المتلقي وسطوة الإعلام..
من عصر المعلومة إلى دولة الإعلام
الدكتور عبد الفضيل ادراوي*
* كاتب وباحث من المغرب. البريد الإلكتروني: d_abdelfdil2006@hotmail.com
الإعلام ونزوع الهيمنة
مع منتصف القرن الماضي فرض الحديث عن عصر المعلومات وثورة المعلومات نفسه موضوعًا رئيسًا في الدوائر السياسية والثقافية، بسبب الحركة التوسُّعيّة الهائلة التي غدت تميّز الاشتغال الإعلامي، فقد فرض نفسه في الزمن المعاصر قوة إمبراطورية واسعة الأطراف، تمتدّ بامتداد العالم وتراقب حركة الأرض والفضاء جميعًا، حتى دخل العالم برمته عصر
«القرية العالمية» (Global Villaje) الذي تنبَّأ به العالم الكنديّ الشهير مارشال ماكلوهن، فالبشرية في كل المعمورة أضحت تحت نفوذ هذه الإمبراطورية.
وتبعًا لذلك صارت الأوطان والدول إلى حالة (الدولة الإعلامية العالمية الواحدة)، حيث تهدّمت الحدود وتقلّصت المسافات المكانية والزمانية على حدٍّ سواء.
يتمّ ذلك من خلال مؤسسات وهيئات إعلامية عملاقة كشبكات البثّ العالمية (CNN) و(ITN) وغيرهما، وباستخدام تقنيات إعلامية واتصالية قوامها الانفجار التيكنولوجيّ المبهر، بما جعلها قوة خارقة وحاسمة في التأثير والتوجيه والتحكم، حتى قال كلايون جونز بأن «أيّة أمة تحكم الإعلام فإنها تحكم العالم إلى حدٍّ ما»[1].
فقد تحوّل الإعلام تدريجيًّا إلى أحد «الأسلحة المتطورة المعتمدة على ذكاء الكمبيوتر ودهاء الإنسان»[2]، لا يقلّ خطورة وفتكًا عن السلاح التقليدي، بل يتقدّمه ليهيّئ الطريق أمامه، ويوجد الأرضية المناسبة لاستعماله. فبدونه لا يكون «بإمكان الأسلحة التقليدية أن تطلق طلقاتها أو تحلّق بطائراتها»[3]. بل إن «اللغة كثيرًا ما تتصدّر الجيوش في المعارك والحروب»[4].
الإعلام وعناصر التمكين المُمَركز
يتمتّع الخطاب الإعلامي بكل مقوّمات الخطاب الرسمي المهيمن والاستعلائي، بما يستند إليه من عناصر قوة وتمكُّن، ظاهرة وخفيّة. فالإعلام يتّخذ غالبًا صورة الخطاب المركزي أو الرسمي؛ لأنه ينتج في حضن السياسة الرسمية، ويكون على وفاق مع الجهاز الحاكم، ومع مؤسسات الهيمنة الإدارية والتنظيمية، التي تحتاج دائمًا تغطية إعلامية تخصّص لها المؤسسة الإعلامية، وترتبط بالقوى السياسية والاجتماعية المتمكنة من وسائل السلطة ومشمولات الحاكم، تنطق بلسانه وتعبّر عن تطلّعاته وتخدم مصالحه، وتلمع صورته. فهي تعبّر بصدق عن إرادة الهيمنة الرسمية، سعيًا نحو الحفاظ على قداستها، وتمتيعها بمشروعية الاستمرار والبقاء.
ومن بدهي القول: إن السلطة القائمة «تخلق مجموعة من الناس يتحدّثون باسمها، ويعبّرون عن أقوالها»[5]، من كتاب وبلغاء ومنظرين وشعراء وسياسيين ورجال قانون وغيرهم، وقبل ذلك رجال الإعلام والمشتغلون بمؤسساته الرسمية، فهم بداهة «على وفاق مع الدولة، أو في موقع الخدمة لها، أو العمل أداة من أدواتها»[6].
