرد يرفض هذه العناصر وينفر منها ولا يلتزم بها، ويفضل كل ما هو غريب وأجنبي عنها[20].
ثانيًا: الاغتراب الاجتماعي: ويتمثّل في شعور الفرد بعدم التفاعل بين ذاته وذوات الآخرين، وضعف العلاقات الاجتماعية، أو ضعف الإحساس بالمودة والألفة الاجتماعية معهم، وينتج ذلك عن الرفض الاجتماعي الذي يعيش في ظله الإنسان في افتقاد دائم للدفء العاطفي[21].
وهو اغتراب عن المجتمع ومغايرة معاييره والشعور بالعزلة والهامشية الاجتماعية والمعارضة والرفض والعجز عن ممارسة السلوك الاجتماعي العادي[22].
ثالثًا: الاغتراب الاقتصادي: وهو مفهوم درج على يد كارل ماركس، ويُشير إلى شعور العامل بانفصاله عن عمله، على الرغم من وجوده كفرد، كجسم، في مقرّ عمله (المؤسسة) وذلك الإحساس بالانفصال يولّد لديه شعورًا بالعجز والملل والخوف، من المستقبل، ويصبح مغتربًا عن عمله اليومي، فهو بالضرورة يكون قد اغترب أيضًا عن نفسه وعن إمكانياته الخلَّاقة والأواصر الاجتماعية، فيفقده إمكانياته الفاعلة كما يفقد علاقاته الاجتماعية، الشيء الذي يبعده عن الآخرين ويجعل منه كائنًا بعيدًا عن إنسانيته.
رابعًا: الاغتراب السياسي: ويقصد به شعور الفرد بالعجز إزاء المشاركة في اتخاذ القرارات السياسية، فهو شعور المرء بعدم الرضا وعدم الارتياح للقيادة السياسية، والرغبة في الابتعاد عنها وعن الوجهات السياسية الحكومية والنظام السياسي برمته، شعور الفرد بأنه ليس جزءًا من العملية السياسية وأن صانعي القرارات السياسية لا يضعون له اعتبارًا[23].
بمعنى أن الفرد يشعر بعدم القدرة على التأثير في المجال السياسي وعاجز عن إصدار قرارات سياسية فاقد لمعايير تشكيل نظام سياسي، وفي المقابل غير مرتاح ولا يشعر بالانتماء لما هو عليه الوضع القائم.
ويوسع أحمد فاروق هذا المفهوم إذ يرى أن الاغتراب السياسي لا يمثّل فقط الاغتراب عن السلطة السياسية، بل إنه يمثّل كل الاتجاهات السلبية نحو عموم هيئات المجتمع، وهو ما يؤكّده محمود رجب حيث يرى أن المجتمع الحديث دعم انفصال الإنسان عن الطبيعة وعن ذاته من خلال اعتماده الملكية الخاصة التي أدّت إلى عدم المساواة[24].
رغم أن هذا المفهوم يبدو أنه أقرب إلى المفهوم الاقتصادي منه إلى الاغتراب السياسي إلَّا أن الأنظمة الاقتصادية هي انعكاس للقرارات السياسية عادة؛ لذلك فإن الإنسان المغترب بفعل تلك العوامل سيحمل النظام السياسي مسؤولية ذلك ويغترب عنه.
خامسًا: الاغتراب الديني: تحدّثت كل الأديان عن الاغتراب الديني فيما معناه الانفصال والابتعاد عن الذات الإلهية، وفي الإسلام يأخذ الاغتراب المفهوم ذاته، حيث يعني به الابتعاد عن الله.
وقد بيّن فتح الله خليف أن الاغتراب الديني في الإسلام جاء في ثلاث أشكال هي: اغتراب المسلم بين الناس، واغتراب المؤمن بين المؤمنين، واغتراب العالم بين المؤمنين.
والاغتراب الديني هو ما يُسميه علماء النفس بالحاجة الروحية، حيث إن هذه الحاجة الروحية تدفع الإنسان عن البحث عن إله يعظّمه ويقدّسه، ويرتبط به ويلجأ إليه، ويعمل ما يرضيه من العبادات[25].
