النسويات المسلمات المعاصرات..
اتجاهات وإشكاليات
الدكتورة نادية الشرقاوي*
* باحثة في القضايا النسائية في الإسلام من المغرب، البريد الإلكتروني:
charkaouinadia@hotmail.com
الكتاب: خارج السرب.. بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية.
المؤلف: فهمي جدعان.
الناشر: الشبكة العربية للأبحاث والنشر - بيروت.
الصفحات: 281 صفحة.
سنة النشر: الطبعة الأولى 2010م.
مدخل
بداية لا بد من التنبيه إلى ملاحظة مهمّة تتعلّق بالبحث في حقل النسوية في العالم الإسلامي، وإنتاجات هذا الحقل في الفكر الإسلامي، حيث إن جلّها يفتقر إلى الدراسات الموضوعية الأكثر عمقًا بسبب الأيديولوجيات المتحكّمة في هذا النوع من الدراسات، بين مدافع تقليدي يرفض دون تمحيص كل نقد موجّه للموروث الثقافي، ولا يميّز في دفاعه عن النص بين النص وبين النقد الموجّه للتأويلات والفهوم الناتجة عن قراءة النص؛ لأنه يضعها في منزلة النص المؤسس نفسه.
وبين مهاجم يرفض الانطلاق في معالجة قضايا النساء من داخل منظومة النص المؤسس للإسلام: القرآن والسنة الصحيحة، باعتبارها المسؤول المباشر في تكريس تهميش أدوار النساء والحطّ من كرامتهن.
ولذلك نجد أن معظم القضايا المطروحة للمعالجة لم تصل إلى الحل الشامل لأنها لم تسلك الطريق الصحيح في البحث العلمي الجاد الذي يتجاوز الأيديولوجيات.
واختيارنا لكتاب المفكّر فهمي جدعان «خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية»، يرجع لأهميته في الساحة الفكرية، فهو كتاب يخرج عن المألوف ليشكّل إضافة نوعية للباحثين في هذا المجال.
هذا الكتاب الفريد والغني بمعلوماته، مؤلّفه رمز من رموز الفكر الإسلامي الحديث هو المفكّر الدكتور فهمي جدعان، له مكانة خاصة، وصاحب مؤلّفات متعدّدة تحظى بالاحترام والتقدير، وتلقّى الكثير من الاهتمام الخاص عند القارئ العربي لجديتها وملامستها للواقع.
الدكتور فهمي جدعان مفكّر فلسطيني، درس في السوربون الفرنسية وحصل على شهادة دكتوراه الدولة في الآداب قسم الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام عام 1968، شغل عدّة وظائف في جامعات عربية ودولية، وحاز على جوائز دولية عدّة، من أهم مؤلّفاته: «أسس التقدُّم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث» 1979، «نظرية التراث» 1985، «المحنة: بحث في جدلية الديني والسياسي في الإسلام» 1989، «الطريق إلى المستقبل.. أفكار - قوى للأزمنة العربية المنظورة» 1996، «الماضي في الحاضر.. دراسات في تشكُّلات ومسالك التجربة الفكرية العربية» 1997م، كما أسهم في مجموعة من الكتب منها «نحو عقلية إسلامية مُتفتِّحة» 1987م، وفي العديد من الكتب باللغة الفرنسية، ونشر العديد من الأبحاث والمقالات، وساهم في العديد من المؤتمرات والندوات العلمية.
يعدّ كتاب: «خارج السرب: بحث في النسوية الإسلامية الرافضة وإغراءات الحرية»، من المؤلّفات المهمة في موضوعه، ويتضمَّن مقدّمة الطبعة الأولى والثانية وستّة فصول، مذيّلة بالحواشي في آخر كل فصل، بالإضافة إلى فهرس الأعلام ومراجع البحث الأساسية.
وللإشارة فالمدّة التي فصلت بين الطبعة الأولى والطبعة الثانية لم تكن سوى سنتين فقط «2010-2012» لنفاذ نسخه، وهذا دليل على نجاح الكتاب وحاجة المثقّف إليه.
كما تبرز ملاحظة في غاية الأهمية، من خلال الاطّلاع على هذا الكتاب تعطي قيمة مضافة للكتاب، تتعلّق بتنوُّع المصادر المعتمدة والثقافة الموسوعية للمؤلّف من حيث اطّلاعه بلغات مختلفة منها الفرنسية والعربية والألمانية، وهذا دليل على الجهد الكبير الذي بذله المؤلّف لملامسة الأمور من مصادرها وأصولها.
تحدّث المؤلّف في مجموع كتابه عن ستة فصول هي: الفصل الأول: في النسوية الإسلامية، الفصل الثاني: مرافعة امرأة غاضبة، الفصل الثالث: قفص العذارى، الفصل الرابع: تلفزيون شاذ واجتهاد مسلمة حرّة، الفصل الخامس: العروس الغربية والأنا الطاردة، الفصل السادس: معركة التنوير.
الإطار العام للكتاب
يحقّ لنا أن نطرح تساؤلًا مهمًّا للكشف عن علاقة هذا الكتاب بباقي مؤلّفات المفكّر فهمي جدعان: فهل يشكّل هذا الكتاب بالنسبة للكاتب خروجًا عن مسيرته الفكرية؟ أم أنه يدخل في صميم ما يؤسّس له المؤلّف ويدخل ضمن خريطته الفكرية؟
وجوابًا عن هذا التساؤل المهمّ وبتتبُّع مجموع مؤلّفات المفكّر فهمي جدعان التي انطلقت من سنة 1968م، والتي ذكر بعضها في مقدّمة الطبعة الثانية، نلاحظ أن هذا المؤلّف لا يخرج عن الإطار النظري الذي يؤمن به الدكتور جدعان، ويؤسّس له من خلال محاور أساسية ثلاثة يعتمدها في كتبه لتشكّل بناءً متكاملًا في معالجة القضايا الراهنة وتقديم البدائل الممكنة وهي:
أولًا: نظرية التراث.
ثانيًا: أسس التقدُّم.
ثالثًا: أفق الخلاص.
محتوى الكتاب: المقدّمات
يشير فهمي جدعان في مقدّمة الطبعة الأولى إلى سبب التأليف الذي دفعه لنسج خيوط هذا المؤلّف في النسوية الإسلامية، وقد صاغ ذلك في شكل سؤال في غاية الأهمية هو: «ما الذي جعلني أذهب إلى دراسة أعمال امرأة صومالية تزعم أنها لا تتحدّث إلَّا باسم الهولندية التي في داخلها، وأخرى بنغلاديشية شاردة أو مشرّدة في الآفاق، وثالثة أوغندية ذات أصول هندية أو باكستانية أفضى بها الترحال إلى تلفزيون شاذ في مقاطعة كندية، ورابعة تركية ذات أرومة قوقازية بات الاندماج الألماني ديدنها، أليس ثمّة نساء عربيات جديرات بأن يتوجّه النظر إلى مراجعة أعمالهن الفكرية وتحقيق الصلة بينها وبين قضايا العالم العربي ومصيره؟».