فعبر المؤسسة الإعلامية يُنتَج الخطابُ الإعلاميّ الرسميّ، المنتقى بعناية فائقة، بما يزيد من إمكانات النفوذ السياسيّ، القائم على الإخضاع والتوجيه، والساعي نحو بسط السيطرة وتحقيق الهيمنة أو الإبقاء عليها وإطالة أمدها، عبر محاولة نسج علاقات تواصلية خفية مع الجمهور، ابتغاء النفاذ إلى المشاعر والقلوب، ورجاء إقامة أجواء من الحميمية والإيجابية الموهومة تجاه الآخرين، وربما النيل من بعض الخصوم وتحطيم شخصيتهم[7].
ولا يعزب عن الذهن أن ما تنتجه مؤسسة الإعلام الرسميّ يشكل خطاب المركز، ويتّخذ شكل النموذج الذي له دوره المؤثر والمستوعب لكل فعاليات الكلام والخطابات الأخرى. فهو يفرض قواعد تتعالى في شكل مقاييس وأخلاقيات خاصة، استنادًا إليها تُعطى الشرعية والاعتراف أو تنتزعان عن أي خطاب آخر، قد لا يثبت ولاءه للمركز.
الإعلام وريب الكلمة أو غايات التأثير الخفي
إن المؤسسة الإعلامية المهيمنة «تخلق أدوات رمزية عديدة تختفي وراءها»[8]، وفي مقدّمتها لغة الإقناع الرسمية، فتعبّر عن نفسها بالكيفية التي تريد، وتستغل الطاقات البشرية والمؤسساتية المتاحة، وتقول ما تريد قوله، أيان وحيثما تريد. وقد تتجاوز ذلك إلى انتهاج سبيل العنف والإرغام عبر مقولاتها الكبرى (الماكروفيزيائية) أوالصغرى (الميكروفيزيائية).
يتم ذلك وفق سمت حجاجي يتوسل بـ«مجموع تقنيات الخطاب التي من شأنها أن تبعث على إذعان المتلقين للقضايا التي نعرضها عليهم أو تزيد في درجات هذا الإذعان»[9]، بغاية «التأثير في الإنسان بأن يجد نفسه مدفوعًا إلى العمل أو مهيَّأً لإنجاز عمل محتمل»[10]، والسعي «إلى إحداث أثر في الآخر»[11]، من أجل تغيير طبيعة الاختيارات السلوكية والأخلاقية والعقدية في المجتمع.
في محضر الخطاب الإعلامي إذن نكون معنيين بضرورة التعامل مع اللغة أو الكلمة بوصفها أداة غير بريئة ولا عفوية في التواصل؛ لأنها لا تنفصل عن المنتِج (المؤسسة الإعلامية) ومراميه السياسية الخفية وأغراضه الأيديولوجية المضمرة.
إن السلطة السياسية وقوى الهيمنة والتحكم الإعلامي تختار لغتها الخاصة، وتنتقي أساليبها المؤثرة، ولو اقتضى الأمر التهجين بين خطابات متناقضة يتداخل فيها الديني والدنيوي، والعلمي والخرافي، والمقدّس والمدنّس، والماديّ والغيبيّ... إلخ. فالمهم التأثير الفعّال لتثبيت الهيمنة، واستمرارية الوضع والقبول به، أو على الأقل السهو عنه ونسيانه.
وتتوسّل مؤسسات الإعلام الكبرى باستراتيجيات خطابية نوعية في مقدمتها حجة الجهة أو (أمبراطورية الأنا) وهي حجة صامتة غير معلنة لكنها فاعلة ومؤثرة.
ذلك أن المتلقي لا يملك سوى التقبل والاستجابة، لموقعه (الأدنى) في مقابل (الأعلى)، لأن المؤسسة الإعلامية هي صاحبة الخبر، وهي سيدة المبادرة، والمحددة لطبيعة الخبر أو المادة الإعلامية، فلا فرصة للمتلَقّي لأية مناقشة أو تدخل في المادة المعروضة. فالمؤسسة الإعلامية تبدو مطلعة على كل شيء ولها طرقها الخاصة التي لا مجال للشك فيها أو ردها (حجة السلطة والثقة المزعومة).