لذلك نجد الإنسان في القبائل أوجدت لنفسها قوى خفية غيبية تعتقد بقدرتها على الحماية والنصر والغفران والمعاقبة، ورمزت لها بأصنام وأشجار وأيام وأزمان وأقامت لها المعابد وقدَّمت لها القرابين.
سادسًا: الاغتراب النفسي: اختلف علماء النفس في إعطاء تعريف للاغتراب النفسي كل حسب وجهة نظره، فمنهم من يرى أنه «حالة نفسية يشعر الإنسان من خلالها بانفصاله عن الآخرين وعدم الانسجام معهم، وعدم القدرة على التكيُّف الاجتماعي مما يضطره إلى الانعزال»[26].
ويرى وايت أن الاغتراب النفسي هو اغتراب عن الذات أيضًا حيث يرتبط ارتباطًا موجبًا بالاغتراب عن المجتمع، ومنهم من يذهب إلى أن الاغتراب غربة عن الذات[27].
ويرى أريكسون أن الاغتراب النفسي هو عدم الشعور بتحقيق الهوية وما ينتج عن ذلك من أعراض، «فالفرد الذي لم تحدّد هويته بعدُ يعتبر مغتربَا؛ لأنه يفتقد الإحساس بالأمن الناتج عن عدم تحديد الهدف المركزي لحياته»[28].
إن أنواع الاغتراب هذه لا يمكن فصلها بعضها عن بعض بصورة مستقلة، نظرًا لأنها تشكّل وحدة من المشاعر التي يعايشها الإنسان ويؤثر بعضها في بعض، فالاغتراب السياسي مثلًا يؤدّي إلى تشوّه في نمو الشخصية كما قد يؤدّي إلى انفصام عرى العلاقات الاجتماعية وهكذا؛ لذلك كان الاغتراب ظاهرة تتأثر بجوانب عديدة، فكانت لها مجموعة من الأبعاد.
أبعاد الاغتراب
الاغتراب ظاهرة متعدّدة الأبعاد، أي إنها ظاهرة تتكوّن من أكثر من مكون، نسمي مكوناتها الأساسية بالأبعاد، صنّفتها سناء حامد زهران في أبعاد هي:
1- اللامعيارية: (Normlessnesse)، وتمثّل فقدان المعيار، وعدم وجود نسق منظم للمعايير أو القيم الاجتماعية التي تمكّن الفرد من اختيار الفعل الأكثر اتّفاقًا مع وضع معين[29]؛ ذلك لأن الفرد المغترب يرفض المعايير الاجتماعية ولا ينصاع لها.
2- العزلة الاجتماعية: (Social isolation)، هي انسحاب الفرد وانفصاله عن تيار الثقافة السائدة في مجتمعه، مما يجعله يشعر بالانفصال عن الآخرين والإحساس بعدم الانتماء واللامبالاة بطريقة يشعر فيها الفرد بأنه وحيد منفصل عن نفسه ومجتمعه[30].
3- التشيُّؤ: (Rèification)، هو شعور الفرد بأنه فقد هويته، وأنه مجرّد شيء أو موضوع أو سلعة، وأنه لا يملك مصيره، حيث يشعر أنه مقتلع الجذور، غير مرتبط بنفسه أو بواقعه[31].
4- اللامعنى: (Meannglessness)، ويقصد به أن الفرد يرى الحياة لا معنى لها، وأنها تسير وفق منطق غير معقول، ومن ثم يشعر بالتغرُّب لأن حياته لا جدوى منها فيقيد واقعيته، فتتكون لديه مشاعر اللامبالاة والفراغ الوجداني[32].
5- اللاهدف: (Purposelesseness)، ويقصد به أن الحياة تمضي بغير هدف أو غاية، ومن ثم يفقد الفرد الهدف من وجوده ومن عمله، ومن معنى الاستمرارية في الحياة، ويترتّب عن ذلك اضطراب في سلوك الفرد وأسلوب حياته مما يؤدّي إلى التخبُّط في الحياة ويظل الطريق[33].