إذا وقفنا عند هذا السؤال نفهم أن اهتمام المؤلّف متوقّف عند أربعة نماذج نسائية تنتمي للجغرافية نفسها لكنها اختارت أن تعيش «الحرية» في جغرافية ثانية، وفي مقابل ذلك يعدنا بتقديم نماذج مقابلة بديلة تختلف عن النماذج المختارة في الطريقة، وإن كانت تشترك معها في الهدف المحدّد الذي هو خدمة قضايا العالم العربي ومصيره والبحث عن حلول ممكنة لتجاوز العقبات الموجودة.
فهل هذه النماذج البديلة فعلًا حقّقت الهدف المطلوب؟
في النسوية الإسلامية
بداية يعرّف فهمي جدعان النسوية الإسلامية فيقول: «هي تشكّل مساءلة النص عند نفر من المسلمات لا ينتمين إلى ما أسمته بعضهن الإسلام العربي، وإنما ينتمين إلى شعوب إسلامية غير عربية، ونشطن في بيئاتهن الأصلية أو في بيئات غربية، انتقلن إليها أو هاجرن إليها راغبات أو مكرهات وثمّة بكل تأكيد من بينهن رائدات عربيات. فالنسوية الإسلامية باختصار منطلقها: الإسلام، ومنهجها: إعادة القراءة والتأويل، وهدفها: إنجاز قراءة نسوية جديدة للإسلام».
لتوطئة الحديث عن النماذج الأربعة التي شكّلت النسوية الرافضة، استوقفنا المؤلّف في الفصل الأول مع النماذج التي تمثّل النسوية الإسلامية التأويلية، وعلى رأسها: أسماء بارلاس صاحبة كتاب: «المؤمنات في الإسلام Believing Women in Islam».
يمتدّ هذا الفصل ويناقش موضوع «النسوية الإسلامية» التي ظهرت في نظر المؤلّف نتيجة أمرين اثنين:
الأمر الأول: الحداثة الغربية وقيمها الجوهرية: «الحرية وحقوق الإنسان» التي شكّلت حراكًا إنسانيًّا عميقًا حتى في المجتمعات التقليدية، وطرحت أسئلة حول مشكل المرأة وعلاقة ذلك بالإسلام وأحكامه وتعاليمه.
الأمر الثاني: مسألة النص الديني الخاص بالمرأة وتوظيف الاجتهاد لرفع المظاهر غير العقلانية عن التراث الديني، وتقريب أحكام النصوص من المعطيات والحساسية الحديثة.
ويوضّح لنا المؤلّف الأسباب التي كانت وراء ظهور الحركة النسوية الإسلامية، ويبيّن منهجية العمل في هذه الحركة، والهدف المسطّر والمتمثّل في: «قراءة جديدة للإسلام وفق منظور نسوي»، فيقول: «ولا يستثنى من هذه النسوية عربيات مفكّرات أو مثقّفات أكاديميات في العلوم الإنسانية والاجتماعية، في أعمال هؤلاء تشكّلت حركة: النسوية الإسلامية الحقيقية، التي تجعل الإسلام نفسه منطلقًا ومرجعية أولية لها، وتوجّه عملها -وفق منهج إعادة القراءة أو التأويل- للنصوص الدينية وللتاريخ الإسلامي، من أجل إنجاز قراءة جديدة للإسلام وفق منظور نسوي، يؤكّدن جميعًا أنه منظور قرآني وإسلامي» (الصفحة 24-25).
فهذه النسوية الإسلامية كما وجدت في الفضاء الغربي للحرية مجالًا واسعًا، وجدت أيضًا مسلمات مهاجرات يحملن أفكارًا وتقاليد من البيئة الأصلية وخبرات مكتسبة من انخراطهن في الحياة الجديدة، فتشكّلت لديهن نسوية رافضة لجملة التراث الثقافي الذي نشأن عليه، ومسوّغة بموقف غاضب ذي متعلّقات لاهوتية أو فلسفية، يسمّيها المؤلّف: «النسوية الإسلامية الرافضة».
ويمثّل المؤلّف لهذه النسوية الإسلامية الرافضة بأربعة نماذج هي: البنغلاديشية تسليمة نسرين ذات الجنسية السويدية، الصومالية أيان حرسي علي ذات الجنسية الهولندية، الأوغندية إرشاد منجي ذات الجنسية الكندية، والتركية نجلاء كيليك ذات الجنسية الألمانية.
هذه الأسماء الأربعة مع أنها هي موضوع المؤلّف، لكنه فضّل أن يقدّم لتأليفه بأرضية وصفية للوضعية الفكرية التي تشكّل طبيعة موضوع المرأة في الفكر الإسلامي والعربي الموروث بين ثلاثة أحوال: المنظور السلفي، والمنظور الإصلاحي، والمنظور التأويلي النسوي.
هدف المؤلّف كما وضّح ذلك، لم يكن هو الخوض في وجوه الاختلاف الذي لحق بأمر النساء وحفلت به التجربة الإسلامية التاريخية، بقدر ما كان هدفه إبراز الأسباب الفكرية التي أفرزت هذا الاتجاه، حيث قدّم أمثلة من النصوص الدينية التي تقف عندها النسوية الإسلامية وتدعو إلى إعادة تأويلها، ومن ذلك آية: القوامة والطلاق والتعدّد وأحاديث الطاعة والولاية...
ويشير جدعان في الوقت نفسه إلى مجموعة من الأسماء النسويات اللواتي بحثن في هذا الموضوع، منهن فاطمة المرنيسي في كتاباتها بما سمّته بالحركة النسوية الثورية والتي مثلت لها بثلاث شخصيات نسائية رائدة: أم سلمة والسيدة عائشة وسكينة بنت الحسين، ومنهن ليلى أحمد التي ركّزت على إبراز المظاهر الحادّة للنزعة الأبوية البطريركية في تأريخها لقضية المرأة في الإسلام بدءًا من عصر الوحي حتى العصر الحديث.
ويرى جدعان أن «في جميع الأشكال النسوية يمثّل دين الإسلام طرفًا أساسيًّا مركزيًّا، إذ إن لجميع القضايا التي أتيت على ذكرها، وعرض لها النسويون والنسويات مدخلًا في الشريعة: التمييز الجنسي، وحقوق النساء، وحرية النساء، لذا يبدو أن القضية النسوية في هذه الفضاءات هي قضية نسوية إسلامية قبل أن تكون قضية نسوية بإطلاق» (الصفحة 35).
وفي سياق حديثه عن النسوية الإسلامية يقدّم المؤلّف تعريفًا لـ«النسوية الرافضة» في مقابل باقي النسويات، فبحسب المؤلّف النسوية الرافضة هي حركة تنهض في وجه النسوية الإصلاحية والنسوية التأويلية كلتيهما، وتذهب بعيدًا في موقفها من النصوص الدينية ومن الفلسفة اللاهوتية أو الكلامية التي تستند إليها هذه النصوص.
