الدولة وإشكالياتها في الفكر الإصلاحيّ العربيّ
مقاربة تحليليّة نقديّة
الدكتور امبارك حامدي*
* جامعة قفصة - تونس.
ﷺ مدخل
من النّافل القولُ: إنّ ظهور الوعي بالتّأخّر التاريخيّ عند العرب والمسلمين إنّما يعود إلى احتكاكهم بالغرب، إذ لولا ظهور هذا الآخر الغربيّ المتقدّم لما شعر العرب بالمسافة الحضاريّة التي تفصل بينهم وبين العالم الحديث، ولَمَا وصفوا واقعَهم بأنّه متأزّم.
وهي أزمة لم تنشأ بسبب عوامل داخليّة كما جرى دائمًا، وكان يتمّ إصلاحُها بأدوات داخليّة: انحراف فتقليد فإصلاح، ولكنْ نتيجة عوامل خارجيّة تحديدًا هذه المرّة، كما يذهب إلى ذلك المفكّر المغربي عبد الإله بلقزيز.
ولعلّ خصوصيّة هذه الأزمة الحديثة هي التي جعلت المصلحين (الطهطاوي، الكواكبي، خير الدين باشا، عبده، الفاسي...) يذهبون، في مرحلة أولى من بحثهم عن أسباب تلك الأزمة، إلى اتّهام النّظم السياسيّة البالية والاستبداد النّاشئ عنها، لذلك فقد انصبّ جهدُهم الإصلاحيّ استلهامًا وتأصيلًا على إصلاح تلك النّظم مستفيدين من مشاهداتهم لما تحقّق في الغرب من جهة، ومتأثّرين بما يسكنهم من موروث إسلاميّ من جهة أخرى، وذلك ضمن جهد توفيقيّ ضخم بين المرجعيّتين.
وفي هذا السّياق الواسع من البحث يتنزّل خوض المصلحين في إشكاليّة علاقة الدّين بالدّولة. وسنعمل في هذا البحث على مقاربة هذه الإشكالية من زاوية محدّدة، وهي أسس مشروعيّة الدولة في المدوّنة الإصلاحيّة العربيّة، ومنها التكفّل بالعودة إلى الفطرة أو حراستها، أو مقدار الأمن والعدل والرّخاء الذي يحقّقه الحاكم، أو الطبيعة البشريّة (خيّرة/ شرّيرة) أو التّعاقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم...
وتتّجه المقاربة أيضًا إلى البحث في المصدر أو المصادر التي رأى المصلحون أنّ الحاكم يستمدّ منها حقّ الامتثال لأوامره، أي في مشروعيّة سلطته ومقبوليّتها لدى الجميع، ومن ثَمَّ امتلاكه الحقّ في ممارسة السّلطة على المحكومين متجاوزين القول بالحقّ الإلهي، أو الوراثة التقليديّة التّراثيّيْن، ذلك التّجاوز الذي جعلهم حقًّا مصلحين، بكلّ ما يعنيه مفهوم الإصلاح من آفاق وحدود.
وستعمل هذه المقاربة كذلك على بيان خاصّيّة التردّد بين المرجعيّتين التراثيّة الدّينيّة والغربيّة الحديثة لا في بلورة أسس مشروعيّة الدولة ونظامها المنشود فحسب، بل كذلك في تأصيل القيم الموصولة بالدّولة المنشودة. وفي مقدّمتها قيمة المواطنة التي تتأسّس عليها قيمٌ فرعية عديدة في المدوّنة الإصلاحيّة، منها: الحرية والعدل و«الديمقراطيّة» وحكم القانون...
نشأ مفهوم الدّولة الحديثة في الفكر العربي نشأة إشكاليّة، إنْ من جهة الملابسات التّاريخيّة والحضاريّة، أو من جهة الطرق التي تبلورت بها القيم المتلبّسة بهذا المفهوم، ودخلنة الأوروبيّة منها، في ضوء توتّر واضح في ذات المفكّر بين مرجعيته العربية الإسلاميّة المتجاوَزة والمرجعيّة الغربية الصّاعدة.
ومن تلك المفاهيم والإشكاليات نذكر مفهوم الشّرعية، ونمط الحكم المنشود، والمواطنة، والقيم المؤسّسة لها...
ﷺ أولًا: أسس مشروعيّة الدّولة
ماذا نقصد بأسس مشروعيّة الدولة؟
المقصود بأسس المشروعيّة (légitimité) هو ما يجعل السّلطة التي تمارسها الدولة سلطة مقبولة من الكافّة، أو كما عرّفها بعضهم بقوله: «هو ما يستدعي الحديث عن أسس السّلطة، وعن تبرير الطّاعة الواجبة إزاءها»[1].
ويتجسّد هذا القبول في الامتثال الطوعي للقوانين والأوامر التي يصدرها ممثلوها من رؤساء ووزراء وغيرهم. ولم يبتعد المصلح المغربي علال الفاسي (ت 1974) عن هذا التّعريف في قوله: إنّ البحث في مشروعيّة الدولة يعني البحث في «المصدر الذي يستمد منه القانون أو الحاكم حقّ الامتثال لأمره، والعمل بما يصدر من تشريع أو يتخذه من تدبير»[2].
ويستدعي البحث في أسس مشروعيّة الدولة في الفكر الإصلاحيّ النّظرَ فيما برّر به زعماء الإصلاح وجود كيان الدّولة، وفيما رأوا أنّه يمدّها بمشروعيّة ممارسة السّلطة على المحكومين.
وذهب بعضُهم، في هذا السياق، إلى أنّ مفهوم الإصلاح في عصر النهضة قد نهض على السعي إلى وضع الإسلام الاجتماعيّ الواقعيّ التاريخيّ في مستوى الإسلام المعياري المثالي، أي محاولة الارتفاع بما هو كائن إلى ما ينبغي أن يكون، إذ «الإسلام في الوعي الإسلامي هو الأصل المطلق، ولذا أقيمت مرادفة بين الإسلام والفطرة، وهو ما تعنيه القضية التالية التي أصبح مسلّمًا بها من قِبَل سائر مفكري الإسلام باستثناء الفلاسفة، وهي الإسلام دين الفطرة»[3].
كان هذا براديغم المفكّرين والمصلحين على امتداد التاريخ العربي الإسلامي في تشخيص الأزمات وطريقة الخروج منها: انحراف عن الدّين، وانتشار للتقليد، فدعوات للعودة إلى الفطرة والأصل بوسائل الإسلام نفسه، فالخلل داخليّ، ولا بدّ أن يكون الإصلاح أيضًا من جنسه، غير أنّ ما يميّز الإصلاح الحديث هو ظهور طرف خارجيّ له نصيب وافر فيما أصاب بلاد الإسلام من تأخّر، ومن هذا الواقع الجديد نشأت معضلات الفكر الإصلاحي العربي[4].
فقد ظلّ في الغالب منشدًّا إلى مفهوم الفطرة، وإن طعّمه أحيانًا بأسس أخرى حديثة كما نرى.
