بين الحق والحكم
في النص الفقهي
الشيخ الدكتور فيصل العوامي
* كاتب وباحث في الدراسات الإسلامية من السعودية. البريد الإلكتروني:
f_alawami@hotmail.com
الآثار العملية التي تترتّب على مفهوم الحق في المجال القانوني إما أن تكون مرتبطة بالحق الخاص أو الحق العام وقد يجتمعان في مورد واحد، والخاص يمكن لصاحبه التنازل عنه وإسقاطه، وأما العام فلا يسقطه إلَّا من بيده زمام الأمور العامة كالدولة والحاكم الشرعي. وأما في المجال الفقهي فثمَّة عنوان آخر يقابل الحق سواء كان خاصًّا أو عامًّا وهو ما يصطلح عليه بالحكم، وهو لا يسقط بالعنوان الأولي، نعم قد يرتفع عند طرو بعض العناوين الثانوية. ولأن لكلٍّ من عنواني الحق والحكم مجاله الخاص، لذا تركّز البحث الفقهي المفاهيمي حول واقعية وجود هذين العناوين، كما تركّز البحث الفقهي التطبيقي حول كيفية التمييز بينهما.
فهل ثمَّة مائز بين مفهومي الحق والحكم، وهل هما ماهيّة واحدة أم ماهيّتان مختلفتان؟
يمكن الوقوف في هذا المقام على اتجاهين فقهيين:
الأول: اتّحاد السنخ واختلاف الآثار
شكَّل السيد الخوئي اتجاهًا آخر مختلفًا عمَّا عليه مشهور الفقهاء، فقد قال بالاتّحاد بين الحق والحكم سنخًا؛ إذ إن كلًّا منهما قِسْم من المجعولات الشرعية ليس إلّا، وغاية ما في الأمر أنهما يختلفان في الأثر، فالأول يَسْقُط بالإسقاط، والثاني لا يسقط بذلك، ولمجرّد بيان هذا الفارق لا نحتاج لتقسيم المجعولات الشرعية إلى حق وحكم.
وبتعبير آخر: إن المجعولات الشرعية -بجميع أقسامها: التكليفية الإلزامية وغير الإلزامية، والوضعية اللزومية القابلة للفسخ وغير القابلة، والوضعية الترخيصية القابلة للإسقاط وغير القابلة- أمور اعتبارية تختلف في الآثار بشكل واضح، ولكنها بالرغم من ذلك تشترك في تقوُّمِها بالاعتبار المحض، وبهذا اللحاظ هي بأجمعها أحكام شرعية أو عقلائية.
والسبب في اختلافها من حيث الآثار خصوصًا بالنسبة لقبول الإسقاط وعدمه، أن زمام تلك الأمور بيد الشارع فهو الذي يحكم بالحدوث، أو البقاء، أو الارتفاع ولو كان باختيار أحد المتعاملَين أو كليهما، والمرجع في ذلك في مقام الإثبات الأدلة الشرعية.
وممّا يدلِّل على الاتحاد تعريفُ الحق لغةً بالثبوت، فمفهوم الحق يشمل جميع الأمور الثابتة سواء كانت تكوينية أو اعتبارية، والمجعولات الشرعية من تلك الأمور المتّصفة بالثبوت، وبهذا اللحاظ يكون الحق شاملًا لجميع المجعولات الشرعية ما يقبل الإسقاط منها وما لا يقبل، كما يشمل كل ما يتّصف بالثبوت.
ومفاد كل ذلك أن الحق حكم من الأحكام الشرعية أو العقلائية، كما أن الحكم حق أيضًا لأنه من الأمور الثابتة.
مع ذلك فالسيد الخوئي لم يمنع من إطلاق الحق على الأحكام القابلة للإسقاط من باب الاصطلاح فقط، واستقرب أن يكون هذا النمط من الإطلاق هو السبب المولِّد لاختلاف العلماء في حقيقة الحق والحكم وبيان الفارق بينهما[1].
