حضور الجسد في العالم ودلالاته
الدكتور مخلوف سيد أحم*
* قسم العلوم الاجتماعية، جامعة سيدي بلعباس – الجزائر.
مدخل: اللغة والجسد
لا شـك أن للغة وظيفة أساسية في التعبير عن الأحـاسيس والمشاعر وإيصال الأفكار إلى المخـاطب، فاللغة بهذا الاعتبار وسيلة للتفاهم بين البشر وأداة لا غنى عنها للتفاهم بها في حياتهم، والتعبير expression -الذي هو وظيفة أساسية في اللغة– يفصح الإنسان به عمَّا في الذهن عن طريق الكلام المنطوق أو اللغة المكتوبة أو الإشارة أو الرمز أو الرسم أو الموسيقى أو غير ذلك[1].
أضـف إلى ذلك أن التعبير أمر لا يختص به الإنسان؛ لأن الحيوانات تستطيـع هي كذلك أن تُعبّر عن حاجتها الضرورية بجُملة من الأصوات والحركات، وأن تتفاهم فيما بينها ببعض الصرخات المتمايزة مـن حيث الشدة والارتفاع والنغم، وتصدر عنها تلك الصرخات في ظروف معيّنة، للإشارة إلى خطر داهم أو طعام جاهز أو رغبة جنسية عارمة[2].
ويتَّخذ التعبير شكلين، فإما أن يكون فطريًّا أو طبيعيًّا، وإما أن يكون وضعيًّا أو اصطلاحيًّا. فأما النوع الفطري فهو لغة العواطف والانفعالات والأحاسيس في شكلها الخام، قبل أن تخترع لها الحضارة ما شاءت من المصطلحات والتعابير، وقبل أن يصطنع لها المجتمع قوالب الألفاظ وصيغ الجمل. إن التعبير الطبيعي يتم بواسطة الصراخ والضحك والبكاء واحمرار الوجه، وغير ذلك من المظاهر غير الإرادية التي نُدركها بالحواس، ونستدل بها على معاناة الشخص المُتلبس بها كالألم أو الحزن أو الخوف وما إلى ذلك[3].
أما النوع الوضعي فهو لغة التفكير والعمليات العقلية المعقدة، ولغة الحضارة والتقدُّم، وبها يتعامل الناس في حياتهم ويتفاهمون لقضاء شؤونهم.
ويتميّز هذا النوع من التعبير عن النوع الأول بأنه إرادي ومقصود، وبعدم اقتصاره على الحاجات الضرورية للبقاء، إذ يمكن بواسطة اللغة الاصطلاحية أن نُعبّر عن كل شيء سواء منه الضروري أو الكمالي، وسواء كان ماديًّا أو روحيًّا، ملموسًا أو مجرّدًا[4].
وباعتبار أن الجسد Corps هو كيان أولي متعدّد الدلالات والوظائف، وباعتبار الجسدي Corporel مسرح التعبيرية ومجالها، فإن الإنسان في الأصل هو حضور جسدي في العالم، وفضل وجوده يكمن في قدرته على التعبير.
من ثمة نجد أن الجسد يُمسرح دائمًا تعبيراته تلك عبر صور متعدّدة، فهناك الجسدي الصامت كالمظهر الجسدي وتعابير الوجه، وهناك الجسدي الحركي كحركات المناضل والممثل المسرحي والرياضي...، وهناك الجسدي الاجتماعي المُسنّن الذي يتبدَّى في العمل اليدوي والحرفي، وهناك أخيرًا الجسد الإخباري المتمثّل في لغة الصم والعلامات المتبادلة بين البحارة، أي كل جسد «منطوق» ينتج عنه فعل اجتماعي.
إن الجسدي يبدو في نظرنا جسدًا وظيفيًّا وتواصليًّا اجتماعيًّا، إنه جسد مرجعي يخضع لقوانين المؤسسة التواصلية الاجتماعية ويوظّف معطياتها[5].
وإذا نحن فهمنا الإنسان باعتباره كائنًا –في العالم– فإن جسده المعيش أو جسده الحي أو جسده البدني (حيث يلزم فهم البدن CHAIR بالمعنى الذي أعطاه إياه ميرلوبونتي في المرئي واللامرئي) يشكل جزءًا لا يتجزّأ منه، من غير أن يكون أبدًا قابلًا لأن يُعْزل عنه كجزء مستقل، وبهذا المعنى يكون الجسد البدني ظاهرة مندمجة في العالم ومحكومة بوجود أنطولوجي عام[6].
وفي هذا الصدّد يقول ميرلوبونتي: إنني ألحظ الأشياء الخارجية بجسدي، وأعمل على أن تكون لديَّ نظرة نهائية ومكتملة عنها، غير أنني لا أدرك جسدي بعين خارجية، وإنما بهذه العين التي أمتلكها، إن إدراك الجسد الشخصي يتمّ عبر الحواس التي يتمّ بها إدراك العالم، ولكي أستطيع إدراك جسدي كلية، عليَّ امتلاك جسد ثانٍ يكون بدوره غير قابل للملاحظة[7].
إن التواصل اللاشفوي أكثر فصاحة ونزاهة ودقة من التواصل الشفوي، فهو أكثر تلقائية وأقل خضوعًا للسيطرة أو للمُواربة، وهو بمثابة نافذة تُطل على الأحاسيس الحقيقية للفرد وتكشف مواقفه. ويُمكن للكلمات أن تخدع، فكثير من الناس لا يعني ما يقول أو يقول ما لا يعني، بينما تبقى لغة الجسد نشاطات عقلية تحت عتبة الوعي تفضح ما تفكر فيه وتشعر به حقيقة. وبالتالي نؤكد مقولة: «ما تقوله بجسدك يمكن أن يكون أكثر أهمية مما تقوله في كلماتك»[8].