فما مفهوم الفطرة؟ وما مصادرها؟
الفطرة مفهوم قرآنيّ صرف، ورد في صيغته هذه أو في صيغ أخرى في كثير من الآيات القرآنية، ومنها: قوله تعالى: {فأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}[5]، فالإسلام هو الفطرة، و«من هنا نفهم المعنى العميق لهذه المحاولات التي ما فتئ يرومها المفكرون والمصلحون المسلمون عبر العصور: أعني النزوع إلى الإسلام «الأصل»، إسلام «الفطرة»، واقترن هذا النزوع دائمًا برفض كل ما اعتبر تحريفًا لهذا «الأصل» وقع فيه الناس، أي التقليد أو البدعة»[6].
والعودة إلى الفطرة أو حراستها تقتضي سلطة قائمة عليها، إذ «لولا ولي الأمر لما قدر العالم على نشر كلمة، ولا الحاكم الشرعي على تنفيذ كلمته، ولا العابد على عبادته، ولا الصانع على صناعته، ولا التاجر على تجارته، ولولاهم لانقطعت السبل وتعطلت الثغور وكثرت الفتن والشرور، فالملك كالروح والرعية كالجسد ولا قوام لجسد إلَّا بروحه»[7].
ويوحي هذا الشّاهد أيضًا بأنّ المصلح المصري رفاعة الطهطاوي يميل إلى اعتبار الطبيعة البشريّة شرّيرة، وهذا النزوع الشرّير قد يؤدّي إلى الفتن، ومن هنا ضرورة السّلطة العليا (الدولة/ الملك).
وقد شدّد الطهطاوي على التلازم الضروريّ بين الملك والرعيّة، ولكنّه تلازم لا يلغي واقع التّفاضل، فالملك أشرف من الرعيّة (الملك روح/ - الرعيّة/ الجسد)، والرعيّة هي المحتاجة إلى الملك لا العكس (لا قوام لجسد إلَّا بروحه).
ومن الطّريف المقارنة بين الطّابع الدنيويّ الصرف الذي يستند إليه جون جاك روسو (ت 1778) (J.J. Rousseau) مثلًا وبين المقدّمات ذات الطابع الدّيني الذي يستدعيه الطهطاوي وكثير من المصلحين. يقول روسو: الدولة عبارة عن شركة أو جمعية يتنازل لها الأفراد عن جزء من حريتهم من أجل أن تحميهم وتحمي ممتلكاتهم، ورغم انضمام الفرد إلى المجموعة فإنه مع ذلك، لا يطيع سوى إرادته الخاصّة، ويظلّ حرًّا كما كان[8].
ولا مراء في أنّ أكثر المصلحين قد اطّلعوا على ما استند إليه الفكر الغربي من أسس رأوا أنّ مشروعية الدّولة تقوم عليها، نعني بذلك نظريّة الطبيعة البشريّة الشّرّيرة، ومن روادها الإنجليزي توماس هوبز (ت 1651) (Thomas Hobbes) الذي بنى نظريّته في الدّولة على مسلّمة مفادُها أنّ «الإنسان ذئب لأخيه الإنسان»، وأنّه لا يروق له أن ينتظم مع غيره في مجتمعات تسودها سلطة حاكمة، وهم في حالة غياب تلك السلطة التي تسودهم بالخوف، أي في حالة الطبيعة، في حالة «حرب الجميع ضدّ الجميع»[9]. ويقابلها القول بالطبيعة الخيّرة للإنسان التي تبنّاها روسّو، وكانت أساسا لنظرية العقد الاجتماعيّ[10].
ويلاحظ أنّ بعض المصلحين لم ير في هذه النظريّات أيّ فائدة تذكر، فلم يتردّد في رفضها بكل وضوح. يقول علّال الفاسي: «أما الفكرة الطبيعية أو العقل الاجتماعي، فهي فروض لا يترتب عليها أثر إيجابي»[11].
ولعلّ في ذلك ما يدلّ على خشية من الانزلاق إلى تأسيس الدّولة على أسس بشريّة صرف، أعني علمانيّة، وتمسّكًا في المقابل، بالمصادر المشروعيّة الدّينيّة التقليديّة.
وبالرّغم من هذا الرّفض، فإنّ الفاسي يزاوج وإن بصورة غير صريحة، بين المرجعيّة الإسلامية والمرجعيّة الغربيّة الحديثة، إذ يقول: «إن السيادة الأصلية لله سبحانه وتعالى، ومعنى ذلك ضرورة الرجوع لله في الأمر والنهي. أما السيادة العملية فهي مستمدة من الشعب باعتباره الذي يعيّن أهل الحل والعقد في الأمة»[12].
ويوحي التّمييز بين السيادة الأصلية (الإلهية) وبين السيادة العمليّة (البشرية) ما كان من تأثّر هذا المصلح بتطوّرات الواقع الغربي الذي صار يضغط أكثر فأكثر على الفكر العربي الحديث من جهة، بقدر ما يكشف عن صعوبة الانفكاك من الموروث ذي الطابع الميتافيزيقيّ الذي غلب على التّفكير في السّلطة من جهة أخرى، وإلَّا ما معنى قوله: إنّ الله هو صاحب السّيادة أي التّشريع؟ صحيح أنّ مصدر النصّ المقدّس إلهي ولكنّ تأويل النّصوص والأحكام من صنع العقل البشري ضرورة.
وهذا يعني أنّ في ادّعاء مطابقة فهم البشر المحدود والنسبيّ للمقصود الإلهي المطلق تألّهًا تتمّ ترجمته استبدادًا بالرأي وطغيانًا في الحكم.
كان الطهطاوي من قبل قد خطا فعلًا الخطوة التي عجز عنها الفاسي، فقد عبّر بوضوح عن إعجابه بأسس المشروعيّة الغربيّة، معتبرًا الأمّة مصدرًا للسلطات المحدّدة بدورها بدستور، وهو ما يعني امتلاكها حقّ الثورة على الحاكم متى أخلّ بالميثاق الذي قام حكمه على أساسه، ومنه استمدّ مشروعيّة سلطته «كما نادى بالفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية متأثرًا في ذلك بآراء مونتسكيو»[13].
وذهب الشيخ محمد عبده (ت1905) خطوة أبعد في تأسيس سلطة الدولة والحاكم على أبعاد مدنيّة صرف عبر التأكيد على حق الأمّة في تولية الحاكم وعزله من جهة، وعلى عدم وجاهة القول بالحكم الثّيوقراطي الذي يكون الحاكم بموجبه ظلّ الله في الأرض، وإن لم يتخلّص الشيخ عبده تمامًا من المفاهيم التراثيّة، إذ يقول: «فالأمة –أو نائب الأمة- هو الذي ينصبه، والأمة هي صاحبة الحق في السيطرة عليه، وهي التي تخلعه متى رأت ذلك من مصلحتها فهو حاكم مدني من جميع الوجوه ولا يجوز لصحيح النظر أن يخلط الخليفة عند المسلمين بما يسميه الإفرنج (ثيوكراتيك) أي سلطان إلهي»[14].