الثاني: اختلاف مفاهيمي
وإن صحَّ إطلاق عنوان المجعول الشرعي على الحق والحكم في آن، فذلك لا يعني اتّحادهما من حيث السنخ واقتصار الاختلاف على الآثار، بل الحق مفهوم مغاير لمفهوم الحكم. هذا ما عليه المشهور، وله تقريرات عدة:
تقرير اليزدي
قرّر المحقّق اليزدي هذا التغاير من حيث المفهوم بأن الحق نوع من السلطنة على شيء، بينما الحكم[2] مجرّد جعل الرخصة في فعل شيء أو تركه، أو الحكم بترتّب أثر على فعل أو ترك، فالخيار في العقود اللازمة حقٌّ؛ لأن الشارع جعل للمتعاقدين أو أحدهما سلطنة[3] على العقد أو متعلّقه، وأما الجواز في العقود الجائزة فمجرّد رخصة من قبل الشارع في الفسخ والإمضاء من غير أن يكون هناك اعتبار سلطنة لأحد الطرفين أو كليهما[4].
بالتالي فالشارع إن اعتبر مالكية شخص لأمر وسلطنته على شيء فهو من باب الحق، وإن لم يكن منه إلَّا مجرّد عدم المنع من فعل شيء أو ترتيب الأثر على فعل أو ترك بحيث يكون الشخص موردًا أو محلًّا لذلك الحكم فهو من باب الحكم.
وذلك لا يعني أن الحكم بالملكية أو السلطنة ليس من جملة الأحكام، بل هو منها، لكن الفارق أن جعل الشارع الخيار حكمٌ، وأما الخيار بنفسه وهو المجعول فهو حق.
لكن اليزدي وبالرغم من وضوح تفريقه بين الحق والحكم من حيث المفهوم، إلَّا أنه اعتبر التمييز بينهما من حيث المصداق في غاية الإشكال، ولا يتأتّى ذلك إلَّا بمراجعة الدليل، كأن يكون ثمّة إجماع على كون شيء ما من جملة الحق أو الحكم، أو يكون هناك إشعار في لسان الدليل[5].
تقرير الأصفهاني
قرّر المحقّق الأصفهاني التغاير السنخي بين الحق والحكم بصورة أخرى، فسنخ الأحكام التكليفية يتفاوت عن سنخ الحقوق الذي هو من الاعتبارات الوضعية، وذلك أن الأمر والنهي سواء صدرا تبعًا لمصلحة أو مفسدة ملزمة أو ترخيصية، هما مقدّمة لتحقّق الفعل أو عدم تحقّقه، ولا يعقل سقوطهما قبل تحقّق الفعل أو الترك. أي إنهما ما صدرا عن المولى إلَّا ليتحقّق الفعل أو الترك خارجًا، فلا يعقل سقوطهما قبل ذلك التحقّق، فإذا كان للأمر بالفعل مصلحة فلماذا يُرفَع الأمر، وإذا لم يكن له مصلحة فلماذا يُجعَل؟
بهذا فمادام الأمر بالفعل منطلق من مصلحة، والنهي عن الفعل منطلق من مفسدة، فلا يمكن ارتفاع الأمر والنهي قبل تحقّق الفعل أو الترك، وليس للشارع أيضًا إسقاطهما. هذا ملاك الحكم.
وأما في الحق والملك فلا تحقّق لهذا الملاك، فالاعتبار الشرعي لهما لا يُتَرقَّب منه الفعل أو الترك، حتى نقول بعدم سقوطه إلَّا بتحقّقهما، بل ثبوت الملكية والحقية يتوقّف على التسبّب إليه بشيء ما جعله الشارع سببًا لوضع الاعتبار، كالتحجير الذي جعله الشارع سببًا لثبوت الحق أو الملك، وهكذا بالنسبة لسقوط الحق والملك، إذ لا بد من التسبّب إليه بشيء جعله الشارع سببًا لرفع الاعتبار، كإجازة الشريك لشريكه في بيع حصّته، فالشارع جعل الإجازة سببًا لسقوط حق الشفعة.