ويبيّن المؤلّف من خلال عرضه أن تيار «النسوية الإسلامية»[1] قد تبلور مفهومه في عام 2006 من خلال مؤتمر اليونسكو بباريس حول «النسوية الإسلامية»[2] الذي ناقش الموضوع والمنهج والهدف، فالموضوع هو مناقشة أوضاع المرأة ونضالها في وجه النظام الأبوي (البطريركي)، وكل أشكال التفاوت وعدم المساواة بين الرجل والمرأة وكذا حقوق النساء.
أما المنهج الذي تبنته أولاء النسويات المشاركات فهو الدعوة إلى الرجوع إلى القرآن، وإعادة قراءة تفسير النصوص الدينية الإسلامية وتأويلها، والهدف هو تبيّن خطأ القراءة التقليدية الذكورية للقرآن، وعدم مشروعية استبعاد النساء من المجالات الدينية والعامة ومن فضاء الديمقراطية، والنهوض بحقوق النساء وتعزيز مبدأ المساواة ومكافحة مبدأ التمييز بين الجنسين.
هؤلاء النسويات اتّفقن بداية في مؤتمر برشلونة[3] الذي عقد في أكتوبر 2005م على جملة واحدة هي: «ليس الإسلام هو الذي يضطهد النساء، وإنما القراءة الذكورية له هي التي تفعل ذلك» (الصفحة 39)، وخرجن من هذا المؤتمر بمجموعة من النتائج، منها:
1- الأديان لا تضطهد المرأة.
2- القرآن يتضمّن مبدأ المساواة بين الرجال والنساء.
3- القرآن لا يقيم تمييزًا أنطولوجيًّا بين الرجل والمرأة.
4- حق النساء جزء من الحقوق الإنسانية التي تسعى إلى تعزيز حرية الدين والتعبير والعمل والتعلّم والعيش بأمن وسلام.
يشير المؤلّف تمثّلًا لهذه النزعة إلى مجموعة من الباحثين والباحثات، مثل: فاطمة المرنيسي وطارق رمضان وأمنية ودود وأسماء بارلاس ورفعت حسن، ويقف عند كل واحد منهم، ففاطمة المرنيسي في كتاباتها الجريئة التي تعتمد المقاربة الاجتماعية في منهجها التأويلي تنطلق من الأسس التالية:
1- الانطلاق من مرجعية الإسلام نفسه وتاريخه.
2- إعادة قراءة السيرة النبوية في سياقها التاريخي والاجتماعي والسياسي.
3- مراجعة جميع الأحاديث التي جاءت في شأن النساء.
4- إبراز الأدوار المشخّصة الحية للنساء في المجال العام، ونقض الخليفة الثاني عمر بن الخطاب ومن بعده من الفقهاء لهذه الأدوار.
أما طارق رمضان فبوصفه مهتمًّا بمسألة الاندماج في البيئة الثقافة الغربية، يحاول أن يوفّق بين مطالب الحداثة الأوروبية والتعاليم الإسلامية دون مخالفة الأصول النصية، ويدعو إلى إعادة النظر وطلب التدقيق في بعض الأمور لطالما دافع العلماء عن شرعيتها الدينية، بسبب القراءة الحرفية أو التقليدية للأصول الدينية، الأمر الذي يتطلّب في نظره الانفتاح على التأويل.
ويناقش طارق رمضان موضوع المرأة من خلال ثلاثة محاور، هي:
أولًا: تبدُّل مفهوم المرأة، من المرأة الأم والزوجة والطفلة، إلى المرأة الإنسان من جهة وجودها ونفسيتها وروحانيتها.
ثانيًا: مشاركة النساء في الخطاب الإصلاحي المعاصر، نقد التأويلات الفاسدة واستخدام الهوامش التأويلية التي تستخدمها النصوص.
ثالثًا: الاعتراف بالشخوص (الظهور الضروري) للنساء في المساجد والمؤتمرات والجامعة والفضاء العام.
وتختلف التأويلية الإسلامية من الفضاء الأوروبي إلى القارة الأمريكية، فأمينة ودود أكثر النسويات جرأة وإقدامًا بما أحدثته في العالم حين أقدمت على «إمامة الرجال والنساء»، ويبيًن المؤلّف مسألة مهمّة بهذا الخصوص، وهي أن هذه الواقعة لم تكن الأولى في التاريخ، فبعض فرق الخوارج انفردوا بفتوى جواز خلافة المرأة، وهنا نشير إلى أن اختلاف المذاهب العقدية أو الفقهية له دور كبير في اختلاف التعامل والتعاطي مع الأحداث.
ويشير المؤلّف هنا إلى المنطلقات المسوّغة التي دفعت أمينة ودود إلى هذا الفعل، وهما:
1- حرية المرأة وحقّها في تفسير النصوص الدينية، وانتزاع هذا الحق من العلماء والفقهاء الذكوريين.
2- الاقتناع أن القرآن نفسه يقرّ مبدأ التمييز الجنسي بين المرأة والرجل.
أما أسماء بارلاس الوجه النسوي التأويلي المرموق صاحبة كتاب: «المؤمنات في الإسلام»، فهي تسعى إلى إعادة قراءة الموقف القرآني في قضايا متنوّعة، لتبيّن أن معانيه تؤكّد المساواة التامّة بين الجنسين، معتمدة على منهجية تأويلية أو هيرمينوطيقية مشتقّة من القرآن مضادّة لمنهج التفسير التقليدي القائم على قراءة خطية تقارب القرآن آية آية.
فأسماء بارلاس توضّح الإبستيمولوجيا والمنهج وطريقة قراءة القرآن بما هي مقدّمات للنظر في قضايا المرأة المختلفة، وفي تأويل النصوص المتعلّقة بها تأويلًا يعزّز مبادئ المساواة والتحرير والأساس المضادّ للبطريركية المزعومة في القرآن.
ويعتبر المؤلّف نموذج المشهد النسوي التأويلي الإسلامي «رفعت حسن» النموذج الأكثر اكتمالًا وثراءَ، باعتبارها نهضت في وجه التمييز بين الرجل والمرأة والنزعة البطريركية والقراءة الذكورية للنص الديني، والتقاليد غير العادلة السائدة في المجتمعات الإسلامية، فضلًا عن نقد بعض الأصول غير القرآنية التي وجّهت ثقافة المسلمين ونظرتهم إلى المرأة.
وترى رفعت حسن أن التمييز الذي تعاني منه المرأة المسلمة مردّه إلى ثلاثة مزاعم:
أولًا: الاعتقاد أن أول المخلوقات من البشر هو آدم، وأن حواء خلقت بعد ذلك من ضلع رجل هو آدم.
ثانيًا: الاعتقاد بأن حواء كانت العامل الأول في خطيئة الرجل وفي طرده من الجنة.
ثالثًا: أن المرأة لم تخلق من الرجل فقط وإنما خلقت للرجل.