ولا يبتعد عبده في هذا الموقف عمّا عبّر عنه روسّو، قبل ما يقرب من قرن ونصف، من آراء ليبراليّة. يقول روسّو: «ليس الماسكون بزمام القوّة التنفيذيّة أسيادا للشّعب، ولكنْ موظّفين لديه يمكنه تنصيبهم وعزلهم متى شاء»[15].
ويبدو المصلح خير الدين التونسي، في بعض آرائه، أقرب إلى هذه الرّوح اللّيبراليّة التي تقيم المشروعيّة على أساس براغماتي صرف، فيعلّق مشروعيّة الحكم على مقدار ما يحقّقه من ازدهار مادّي، وعلى ما يحرزه من أمن للمواطن، فضلًا عمّا يشيعه من عدل.
وقد هدته إلى هذا الرّأي مشاهداته الأوروبية، يقول خير الدين: «وإنّما بلغوا تلك الغايات والتقدم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسسة على العدل السياسي، وتسهيل طرق الثروة، واستخراج كنوز الأرض بعلم الزراعة والتجارة. وملاك ذلك كله الأمن والعدل اللذان صارا طبيعة في بلدانهم. وقد جرت عادة الله في بلاده أن العدل وحسن التدبير والتراتيب المحفوظة من أسباب نمو الأموال والأنفس والثمرات، وبضدها يقع النقص في جميع ما ذكر، كما هو معلوم من شريعتنا والتواريخ الإسلامية وغيرها»[16].
وهو رأي يختلف في وضوح مرجعيته التحديثيّة وأفقِ نظره عن التسويغ الدّينيّ التراثيّ الذي طرحه محمد عبده بالرّغم من جهده الإصلاحيّ وتحمّسه المعروف للانفتاح على العالم الحديث بأفكاره وقيمه الجديدة. يقول عبده: «لا تكتمل الحكمة من تشريع الأحكام إلَّا إذا وجدت قوة لإقامة الحدود، وتنفيذ حكم القاضي بالحق، وصون نظام الجماعة. وتلك القوة لا يجوز أن تكون فوضى في عدد كبير، فلا بدّ أن تكون في واحد، وهو السلطان أو الخليفة»[17].
فهل تعود هذه «الجرأة التحديثيّة» التي نلمسها عند خير الدين التونسي إلى أنّه رجل دولة وممارسة لا رجل فكر وتنظير شأن محمد عبده؟
ﷺ ثانيًا: أنماط الحكم المنشودة في الفكر الإصلاحيّ
شهد التفكير السّياسي الإصلاحي ونخصّ بالذكر منه تصوّر الدّولة ونمط الحكم المنشود تطوّرًا ملحوظًا. ويعود هذا التطوّر إلى عوامل عديدة منها: تغيّر معطيات الواقع من مجرّد الضّغط الأجنبي إلى تحوّل هذا الضّغط إلى احتلال مباشر.
ففي المرحلة التي سبقت الاستعمار، أعني مرحلة الضّغوط، حاول المصلحون مواجهة الملكية المطلقة، ودعوْا إلى دولة عادلة تحفّز الناس على تعمير الأرض «ومن هنا جاء الاتفاق الضمني بين فقهاء هذه المرحلة وبين الليبراليين، المحليين والغربيين. فتمتزج في الحركة الفكرية التي نشأت آنذاك، والتي تزعمها على العموم فقهاء ومتفقهون، الدعوة الدينيّة والدعوة السياسية، فكانت سلفيّة وليبرالية في نفس الوقت»[18].
أمّا في المرحلة الثانية، مرحلة الاستعمار المباشر، فقد تمّ استبعاد الشّرع كليًّا من الحياة العامة، فافترق الفكر الإصلاحي إلى ليبراليين انصبّ اهتمامُهم على المطالبة بترسيخ العدل وتشجيع التّطور والعمران، وإلى سلفيين/ فقهاء وضعوا «في مقدمة المشكلات تطبيق الشرع، حينئذٍ تغيرت طبيعة الحركة الإصلاحية وهو تغيير قد يحصل في ذهن الرجل الواحد... لأنه من غير المعقول ولا من المنتظر أن يقف الفقيه نفس الموقف من إصلاح يقوم به أمير مسلم، وإن كان إسلامه ظاهريًّا فقط، وإصلاح تقوم به إدارة أجنبية غير مسلمة تهمل الشرع وترميه بعرقلة التطور»[19].
رفض أغلب مصلحي المرحلة الأولى الحكم الملكي المطلق، وإن لم يدعوا إلى الخروج عليه توخّيًا للإصلاح التّدريجي من داخل منظومة الحكم نفسها. وفضّلوا الحكم الملكي المقيّد بقانون، واقترحوا نظامًا نيابيًّا (مجلس شورى)[20].
ورفض بعضهم صراحة الحكم الجمهوري رغم تفضيله له، وقد يكون الأمر ضربًا من التقيّة وإن تمّ تمويهها بغطاء دينيّ. يقول ابن أبي الضّياف (ت 1874): «قواعد الملة الإسلامية لا تقتضي هذا الصنف الجمهوري لأن منصب الإمامة واجب على الأمة شرعًا»[21].
ويُبدي فكر الإصلاح إعجابًا واضحًا بالمنهج الليبرالي الذي احتكمت إليه تجربة الحكم الأوروبي في عصره، فيرى أنّ العلاقة بين الحاكم والمحكوم هي ثمرة للجهد الإنساني البحت، يقول رفاعة رافع الطهطاوي (ت 1873): «حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد... وانقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت البلاد وكثرت معارفهم وتراكم غناهم وارتاحت قلوبهم فلا تسمع من يشكو ظلمًا أبدًا»[22].
ويُلاحظ الدّارس أنّ الطهطاوي، وهو يعدّد مزايا الملكية المقيّدة، لا يستند إلى حجّة تطبيق الشّرع، بل يكتفي بتأكيد أهمّية وجود الملك عامّة، فيشبّهه بالروح والرعيّة بالجسد، والجسد مفتقر إلى الروح «ولكن من لطف الله تعالى بعباده أنه أجرى عادته في كل زمان وأن ينصب في الأرض من ينصف المظلوم من الظالم ويردع أهل الفساد عن المظالم، ويصنع للرعية جميع المصالح، ويقابل كل أحد بما يستحقه من صالح وظالم»[23].
وقد انطلق خير الدين من المعيار الليبرالي نفسه وإن لم يمضِ فيه إلى منتهاه، فقد جعل سعادة المحكومين منوطة بقدرات الحاكم ومواهبه، وبالتنظيمات العادلة التي تحكمها، وهو ما يطرح فرضيّة المستبدّ العادل الذي يجمع بين العدل وحفظ الأمن. يقول خير الدين: «إن سعادة الممالك وشقاوتها في أمورها الدنيوية إنما تكون بقدر ما تيسر لملوكها من ذلك، وبقدر ما لها من التنظيمات السياسية المؤسسة على العدل، ومعرفتها واحترامها من رجالها المباشرين لها»[24].