ففي الحكم ارتفاع الاعتبار الشرعي من الأمر والنهي متوقّف على تحقّق الفعل والترك، ولهذا لا يمكن تصوّر السقوط بدون الفعل والترك، أما في الحق فلا توقّف عليهما، بل التوقّف على الإتيان بشيء جعله الشارع سببًا للوضع أو الرفع.
ونلاحظ هنا أن للشارع حضورًا في مجال الحكم والحق، فكما الحكم أمْرُ اعتباره بيد المعتبِر وهو الحاكم، فالحق والملك أيضًا أمران اعتباريان، وأمْرُ اعتبارهما بيد المعتبِر الذي هو الشارع أو العرف الممضى من قبل الشارع[6]. بالتالي فمجرّد كون اعتبار الحكم والحق بيد الشارع لا يجعلهما من سنخ واحد بالمعنى الذي قرّره السيد الخوئي، بل هما مختلفان بالتقريب المذكور.
إيراد المروِّج
أورد السيد المروِّج على الاتجاه الأول بأن المراد ليس مطلق المجعول الشرعي حتى يقال باتّحاد السِّنْخِيَّة، وإنما الحكم المقابل للحق والملك، وهي عناوين مختلفة قطعًا؛ لأن الحق يتقوَّم بالقابليّة للإسقاط وسلطنة ذي الحق عليه، أما الحكم فهو مجرّد جعل على موضوع من دون اعتبار سلطنة أو ملك للمحكوم عليه، فقولنا: الماء حلال حكم بالحليّة على موضوع وهو الماء، من دون أن يفيد ذلك سلطنة لأحد على الماء أو ملكًا له.
واللام في مثل قولنا: «لزيد شرب الماء» للتعدية فقط، والظرف لغو لتعلّقه بمقدَّر مثل «يحل»، كما في قوله تعالى: {أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ}[7]، أما في مثل قولنا: «له حَلُّ العقد والاقتصاص من الجاني» فالظرف مستقرّ ويدل على نوع من السلطنة أو الملك.
وأما الوجوه التي استفاد منها السيد الخوئي للقول بالسنخية فأجاب عنها المروِّج بأمور:
1- مجرّد مشابهة الحق للحكم في كونه أمرًا اعتباريًّا لا يوجب وحدته مع الحكم من جميع الجهات، كما لا يوجب مغايرته للملك؛ لأن الاعتبارات الوضعية ومنها الحق وشبهه -كالاعتبارات التكليفية تمامًا- تتقوَّم أيضًا بالجعل ولو إمضاءً. بالتالي فمجرّد كونها مجعولة لا يعني اتّحادها مع الأحكام، بل يمكن التباين من جهات أخرى.
2- في الوقت الذي قال فيه السيد الخوئي بأن الحق بمعنى الثابت، وبالتالي فهو يصدق على الحكم والحق، كما سبق البيان، فإنه قال أيضًا بمغايرة الحق للملك[8]، مع وضوح أن الثابت يصدق على الملك الاعتباري كما يصدق على الحكم والحق؛ لأن المناط في العناوين الثلاثة التقرّر في الوعاء المناسب لها، بالتالي فالثبات في كلٍّ بحسبه. ومعنى هذا الكلام أن الملك مع أنه متّحد من جهة من الجهات مع الحق، إلَّا أننا نقول باختلافه معه من جهات أخرى، فالأمر نفسه يجري في المقارنة بين الحكم والحق، أي إن ما يقال بالنسبة للعلاقة بين الحق والملك من حيث الاتحاد والاختلاف، يقال أيضًا بالنسبة للعلاقة بين الحق والحكم من الحيثيتين.
ومن هذا يتبيّن أن الحق المصطلح فقهيًّا لا يراد منه المعنى اللغوي له، أي الثابت، لكونه بهذا المعنى مفهومًا عامًّا ينطبق على أشياء كثيرة لا يخفى ما بينها من اختلاف، كالجواهر والأعراض والموجودات الادّعائية.