إذن كل إدراك للآخر لا بد أن يمر بتجربة الجسد، هذه القاعدة الفينومينولوجية تجعل من تجربة الحياة في صورتها الواقعية شرط إمكان لمختلف التجارب المعاشة والممارسات؛ لأن «كل معرفة تبتدئ بالتجربة»[9]، ولأن الجسد هو أيضًا المساحة الطوبولوجية والأنطولوجية التي تتحرّك فيها وتنتقل عبرها جملة التجارب المعاشة والسلوكات. ليس فقط لأن الجسد الحامل للإدراك الحسي عبر الأعضاء التي تتصل اتصالًا مباشرًا بالعالم الخارجي، بل ولأنه يحمل أيضًا إدراكًا حدسيًّا يجعل الوعي الخالص والمُتعالي يدرك موضوعه مباشرة.
ولا يستغني الوعي عمَّا يفيده به الإدراك الحسي من إحساسات وانطباعات حسية، ولكنه يستقل بتعاليه وإدراكه الحدسي في فهم أشياء العالم عبر القصدية المتضمنة فيه عند هسرل أو عبر اندفاعه الأنطولوجي نحو موضوعه عند «هيدجر»[10].
لكن يبقى الجسد مع ذلك المبدأ والمسار لأنه الموضوع أو الظاهرة الموجودة في العالم والمتصلة والمرتبطة بالمواضيع والظواهر الأخرى.
إن الإحساسات والانطباعات والعواطف والهيجانات والآلام واللذات كلها تجارب تخترق الجسد، وتتموقع على هامشه في نقطة اتصاله بالأشياء وانفتاحه على العالم[11]. هكذا تدرك الأجساد والذوات بعضها بعضًا بحكم انتمائها إلى عالم مشترك مُعطى لمجموع هذه الإدراكات كتجارب معاشة، والإدراك الموضوع لهذا العالم تحدّده ماهية التواصل الذاتي[12]. إن الجسـد يعمل على طريقة منارة حدودية ليُعيّن حدود حضور الشخص تجاه الآخرين[13].
الجمال والجسد
هذا الحضور الجسدي قد يتجلَّى تعبيريًّا من خلال الفن، فالفن يبقى تعبيرًا وجدانيًّا عن ذات الفنان، وعن جمالية الواقع امتزاجا معًا ليُقدّما لنا لوحة فنية أو قطعة موسيقية أو نحتًا... إلخ. ويتوزّع التعبير الفني بين رؤية واقعية للأشياء، وبين صور عفوية حالمة يسيطر عليها المجاز، والرمز إلى جمال الطبيعة من بيئة الفنان التي عاشها.
وقد لعبت الفنون التشكيلية من رسم وتصوير ونحت، دورًا مهمًّا في تشكيل الثقافة المعاصرة، وعبّر بعضها عن فن إبداعي رفيع سواء كان رومانسيًّا أو واقعيًّا[14]. فالتعبير الفني يبقى عملية امتزاج كامل بين الذات والموضوع، وأن الموضوع الذي هو في أصله شيء خارج عن الذات يصبح بعد التجربة الفنية مُستساغًا وقابلًا للذوبان في فضاء الخبرة الشخصية للفنان[15].
ونرى أن الحكم الجمالي هو تلك العلاقة القصدية التبادلية المباشرة، بين الوعي والموضوع، والذات الواعية هي التي تستحضر الجمال في حضرة الجمال في العالم، فالجمال يتميّز بالحضور في ظاهرة الجمال، وحقيقة الجمال تتجلَّى في مظاهر وظواهر الموضوعات الجميلة في جدلية الوجود والموجود، والحلم والواقع. والجمال لا يتحدَّد إلَّا بذاتية الجمال، الجمال في ذاته، الذي نراه بعين القلب والروح، في الوردة التي تنثر عطرها ولا تنثر فكرة الوردة[16].
ومن ثم فالإدراك الجمالي يستلزم قدرة إبداعية تُمكِّنه من الإبداع والإحساس بالجمال، وهذه القدرة الإبداعية موجودة في الإنسان المبدع في داخله وفي أعماقه، وهو كامن في العقل الباطني اختزنه الإنسان مما اكتسبه من خبرات جمالية وفيه تنظيم الصور والمعاني بشكل دقيق حيث تتداعى عند استدعائها[17].
وأهم ما يميّز الفكر الفلسفي المعاصر هو اهتمامه بالبعد الجمالي في التجربة الإنسانية، بوصفه أفقًا جديدًا للإنسان ونلاحظ كذلك تنوّع الاتجاهات الجمالية على نحو غير مسبوق في الفكر الفلسفي، فلم يعد البُعد الجمالي أحد أبعاد التجربة الفلسفية للمفكر، وتأتي في ذيل اهتماماته كتطبيق لمنهجه العام في مجال الفن والخبرة الجمالية، وإنما نجد بعض المفكرين يصبغون فلسفتهم كلّها بصبغة جمالية، وظهرت صورة الفيلسوف المشارك في الحياة الثقافية لمجتمعه، ناقدًا ومُحللًا للأعمال الفنية والأدبية[18]، ونجد هذا لدى هيدجر وميرلوبونتي وغيرهم من الفلاسفة المعاصرين على اختلاف اتجاهاتهم.
لقد كان هناك بين فلاسفة القرن العشرين ونقاده خاصة، تأكيد كبير على استقلال العمل الفني، وكيفيته الموضوعية، كموضوع في ذاته. وهذا التأكيد على استقلال العمل الفني أيده أيضًا علم نفس الجشطلت بتأكيده على الموضوعية الظاهرية للكيفيات المميزة للصيغة الكلية أو الجشطلت الخاص بالعمل الفني، وأيدته كذلك الفلسفة الفينومينولوجية والتي أطلقها هسرل أولًا[19].
الإدراك والجسد
وقد أراد هسرل أن يحل مشكلة الإدراك الحسي والمعرفة بوجه عام من خلال تجاوز ثنائية الذات والموضوع، أي من خلال تجاوز النزعتين العقلانية والتجريبية معًا. وقد وجد الحل في القصدية التي بمقتضاها يكون هناك ارتباط بين الذات والموضوع، ويكون الوعي متّجهًا باستمرار نحو الموضوعات.