ويقتضي رفضُ الحكم المطلق رفضَ العمل بالرّأي الواحد، ويورد خير الدين، في هذا السياق، على لسان المؤرّخ وعضو مجلس النواب الفرنسي تيارس (Thiers ت1877) قولَه: إنّ «العمل بالرأي الواحد مذموم ولو بلغ صاحبه ما بلغ من الكمالات والمعارف... وهي أنه لا يسوغ أبدًا أن يسلم أمر المملكة لإنسان واحد، بحيث تكون سعادتها وشقاوتها بيده، ولو كان أكمل الناس وأرجحهم عقلًا»، مذكّرًا بنابليون الثالث الذي بدأ حكيمًا صالحًا وانتهى دكتاتورًا مجنونًا[25].
ولئن افترض خير الدين إمكانية وجود الحكم الملكي المطلق الجامع بين العدل والصلاح، فإنّه يرى أنّه من النادر الذي لا يعتدّ به. يقول خير الدين: «هذا وإنّا لا ننكر إمكان أن يوجد في الملوك من يحسن تصرفه في المملكة بدون مشورة أهل الحل والعقد... لكن لكون ذلك من النادر الذي لا يعتبر، لاستناده إلى أوصاف قلما تجتمع في إنسان، وعلى فرض اجتماعها ودوامها له، تزول بزواله وجب علينا أن نجزم بأن مشاركة أهل الحل والعقد للملوك في كليات السياسة، مع جعل المسؤولية في إدارة المملكة على الوزراء المباشرين لها، بمقتضى قوانين مضبوطة، مراعى فيها حال المملكة، أجلب لخيرها وأحفظ له[26].
ولا جدال في تأثّر خير الدين بمشاهداته الفرنسيّة، وما استقرّ من مبادئ الحكم وقواعده، وخاصّة منه المادّة الثالثة من «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والمواطن لسنة 1789»، وفيه نصٌّ على أنّ «مبدأ السيادة التامّة إنّما يقع أساسًا في يد الأمّة، فلا يحقّ لهيئة ولا لفرد أن يمارس سلطة ما لا تكون نابعة منها»[27].
ويتّضح من تمحيص آراء خير الدين أنّ دعوته إلى الحكم المقيّد هي دعوة مقيّدة بدورها بنظرة نخبويّة من جهة، مرتهنة من جهة أخرى إلى ثقل الموروث في مستوى الممارسة التاريخيّة والمفاهيم المعبّرة عنها، ففي مسألة انتخاب أهل الحلّ والعقد، يقول خير الدين: إن أهل الحل والعقد قد لا يكونون منتخبين من الأهالي على خلاف ما جرى ويجري في أوروبا «وذلك لأن تغيير المنكر في شريعتنا من فروض الكفاية وفرض الكفاية إذا قام به البعض سقط الطلب به عن الباقين»[28].
ويقرّر الطهطاوي ضربًا من التّلازم بين الحاكم والمحكوم، تلازمًا يتبادلان فيه المعنى، فيرى أنّه لا معنى للملك دون الرعيّة ولا معنى للرعيّة دون الملك؛ إذ العلاقة بينهما هي علاقة أبوّة وبنوّة، وهكذا تكتسب العلاقة صفتيْ الحميميّة والحتميّة، إذ يقول: «فلا يفهم الملك إلَّا بالرعية ولا تفهم الرعية إلا بالملك كالأبوة والبنوة..».
ولا مراء في أنّ تصوّر العلاقة بين الحاكم والمحكوم على هذا النحو إنّما هو تشريع لوصاية الحاكم على المحكوم، ونسف لكلّ نظرية ممكنة في المواطنة أو لمعنى الحقوق والواجبات كما تمّ التّنظير لها في الفكر الغربي[29].
إنّ تأثّر الفكر الإصلاحي بالفكر الغربي كان دومًا مسيّجًا بموروث يضغط بثقله على اندفاعه نحو التحديث، أو مثقلًا بموقع صاحبه من السّلطة الذي يقيّد انطلاقه نحو الحلول التي يؤمن بها فعلًا في ضوء مشاهداته أو مطالعاته الغربيّة. وهو وضع يبرّر إلى حدّ بعيد قول بعضهم: إنّ «فى النمط الشرقي تقوم الدولة عادة بـ«خلق طبقتها» بينما في النظام الرأسمالي تقوم الطبقة «بصياغة الدولة على هواها»[30].
وفعلًا، فإنه كثيرًا ما أفْرَغَت استدراكاتُ المصلح الإجراءَ الذي يستلهمه من النّظام السياسي الأوروبي من معانيه ومقاصده. غير أنّ ذلك لم يمنع من التأكيد على بعض الأفكار والإجراءات الحديثة بعد حشد الحجج المطمئنة للحاكم القائم كما هو الشأن في دعوة خير الدين إلى الفصل بين السّلطات وتوزيع مسؤوليات الدولة تيسيرا لعملية المراقبة والمحاسبة والعزل، ذلك أن عزل وزير أو موظّف مهما علا شأنه أسهلُ من عزل رأس السّلطة نفسه. يقول خير الدين: «إن المطلوب من الملوك ليس هو مجرّد فصل النوازل الشخصية كما هو مشاهد في بعض الممالك الإسلامية، ولا مباشرة جزئيات الإدارة التي يمكن إجراؤها بغيرهم من المتوظفين، وإنما المطلوب منهم النظر في كليات الأمور»[31].
ويتجلّى كذلك في التّحديد الدّقيق لمهامّ السياسيّين والتّأكيد على معنى المحاسبة وترتيب العلاقة بين مختلف الهيئات السياسية. يقول خير الدين: «وأما مسؤولية الوزارة فمعناها أن يكونوا تحت احتساب مجلس الوكلاء مباشرة كما هو موجود في سائر الممالك الكونستيتوسيونية ما عدا الدولة الفرنسية اليوم فإن وزراءها مسؤولون للملك وهو مسؤول للمجلس»[32].
على أنّ أمر القصور لا يتعلّق أحيانًا بظروف موضوعيّة، بل بعوائق ذاتيّة كعدم الاستيعاب وسوء الفهم اللّذين يؤدّيان إلى الخلط في المفاهيم، ومنها ما يُلاحظ عند خير الدين من تداخل بين مفهوم الدولة بوصفها كيانًا مجرّدًا ومفهوم الحكومة باعتبارها جهازًا تنفيذيًّا قابلًا للتّغيير. يقول خير الدين: «فعلم أن المجلسين المذكورين -يعني مجلس أمراء العائلة المالكة ومجلس الوكلاء- لا يتداخلان في تفاصيل الإدارة، وإنما دأبهما وضع القوانين وحفظها بالاحتساب على الدولة»[33].