وتدحض رفعت حسن هذه المزاعم الثلاثة بثلاثة أمور:
1- الزعم الأول لا وجود له في القرآن وإنما جاء في سفر التكوين، فالقرآن لا يذكر حواء، وبحسب القرآن خلق الله الرجل والمرأة معًا.
2- أما الزعم الثاني فلا يذكر القرآن أن حواء أغوت آدم، وفكرة «عصيان آدم» ليست آتية من مفهوم الخطيئة وفقًا للقرآن، وإنما من الوضع الأولي للإنسان، ومن حرية الإرادة التي تجعله ذا كفاية في الشك والعصيان.
3- أما الزعم الثالث فالمرأة لم تخلق لخدمة الرجل وتلبية رغباته، والأمر ينعكس، فكلاهما خُلقا لعبادة الله، وكلاهما مدعوان على قدر المساواة ليكونا مؤمنين صالحين.
في نهاية هذا الفصل يختم المؤلّف بدراسة قامت بها مارغو بدران الأستاذة بمركز الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي المسيحي بجامعة جورج تاون، وهذا الحديث الذي ساقه المؤلّف عن مارغو بدران هنا يلخّص لنا الستين صفحة من الفصل الأول، جمعت فيها الوجوه البارزة للنسوية الإسلامية الضاربة في نهج التفسير أو التأويل، مستحضرة جغرافية المثال الجديد في النسوية الإسلامية (إيران، جنوب إفريقيا، أمريكا الشمالية)، وتدحض مارغو بادران دعوى مناهضي الحركة النسوية الإسلامية الذين يدَّعون أن هذه الحركة صنعها الغرب بغرض إلحاق الضرر الفادح بالإسلام والمجتمع الإسلامي، إلَّا أن حقيقتها هي تحقيق العدالة الاجتماعية في فضاء الأمة الإسلامية والإسهام في تشكيل غرب أكثر عدالة وإنصاف وتعددية.
كما أنها تستقصي الفلسفة التي تقوم عليها النسوية الإسلامية والمتمثّلة في خمس نقاط مهمّة، هي:
أولًا: تجديد فهم النصوص القرآنية وفق منهج الهيرمينوطيقا القرآنية المعزّز لمبدأ المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة.
ثانيًا: الدور التقدُّمي للنساء في الحياة الاجتماعية والسياسية، وتأكيد حق المرأة في الاجتهاد وفي إنتاج تفسير جديد في شأن العلاقة بين الجنسين.
ثالثًا: تأسيس المساواة بين الجنسين على مبدأي الخلافة والتوحيد.
رابعًا: اعتماد مبدأ الحماية المتبادلة أو الدعم أو التعضيد المتبادل.
خامسًا: مبدأ جهاد الجنوسة، ومعناه دخول النساء إلى فضاءات المجال العام، وإلى المسجد وممارسة جميع الأنشطة المتعلّقة بهذه الفضاءات.
تسليمة نسرين أو مرافعة امرأة غاضبة
تسليمة نسرين أو «امرأة غاضبة» كما سمّاها المؤلّف، هي أول مثال ساقه المؤلّف للنسوية الرافضة، وبكلمات تعبّر عن طبيعة غضبها يفتتح الفصل الثاني بصوتها قائلة: «أستطيع أن أقول: إنني منذ سنّ السادسة قد أدركت قسوة هذا العالم، هذا العالم الذي لا يوجد فيه شيء أعظم شقاء من أن يحيا إنسان ما حياة امرأة»[4].
بين فهوم الإصلاحيين التقليدية والمنظور التأويلي النسوي المجاوز لفهوم الإصلاحيين والحافظ لمكانة وقدسية النص الديني، ظهرت الحرية في أشدّ أشكالها عنفوانًا وحدّة مع فئة «النسوية الرافضة»، حيث اتّجهت هذه الفئة إلى الاستقلال المطلق والنقد الجذري والتحرّر من كل سلطةّ، وبقدر ما تحمله هذه الحرية لهذه النسوية من الجذب والإغراءات فهي تحمل أيضًا بعض المخاطر، فإذا كان همّ «النسوية الإسلامية» هو «إصلاح الإسلام» أو بمعنى آخر حسب المؤلّف «علمانية صريحة»، فالنسوية الرافضة همُّها «رفض الأساس الميتافيزيقي أو اللاهوتي الذي يقوم عليه الإسلام»[5].
في سياق الحديث عن تسليمة نسرين ارتأى المؤلّف أن يقف وقفة مع بعض الأحداث التي أجّجت موضوع الإسلاموفوبيا في الغرب وفي فرنسا بالذات، والتي ترتّب عنها إصدار قرار حظر الرموز الدينية خصوصًا «الحجاب»، ومع بعض الكتابات النقدية التي تبيّن بعض الممارسات التعسفية للرجل على المرأة المسلمة، فكان أول ظهور لمجموعة «النسوية الرافضة» أو «نسوية الرفض الإسلامي»، بعد إصدار مجلة شارلي إيبدو «بيان الاثني عشر»[6] الذي دعا إلى التعميم الكوني لحرية التعبير، وذلك بعد الرسوم الدانمركية المسيئة لرسول الإسلام.
تؤكّد تسليمة نسرين أن البيئة التي نشأت فيها، هي التي دفعتها إلى اتّخاذ هذا الموقف من الدين والمجتمع والدولة وإلى التشدُّد في الرؤية النقدية وتعميق النزعة الدونية لديها، وذلك حسب ما دوّنته في سيرتها الذاتية «طفولة في صيغة المؤنث»، والتي جعلتها تفكّر في مجموعة من الأسئلة المربكة عن المجتمع البنغالي الذي تنتمي إليه ولم تجد لها جوابًا في طفولتها، بخصوص سلطة الرجل، الحجاب التعدُّد، الطلاق، توزيع الإرث، الشهادة...
كتاباتها كانت مناهضة لما تسمّيه «الهذيان الديني» بلغة عنيفة وساخطة ولسان مقذع، ويوضّح المؤلّف هذا الاتجاه الذي تمثّله تسليمة نسرين مع رفيقاتها بقوله: «كانت نسوية تسليمة نسرين متجذّرة في تجليات الدين في الحياة الاجتماعية اليومية، وفي استخدام الأصوليين الإسلاميين للدين في حراكهم الاجتماعي والسياسي وفي منظورهم الديني أو الدنيوي للنساء، هذا المنظور الصادر عند تسليمة نسرين، عن طبيعة الدين نفسه وماهيته، وفق ما تمثّله من المعطيات الواقعية ومن طريقتها في فهم النصوص» (الصفحة: 97).
يقدّم لنا المؤلّف مجموعة من الأفكار التي تؤمن بها تسليمة نسرين في منهجها الرافض، فهي تنتقد النصوص الحديثية وتعتبرها مسيئة لإنسانية المرأة وكرامتها، وتدعو إلى تحطيم قيود الدين والمجتمع الذي يمارس السلطة لاضطهاد المرأة، وتعتبر الزواج بمثابة الرقّ الشرعي الذي يمنح سلطة للرجل على المرأة بامتلاكه حقّ الطلاق وحقّ الزواج بأربع نساء وحقّ الضرب، وأن مدوّنة الأحوال الشخصية هي نصّ تمييزي يكرّس اللامساواة الاجتماعية، والحجاب ما هو إلَّا خطاب يحجب المرأة عن الفضاء الخارجي، كما تدعو إلى إلغاء التفاوت بين الرجال والنساء في الإرث، وتعتبر أن هذا التمييز هو السبب في خلق مواطنات من الدرجة الثانية.