6- العجز: (Powerlesseness)، ويقصد به الشعور بألَّا حول ولا قوة، ويعجز الفرد عن السيطرة على تصرفاته ورغباته وافتقاره إلى الشعور بأنه قوة حاسمة ومقرّرة في حياته وفقدانه الشعور بتلقائيته ومرح الحياة[34].
7- غربة الذات: (Self- Estrangements)، هي حالة يدركها الفرد عن ذاته كمغترب، أي إنه أضحى نافرًا أو مغتربًا عن ذاته، وأصبحت الذات أداة مغتربة، لا تعرف ماذا تريد، وهي عدم القدرة على التواصل مع ذاته ومع الآخرين[35].
8- التمرد: (Rèbellion)، هو شعور الفرد بالرفض والكراهية لكل ما يحيط به، ممَّا يدعوه لممارسة العنف، ووجود نزعة تدميرية تتَّجه إلى خارج الذات في شكل سلوك عدواني، وأخرى تتَّجه إلى داخل الذات في شكل عزلة ونكوص وعدوان موجَّه إلى الذات[36].
9- الرفض: (Rejection) هو اتِّجاه سلبي ومعادٍ نحو الآخرين، أو نبذ بعض السلوك، ويتضمّن الرفض الاجتماعي، والتمرّد على المجتمع، وعدم التقبُّل الاجتماعي وحتى رفض الذات[37].
ظاهرة الاغتراب إذن هي حالة من الاضطراب واليأس والإحساس بالعجز والانفصال عن الذات وعن الآخرين، يتوجَّب على كل الجهود في مختلف مجالات التنمية والرعاية والتأهيل، بل في كل مجال يتواجد فيه الإنسان، يجب أن تعمل من أجل القضاء على العوامل المؤدية للاغتراب؛ إذ لا بد من توفُّر جوٍّ من الألفة بين المتعاملين في المؤسسة الواحدة سواء كانت تلك المؤسسة أسرة أو مدرسة أو مؤسسة استثمارية أو خدماتية، وعلى القائمين على تسيير شؤون الآخرين أن يراعوا أساليب القيادة الأنجع في مواجهة ظاهرة الاغتراب.
[1] ابن منظور، لسان العرب، لبنان: دار صبح، ط1، 1968، مج 10، ص 32.
[2] مبروك أمل، مشكلة الإنسان دراسة في الفكر الوجودي، القاهرة: دار قباء للطباعة والنشر، ط2، 2004، ص 81.
[3] المرجع نفسه، ص 82.
[4] ابن عربي، الفتوحات المكية، تحقيق وتقديم: عثمان يحيى، مراجعة: إبراهيم مدكور، القاهرة: الهيئة العامة لشؤون المطابع بالأميرية، (د.ط)، ص ص 80-81.
[5] رجب محمود، الاغتراب سيرة ومصطلح، القاهرة: دار المعارف، ط3، 1988، ص ص 40-41.
[6] ابن باجة، تدبير المتوحد، تونس: سراس للنشر، [د.ط]، 1002، ص 13.
[7] رجب محمود، الاغتراب، مرجع سابق، ص 32.
[8] المرجع نفسه، ص33.
[9] رجب محمود، الاغتراب، مرجع سابق، ص 34.
[10] مبروك أمل، مشكلة الإنسان.. دراسة في الفكر الوجودي، مرجع سابق، ص 84.
[11] بركات حليم، الاغتراب في الثقافة العربية.. متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، ط1، 2006، ص 35.
[12] الكتاب المقدس، العهد القديم، سفر التكوين، الإصحاح الثاني (2،21،25)، دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، 1985، ص 6.
[13] إمام عبد الفتاح، كيركيجارد رائد الوجودية، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، (د.ط)، 1982، مج 2، ص 289.