وقد يحدث العكس فيستعمل لفظ «المملكة» وهو يعني الحكومة كما في قوله: «أما فائدة المملكة فبثبوت استقامة سيرة المباشرين لمصالحها فيهون عليهم صرف أموالها ودماء أبنائها حيث كان فيما يعود بالنفع عليها»[34].
ﷺ ثالثًا: الدّولة ومبدأ المواطنة في الفكر الإصلاحيّ
1- تعريف المواطنة
من المعاني التي يحيل عليها وزن «مفاعلة» المشاركة، ويدلّ موصولًا بلفظ وطن (مواطنة) على اشتراك مجموعة من النّاس في وطن ما اشتراكًا تترتّب عنه جملة من الحقوق والواجبات. وهي إلى ذلك رباط بين الأفراد في المجتمعات الحديثة بعد أن كانوا يرتبطون بعضهم ببعض برباط الدّين أو الدمّ...[35].
وقد تخصّ بعض المعاجم مفهوم الوطن دون «الأمة (Nation) والدولة (Etat) بعامل وجداني خاصّ، وهو الارتباط بالأرض وتقديسها، لاشتمالها على قبور الأجداد»[36].
ويمكن، لمزيد التّدقيق، مقارنةُ مفهوم المواطن بمفهوميْ الإنسان والفرد ذويْ الدلالات المختلفة، إذ ينعقد بينهما وبين مفهوم المواطن ضرب من التدرّج والتكامل، فمفهوم الإنسان ذو دلالة ميتافيزيقيّة مطلقة لا تحيل على انتماء لدولة ما أو لمجموعة بشريّة بعينها، ويشمل مفهوم الفرد المفهوم الأوّل (الإنسان)، ويتجاوزه بالإحالة على الانتماء إلى مجموعة له فيها حقوق وواجبات دقيقة. أمّا مفهوم المواطن فيشمل مفهوم الإنسان والفرد معًا ويضيف إليهما كون الإنسان الفرد تعبيرًا سياسيًّا له حقوق يكفلها القانونُ بصورةٍ واضحةٍ.
وفي نطاق تعريف المواطنة والمقارنة بينها وبين مفهوم آخر هو مفهوم الجنسية الذي ينتسب إلى الشّبكة الدلاليّة ذاتها، «تشير دائرة المعارف البريطانية إلى أن المواطنة «علاقة بين فرد ودولة كما يحدّدها قانون تلك الدولة متضمّنة مرتبةً من الحرية وما يصاحبها من مسؤوليات وتسبغ عليه حقوقاً سياسية مثل حقوق الانتخاب وتولي المناصب العامة. وميّزت الدائرة بين المواطنة والجنسية التي غالبًا ما تَستخدم في إطار الترادف؛ إذ إن الجنسية تضمن بالإضافة إلى المواطنة حقوقًا أخرى مثل الحماية في الخارج. في حين لم تميّز الموسوعة الدولية وموسوعة كولير الأمريكية بين الجنسيّة والمواطنة، فالمواطنة في (الموسوعة الدولية) هي عضوية كاملة في دولة أو بعض وحدات الحكم، وتؤكد الموسوعة أن المواطنين لديهم بعض الحقوق مثل حق التصويت وحق تولّي المناصب العامّة، وكذلك عليهم بعض الواجبات مثل واجب دفع الضرائب والدّفاع عن بلدهم. وفي موسوعة (كولير) الأمريكية، المواطنة هي «أكثر أشكال العضوية اكتمالًا في جماعة سياسية ما»[37].
فكيف ظهر مفهوم المواطنة في الفكر الإصلاحي العربي؟
2- ظهور مفهوم المواطنة في الفكر الإصلاحي
نقصد بظهور مفهوم المواطنة في الفكر الإصلاحي أمرين: الأوّل التّأسيس على المستوى الفكريّ والسياسيّ للكيانات السياسيّة المعروفة اليوم: التونسية والجزائرية والمغربية والمصرية... الثّاني ظهور بعض القواعد والقيم ذات الطّابع السّياسيّ الحديث في كتابات المصلحين.
لا شكّ في أنّ مفهوم المواطن إنّما يتأسس على مفهوم الوطن الذي ينبغي أن يظهر أوّلًا، وقد تساءل المفكّر المغربيّ علي أومليل، في السياق الأوّل، عن معنى ظهور تاريخ خاصّ بتونس على يديْ أحمد بن أبي الضّياف، ويعني كتابه: (إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان)، ويضيف: «ليس الأمر يتعلّق بمجرّد أننا أمام تاريخ يختصّ ببلد محدّد –فهو شيء معروف في الإستوريوغارفيا الإسلامية- بل لأننا أمام مؤرّخ يكتب بدافع وطني ويصرّح بذلك. وهذا شيء بدأنا نتلمسه في إستوريوغارفيا القرن الماضي، بحيث يمكن أن نتحدّث عن بزوغ (تاريخ وطني)»[38].
ومن المهمّ الإشارة إلى أنّ ولادة مفهوم الوطن/ والوطنيّة وما اتّصل به من مفاهيم كالأمّة والدولة والدستور في الفكر الإصلاحي كانت ولادة عسيرة على المستوى النّظري، من ذلك مثلًا أنّ الدستور في المصطلح السياسي الحديث مرتبط بوطن له حدود وله دولة تدبّره، في حين أنّ القانون الأساسي في الذهن الإسلامي هو الشريعة/ القرآن. وينطبق الحكم ذاته على الزوج وطن/ أمّة، ذلك أنّ مفهوم الأمّة الإسلاميّة أوسعُ من أيّ وطن من أوطان المسلمين.
وهكذا ظلّت مفاهيم الوطن والقانون والأمّة مفاهيم قلقة، فكان الإصلاحيون ينادون بالدستور وبالوطن وبالدولة «القُطريّة»... ويتعلّقون في الوقت نفسه بما يتجاوزها جميعًا. ويستدلّ أومليل على ذلك بمواقف الفاسي قائلًا: إنّ «الأمة الإسلاميّة [تكوّن] وحدة سياسية، دون اعتبار للحدود الجغرافية»، دون أن تتنافى عنده رابطة الأمة الإسلاميّة مع رابطة الدولة القومية، وهو ما يمثّله عنده دستور المدينة، في حين أنّ المفاهيم الثلاثة متطابقة في نظريّة الدولة الوطنية[39].
ويتأكّد هذا الإشكال بما يتمسّك به المصلحون، على خلاف اللّيبراليين، من تمييز بين الجنسية الوطنية والجنسية/ الانتماء الدينيّ؛ إذ يرى الأفغاني مثلًا أن مفهوم الجنسية، بما هو انتماء لدولة وطنية، مرفوض. وحجّته في ذلك أن «المسلمين لا يعرفون لهم جنسية إلَّا في دينهم واعتقادهم»[40].