3- القول بأن الحق عبارة عن الجواز واللزوم الشرعيين القابلين للإسقاط، يلزم منه انتفاء الحق في موارد انتفاء التكليف، مع أن الفقهاء تسالموا على خلافه، ففي الموارد التي ينتفي فيها التكليف يقولون ببقاء الحق، فلو عرض سفه طارئ على من له حق الخيار ينتفي التكليف عنه لكن حقه لا يسقط بل يقوم وليُّه مقامه، وذلك دليل على التغاير السنخي بين الحق والحكم وإن كان كلٌّ منهما مجعولًا شرعيًّا[9].
ضابطة التعريف
اقترح المروِّج علاجًا للخروج من هذه الإشكالية، وذلك بالتصرّف في المعنى المراد عند إطلاق لفظ الحق، أو بالالتزام بتعريف خاص لمفهوم الحق. إذ تارة يراد بالحق مفهومه العام، وتارة يراد منه ما يُعتبَر فيه السلطنة، وربما يُلتزَم بكونه مشترَكًا لفظيًّا، أو أنه بمعنى الأولوية، وفي كل صورة من هذه الصور يكون للحق معنى قد تدخل فيه بعض العناوين كالحكم وقد تخرج. ويمكن ملاحظة الفارق بين هذه الصور من حيث النتيجة في نص عبارته التالية، قال: «لا يبعد أن يقال: إنه إن أريد بالحق المصطلح مفهومه العام الصادق على مطلق المجعولات الشرعية -ولو إمضاءً- حتى إذا لم يقبل الإسقاط، فمن المعلوم أنه ليس نوعًا من الملك ولا مرتبةً منه ولا سلطنة ولا مرتبة منها، بل ينبغي تعريفه بما له ثبوت في وعاء الاعتبار، سواء لوحظ فيه حيثية التفويض إلى المكلف في إبقائه ورفعه، أم لا، فيطلق الحق على وجوب الصلاة وإباحة شرب الماء وحرمة الربا وجواز فسخ العقد ونحوها على حدٍّ سواء، لكونها أمورًا اعتبارية.
وإن أريد بالحق المجعولُ الذي اعتُبِر فيه سلطنة ذي الحق أو كونه مفوَّضًا أو كونه أولى به من غيره بحيث كان زمامه بيده -وهو المسمّى في كلام الشهيد بحق العبد في قبال حقّه تعالى- فمن المعلوم أنه لا ينبغي تعريفه «بما هو ثابت في وعاء الاعتبار» لما عرفت من شموله لمطلق المجعول. بل إما أن يختص بالمجعول الذي استفيد من دليل اعتباره نحوُ سلطنةٍ أو أولوية، وحينئذٍ تخرج جملةٌ معتدّ بها من الحقوق عن حريم البحث، لفرض عدم قابليتها للإسقاط.
وإما أن يلتزم بما سلكه المحقّق الأصفهاني من إنكار معنى وحداني للحق وكونه مشتركًا لفظيًّا بين شتات الحقوق، فكل حق اعتبارٌ خاص له أثر مخصوص، فكما لا جامع بين وجوب الصلاة وبين حق التحجير سوى كونهما مجعولين شرعيين، فكذا لا جهة مشتركة بين حق الحضانة وحق الخيار إلَّا الثبوت في وعاء الاعتبار، مع أنهم عدُّوا حق الحضانة من الحقوق -بالمعنى الأخص- المقابلة للحكم والملك.
ويتوقّف حل الإشكال على الالتزام بالاشتراك اللفظي، أو جعل مثل حق الولاية والوصاية والأبوة اعتبارًا وضعيًّا أجنبيًّا عن الحق المصطلح، حيث لا دخل لإرادة المكلّف في بقائها وارتفاعها.
أو يقال: إن الحق بمعنى الأولوية منطبق على الكل، ومقتضاه جواز الإسقاط والنقل، إلَّا أن للمنع الشرعي مجالًا آخر»[10].