كما أنها تُحمِّل الدين مسؤولية التعاظم والتفاوت الموجود بين الرجال والنساء، وتعتبره مضادًّا للمساواة، وما دامت الدولة والمجتمع متواطئان معه فجذور الظلم لا يمكن أن يوضع لها حدّ.
هذه الأفكار التي تنادي بها تسليمة نسرين تعكس النزعة الماركسية التي تشبَّعت بها من خلال قراءات كثيرة لمنظري المذهب الاشتراكي، أمثال لينين وجوركي وغيرهما.
وتؤكّد تسليمة نسرين وتيرة الاحتجاج والنقد والغضب في وجه الدين والمجتمع والدولة في كتابها: «امرأة شابّة غاضبة»، وتُحمِّل هذا الثالوث المقدَّس معاناة ومحنة المرأة البنغالية.
لم تقف بها هذه الأفكار ذات النزعة الماركسية عند هذه الحدود، بل وصلت بها إلى بوابة الإلحاد، حيث أصبح موقفها العقدي واضحًا من خلال النقد الحادّ لتوجهات الإسلام، وتصرّح تسليمة نسرين بذلك علانية فتقول: «إنني لا أؤمن أبدًا بما يذهب إليه أولئك الذين يدافعون عن هذه الفكرة، وأنا أعتقد خلافًا لذلك، أنه طالما كان الدين ماثلًا فسيكون ثمّة أصولية، الاثنان مترابطان» (الصفحة: 106).
ونجد ذلك واضحًا في مجموع أشعارها، التي عبّرت من خلالها رفضها للمجتمع الذي نشأت فيه بلغة عنيفة طالت كل أشكال المقدّس حتى نبي الإسلام ونسائه، ومن تلك العناوين: «حياة أخرى»، «نساء: أشعار حب ونضال»، «سيرة ذاتية»، وهي في هذا الأمر تحاكي سلمان رشدي صاحب «آيات شيطانية» الذي كانت إلى جانبه في توقيع بيان «الاثني عشر».
ولتدافع عن موقفها نشرت أرقامًا تزكّي إلحادها وتبيّن أن عدد اللادينيين غير يسير، وهو عدد يشكّك المؤلّف في صحّته وفي مدى استيثاقه.
لكن تبقى مشكلة تسليمة نسرين الكبيرة مع الدين تظهر في شكل دفاع عن حقوق النساء، إذ تَعُد كل الأديان بلا استثناء معادية للحرية ولحقوق النساء، ولا تعترف بقوة الدين بقدر ما تعدّه وسيلةً وسلاحًا في أيدي الحكام من أجل بقاء الشعوب في حالة جهل.
أيان حرسي علي: قفص العذارى
أيان حرسي علي هي ثاني نموذج للنسوية الرافضة التي تعرّض لها المؤلّف قائلًا عنها: إن «طموحها الحقيقي أن تكون فولتير الإسلام وأن تهاجم الدين وتسحق الدجال، كانت فعلًا تريد أن تستفزّ، هكذا وصفها البروفيسور أفشين إيليان».
بعيدًا عن الصومال بلدها الأصلي اختارت أيان حرسي علي أن تقود معركتها من أوروبا وبالضبط من هولندا، ظهر حقدها على الإسلام من خلال سيناريو وحوار فيلم قصير كتبته بعنوان: «الخضوع»، ومن خلال سيرتها الذاتية المعنونة بـ«على سلم العذاب»، لتعلن عداوتها صراحة للإسلام فتقول: «فكرتي المركزية هي أن الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية معاديان للنساء».
تميّزت طفولتها بالاضطراب، فقد عاشت حياة مليئة بالصدمات، رأت فيها خنوع وطاعة الأم، ولامبالاة وخيانة الأب، هذه الحياة خلقت لديها نفورًا من الدين، فكان نقدها للإسلام والمسلمين ولنبي الإسلام والقرآن راديكاليًّا وعنيفًا، استطاعت أن تصل إلى هولندا، البلد الذي تراه «بلد الحرية والاستقلال الذاتي والفكر النقدي والديمقراطية، بلد سبينوزا» (الصفحة 123).
نجحت أيان في أن تحصل على الجنسية الهولندية، وبدعم حزبها السياسي صارت نجمًا في وسائل الإعلام المقروءة والمسموعة والمرئية، عبّرت من خلال موقعها السياسي عن راديكالياتها في نقد الدين الإسلامي باللجوء إلى العنف اللفظي، وإلى التكنولوجيا الموجّهة لصدم المخيلة بالصور والأصوات بالإساءة إلى الذات الإلهية والصلاة والآيات القرآنية، ووضع علاقة الله بالإنسان موضع شك.
يؤكّد المؤلّف اضطراب أقوالها في الكثير ممّا تدعيه بشأن وجود الله والعالم الآخر، فقد أظهرت إلحادها مباشرة بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر، وزعمت أن هذه الأحداث كانت السبب المباشر وراء إلحادها، كما أنها زعمت أنها مارست بعض النشاط في صفوف الإخوان المسلمين في الصومال وكينيا، وهو ادّعاء غير صحيح حسب المؤلّف، فقد أكّدت في سيرتها الذاتية التي كتبتها أنها منذ أكثر من أربع سنوات اكتشفت نفسها ملحدة، وكان ذلك مباشرة بعد قراءة الصفحات الأولى لكتاب: «البيان الإلحادي» في سنة 2002.
تعتقد بإلحادها أنه جاء دور الإسلام لكي يوضع على المحك، مثلما حصل للمسيحية مع سبينوزا في نقده للمسيحية، على حدِّ فهمها السطحي لعلاقة سبينوزا بعلاقة العقلانية بين وجود الله وعدمه.
يرى فيها أفشين إيليان أنها المرأة التي ستنقذ الحضارة الإسلامية، معتبرًا أن «الحل للمشكلة الإسلامية هو في أن يأتي فولتير مسلم أو نيتشه مسلم، أي أفراد مثلنا نحن الزنادقة: أنا وسلمان رشدي وأيان حرسي علي» (الصفحة: 126).
تنسب أيان حرسي علي نفسها إلى الموجة النسوية الثالثة التي ترفض أن تناضل باسم الله أو باسم دين الإسلام، ولهذا نجد فهمي جدعان يركّز على نسف الأسس الفكرية التي تنطلق منها، خصوصًا فيما تستدل به في خطاباتها المنسوبة إلى فلاسفة الغرب فهي شواهد محدودة ومبسترة، بحيث لا تحتفظ من الفلاسفة إلَّا بالنقد السبينوزي والفولتيري لليهودية والمسيحية، وفيما يخصّ النصوص الدينية في الإسلام فهي تعتمد الإسلام الشعبي والأسطوري الإفريقي أو الإسلام الوهابي أو الإسلام الواقعي الماثل عند المهاجرين، ولا تطلب التحقّق من دلالات النصوص الدينية أو الاجتهاد في فهم المشكل منها.