ومن تجلّيات المواطنة ظهور القيم التي تتأسّس عليها في كتابات المصلحين ودعواتهم. ومن تلك القيم: الحرية والعدل و«الديمقراطيّة» وحكم القانون وضرورة وجود دستور... ولنأخذ -مثلًا- قيمة الحرّية، أوّلًا باعتبارها إحدى القيم التي تتأسّس عليها المواطنة، وثانيًا بوصفها قيمة جامعة لعدّة قيم فرعيّة، وذلك من أجل أن نرى كيفيّة تلقّيها في المدوّنة الإصلاحيّة العربيّة.
حرّر جلّ المصلحين القولَ في تقريظ الحريّة وفي بيان أنواعها وإيجابياتها[41]، من ذلك اعتبار الاعتداء عليها ضربًا من الظّلم. يقول الشيخ محمد الطّاهر بن عاشور (ت 1973): «واعلم أن الاعتداء على الحرية نوع من أنواع الظلم»[42].
واعتبرها عبد الرحمن الكواكبي (ت 1902) من أعزّ الأشياء على الإنسان، وبها قِوام حياته، إذ يقول: «لا شك أن الحرية أعز شيء على الإنسان بعد حياته، وأن بفقدانها تفقد الآمال، وتبطل الأعمال، وتموت النفوس، وتتعطل الشرائع، وتختل القوانين»[43].
وبلغ أديب إسحاق (ت 1885) في بيان لزومها أنْ جعلها، على غرار اللّيبراليين، قرينةَ وجود الإنسان، وحقًّا طبيعيًّا للأمم. يقول إسحاق: إنّ الحرّية حقّ «لكل إنسان بمحض وجوده، ولكل أمة بمحض الطبيعة»[44]، لذلك فإنّ فرح أنطون (ت 1922) لم يتردّد في القول: إنّ غايةَ الحكم «هي صيانة الحرية البشرية في حدود الدستور»[45].
وهكذا، بناء على أنّ المصلحين جميعًا قد أجمعوا على أنّ سبب التخلّف هو الاستبداد، فقد استغرقت ثنائية حرية/ استبداد أكثر جهودهم لإصلاح نظام الحكم.
وقد نقل الطهطاوي مشاهداته الفرنسيّة في مضمار الحرية، كما في قوله: «وكل فرنساوي له أن يبدي رأيه في مادة السياسات، أو في مادة الأديان، بشرط ألَّا يُخلّ بالانتظام المذكور في كتب الأحكام»[46].
بل إنّه قد عرض الواقع العلماني بنبرة لا تخلو من إعجاب في قوله: «ومن الأشياء التي ترتبت على الحرية عند الفرنساوية أن كل إنسان يتبع دينه الذي يختاره يكون تحت حماية الدولة، ويعاقب من تعرض لعابد في عبادته»[47].
غير أنّه سرعان ما يستدرك بما يُفرغ هذا المبدأ من مضمونه، ويتجلّى ذلك في موقفه من فكرة «الحرية الدينية»، فهذه لا تبلغ عنده حرية التّديّن، كما لا تعني حرية النّقد الدينيّ، وإنما «الحرية الدينية» أصبحت تعني حرية «الاجتهاد»، فهو إذن قام بترجمة هذا المبدأ الليبرالي (الحرية الدينية) إلى المصطلح الأصولي «الاجتهاد»[48].
ومن بعده ذهب الأفغاني إلى حدّ تقريظ التعصّب، مستندًا في ذلك إلى المرجعيّة المحلّيّة متسائلًا: «لماذا يكون «التعصب» مذمومًا بإطلاق؟»، ويعلّق الباحث المغربي علي أومليل، قائلًا: «الأفغاني لا يرى نفسه مقيّدًا بمعنى آخر غير ما يؤدّيه اللفظ العربي، ولهذا فهو لا يحمل معنى مذمومًا في ذاته ما دام التعصب من العصبية أي الوَحدة التي هي مبعث مبادرة الأمة ومدافعة الأجنبي»[49].
ولخير الدين سبب مغايرٌ يبرّر به ضرورة توخّي التّدرّج في تطبيق الحرّية رغم دعوته الحارّة إلى تبنّيها، وهو سببٌ يراعي واقع الوعي والخبرةِ التاريخيّة للأهالي. يقول خير الدّين التّونسي (ت 1889): «من الواجب على مؤسس أصول الحرية السياسية اعتبار حال السكان ومقدار تقدمهم في المعارف ليعلم بذلك متى يسوغ إعطاء الحرية التامة ومتى لا يسوغ، ومتى يعمّم المقدار المعطى في سائر السكان، ومتى يخصّ بمن قامت به شروط معتبرة، ثم توسيع دائرتها بحسب نموّ أسباب التمدّن شيئًا فشيئًا»[50].
وهو موقف لا يناقض إلحاحَه على ضرورة منح الحرية السياسية للأمّة واحتسابها عبر وكلائها على الحكومة، ولا تأكيدَه في وجه المعارضين للإصلاحات أنّ الأمّة ليست «بمثابة الصبي غير الرشيد الذي يلزم التقديم عليه... وهل تتيسر تلك المراعاة [مراعاة مصلحة الأمة] بدون توقع احتساب مؤسّس على الشرع»[51].
أمّا الطّهطاوي فقد حاول التقريب بين مفهوم الحرية الليبرالية ومفاهيم أخرى موروثة في قوله: «وما يسمونه الحرية ويرغبون فيه هو عين ما يطلق عليه عندنا العدل والإنصاف؛ وذلك لأن معنى الحكم بالحرية هو إقامة التساوي في الأحكام والقوانين بحيث لا يجوز [الصواب: لا يجور] الحاكم على إنسان، بل القوانين هي المحكّمة والمعتبرة»[52].
وممّا يؤكّد الأمرين، على تباعدهما، تقريظُ الطهطاوي للعدل والإنصاف عبر بيان فوائده في البلدان الغربية، وتشديده على تلك الفوائد، مشيرًا إلى طابعها البشري الصّرف. يقول الطهطاوي: «وإن كان غالب ما فيه [القانون الذي في الشرطة] ليس في كتاب الله تعالى، ولا في سنة رسوله، لتعرف كيف حكمت عقولهم بأن العدل والإنصاف من أسباب تعمير الممالك وراحة العباد، وكيف انقادت الحكام والرعايا لذلك حتى عمرت بلدانهم، وكثرت معارفهم، وتراكم غناهم، وارتاحت قلوبهم، فلا تسمع فيهم من يشكو ظلمًا أبدًا، والعدل أساس العمران»[53].