التمييز بين الحق والحكم مصداقًا
ممّا دعَّم به السيد الخوئي قوله بعدم الفرق بين الحق والحكم، عدم وضوح الفرق بينهما موضوعًا، وبتعبير الحائري «عدم وجود مميّز موضوعي نميّز به الحق عن الحكم بشكل يقع في طريق معرفة جواز الإسقاط أو النقل أو الإرث»[11].
وللتدليل على ذلك جاء بمجموعة من الأمثلة، من بينها حق الأبوة وحق الخيار، حيث يُعتبَر الأول حكمًا غير قابل للإسقاط والثاني حقًّا قابلًا للإسقاط، وتساءل هل تجد بينهما فرقًا في الذات والسنخ، بالطبع لا فرق فهذا حكم وذاك حكم أيضًا، والفرق إنما هو في الآثار من حيث الإسقاط وعدمه لا في الذات[12]. وهو تمامًا ما يقال في عدم وجود الفرق من حيث السنخ بين جواز رجوع الواهب وضعًا وجواز رجوع من له الخيار في البيع، مع أن الأول حكميّ والثاني حقيّ[13].
لكن الشهيد الصدر قدَّم مقترحًا ليقول بإمكانية التفريق بين الحق والحكم موضوعًا، عرضه تلميذه السيد الحائري في فقه العقود، وهو مقترح يستند إلى الارتكاز العقلائي، وملخّصه أن الضابطة في التفريق بين الحق والحكم يمكن التفتيش عنها بأحد وجوه ثلاثة:
«الأول: أن يفتَّش عن موارد الحق وموارد الحكم، أي عن التشريعات القابلة للإسقاط والتشريعات غير القابلة له، ثم يؤخَذ جامع بين الطائفة الأولى وجامع بين الطائفة الثانية، وهذا لا يفيدنا في مقام استنباط الأحكام، وإنما هو شيء في طول الاستنباط، وإنما أثره تنظيم الاستنباط والتطبيق لكبريات المطلب بعد الفراغ عن مجموعة الاستنباطات.
الثاني: أن يفتَّش عن الموارد التي دلَّ الدليل على قابلية الإسقاط فيها، فتُستكشَف نكتة مشتركة عن تلك الموارد فيحكم بالحقيّة على كل تشريع مشتمل على تلك النكتة ولو لم يدل دليل خاص فيه على الحقيّة وقابلية الإسقاط، وهذا لو تم يُفيدنا في مقام الاستنباط، إلَّا أن هذا الاستقراء حجيته موقوفة على إيراثه للقطع، إذن ففي غالب الظن سوف لن يفيدنا هذا الاستقراء خصوصًا إذا وُجِدَتْ مادة أو مادتان للنقض وانخرام القاعدة.
الثالث: أن ننظر إلى المرتكزات والتشريعات العقلائية بقطع النظر عن الأحكام الشرعية، فقد نستكشف النكتة المشتركة عن طريق الرجوع إلى الارتكازات العقلائية، وهذا يفيدنا في مقام الاستنباط بعد إعطاء تلك طابع الشرعية بأحد وجوه ثلاثة:
الأول: إثبات إمضائها عن طريق عدم الردع على حدِّ إمضاء سائر السِّيَر العقلائية.
الثاني: الرجوع إلى ظاهر أدلة التشريعات بعد تحكيم تلك الارتكازات في ظهورها، فدليل الخيار مثلًا لا يبقى له ظهور في الإطلاق لما بعد الإسقاط بعد الالتفات إلى الارتكاز العقلائي القائل بقبوله للإسقاط، فإن الارتكازات العقلائية تتحكّم في الظهورات كما تتحكّم فيها الأوضاع اللغوية.
إلَّا أن هذا الوجه لا يثبت الإمضاء؛ إذ غاية ما يثبت به هو عدم الاطلاق لتلك الأدلة لما بعد الإسقاط. وأما السقوط بالإسقاط فلا يثبت بها، بل يبقى مشكوكًا يجب الرجوع فيه إلى القواعد.