[14] أول هذه المصادر تراث العصور الوسطى حيث جاء ذكر كلمة الاغتراب للدلالة على انفصال الملكية عن صاحبها –كما سبق القول- كما جاءت لتدل أيضًا على انفصال الإنسان عن ذاته ومخالفته لما هو شائع ومألوف في المجتمع ثم انفصاله عن الله. أما في العصور الحديثة فقد اهتم أصحاب نظرية «العقد الاجتماعي» بتأسيس فلسفة اجتماعية تُعنى بمسألة انتقال الإنسان من الحالة الطبيعية إلى حالة الاجتماع البشري، أي تهتم بشروط قيام المجتمع المدني والسياسي، وترى هذه النظرية أن المجتمع قد يكون نتيجة تخلي الأفراد وتنازلهم –على نحو إرادي –عمَّا يمتلكون من حق كانوا يتمتعون به في حالة الطبيعة وذلك من أجل مصلحتهم وضمان أمنهم، وهذا ما يعرف بالاغتراب الإيجابي، إلَّا أن روسو تحديدًا نجده قد استخدم كلمة الاغتراب استخدامًا مزدوجًا لها جانب إيجابي وجانب سلبي، الأول -سبق وأن شرحناه-، أما الثاني: فيعني أن الإنسان ينظر إلى ذاته كما لو كانت شيئًا أو سلعة يطرحها للبيع في سوق الحياة، فهذا اغتراب سلبي أو هو –وجه الدقة– تشيُّؤ يفقد الإنسان ذاته ووجوده الأصيل وهذا المعنى الأخير نجده في فلسفة روسو النقدية والتي تتعلق «بنقد الحضارة» وكذلك المجتمع التقليدي والحديث على حد سواء.
[15] Huppolite, j, «Etudes sur Marx et Hegel», paris, Marcel Rivière, 1965, p83.
[16] Huppolite, j, «Etudes sur Marx et Hegel», Ibid, p 28.
[17] بركات حليم، الاغتراب في الثقافة العربية متاهات الإنسان بين الحلم والواقع، مرجع سابق، ص 39.
[18] بركات حليم، الاغتراب في الثقافة العربية، مرجع سابق،ص ص 43 - 45.
[19] مرجع نفسه، ص ص 67 - 68.
[20] سناء حامد زهران، إرشاد الصحة النفسية لتصحيح مشاعر الاغتراب، مصر: عالم الكتب للنشر والتوزيع، ط1، 2004، ص 115.
[21] قيس النوري، الاغتراب اصطلاحًا مفهومًا وواقعًا، الكويت: مجلة عالم الفكر، 1997، مج 10، ص33.
[22] سناء حامد زهران، إرشاد الصحة النفسية لتصحيح مشاعر الاغتراب،المرجع الأسبق، ص 110.
[23] عبد اللطيف محمد خليفة، دراسات في سيكولوجية الاغتراب، مصر: غريب للطباعة والنشر، د.ط، 2003، ص 26.
[24] المرجع نفسه، ص 36.
[25] عبد اللطيف محمد خليفة، دراسات في سيكولوجية الاغتراب، مرجع سابق، ص37.
[26] قيس النوري، الاغتراب اصطلاحًا مفهومًا وواقعًا، مرجع سابق، ص 18.
[27] محمد عباس يوسف، الاغتراب والإبداع الفني، مصر: دار غريب للطباعة والنشر، د. ط، 2005، ص 38.
[28] إجلال محمد سري، الأمراض النفسية الاجتماعية، مصر: عالم الكتب للنشر و التوزيع، ط1، 2003، ص 114.
[29] محمد عباس يوسف، الاغتراب والإبداع الفني، ص 23.
[30] سناء حامد زهران، إرشاد الصحة النفسية لتصحيح مشاعر الاغتراب، ص 404.
[31] إبراهيم عيد، علم النفس الاجتماعي، مصر: مكتبة زهراء الشرق، ط1، 2000، ص 227.
[32] سناء حامد زهران، مرجع سابق، ص 109.
[33] إبراهيم عيد، علم النفس الاجتماعي، مرجع سابق، ص 227.
[34] سناء حامد زهران، مرجع سابق، ص109.
[35] المرجع نفسه، ص 109.
[36] المرجع نفسه، ص110.
[37] المرجع نفسه، ص110.