وعلى هذا الأساس رأى هسرل أن الإدراك الحسي هو فعل من أفعال الوعي يتميّز بأنه يقصد موضوعات حاضرة بذاتها أو بجسميتها أمام الوعي، وهي تظهر له على التتابع من خلال منظورات جانبية، أما التخيّل فهو وعي يقصد موضوعه بوصفه غائبًا، وغاية الإدراك الجمالي هي رؤية القصد، أو الدلالة التي يطرحها العمل الفني ذاته[20].
وقد طوّر ميرلوبونتي نظريته في الإدراك، اهتمّ خلالها بالتحليل المفصّل لتطور علاقات الشكل والخلفية في الفن، وعلى نحو خاص في فن التصوير، وباعتبارها -العلاقات– أساس الفهم، ونشاط الرؤية –بالنسبة له– أحد الشروط الأساسية للوجود الإنساني، وفن التصوير خاصة هو التجسيد المناسب للرؤية، الرؤية كما قال شرط أساسي للوجود الإنساني[21].
إن الفنان المصور في رأي ميرلوبونتي ينبغي –وفقًا لما قاله «Paul Valéry»- أن يأخذ جسمه معه، وهذا يحدث فقط عندما يُسلم الفنان جسده للعالم، بحيث يستطيع تغيير هذا العالم، وتحويله إلى لوحات فنية[22].
إن الجسد خلال الفن ينظر ويُنظر إليه، إنه ينظر إلى كل الأشياء، وينظر إلى ذاته ويتعرف عليها كذلك[23].
وبالعودة إلى نظرية ميرلوبونتي في الإدراك، نجده يرفض النظرة العقلية التي تجعل الإدراك يتوقّف في جوهره على أفكارنا وذكرياتنا وتصوراتنا السابقة، أي إن الرؤية الحسية هي رؤية عقلية؛ لأن إدراكي للشيء هو تعرفي على الأفكار والتصورات المطابقة له في ذهني، كما يرفض النظرة الواقعية التي تختزل الإدراك في ظاهرة موضوعية تحدث في الطبيعة عن طريق التقاء موضوعات خارجية مكتملة التكوين وآلة تسجيل تستنسخه كما هو[24].
إن ميرلوبونتي يعيد طرح مشكلة الإدراك من زاوية مغايرة، حيث يعتبره وسيلتنا الأولى في الانفتاح على العالم الخارجي والاتصال به، إنه اندراجنا في العالم وفي الطبيعة. والإدراك ظاهرة أصلية، لأنه يقوم على الطبيعة التي هي قاعدته الأساسية، وعلى التاريخ الذي هو أساسه لأنه هو الذي يحوّل الزمان الطبيعي إلى زمان تاريخي، وبالتالي يُحقّق معنى الوجود لكل كائن يمكن تصوّره، فلا نستطيع أن نفهم شيئًا إذا لم يكن مدركًا وقابلًا للإدراك[25].
إن الإدراك ظاهرة أصلية لأنه نقطة البدء لكل النشاطات والمعاني، ومن دونه من غير الممكن أن نتصوّر أيًّا كان، فنحن لا نتصوّر ولا نفهم إلَّا ضمن مجال إدراكي، وكل ما لا يقع ضمن هذا المجال لا يمكن إدراكه.
إذن فالطرح الفينومينولوجي يرى ضرورة الذهاب إلى ما وراء تلك القسمة الثنائية الخاصة بالذات والموضوع، وذلك من أجل الالتقاط للخبرة الإنسانية في تجلّياتها الكلية، وعلى الرغم من صعوبة هذا الأمر، فإنه يعني أيضًا أن الخبرة الفنية هي الأساس الذي يتجلَّى من خلاله اندماج الإنسان على نحو مباشر في العمل الفني[26].
فن الرسم والجسد
ورغم أن هناك فرقًا بين الفن والفلسفة، من حيث إن الفيلسوف يسعى إلى تفسير العالم، والفنان يسعى إلى إبداعه[27]. إلاَّ أن رابطة المشاركة بين الفلسفة والفن نجدها كبيرة كما هي بين فن الرسم وخاصة عند سيزان[28]، وبين فكر ميرلوبونتي، حيث نجد أن ميرلوبونتي يعثر عند سيزان على قلق مماثل لقلقه[29].
ومن البداهة أن يكون كل فن في الرسم يفترض تصوّرًا معيّنًا عن الواقع، ويتضمن بالتالي أنطولوجية ما، إلَّا أن المفارقة عند ميرلوبونتي أعمق بكثير، فمن جهة، كل تاريخ فن الرسم الحديث وجهده للتحرّر من التوهمية، له معنى ميتافيزيقي[30]، ومن جهة ثانية، ليس من واجب الفلسفة أن تجني هذا المعنى الحاضر في لوحات سيزان ولوحات التكعيبيين[31]، وأن تطهر التصور الذي يحمله ذاك المعنى.
على العكس تمامًا، إن سيزان فكّر من خلال الرسم Pense en peinture [32] وحَوَّلَ رؤيته إلى إيماءة، وكان الفكر الصامت لفن الرسم لديه وسيلة حرَرَ الفكر من حوادث الكلام، وفي اعتبار كون إدراك الجسد الحي يقدم لنا مدخلًا للوصول إلى الواقع وإلى الكائن، وفي اعتبار أن فن الرسم قد وُلد من هذا الجسد المدرِك، وأنه يُقدّمه من ثم له، فإن حركة الرسام هي سلفًا أنطولوجية[33].
إن فلسفة ميرلوبونتي هي على الأرجح الأنطولوجية الأولى المبنية على فن الرسم وليس ضده، والحال أنه يمكننا التساؤل عمَّا إذا كان هذا الكوجيتو الجسدي الذي يحله ميرلوبونتي مكان الوعي باعتباره ذاتًا نشيطًا من الإدراك، ليس وحشًا يجمع بمهارة كبيرة بين صفات الوعي وصفات الجسم، ولكن عندئذِ تكون حركة الرسام الذكية، في بساطتها، حجة ثابتة[34].