الثالث: الرجوع إلى الأخبار الظاهرة في الإمضاء كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «قلت له: رجل جنى إليَّ أعفو عنه أو أرفعه إلى السلطان؟ قال: هو حقك، إن عفوت عنه فحسَن، وإن رفعته إلى الإمام فإنما طلبت حقك، وكيف لك بالإمام»[14]. فهذا ظاهر في ذكر الصغرى والإحالة في الكبرى على الارتكاز العقلائي، فيدل على إمضائه بحدوده العقلائية.
ثم إن هذا الطريق -أعني التمسّك بالسيرة العقلائية مع إثبات الإمضاء بعدم الردع أو بالرجوع إلى الأخبار الظاهرة في الإمضاء- لا يضرّه وجود بعض المواد للنقض وانخرام القاعدة، فتلك الموارد تعتبر ردعًا عن السيرة، وهذا لا ينافي الإمضاء في الموارد الأخرى بالسكوت أو بتلك الأخبار»[15].
وفي حين ركز الشهيد الصدر على الارتكاز العقلائي بإزاء الدليل، ركّز المحقّق اليزدي على الإجماع بالإضافة إلى الدليل، وهذا نص عبارته «والميزان في ذلك أما الإجماع أو لسان الدليل، كأن يطلق عليه لفظ الحق، أو لفظ الحكم، أو ملاحظة الآثار واللوازم، مثلًا إذا ثبت جواز اسقاطه أو نقله يعلم أنه من باب الحق، ولكن لا عكس، إذ يمكن أن يكون حقًّا لازمًا أو مختصًّا، ومع عدم إمكان التشخيص بهذه الموازين فالمرجع الأصل. وهو مختلف بحسب الآثار، فلو شك في جواز الإسقاط أو النقل فالأصل عدمهما، ولو كان للحكم أثر وجودي فالأصل عدمه أيضًا.
ثم إن عدم كون الحكم ممّا يقبل الإسقاط والنقل من القضايا التي قياساتها معها؛ لأن أمر الحكم بيد الحاكم، وليس للمحكوم عليه إسقاطه ولا نقله، لأن المفروض أنه لم يجعل له السلطنة على شيء حتى يكون أمره بيده.
نعم، لو كان معلَّقًا على موضوع وكان داخلًا في ذلك الموضوع فله الخروج عنه ليرتفع ذلك الحكم، لكنه ليس من باب الإسقاط، بل من باب تبديل الموضوع»[16].
الحق والحكم بين الفقه والنص
ينبغي أن يكون واضحًا أمامنا ونحن نقرّر مفهوم الحق في البحث الفقهي أن اضطرار الفقهاء للتمييز بين الحق والحكم ليس لكونهما لفظين شرعيين استُعمِلا في النص القرآني أو الروائي، وإنما للتفريق بين نوعين من المجعولات الشرعية بينهما نوع اختلاف في الآثار، أو قُلْ: هو إجراء فنّي للتمييز بين المجعولات الشرعية القابلة للإسقاط، والأخرى غير القابلة لذلك، وإلَّا فمفهوم الحق في النص الروائي خصوصًا استُعمِل بمعناه اللغوي، وهو أعم من الحق والحكم وغيرهما، ولا أقل من كونه أعم من الأوَّليْن لأنه ما يعنينا هنا، فقد جرى استعمال الحق في الروايات في مواطن هي من نوع الحكم المقرّر في النص الفقهي، ويمكن التمثيل له ببعض ما جاء في رسالة الإمام زين العابدين (عليه السلام) لبعض أصحابه[17]، ومنه:
حق الله عز وجل: فأما حق الله الأكبر عليك: فأن تعبده لا تشرك به شيئًا، فإذا فعلت ذلك بإخلاص، جعل لك على نفسه أن يكفيك أمر الدنيا والآخرة.