ويسطّر المؤلّف بعض المقدّمات المنهجية في المقاربة التي تعتمدها أيان حرسي، ليتبيّن من خلالها أن النسوية التي تتعلّق بها أيان حرسي لا تعني أبدًا «إعادة قراءة الإسلام» والاجتهاد في تأويل نصوصه، وإنما هي «نسوية انقلابية رافضة» تصدر عن عقل وجداني مأزوم، ومن هذه المقدمات:
أولًا: استخدام حق الحرية في الفضاء الغربي وبمباركة النظام السياسي الغربي.
ثانيًا: التحرّر من الرقابة الدينية أو الإلهية ومتعلقاتها الدنيوية والأخروية.
ثالثًا: اعتبار القرآن لا يتعدّى أن يكون وثيقة تاريخية من صنع الإنسان.
رابعًا: دين الإسلام دين اضطهاد وقمع وحظر للفكر النقدي وعائق للتقدّم الاجتماعي للرجال والنساء.
خامسًا: اعتماد خطاب عاصف استفزازي حادّ وساخر للتغيير.
سادسًا: الإيمان بعلمانية المجتمع والدولة.
سابعا: المبدأ والمنتهى هو الأنا الفردي والجماعة المتفرّدة.
انتهازية أيان حرسي التي حوّلتها إلى هولندية تحمل قبعة الشوفينية اليمينية الهولندية، أتاحت لها أن تثأر لنفسها من كل صدماتها لكنها جعلت منها ضحية لهذه الحرية، فهي تفسّر تخلّف عالم الإسلام عن الغرب بثلاثة عناصر:
1- علاقة الفرد بربّه علاقة خوف وطاعة مطلقة.
2- الإسلام لا يعرف إلَّا مصدرًا مرجعيًّا واحدًا وهو النبي.
3- الأخلاق الجنسية المستمدة من القيم القبلية هي المتحكّمة في وضع المرأة، وأن الماهية النسوية تتمثّل تحديدًا في البكارة والعذرية.
هذه النقاط الثلاث وخصوصًا النقطة الأخيرة المتمثّلة في انتقادها للأخلاق الجنسية، تعكس تجربتها الشخصية مع المسكوت عنه الذي أرادت أن تحوّله إلى واقع طبيعي ومشروع، وهو الأمر الذي أكّده المؤلّف وشدّد عليه من خلال المحاور التالية:
أولًا: إبراز نقدها اللاذع للدين الإسلامي وبيان مظاهر الكراهية والقسوة والغضب والتحامل التي تصبّها على هذا الدين، حتى أنها وصفت نبي الإسلام بكثير من الأوصاف الشاذّة، وفي هذا السياق يقول المؤلّف: «أن نسوية الرفض عند أيان حرسي علي تتفجّر على نحو غير عادي عند مسألة دقيقة حادّة، ذات رجع خاص عندها بكل تأكيد، هي مسألة العفّة الجنسية الإسلامية المتمثّلة في البكارة، وفي العذرية في الحياة الجنسية قبل الزواج، وقد يتبيّن المدقّق هنا في ألفاظها وعباراتها وطريقة مقاربتها، بل عيشها للمسألة، أعراض عقدة متجذّرة في أناها العميق، هي عقدة البكارة والعذرية» (الصفحة 138).
ثانيًا: إيمانها الشديد بأن الغرب هو وحده الذي يقدّم سياقًا للحرية حتى أنها صارت تقدّم نفسها واحدة من الغرب، ليس أمرًا مطلقًا فحتى هولندا التي تحتضنها وتدعمها جرّدتها بعض الوقت من هذه الجنسية (الصفحة 146).
ثالثًا: زعمها أنه ليس ثمّة إلَّا إسلام واحد، وأن الإسلام لم يعرف إلَّا القراءة الوهابية وإقصاؤها لباقي التفسيرات والتأويلات، فيه تهميش لكثير من التأويلات والتفسيرات الموجودة في الفكر الإسلامي.
رابعًا: تبرهن بكل يقين على أنها تتقن فن الكذب من خلال إنكارها لدور صدمات طفولتها ومشكلات حياتها الأسرية وعلاقتها بأمها وأبيها وأختها...
هذه هي معركة أيان حرسي واضحة بيّنة: عداء شرس للإسلام، ولكل أشكال التسامح والتهاون باسم التعدّدية الثقافية، وتنكُّر للمجتمع الذي نشأت فيه، ورفض تام لكل ما له علاقة بالخالق.
إرشاد منجي مسلمة حرة: تلفزيون شاذ واجتهاد
إرشاد منجي وجه آخر من أوغندا، تلقَّت تعليمها بداية في مدرسة مسيحية ثم التحقت بمدرسة دينية تقليدية إسلامية، مثّلت لها هذه الأخيرة صدمة عنيفة قبالة المدرسة المسيحية المتسامحة، تساؤلاتها واحتجاجاتها كانا سببًا في طردها من المدرسة، فكان لذلك وقع كبير عليها حتى كادت تخرج من دائرة الإيمان الإسلامي لولا مقاومتها، وشقّ الطريق للتعرّف إلى الإسلام من وجهة نظر خاصة واجتهاد فردي.
أشرفت على برنامج خاص في تلفزيون شاذّ في تورنتو في كندا، وأنتجت أفلامًا سينمائية عن حياة المثليين في العالم الإسلامي، كما أنتجت فيلمًا وثائقيًّا عن «الإسلاموية» أو الإسلام الأصولي، وكانت ضمن مجموعة الموقّعين في «بيان الاثني عشر» إلى جانب سلمان رشدي وأيان حرسي علي وتسليمة نسرين.
ترأست حركة «مسلمة رافضة» (Muslim Refuznik)، لها كتاب بعنوان: «The Trouble with Islam Today» صدر في عام 2003، ونُقِلَ إلى لغات عدّة وأثار جدلًا واسعًا في أنحاء مختلفة من العالم.
تضع إرشاد منجي نفسها في دائرة الإصلاح الإسلامي الليبرالي، وعلى رأس القضايا التي تثيرها «نقد النص القرآني»، وتطلق أسئلة كبيرة حول «تناقضات القرآن»، استعملت في ذلك لغة ساخرة بإسراف ينفر منها عموم المسلمين، ومع أنها تظلّ متمسّكة بانتمائها إلى الإسلام إلَّا أنها تحمل حملة شعواء على ما تسمّيه «إسلام الصحراء».
اشتهرت كنسوية، وصرّحت بشذوذها الجنسي، ودافعت عن المثلية والمثليين المسلمين والسحاقيات المسلمات، واعتبرتها قضيتها المركزية، حاولت أن تجد لذلك سندًا وحجّة من القرآن الكريم، ولذلك تقول: «لقد جاء في القرآن أن التنوّع هبة مباركة للطبيعة فما الخطب إذن؟» (الصفحة 161).