لقد اهتم ميرلوبونتي بأعمال سيزان وانصبت عليه تحليلاته، ليس لأنه يمثّل مصدر طراز جديد في فن التصوير في التاريخ Nouveau style pictural dans l’histoire ولكن لكونه أكد هو نفسه أن المنظور يفكر في «le paysage se pense en moi». وما لاحظه ميرلوبونتي في أعمال هذا الفنان أنه لا يوجد تقليد للعالم imitation du monde، ولا يوجد تمثّل ذاتي في أعماله représentation subjective. وإنما هناك محايثة une immanence للمنظور والمرئي، في لحظة الإبداع نفسها،عندما يكون الرسام يفكر من خلال الرسم[35].
وعادة ما ينظر إلى سيزان على أنه أعظم شخصية مؤثرة في الفن الحديث، وربما تشير أعماله إلى ضرب من التوازي مع الحركة الوجودية، إذ نرى عنده نهاية للأشكال التقليدية في الفن وخلقًا لأشكال جديدة، وهو يُمكّننا من أن نرى الأشياء بطريقة جديدة، وفي علاقات جديدة[36].
وعدم فهم أعمال سيزان لم يكن نتيجة نقص بصر la Myopie لبعض الرسامين أو النقاد، وإنما هي نتيجة لتعقدها الواقعي Complexité Réelle، وإلى الطابع النوعي للنسق الفني Caractère spécifique du système artistique الذي طوّره الفنان طيلة حياته، وبدون أن يستطيع الوصول إلى تحقيقه بشكل كامل في أثر فني.
وبالتالي يمكن أن نقول: إن سيزان هو بلا شك الرسام الأكثر تعقيدًا للقرن التاسع عشر le peintre le plus complexé du XIXe siècle حيث كتب عنه Lionello Venturi قائلًا: «أمام عظمة سيزان يعتريني نوع من الخوف، ويكون لديَّ انطباع بأنني أدخل عالمًا مجهولًا، غنيًّا، صارمًا، وهو يملك قممًا عالية، لا يمكن بلوغها»[37]، وكان البعض الآخر يرى أن هناك تنوّعًا أسلوبيًّا غريبًا، ومستوى مختلفًا للمسات النهائية للوحات، وكان الآخر يرى أن لوحاته غير منتهية، وبالتالي يجب عزلها عن الأعمال الجيدة[38].
حتى إن سيزان نفسه كان يشعر بأن هناك استحالة لتحقيق ما يشعر به، ولم يكن راضٍ على لوحاته، من حيث إنه كان يرى دائمًا أن ما أنجزه غير كامل أو يحتاج إلى إضافات أخرى[39].
ورغم ذلك يمكن أن نقول: إن سيزان يشكّل معلمًا أساسيًّا في تطوّر الثقافة الفنية الغربية la culture artistique occidentale، ويُشكل حضورًا قويًّا من خلال تأثيره البالغ على الفن في القرن العشرين، وأصبح اليوم يطلق على طريقته «النسق الفني لسيزان» le système artistiquede Cézanne [40].
لقد كان يبدو من لوحات سيزان في شبابه أنه يسعى لتصوير التعبير أولًا، وكانت اللوحات التي رسمها في بداية حياته الفنية نوعًا من التسجيل للتعبيرات المباشرة متخطيًا الأشياء ذاتها. ولذلك فشل دائمًا في محاولة التقاط هذه التعبيرات.
وتعلّم سيزان من هذه التجارب شيئًا فشيئًا أن التعبير هو لغة الشيء نفسه، وأنه يولد مع رسومه ومعالمه؛ ولذلك أصبح التصوير عنده محاولة مستمرة لبلوغ سيماء الأشياء والوجوه عن طريق الإحياء المتكامل أو بعث الحياة كاملة في رسومها ومعالمها الحسية. وهذا ما تؤدّيه الطبيعة ذاتها في كل لحظة، ولهذا يصح أن يُقال عن المناظر التي يصوّرها سيزان أنها تنتمي إلى عالم سابق على هذا العالم حيث لم تظهر للناس بعد[41].
وبالتالي يمكن أن نقول: إن تحديد معنى الرسم ومنزلته، في الوضع الراهن يستوجب أن نلاحظ اعتباطية اقتران الصورة بالخطاب اللغوي، وهو ما برز مع الانطباعيين[42]، حيث تبيّن لهم أنه لا وجود لتمثيل في الواقع؛ لأن الواقع غير قابل لتسمية ملائمة، إنه دومًا في حاجة إلى قراءة أولى أو إلى تأويل[43].
وإذا كان الحيّز في فن الرسم لا يتجاوز مستوى السطوح لأنه يعرض للعين المساحات المنظورة أو النقاط والخطوط، فإن الرسم يؤسّس -بلا شك- الإدراك الحسي البصري على غرار الهندسة المعمارية التي تؤسّس الانتصاب أو النحت الذي يؤسّس اللمس أو الشعر الذي –كما يقول هيدجر– يؤسس اللغة[44].
إلَّا أن الإبصار الذي يُقيمه الرسم ليس مجرّد إدراك حسي؛ لأن هذا الفن يسمح في الوقت ذاته بفهم العالم المرئي وشده إلى وجود الإنسان. وقد بيّن ميرلوبونتي كيف يُحول الرسام العالم إلى رسم عن طريق جدلية الإبصار والحركة الجسدية حيث «يرتبط العالم المرئي بوجودي»[45]؛ لأن الجسد بما هو مُتكوّن من النسيج نفسه المُتكون به العالم يكون مرتبطًا بهذا النسيج وتكون الأشياء جزءًا لا يتجزأ منه. لأن الجسد «بما هو راءٍ ومرئي» يرى نفسه ويرى أنه يرى ويلمس بأنه يلمس، بحيث يُمكن فن الرسم الجسد من إدراك كثافة العالم المرئي بقدرة شبه سحرية.