فكيف يمكن أن نفهم التّلوينات التي شهدتها أغلبُ المفاهيم الليبرالية الموصولة بمعنى المواطنة (ومنها مفهوم الحرية) في الفكر الإصلاحيّ؟
ينحصر الجواب في ثلاثة عوامل متضافرة:
الأوّل: يرجّح الباحثُ أنّ ذلك يعود أحيانًا إلى عدم إدراك التّاريخ الاجتماعيّ الذي حفّ بنشأة الدولة الوطنية في أوروبا وتطوّرها تطوّرًا ذاتيًّا، وإلى الوقوف «عند أفكار مبتورة مثل: الحرية، العدل، القانون، الدستور... [وهو ما] تتجلى نتائجه في كون هذا الفكر ظل في وادٍ، والحركة الاجتماعيّة في وادٍ آخر»[54].
الثاني: هو عجز المصطلح العربيّ عن استيعاب المصطلح الأوروبيّ الحديث البعيد عن التّصوّرات التّراثيّة، فقد كان المصلح النّهضويّ «يقرأ المصطلح السياسي الحديث بواسطة مفاهيم من المأثور، وقد واجه مشكلًا آخر يتعلّق بجهاز المفاهيم المستعمل، إنه استعمل مفاهيم مثل الحرية، الدستور، المصلحة... إلخ، وهي مفاهيم تحيل كما هو معلوم إلى فكر سياسي حديث قد انفصل عن تراثه الدّينيّ، كما تحيل إلى المجتمع المدني الحديث بمؤسّساته المخصوصة. إن هذه المفاهيم التي آلت إلى مفكري الإصلاح، فكان عليهم أن يجدوا لها المرادف الإسلامي وأن يؤوّلوها، لكنهم لم يجدوا سوى جهاز مفاهيم لم تتخلّص مفاهيمه من دلاليتها الدينية»[55].
الثالث: أنّ السؤال السّابق يضمر مسلّمة مفادها أنّ المجال التّداولي الأوروبيّ أصل والمجال التداولي العربيّ فرع، ولا بدّ أن يكون الثّاني وفيًّا للأوّل. وأغلب الظنّ أنّ المُصلح العربي قد تفطّن إلى أنّ المفاهيم لا تحمل دائمًا وفي كلّ الظروف الدّلالاتِ نفسَها، بل هي تترجم عن غايات متغيّرة بتغيّر السياقات. ولنأخذ على ذلك مثلًا مفاهيم الحرية وحقوق الرّعايا وحكم القانون (والدّساتير)...، فقد اتّخذ وسيلة لابتزاز الأوروبيّين للممالك العربيّة والإسلاميّة في فترتيْ الضّغط والاستعمار المباشر من أجل حماية الجاليات الغربية وتفكيك المجتمع المحلّي. ويصحُّ الأمرُ نفسه عن مبدأ التّسامح المتفرّع عن مبدأ الحرية، فقد استعمل ذريعة للتّخريب الدّاخليّ، وتوهين أسباب التّلاحم بين فئات المجتمع.
ولعلّ في الدّعوة إلى التدرّج في منح الحريّة واعتماد مبدأ الانتخاب عند أغلب المصلحين وخاصّة منهم خير الدين باشا ما يقوم دليلًا على الوعي بما ينبغي مراعاته من فوارق بين السياقات في تطبيق مبادئ الفكر السياسي الحديث وقيمه[56].
ولا علاقة لهذا الموقف بما عبّر عنه مونتسكيو من عنصريّة استعادها روسو وأكّدها، ومفادها: أنّ «الحرية، التي هي ليست ثمرة لجميع المناخات، ليست في متناول جميع الشعوب، وكلّما زاد التأمل في هذا المبدأ الذي وضعه مونتسكيو، كلما زاد الشعور بصحّته»[57].
ﷺ الخاتمــة
نخلص ممّا تقدم إلى أن مفهوم الدّولة قد نشأ في الفكر الإصلاحي نشأة إشكالية، وكان سياق النّهضة والبحث عن سبل تدارك التخلّف إزاء الغرب إطارًا حاضنًا لنشأته. فكان من البداهة أن يتجسّد هذا التوتّر في كيفيّة بلورة مختلف الإشكاليات المتلبّسة بمفهوم الدّولة.
ومن وجوهه الانفتاح على منجزات الفكر الغربي ومؤسّساته حينًا والارتداد إلى المفاهيم التراثيّة حينًا آخر، وهي ظاهرة يقف عليها الدّارس عند المفكّر الواحد، فضلًا عن محاولة التوفيق بين المفهوم الغربيّ والمفهوم التّراثيّ.
وهو أمر يتمّ لسببين متعاكسين حسب اختلاف السّياقات: إمّا لاستمالة المخاطبين المحافظين أو لإقامة الدّليل على أنّ الإسلام وتجربته الحضاريّة يتضمّنان، سلفًا، كلّ ما أبدعه الغرب من أفكار أو نظم أو مؤسّسات... من ذلك مثلًا تقريب مفهوم الديمقراطية من مفهوم الشورى قصد استمالة المحافظين، والتّمكين لهذه الممارسة الحديثة في الحكم نفيًا للاستبداد وللانفراد بالرّأي. أو العمل، في المقابل، على إفراغ بعض المفاهيم والمؤسّسات أحيانًا من مضامينها الأصليّة، فلا يبقى منها سوى الاسم، أمّا المضمون فتراثيّ بحت، كما هو شأن الحريّة الدّينيّة الليبراليّ الذي تمّت المماثلة بينه والمصطلحَ الأصوليّ: «الاجتهاد»، أو كتلك المماثلة التي أجريت بين مؤسّسة البرلمان ومؤسسة أهل الحلّ والعقد... على أنّه من الإنصاف القول: إنّ بعض المصلحين قد أدركوا، مهما كان هذا الإدراك سطحيًّا، أنّ القيم عمومًا ليست مطلقة، بل تخضع لغايات قد يكون باطنها مختلفًا تمام الاختلاف عن ظاهرها.
[1] Encyclopédie Universalis. https://www.universalis.fr/encyclopedie/legitimite. le 12- 01- 2018.
وانظر كذلك: https://www.dictionnaire-juridique.com.: dictionnaire juridique
[2] علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، بيروت: دار المغرب الإسلامي، 1993م، ط5، ص 213.
[3] علي أومليل، الإصلاحية العربية، بيروت - الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي ودار التنوير، 1985م، ط1، ص 15.
[4] المرجع نفسه، ص 16 وما بعدها.
[5] سورة الروم: 30. الآيات التي تتحدث عن الفطرة ومشتقاتها: الإسراء آية 51، طه آية 72، يس آية 22، الزخرف آية 27، الأنبياء آية 56، مريم آية 90، الشورى آية 11، الانفطار آية 1، الأنعام الآيتان 6، 7، الزمر آية 46، الملك آية 3، المزمل آية 18.
[6] علي أومليل، الإصلاحية العربية، مرجع سابق، ص ص 39، 40. يلاحظ أومليل أن الفطرة عند الفلاسفة «هي توافق تام بين الإنسان وما ينبغي أن يكون عليه الإنسان. وما يطرأ عليه بعد ذلك من سلوك لا يوافق هذا الأصل فهو تحريف أطلق عليه اسم «التقليد»» ص 36.