بذا يتحقّق نوع ما يمكن نعته بـ«التواصل الأحادي الاتجاه»[12]، الذي يكون فيه المرسِل هو صاحب المبادرة، والآخذ بزمام الأمور، بصفته «المرسل الوحيد»، ينمّق الخطاب، ويرش الحشد بكلام منتقى ومدروس، يخلق قناعات تضمن تحقيق ما سماه بليثب «مقصدية الأثر»[13].
ولعل أبرز تجلّيات نجاح إمبراطورية الإعلام الرسمية، قدرتها على بلورة رأي عام عالميّ (Global Opinion) بشأن الأحداث والقضايا الكبرى، من خلال آلية التكرار، بوساطة التركيز على قضايا ومواقف بعينها، تقدم للمتلقي صباح مساء، بلا ملل ولا كلل، حتى تصبح مألوفة ومقبولة، عملًا بمقولة أحد مديري عمليات الإشهار لمنتوج (كوكا كولا): «إن التكرار بمقدوره أن يوصلنا إلى أيّة غاية، إن قطرة الماء تنتهي إلى اختراق الصخرة، وإذا تمكّنتم من التصويب الموجّه والمحكم، بشكل متواصل ومن دون انقطاع، فإن المسمار حتمًا ينفذ في الرأس»[14].
[1] صحيفة كريستيان ساينس مونيتر، عدد مايو 1991. في تعليق له على مدى نجاح شبكة CNN في توجيه الرأي العام العالمي بما فيه الشعوب الآسيوية (اليابان والصين تحديدًا) بخصوص حرب الخليج ضدًّا على توجهات حكومات هذه الدول.
[2] فضيل الأمين، الإعلام الاسلامي أمام التحدي الإعلامي العالمي، ضمن أعمال ندوة: مستقبل العالم الاسلامي، شيكاغو، منشورات المؤسسة المتحدة للدراسات والبحوث، 1991، ص 43.
[3] المرجع نفسه، ص 43.
[4] انظر: عماد عبد اللطيف، استراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012
[5] أوكان عمر، مدخل لدراسة النص والسلطة، أفريقيا الشرق، ط 2، 1991، ص 124.
[6] جابر عصفور، بلاغة المقموعين، ضمن كتاب جماعي: المجاز والتمثيل في العصور الوسطى، منشورات مجلة ألف، الدار البيضاء: المركز الثقافي العربي، ط2، ص 6.
[7] عماد عبد اللطيف، استراتيجيات الإقناع والتأثير في الخطاب السياسي، (خطب الرئيس السادات نموذجا)، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2012، ص 119-120.
[8] بيير بورديو، الرمز والسلطة، ترجمة: عبد السلام بن عبد العالي، الدار البيضاء، دار توبقال، 1986، ص47.
[9] CH PERLEMAN ET L OLBRECHTS TYTECA; TRAITE DE LARGUMENTATION PRESSES UIVERSITAIRES DE LYON 1981, P. 92.
[10] Ibd, P. 92.
[11] OLERON L argumentation Que sais-je Presses Universtaires de France, Mai 1983 p. 15.
[12] أ. مولز - ك. زيلتمان - ك. أوريكيوني، في التداولية المعاصرة والتواصل، ترجمة وتعليق: محمد نظيف، أفريقيا الشرق، ط.1، 2014، ص 13-14.
[13] هنريش بليث، البلاغة والأسلوبية نحو نموذج سيميائي لتحليل النص، تر. وتع: محمد العمري، إفريقيا الشرق، 1999، ص 22 - 24.
[14] نقلًا عن: محمد الولي، الاستعارة في محطات يونانية وعربية وغربية، الرباط: منشورات دار الأمان، ط2، 2005م، ص 248.