وهكذا يُسهم ميرلوبونتي في تأمّلات الجمالية الفلسفية المخصصة لفن الرسم متجاوزًا بذلك الدراسات الجمالية الوضعية منها والوصفية[46].
إن التطوّر الذي شهده فن الرسم منذ ظهور النزعة الانطباعية، والذي تواصل إلى يومنا هذا، يُبيّن بكل وضوح الدور الرئيسي الذي تضطلع به المخيّلة أكثر فأكثر في فن يبدو وكأنه مُوجّه لاستنساخ ما نراه في الواقع، إذ ينشغل الرسام بالإحساس البصري[47]، بالضوء واللون، أي يرسم وفق نظره أو ما يراه حسب الموقع الذي يحتلّه، ووفق الضوء في تدرّجه عند اللحظة التي يرسم فيها، ولا يهم الشكل لأن الرسام «لا يعرف ما يقوم به» كما يقول أحدهم، إنه يرفض المعرفة ولا يُدرك ما يقوم به إلَّا عندما ينتهي من رسمه، بحيث كأن نسبة الاختراع ضئيلة، إلَّا أن القوة التعبيرية للون تتدخل، فنجد ألوانًا حارة كاللون الأحمر الذي يُثير القوة الحياتية وألوان هادئة مثل اللون الأخضر ثم ألوانًا تُعبّر على الاتزان بين العالم الخارجي والإحساس الداخلي[48].
وتتفاعل الألوان فيما بينها وتتداخل فيؤثّر بعضها في بعض وكأنها أشخاص حقيقيون، وقد يحطم بعضها بعضًا؛ ولذلك يُقال هناك انسجام في الألوان وترابط ممكن بين اللون والحياة النفسية الإنسانية، وعليه فإن دور الإبداع أو الاختراع هو في إبراز هذا التوازن بعيدًا عن كل استنساخ[49].
ففي فن رسم الصور البشرية كالوجه مثلًا، يستطيع الرسام التعبير عن حالة وجدانية عن طريق اللون والضوء والظل، وقد تتجلَّى كل الحياة النفسية من رؤية أو ابتسامة يرسمها الرسام، كما يبرز تأثير الأحداث في النفس وتطلعات الإنسان التي لم يستطيع تحقيقها في تقنيات وُضعت لهذا الغرض[50].
وإذا عدنا إلى مسألة المنظورية أو الرؤية، نجد هناك إجماع لدى كثير من النقاد ومؤرخي فن الرسم على أن الانعطاف الحاسم الذي عرفه ميدان الرسم في عصر النهضة، يرجع بالدرجة الأولى إلى اكتشاف تقنيات المنظورية وإلى إقحام مفهوم جديد للمكان في فضاء اللوحات الفنية[51]. ويعتبرون غالبًا هذا الاكتشاف بمثابة انقلاب جذري على المستوى الجمالي لأنه ساهم بشكل مباشر في بناء نمط من التمثّلات التصورية تتسم بخصائص جديدة مقارنة بنمط التمثل التصويري الذي ساد في العصور الوسطى[52].
إن قضية المنظورية ليست حكرًا على تاريخ فن الرسم لوحده بل هي قضية شغلت الفلسفة أيضًا بنفس المقدار الذي شغل تاريخ الأفكار. ولعلّ ميرلوبونتي نموذج مُعبّر، ذلك لأن إقباله على فن الرسم لم يكن قطّ أمرًا عارضًا بل كان دومًا يجد تبريره في اهتمامه المتزايد بتجربة الإدراك والرؤية، إذ داخل هذه التجربة بالضبط نستطيع فهم المكانة المتميزة التي أولاها للرسام الفرنسي سيزان على وجه التحديد[53].
كما ذكرتُ ذلك سابقًا، وإذا كان ميرلوبونتي لا يخفي إعجابه بقدرة الرسام على النفاد بالمشاهد إلى عوالم الرؤية بل قدرته على خلق عوالم تشكيلية قائمة على جمالية الألوان والأحجام والأشكال، فلأنه ظل على اقتناع... بأن فضاءات اللوحة تُعبّر عن إدراك مبني ومصطنع، وأن السؤال الرئيسي، كما يقول هو نفسه، هو: كيف بإمكاننا أن نعود من هذا الإدراك الذي صنعته الثقافة إلى الإدراك الخام أو المتوحش؟[54].
ذلك هو السؤال المركزي الذي نجده في ثنايا فلسفة ميرلوبونتي، وهو السؤال الذي يسمح لنا بالقول: إن تأمّلاته العديدة في فن الرسم كانت تتوخّى بالدرجة الأولى فهم آليات الإدراك الذي صقلته الثقافة لأجل الغوص في خبايا الإدراك الخام الذي ينتجه المعيش. لذلك لن نستغرب إذا وجدناه يصرح: إنني أقول بأن منظورية عصر النهضة هي حدث وليد الثقافة، وأن الإدراك نفسه متعدد الأشكال Polymorphe [55].
لكن ما يبرّر هذا الحكم يرجع إلى إيمان ميرلوبونتي بأن الإدراك الخام يسبق المنظورية، وأن المعيش يتصدر العالم الموضوعي.
وفي هذا الإطار ذاته، نجد ميرلوبونتي يوضّح أن التنسيق بين مختلف أجزاء الجسد –سواء المتعلّقة بالجانب البصري أو اللمسي أو الحركي- هو تنسيق يجب فهمه ببساطة. فإذا ما أراد الإنسان تحقيق قصد ما، فإن المهمات تتوزّع بذاتها بين أعضاء الجسد المهتمة بذلك؛ لأن التنسيقات الجسدية الممكنة انعطفت لنا في البداية كمحاولة لقصور الأنا. لذا فإن القيمة الوظيفية هي التي تُبيّن معرفة أجزاء الجسد المتعدّدة، ومن ثَمَّ فإن التراكم هو ليس المُكوّن لارتباط التجربة البصرية والتجربة اللامسة «إنني لا أجمع أقسام جسدي واحد فواحد وعلى نحو تدريجي، بل إن هذه العملية تحدث دفعة واحدة في الأنا وهي عملية مُماهية للجسد بذاته»[56].