[7] رفاعة الطهطاوي، مناهج الألباب، ضمن الأعمال الكاملة، ج2، تح. محمد عمارة، (بيروت: 1972)، ص 232.
[8] Jeans Jacques Rousseau, Du contrat social, Céres, Tunis, 1994. P16.
[9] Thomas Hobbes, Léviathan. Traité de la matière, de la forme et du pouvoir de la république ecclésiastique et civile (1ère partie), trad. Philippe Folliot. http://perso.wanadoo.fr/philotra/ http://bibliotheque.uqac.uquebec.ca/index.htm. le 17- 01- 2018.
[10] قارن ذلك بربط روسو بين الشرعيّة والتوافق:
«puisque aucun homme n› a une autorité naturelle sur son semblable, et puisque la force ne produit aucun droit, restent donc les conventions pour base de toute autorité légitime parmi les hommes». Jeans Jacques Rousseau, Du contrat social. Opp. Cit. P11.
[11] علال الفاسي، مقاصد الشريعة الإسلامية ومكارمها، ص ص 213-214.
[12] المصدر نفسه، ص 215.
[13] عبد المجيد الشرفي، الإسلام والحداثة، تونس: الدار التونسية للنشر 1991م، ط2، ص 192.
[14] محمد عبده، الإسلام والنصرانية، مع العلم والمدنية، بيروت: دار الحداثة، 1988م، ط3، ص 79.
[15] Jeans Jacques Rousseau, Du contrat social, Céres, Tunis, 1994. P 104.
[16] خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، تح. منصف الشنوفي، تونس - طرابلس: الدار العربية للكتاب 1998م، ص 98.
[17] محمد عبده، الإسلام والنصرانية، ص77، 78.
[18] عبد الله العروي، مفهوم الدولة، الدار البيضاء - بيروت: المركز الثقافي العربي، 2006م، ط8، ص 134.
[19] المرجع نفسه، ص 135.
[20] أحمد بن أبي الضياف، إتحاف أهل الزمان بأخبار ملوك تونس وعهد الأمان، ج1 طبعة تونس 1963- 1966، ص 12.
[21] المرجع نفسه، ص 28.
[22] رفاعة رافع الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، طبعة القاهرة، 1974، ص 229.
[23] رفاعة رافع الطهطاوي، مناهج الألباب، ص 349.
[24] خير الدين التونسي، أقوم المسالك، ص 205.
[25] المصدر نفسه، ص ص 112، 113.
[26] المصدر نفسه، 103.
[27] Déclation des droits de l›homme et du citoyen de 1789. http://www.assemblée-nationale.fr/histoire/dudh/1789.asp
[28] خير الدين التونسي، أقوم المسالك، مصدر سابق، ص 208.
[29] الطهطاوي، مناهج الألباب، ص 349.
[30] نزيه نصيف الأيوبي، الدولة المركزية في مصر، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، 1989، ص14.
[31] خير الدين، أقوم المسالك، ص 205.
[32] المصدر نفسه، ص 220.
[33] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[34] المصدر نفسه، ص 221.
[35] لمزيد التوسّع، انظر:
- Schnapper D, Qu’est-ce que la citoyenneté, Paris, Éditions Gallimard, 2000.
- Anicet Le Pors, La citoyenneté (collection Que sais- je), P.U.F. Paris. 2011. Chap. 4,5,6 pp 55- 92
- Tayeb Bouguerra, «La citoyenneté: sa définition, ses lieux et conditions d’exercice», Tréma, 15 - 16. (Actes du colloque, 4 - 5 décembre 1998) Paris. 1999, 69 - 72.
[36] جميل صليبا، المعجم الفلسفي، بيروت: دار الكتاب اللبناني ومكتبة المدرسة، 1982م، ج2، مادة الوطن، ص 580.
[37] نقلًا عن: عثمان بن صالح العامر، مفهوم المواطنة وعلاقته بالانتماء، مركز آفاق للبحوث والدراسات:
http://aafaqcenter.com/post/743.
[38] علي أومليل، الإصلاحية العربية، ص 98.
[39] المرجع نفسه، ص102.
[40] جمال الدين الأفغاني، الأعمال الكاملة، دار الكتاب، ص 285، نقلًا عن: أومليل، الإصلاحية العربية، ص 103.
[41] نستفيد في مسألة الحريّة من مقال لنا سابق، راجع: التّأويل الإصلاحيّ لمفاهيم النّهضة الغربية: مفهوم الحرية أنموذجًا. المستقبل العربي، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة)، العدد 476، تشرين الأول/ أكتوبر 2018، ص ص 93- 111.
[42] محمد الطاهر بن عاشور، مقاصد الشريعة الإسلامية، ص 131. انظر كذلك قول الطهطاوي: «الحرية من حيث هي رخصة للعمل المباح من دون مانع غير مباح ولا معارض محظور (...) فلا طاقة لقوة بشرية على دفعها بدون أن يعدّ دافعها ظالمًا». رفاعة رافع الطهطاوي، المرشد الأمين للبنات والبنين، (الأعمال الكاملة، تح. محمد عمارة) 5ج، (بيروت 1973)، ج2، ص ص 373، 374.
[43] السيد الفراتي، (عبد الرحمن الكواكبي)، أم القرى (وهو ضبط مفاوضات ومقرّرات مؤتمر النهضة الإسلامية المنعقد في مكة المكرمة سنة 1316هـ)، القاهرة: المطبعة المصرية بالأزهر، 1350هـ/ 1931م، ص 29.
[44] عزت قرني، العدالة والحرية في فجر النهضة العربية الحديثة، سلسلة عالم المعرفة 30، الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، يونيه 1980م، ص 157.
[45] نقلًا عن: ألبرت حوراني، الفكر العربي في عصر النهضة، تر. كريم عزقول، بيروت: دار النهار للنشر، د.ط. د.ت، ص 306.
[46] رفاعة الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، د.ط. القاهرة: مؤسسة هنداوي للتعليم والثقافة، 2012م، ص 116.
[47] المصدر نفسه، الصفحة نفسها.
[48] أومليل، الإصلاحية العربية، ص 116.
[49] المرجع نفسه، ص117.
[50] خير الدين التونسي، أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك، ص158. ويشير التونسي إلى قول مونتسكيو: «إنّا بمقتضى ما نسمعه من أعمال الأمم التي كانت حاصلة على الحرية التامة، نرى أن الحال قد يقتضي إرخاء الستر على الحرية إرخاء وقتيًّا». نفسه، ص227.
[51] المصدر نفسه، ص 159.
[52] الطهطاوي، تخليص الإبريز في تلخيص باريز، ص113.
[53] المصدر نفسه، ص105.
[54] أومليل، الإصلاحية العربية، ص 97.
[55] المرجع نفسه، ص25-26.
[56] المرجع نفسه، ص 107 وما بعده: التسامح.. هل هو مفهوم محايد؟
[57] Jeans Jacques Rousseau, Du contrat social. Op.cit. p 82.