لماذا تُجلد امرأة مغتصبة؟! لماذا يحظر القرآن على المرأة أن تؤمَّ الصلاة؟ ماذا يمكن أن يقال في شأن التمايز بين الرجل والمرأة؟ وأيّهما خلق الله أولًا: آدم أم حواء؟
هذه هي التساؤلات التي تطرحها وتناقشها إرشاد منجي، لتستنتج أن: «القرآن ليس مساواتيًّا على نحو بديهي بالنسبة للمرأة، وهو ليس بديهيًّا في شيء، اللهم إلَّا أن يكون ذلك في طابعه الملغز»، وتضيف: «إن المسلمين هم الذين يصدرون صكوك الغفران باسم الله، والقرارات التي نتّخذها على أساس القرآن لا تُملى علينا من السماء ولكن نتّخذها نحن بملء إرادتنا الإنسانية» (الصفحة 163).
ينطوي المشروع الليبرالي الذي تدعو إليه إرشاد منجي في شأن المرأة على وجهين: الأول نقدي راديكالي، والثاني بنائي تأسيسي تسمّيه «عملية اجتهادية»، تبدأ من قدرات النساء المسلمات على ممارسة الأعمال التجارية بحيث تتحوّل قيمة الشرف إلى قيمة الكرامة، ففي ذلك يكمن الإصلاح العملي للإسلام، وتستشهد بنموذج السيدة خديجة زوجة الرسول الأولى.
تؤكّد إرشاد منجي أن تفسيرها الخاص للقرآن يقودها إلى ثلاث رسائل:
الأولى: أن الله وحده يعلم حقيقة كل شيء علم اليقين.
الثانية: أن الله وحده يحاسب غير المؤمنين، ويوفق بين الاختلافات في النصوص.
الثالثة: أن إنسانيتنا تجعلنا أحرارًا في التعامل مع مشيئة الله دون قسر على اتّباع منهج مفروض.
في الأخير يلخّص فهمي جدعان عمل إرشاد منجي الاجتهادي فيقول: «يظهر بوضوح أن عملية الاجتهاد التغييرية التي تقودها إرشاد منجي، تهجر هجرًا تامًّا التفسير الحرفي للقرآن وتتَّجه صوب التفكير الحرّ فيه، وذلك لتقويض الإسلام القبلي ذي الأسس البدوية العربية، وتنقية السجل البائس للعالم الإسلامي في مجال حقوق الإنسان، الذي يشمل حقوق المرأة» (الصفحة 172).
نجلاء كيليك، العروس الغريبة والأنا الطاردة
«أيًّا ما كانت الرسالة الإسلامية جميلة، فإن الإسلام ينطلق من المبدأ القائل: إن الإنسانية لا تتكوّن إلَّا من الرجال، أما النساء فإنهن لسن جزءًا من الإنسانية، لا بل إنهن يشكلن تهديدًا لها» (الصفحة 177).
نجلاء كيليك تركية الأصل ألمانية الإقامة، نشأت في أسرة شديدة القسوة تمارس شعائر الإسلام باعتبارها جزءًا من الثقافة، تقول نجلاء: «لم يكن والديَّ أبدًا مسلمين ملتزمين، وقد أصبح نمط حياتهما في إسطنبول أقرب إلى أن يكون غربيًّا، لم تضع أمي حجابًا أبدًا، ولم يخطر لها ذلك ببال... كنا نحتفي بشهر رمضان ويروق لنا الصيام فيه، وكنا نحتفل بعيد الأضحى مثلما يُحتفل في ألمانيا بالأعياد المسيحية، لأن ذلك جزء من الثقافة» (الصفحة 179).
انخرطت نجلاء في الحياة الألمانية منذ الطفولة، وخلال الثمانية أعوام الأولى من الإقامة ساء حال الأسرة، وتخلَّى الأب عن مسؤوليته عائدًا إلى تركيا.
انتفضت على قانون الأسرة ورفضت الالتزام بالتقاليد وأصبحت ثورية متحمّسة للماركسية، عملت قطيعة مع والدها؛ لأنها كانت تعتبره سبب شقائها، وكتبت سيرتها الذاتية في كتاب سمته: «الأبناء الضالون: مرافعة من أجل تحرير الرجل المسلم»، تستحضر فيه علاقتها بوالدتها التي كانت دائمًا في موقع ضعف، وعلاقتها بوالدها الذي كان شديد التسلُّط والقسوة.
في بحثها عن الحرية بدأت نجلاء تثير الكثير من الأسئلة، وتضع العادات والأعراف القديمة المرتبطة بالعقيدة الإسلامية موضع شك، وتعيش الحرية في شكلها في الحياة الغربية، عرضت في كتابها «العروس الغريبة» مسارها الجديد في البحث عن قضايا الأقلية التركية المسلمة في ألمانيا، ومسألة اندماج الأتراك المسلمين المطلق في المجتمع الألماني بقيمه الحداثية، بنقد جارح للأخلاق والعادات والتقاليد التركية-الإسلامية.
تنطوي أبحاث نجلاء كيليك من خلال كتابيها على أطروحة مركزية تحكم العملين، وهي أن الصعوبة في الاندماج آتية من الثقافة ومن الدين، ولأن هذين مضادان لقيم الأنوار والحداثة فإنه يتعذّر تمامًا إدراك الاندماج إذا لم تتمّ زعزعة قواعد هذين الأصلين، إن لم نقل: تدمير هذين الأصلين، فالثقافة والدين مضادّان لقيم الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، وأحد الأمثلة التي تستشهد بها على هذه الحالة، العروس المستوردة التي تمّ تزويجها بزواج قسري أو بزواج مدبّر عائليًّا.
وتستقصي نجلاء حالات عديدة لنساء أو فتيات تركيات مسلمات ومهاجرات تكتنف حياتهن هذه الأوضاع الكارثية التي وصفتها في كتابها، وفي الوقت نفسه تطرح نجلاء أسئلة كثيرة حول الحجاب، معتبرة أن فرضية الحجاب كانت لأسباب خاصة، فأصبح مفتاحًا رمزيًّا للثقافة الإسلامية، وإجراء لحماية النساء من التعدّي الجنسي للرجال.
ويلخّص المؤلّف ما يتعلّق بنجلاء كيليك في آخر الفصل، ويبيّن أن المسلك الذي نهجته أكبر سماته الغلو والتحيّز للأنا وأنه منهج لا يخلو من الشطط فيقول: «ومثلما هي حال النسويات الرافضات، فإن سمة الغلو تلحق برؤى نجلاء كيليك ومواقفها على وجه العموم... ثم إن نجلاء كيليك في جملة عروضها وتحليلاتها تهمل إهمالًا كاملًا معاندة بلد الهجرة لآمال ومطامح ورغبات وحاجات المهاجرين الذين ترتضيهم على أرضها... فضلًا عن أشكال التمييز التي يلقونها في الحياة اليومية وفي العمل».