إن النتيجة التي نصل إليها مما سبق، هي أن الرسم كقدرة تعبيرية لم يكن مُغلقًا في جمودية ثقافية أو نفسية، وإنما أثبت نفسه دومًا بالاختلاف من خلال تهديم التجربة العادية والإدراك المُمأسس la perception institutionnalisée، فهو لم يخضع مطلقًا إلى معيار الإستيتيقا كقيمة يحس ويطالب بها الوعي الجماعي في فترة تاريخية[57]. إن فعل الجسد في العالم هو الذي يجعل كل إدراك حسي ممارسة وحقل لدينامية مكانية – زمانية[58].
من المؤكد أنّ ميرلوبونتي مدين بالكثير إلى مالرو Malraux في مضمار التفكير الجمالي، ولم يكن ميرلوبونتي في الأصل ناقدًا فنيًّا أو عالم جمال، وإنما كان فيلسوفًا وعالم نفس، ولكنه لم يكن دخيلًا على الدراسات الجمالية، بل ظهرت له دراسات هامّة في فلسفة الفن، لعلّ في مقدمتها بحثه الموسوم باسم «شك سيزان» le doute de Cézanne.
ولكن قراءة ميرلوبونتي لدراسات المفكر الفرنسي أندريه مالرو التي صدرت تحت عنوان «سيكولوجية الفن»، ثم نشرت بعد ذلك في مجلد واحد ضخم باسم «أصوات السكون» Les voix du silence، قد عملت على توجيه اهتمام ميرلوبونتي نحو مشكلات التعبير والإبداع والأسلوب أو الطراز، والتمثيل، والتقليد أو المحاكاة في الفن، فكان من ذلك أن أصبح لفيلسوفنا مذهب جمالي خاص به[59].
إنّ فن التصوير يمثل لدى ميرلوبونتي لغة ضمنية ينطق بها المصوّر على طريقته الخاصة، وهنا نجد ميرلوبونتي ينهج نهج مالرو، فيقول معه: إنّ المقارنة بين التصوير واللغة لا يمكن أن تكون مقارنة مشروعة، اللهم إلَّا إذا انتزعناهما ممّا يُمثّلانه ce qu’ils représentent، لكي نجمع بينهما تحت مقولة التعبير الإبداعي l’expression créatrice، وعندئذٍ فقط قد يكون في وسعنا أن نعدّ الواحد منهما والآخر مجرّد شكلين لمحاولة فنية واحدة deux figures de la même tentative [60].
لقد كان المصوّر الكلاسيكي يرسم اللوحات، ويخلع على صوّره طابعًا مُعبّرًا، محاولًا جعل علاقته بالعالم علاقة الشخص الناضج الذي يتحكم في الكون، ويُسيطر عليه، ويمتلك ناصيته، لقد كان ينتزع من العالم صفات الثبات والضرورة واليقين، لكي يكشف عن تغيره وعرضيته وتقلبه المستمر.
ولكن إذا سلّمنا بأنّ التصوير الموضوعي نفسه هو في صميمه ضرب من الخلق أو «لإبداع، فهل يكون هناك مُسوّغ للقول بأنّ الفن الحديث – لمُجرد كونه يهدف إلى الإبداع– هو في جوهره دعوة إلى الذات، أو تمجيد خالص للفرد؟ هذا ما يَرُد عليه ميرلوبونتي بالسلب، معارضًا في ذلك مالرو، ثائرًا في الوقت نفسه على ما قاله هذا الأخير من أنّه «ليس هناك سوى موضوع واحد لفن التصوير، ألا وهو شخص المصوِّر نفسه»[61].
ونحن نعرف كيف ذهب مالرو إلى وضع الفن في خدمة الفرد، واعتبر أنّ الفنان إنّما يسعى ويهدف إلى تجسيد مُتعته الشخصية، أو لذته الشيطانية، أو عشقه الذاتي. ولكن ميرلوبونتي يتمرّد على هذه الفلسفة الجمالية التي تجعل من فن التصوير عملية ذاتية يُراد من ورائها جعل العالم تابعًا للفرد، خاصة وأن ميرلوبونتي درس فن التصوير عند سيزان، فأدرك كيف أنّ أمثال هذه التعريفات لا يمكن أن تصدق على مصوّر مثله. والواقع أنّ سيزان كان يمكث الساعات الطوال أمام الموضوع المُراد تصويره، لكي يدرس كتلته، وكثافته، وعمقه، وملمسه، وصلابته، ولونه، وحدوده، ومعالمه... إلخ[62].
وفهم فلسفة ميرلوبونتي في الفن يمر من خلال ربط نظريته الجمالية بمذهبه الفينومينولوجي العام، حيث نجده يقرّر أن الجسد كائن في العالم، كالقلب في الجهاز العضوي، وأن الإدراك الحسي فعل ندرك عن طريقه الموضوع إدراكًا مباشرًا، دون أدنى سلطة، بل دون أي حاجة إلى تأويل أو تفسير. وليس الجسد حاجزًا يقوم بيننا وبين الأشياء، أو يتوسط بين الذات والموضوع، بل إن الجسد هو أداتنا في الاختلاط بالأشياء والامتزاج بالعالم.
ومعنى هذا أن ثمة اتّحادًا مباشرًا بين الإنسان الذي هو بطبيعته متفتح على العالم الخارجي، وبين تلك الحقيقة الواقعية التي ندركها من خلال الجسد إدراكًا صحيحًا، فتنكشف لنا الأشياء عن هذا الطريق بدمها ولحمها إن صح هذا التعبير.
وكما أن الجسد يُعبّر عن الوجود الفعلي، فإن القول يُعبّر عن الفكر الباطني، أو ربما كان الأقرب إلى الصواب أن يقال: إنه ليس للفكر من باطن على الإطلاق، لأنّ الفكر مُوجّه منذ البداية نحو العالم الخارجي، فهو لا يمكن أن يوجد بمنأى عن العالم، أو خارجًا تمامًا عن الألفاظ، ولمّا كان من الضروري للفكر أن يتجسّد في عبارات، فإن المعنى لا بد من أن يسكن اللفظ، ولمّا كان الجسد في جوهره تعبيرًا، فإن لكل فعل إنساني معنى[63].