حق الأم: وأما حق أمك: فأن تعلم أنها حملتك حيث لا يحتمل أحد أحدًا، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحد أحدًا، ووقتك بجميع جوارحها، ولم تبال أن تجوع وتطعمك، وتعطش وتسقيك، وتعرى وتكسوك، وتضحى وتُظلك، وتهجر النوم لأجلك، وَوَقَتك الحر والبرد، لتكون لها، فإنك لا تطيق شكرها إلَّا بعون الله وتوفيقه.
حق الأب: وأما حق أبيك: فأن تعلم أنه أصلك، وأنه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك ممّا يعجبك فاعلم أن أباك أصل النعمة عليك فيه، فاحمد الله واشكره على قدر ذلك، ولا قوة إلَّا بالله.
حق اللسان: وحق اللسان: إكرامه من الخنا، وتعويده الخير وترك الفضول التي لا فائدة فيها، والبر بالناس وحسن القول فيهم.
حق البصر: وحق البصر: أن تغضَّه عمَّا لا يحل لك، وتعتبر بالنظر إليه.
حق الفرج: وحق فرجك: أن تحصّنه عن الزنى، وتحفظه من أن ينظر إليه.
فجميع هذه الموارد المصطَلَح عليها في الرواية بالحقوق هي في حقيقة الأمر من جنس الأحكام بحسب المقرَّر فقهيًّا، لأنها لا تقبل الإسقاط، ومع ذلك أُطلِق عليها عنوان الحق، وذلك يكشف بأن عنوان الحق في النص الروائي أعم من الحق والحكم المتداولين في النص الفقهي.
[1] السيد أبو القاسم الخوئي، مصباح الفقاهة، بيروت: دار الهادي، الطبعة الأولى 1992م، ج2 ص339-341.
[2] لا يُقصَد به مفهوم الحكم بنحو مطلق، بل الحكم المقابل للحق فقط، وإلَّا فالحكم لا يقتصر على الرخصة بل يشمل الإلزام.
[3] بمعنى عدم جواز الرجوع بعد الإسقاط، ويمكن أن نقول: إن السلطنة في الحق مقيَّدة بما قبل الإسقاط.
[4] بمعنى جواز الرجوع حتى بعد الإسقاط، وإن كان هنا لا موضوعية للإسقاط لأنه لا يحصل واقعًا؛ لأن جواز الرجوع باقٍ، ويمكن أن نقول بأن السلطنة في الحكم مطلقة حتى بعد الإسقاط -إن أمكن تصوره-، لا أنه لا توجد سلطنة.
[5] السيد محمد كاظم اليزدي، حاشية كتاب المكاسب، تحقيق الشيخ عباس آل سباع، دار المصطفى لإحياء التراث، الطبعة الأولى 1423هـ، ج1، ص280.
[6] الشيخ محمد حسين الأصفهاني، حاشية كتاب المكاسب، الناشر: ذوي القربى، الطبعة الثانية 1427هـ، ج1 ص-.
[7] سورة المائدة، الآية 1.
[8] مصباح الفقاهة، مصدر سابق، ج2، ص338.
[9] السيد محمد المروِّج، هدى الطالب إلى شرح المكاسب، طليعة النور، الطبعة الأولى 1428هـ، ج1 ص-.
[10] المصدر نفسه، ص138.
[11] السيد كاظم الحائري، فقه العقود، قم: مجمع الفكر الإسلامي، الطبعة الثالثة 1428هـ، ج1، ص.
[12] مصباح الفقاهة، مصدر سابق، ج2 ص340.
[13] السيد أبو القاسم الخوئي، محاضرات في أصول الفقه، ج2 ص21، نقلاً عن فقه العقود، مصدر سابق، ج1 ص137.
[14] محمد بن يعقوب الكليني، الكافي، طهران: دار الكتب الإسلامية، الطبعة الثالثة 1367هـ.ش، ج7، ص252.
[15] فقه العقود، مصدر سابق، ج1، ص134.
[16] حاشية كتاب المكاسب، مصدر سابق، ج1، ص281.
[17] الشيخ محمد باقر المجلسي، بحار الأنوار، بيروت: دار التعارف للمطبوعات، الطبعة الأولى 2001هـ، ج29، ص8.