معركة التنوير
في آخر فصل من الكتاب يعرض المؤلّف مجموعة من الاستنتاجات من خلال تتبّعه للنماذج الأربعة التي عرضها، وهذه مجموع النقاط المهمّة التي تحدّد شكل النسوية الرافضة:
1- هاجس «إصلاح الإسلام» عند النسوية الرافضة هو المسوّغ الأوحد في هذه التجارب، منطلقه المساءلة والنقد حتى في المسكوت عنه، لتوسيع فضاءات الحرية التي يشرعها عالم الغرب.
2- تصريح رموز النسوية الرافضة بأن فضاءات الغرب الإنسانية أتاح لهن مساءلة المقدّس ومحاورته، والدخول في حالة سجال.
3- لا تفصل هؤلاء النسويات بين دين الإسلام وثقافة المسلمين، فالطريق إلى تحرير المرأة من المظالم والقيود هو إصلاح الإسلام نفسه.
4- مواطن «الخلل» التي تزعمها النسوية الرافضة لا تتطلّب بذل جهود مضنية لإبانتها وتوضيحها، فقد تمّ تداولها قديمًا قدم الإسلام، وتناولها الكثير من المستشرقين المحدثين والباحثين المعاصرين الذين انكبّوا على دراسة الإسلام.
5- ما تنظر إليه «النسوية الرافضة» بكثير من الرفض، تعتبره «الإصلاحية الإسلامية» مجرّد شبه تلحق بقراءة النص الديني أو الواقع المعيشي، وتحتاج إلى تفسير وفق منهج التسويغ والتخريج دون مساس بصدقية النص الديني وبالأسس اللاهوتية والفلسفية التي يستند إليها، أما السلفية أو الاتّباعية الإسلامية فتتعلّق بمنهج التسليم بما جاء من غير جدال.
6- خروج «نسويات الرفض» عن هذين المنظورين برغم زعمهن أنهن ينشدن «تأويل الإسلام» غير صحيح؛ إذ إن هذا النوع من التأويل لا يوجد إلَّا عند إرشاد منجي، أما تسليمة نسرين وأيان حرسي ونجلاء كيليك فيستند منهجهن في الإصلاح إلى إحداث انقلاب حقيقي: علمانية إنسانية عند تسليمة نسرين، ومساءلة الدين وحلّ العقدة الجنسية عند أيان حرسي علي، ونقد الدين والثقافة والنزعة الأبوية عند نجلاء كيليك.
7- بسبب الحساسية المفرطة عندهن وبسبب الخبرات الذاتية السيئة، يغلب على النسوية الرافضة في الاحتجاج على أحكام الدين، الإفراط الانفعالي عن طريق الاستفزاز المرّ أو السخرية الجارحة من أجل الدفاع عن حقوق النساء، واستعمال العنف اللفظي حتى في حقّ المقدّس الإسلامي: الله والنبي والقرآن.
هذا ملخّص ما دوَّنه الدكتور فهمي جدعان بكل جرأة عن الحركة النسوية المنتمية إلى العالم الإسلامي في جغرافية الغرب، وهي توضّح كثيرًا من وجوه ردود الأفعال التي تواجهها نسوية العالم الإسلامي، التي تحارب وتهمش نتاجاتها الفكرية بسبب الخلط الموجود بين هذا النوع من النسوية المنطلقة من المنظومة الفكرية للإسلام وبين النسوية الرافضة لكل ما له علاقة بالإسلام، حتى أن كل التّهم التي يوجّهها المهاجمون للإنتاج النسوي منطلقها حكمهم المطلق المستمد من الحكم على النسوية الرافضة التي تخدم أجندات غربية، ويدعمها الغرب في وقت معيّن لأنها تعلن رفضها صراحة للدين الإسلامي ولا تجعله مرجعية لها.
فهذا الكتاب يشكّل في إطاره العام رؤية نقدية لمجموعة من النسويات اللواتي اخترن أن يغرِّدن خارج البيئة التي نشأن فيها أو خارج السرب، مثلما اختار المؤلّف أن يعبّر عن ذلك بذكاء، تمثيلًا منه لسرب الطيور الذي يرمز إلى الجماعة، فالذي يخرج من الجماعة من الطبيعي أَلَّا يستوعب معاناتهم ولا يعيش همومهم، وبالأحرى أن يجد لهم حلولًا.
والمفروض من الذي يريد أن يقدّم حلولًا للجماعة أن يكون من بني جلدتهم، وأن يعيش معهم الهمّ ولا يهرب من الواقع وينقلب عليه، فهذه ليست إلَّا حالة اليائس الذي يختار الخروج من الدائرة، ويتمرّد على التاريخ والبيئة، وتمرّده لم يمنعه من السقوط في فخّ التيه والمعاناة، فكونهن متمرّدات ورافضات لمجتمعاتهن، ويعتبرن أنفسهن ضحايا مجتمع متخلّف لم يمنعهن ذلك من أن يسقطن بفكرهن الشاذّ ضحية مجتمع آخر يغري بشعار الحرية والتحرّر.
وهنا نؤكّد نجاح المؤلّف في عملية التوصيف والتمييز التي سطرها في مؤلّفه، فتقييم المؤلّف لاتجاهات النسوية في محلّه، ينبني على أسس علمية ومقدّمات منهجية ونتائج صحيحة، حيث وضع المؤلّف قلمه على التصنيفات بدقّة المفكّر المستوعب للقضية التي يتعامل معها، وجمع المشترك، وميّز بين الفوارق.
ولا يمكن بعد الانتهاء من قراءة هذا الكتاب المهمّ أن نخرج بنموذج واحد للحركة النسائية الإسلامية؛ لأن المنطلقات والدوافع تختلف، والأهداف تختلف، وبطبيعة الحال فالمناهج تختلف بين التشدّد والوسطية في تثبت الرؤية الصحيحة.
[1] النسوية الإسلامية كمصطلح يرجع إلى عام 1992 بطهران مع مقالات الصحيفة النسائية Zanan (نساء)، التي كانت تشرف عليها شهلا شركت، وتشارك فيها كل من: زيبا مير حسيني وأفسانه نجما باده.
[2] كان من بين المشاركات الراحلة المغربية فاطمة المرنيسي، والباكستانية رفعت حسن، والإيرانية زيبا مير حسيني، والباكستانية أسماء بارلاس.
[3] شارك في هذا المؤتمر أربعمائة عضو من نساء السنغال وباكستان وإندونيسيا وإيران والمغرب وماليزيا وفرنسا وأمريكا.
[4] الصفحة 85، مقتبس من كتاب: طفولة في صيغة المؤنث، لتسليمة نسرين.
[5] الصفحة: 87.
[6] بيان الاثني عشر: معًا في وجه التوتاليتارية، نشر هذا العدد مارس عام 2006، كان من بين الموقعين تسليمة نسرين، أيان حرسي علي، إرشاد منجي، سلمان رشدي.