ونجد ميرلوبونتي يفهم الخبرة الجمالية بوصفهما عملية اتصال جمالي بين مُشاهد وتعبير فنان، وهو بذلك يُعدّ مخلصًا للتحليل الفينومينولوجي للخبرة بوجه عام كعملية اتصال بين الذات وموضوع.
وعندما نقول بأن الفن عند ميرلوبونتي هو لغة، فإن ذلك يعني أن كل تعبير فني يكون في صورة التعبير اللغوي بوصفه فعلًا للاتصال، أي أن يكون تعبيرًا إيمائيًّا محسوسًا يُدرك في خبرة أولية معيشة للبدن، على النحو نفسه الذي يتمّ به إدراك سائر إيماءات البدن[64].
فالحقيقة أن خبرة اللغة نفسها مؤسسة على خبرة البدن، فهي امتداد لخبرة البدن المُتصل بالذهن وبالعالم من خلال أفعاله وإيماءاته، «فتمامًا مثلما أن بدن وروح إنسان ما يكونان مظهرين فحسب لأسلوب حضوره في العالم، كذلك فإن الكلمة والفكر الذي تعنيه لا ينبغي أن ننظر إليهما على أنهما جزآن خارجان عن بعضهما، فالكلمة تحمل معناها على نفس النحو الذي به يُجسد البدن نمطًا سلوكيًّا ما»[65]. وعلى النحو نفسه، فإن التعبير الجمالي كتعبير لغوي- يكون أيضًا تعبيرًا بدنيًّا إيمائيًّا[66].
خاتمة
يتبيّن لنا ممَّا سبق، أن إستيطيقا ميرلوبونتي مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا باللغويات، وأن نظريته كانت واضحة ومُوجّهة نحو اعتبار الإستيطيقا كنظرية في الاتصال الجمالي. وبالتالي فالتعبير الإبداعي عنده يكون فعلًا من أفعال البدن الحي الفيزيقي – النفساني، كما أشرنا من قبل، فالفنان يُعبّر عن المعنى أو الفكرة من خلال معالجته اليدوية للسطح المحسوس، بحيث تكون المعاني والدلالات مُباطنة في هذا السياق المحسوس من الإيماءات كالخطوط والبقع اللونية في حالة التصوي[67].
إن قراءة ميرلوبونتي للأصول الفينومينولوجية وتحليله لخبرة الإدراك الحسي، كشفت عن إرادة لتأسيس الاشتغال الفلسفي على الخبرة الجمالية، وإن كانت هذه الإرادة، في جانب منها، استمرارًا للتقليد الفلسفي لتجاوز بداهة الميتافيزيقا الكلاسيكية، وإعادة النظر في مفهومي مركزية الذات وتمثّل العالم Représentation du monde، فإنها تتميّز بخصوصيتها في الدروب التي فتحتها ضمن هذا التقليد الفلسفي منذ هسرل وهيدجر.
[1] روزنتال يودين، الموسوعة الفلسفية (وضع لجنة من العلماء والأكاديميين السوفياتيين)، ترجمة: سمير كرم، بيروت: دار الطليعة للطباعة والنشر، ط6، 1987، ص63.
[2] حنفي بن عيسى، محاضرات في علم النفس اللغوي، الجزائر: ديوان المطبوعات الجامعية، ط1، 2003، ص73.
[3] المرجع نفسه، ص73.
[4] المرجع السابق، ص74.
[5] فريد الزاهي، الجسد والصورة والمقدس في الإسلام، الدار البيضاء - المغرب: إفريقيا الشرق، 1999، ص-ص 27-28.
[6] Bernard Andieu: les cultes du corps (éthique et science), éditions L’HARMATTAN,1987, Paris, P: 107.
[7] M.M.ponty: phénoménologie de la perception éd.GALLIMARD. 1945, Paris,.P :107
[8] أوجين راود سيب، قوة التواصل اللاشفوي، مجلة الفكر العربي المعاصر، العددان: 112-113، 1999، 2000، ترجمة: حسن بحري، ص136.
[9] Edmund Husserl: Recherches logiques, I,trad.par Hebert Elie, PUF, Paris, 1962,P: 81.
[10] محمد شوقي الزين، تأويلات وتفكيكات فصول في الفكر العربي المعاصر، بيروت: المركز الثقافي العربي، ط1، 2002، ص55.
[11] المرجع نفسه، ص55.
[12] المرجع نفسه، ص56.
[13] دافيد لوبروتون، أنثروبولوجيا الجسد والحداثة، ترجمة: محمد عرب صاصيلا، بيروت - لبنان: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1993، ص21.
[14] صالح رضا، لغة الفن التشكيلي في القرن 20، مجلة عالم الفكر، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والآداب، المجلد 26، العدد2، 1997، ص69.
[15] محمد زكي العشماوي، فلسفة الجمال في الفكر المعاصر، بيروت - لبنان: دار النهضة العربية، 1981، ص52.
[16] جميل قاسم، نقد الحكم الجمالي، مجلة الفكر العربي المعاصر، العدد 108 - 109، ص47.
[17] مصطفى عبده، فلسفة الجمال و دور العقل في الإبداع الفني، القاهرة: مكتبة مدبولي، ط2، 1999، ص89.
[18] رمضان بسطاوي محمد، علم الجمال لدى مدرسة فرانكفورت أدورنو نموذجًا، بيروت: المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، 1998، ص17.
[19] شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي دراسة في سيكولوجية التذوق الفني، سلسلة عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 2001، ص120.
[20] المرجع نفسه، ص121.
[21] Florence Begel: la philosophie de l’art, éditions le seuil, Paris, 1998, P: 59.
[22] شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي، مرجع سابق، ص122.
[23] Renée Bouversse: l’expérience esthétique, ARMAND Colin, Paris, 1998, P: 40.
[24] انظر: رشيد دحدوح، معجم مصطلحات فلسفة ميرلوبونتي، كتاب: كوجيتو الجسد، القاهرة: مركز الكتاب للنشر، 2004، ص103.
[25] M.Merleau Ponty: phénoménologie de la perception op-cit ,P: 370.
[26] شاكر عبد الحميد، التفضيل الجمالي، مرجع سابق، ص125.
[27] M.Merleau Ponty: la Nature (notes, cours du collège de France), établi et annoté par DOMINIQUE Séglard, éd du Seuil, Paris, 1999, P: 72.
[28] احتل بول سيزان مكانة رفيعة في الفن الحديث، وهو رسام فرنسي يمتاز بألوان حية وتعمقه في تحليل الظل والنور، لا سيما في تصوير المشاهد البرية لإقليم بروفانس. ويعتبر تحليله للطبيعة على أساس الشكل المكعب والأسطواني منطلقًا للمدارس الفنية الحديثة التي أعقبته. انظر كتاب: الوجودية، جون ماكوري، ترجمة: إمام عبد الفتاح إمام، سلسلة عالم المعرفة، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، 1982، ص381.
[29] M. Merleau Ponty: le visible et L’invisible, éd. GALLIMARD, 1964, Paris, P: 29.
[30] Ibid, P: 24.
[31] التكعيبية Le Cubisme: هي حركة في فن الرسم المعاصر، أثّرت في كل المدارس التشكيلية، سعى القائمون بها إلى البحث عن الشكل واستكشاف الحقيقة الجوهرية من خلاله. وما يمكن أن يقال عن سيزان فنان المرحلة الانطباعية أنه كان أول من فتح الطريق للاتجاه التكعيبي دون قصد منه، ودون أن يهتدي إلى هذه المرحلة، ومن أهم ميزاتها أنها تعتمد على الإبداع المطلق والابتكار، فهي ترفض الواقع واتّباع الأصول القديمة، والفن هو تجربة ذاتية دون الاهتمام بالمضمون.
Voir: Jean-Pierre, Néraudau: Dictionnaire d’Histoire de l’Art, 1er édition, PUF, 1985, P: 153.
[32] M. Merleau- ponty: le visible et L’invisible, op-cit , P: 60.
[33] جان لاكوست، فلسفة الفن، ترجمة: ريم الأمين، بيروت - لبنان: عويدات للنشر والطباعة، ط1، 2001، ص 109.
[34] M.Merleau-ponty: Signes, éd.GALLIMARD, Paris, 1960, P: 57.
[35] Florence BEGEL: la philosophie de l’art, op-cit, P: 59.
[36] جون ماكوري، الوجودية، مرجع سابق، ص 381.
[37] ANNA BARSKAÏA et autres: Paul Cézanne, éditions cercle d’art, Paris, 1999, P: 6.
[38] M.Merleau- Ponty: Notes de cours 1959 – 1961, éditions GALLIMARD, 1996, P: 7.
[39] Ibid. P: 7.
[40] Ibid. P: 9.
[41] عبد الفتاح الديدي، الاتجاهات المعاصرة في الفلسفة، القاهرة: المؤسسة المصرية العامة للتأليف، ص17.
[42] الانطباعية Impressionnisme: مذهب الانطباع هو طريقة في الفن أو في النقد تقوم على التعبير عن الانطباعات المباشرة من غير الرجوع إلى أصول أو قواعد متّفق عليها. وبالتالي فهو يتجاوز فن الرسم التقليدي والرسمي الذي لم يعد يتماشى مع روح العصر.
Voir: Petit Larousse de la peinture sous la direction de MICHEL LACLOTTE, Tome 1, Librairie Larousse, Paris, 1979, P: 870.
[43] توفيق الشريف، فلسفة الفن، تونس، ط1، 1995، ص82.
[44] المرجع السابق، ص 84.
[45] M.Merleau-ponty: L’œil et l’esprit éd. GALLIMARD, Paris, 1960, P:28.
[46] توفيق الشريف، فلسفة الفن، مرجع سابق، ص85.
[47] M.Merleau-ponty: L’oeil et l’esprit op-cit: 29.
[48] توفيق الشريف، فلسفة الفن، مرجع سابق، ص 85.
[49] المرجع نفسه، ص86.
[50] المرجع نفسه، ص87.
[51] أردنال جمال، المنظورية والتمثل مقاربة فلسفية لمفاهيم المكان والرؤية في فن الرسم، مجلة فكر ونقد، العدد 13، 1998، السنة الثانية، الدار البيضاء: دار النشر المغربية، ص93.
[52] المرجع نفسه، ص93.
[53] المرجع نفسه، ص94.
[54] M.Merleau –ponty:Le visible et l’invisible, op-cit. P: 265.
[55] Ibid. P: 265.
[56] M.Merleau –ponty: phénoménologie de la perception, op-cit, P: 424.
[57] فتحي التركي، رشيدة التركي، فلسفة الحداثة، بيروت: مركز الإنماء القومي،1992، ص101.
[58] المرجع نفسه، ص 107.
[59] زكريا إبراهيم، فلسفة الفن في الفكر المعاصر، دار مصر للطباعة، 1988، ص147.
[60] المرجع نفسه، ص 149.
[61] M. Merleau-ponty: Signes ,op-cit, P: 59.
[62] زكريا إبراهيم، فلسفة الفن في الفكر المعاصر، المرجع السابق، ص 152.
[63] المرجع نفسه، ص148.
[64] سعيد توفيق، الخبرة الجمالية دراسة في فلسفة الجمال الظاهراتية، القاهرة: دار الثقافة للنشر والتوزيع، 2002، ص218.
[65] M.Merleau –Ponty, Sens et non sens, éd. NAGEL, Paris,1949.P: 53.
[66] Florence Begel: La philosophie de l Art, op-cit. p: 50.
[67] سعيد توفيق، الخبرة الجمالية، مرجع سابق، ص 219.