شعار الموقع

مجلة الكلمة بعد ربع قرن .. البصيرة والمكانة الآمنة

عبدالفضيل إدراوي 2020-04-27
عدد القراءات « 606 »

مجلة الكلمة بعد ربع قرن..

البصيرة والمكانة الآمنة

الدكتور عبدالفضيل ادراوي*

 

* باحث من المغرب، نشر أبحاث عدّة في مجلة الكلمة، البريد الإلكتروني:

d_abdelfdil2006@hotmail.com

 

 

تعدّ مجلة (الكلمة) من المنابر الفكرية الرصينة التي شقّت طريقها بثبات خلال العقد الأخير من عصرنا الحديث، واستطاعت أن تغرس جذورها عميقًا في تربة الحقل الفكري والثقافي، لتمتدَّ أغصانها باسقة مخضرّة أوراقها، وارفة الظلال بفائدتها ونفعها العام، وبمعارفها الخصبة الآمنة والهادفة المتحرّكة على امتداد مساحة حركة الإنسان العربي والمسلم.

حتى غدت من الدوريات الفكرية الموثوقة والغنية، التي يترقّب المتتبّع المهتمّ بالشأن الثقافي صدورها، ويتحيّن ظهورها في الأكشاك والمكتبات ومواقع الشبكة العنكبوتية، ويبحث جاهدًا متحمّسًا بشغف عن أعدادها السابقة هنا وهناك، لمراجعة مقال أو دراسة أو كلمة أو مضمون كتاب أو ملخَّص ندوة...

والحق، إن هذه المكانة الآمنة لمجلة (الكلمة) ما كان يمكن تحصيلها عبثًا أو صدفةً، لولا الرؤية الواضحة والاستراتيجية الفكرية الصادقة لدى فريق إدارة المجلة، تلكم الاستراتيجية التي تؤمن بالإنسان الكونيّ، وتتغيَّا تحقيق التواصل مع قارئ مفترض هو القارئ العام، الذي لا يفرّط في إنسانيته، ولا يتخلّى عن أقدس حقوقه الفطرية، وهي حقّه في الاختلاف والتميّز عن الغير.

خاصة في واقع حضاريّ محتدم، أصبح فيه الإعلام قوة إمبراطورية واسعة الأطراف، تمتدّ امتداد العالم وتراقب حركة الأرض والفضاء جميعًا، حتى دخل العالم برمته عصر «القرية العالمية» (Global Villaje)، وفي ظل تسابق إعلامي متصاعد وتنافس لم يسبق له مثيل، في نشر المعرفة وتوزيع المعلومة، والتفنن في تعليبها (Emballaje) وتقديمها للقارئ، لصياغة الوعي وتنميطه، وقولبة شرائح كبيرة من الناس، سعيًا نحو الأخذ بنواصيهم، وربح اصطفافاتهم مع هذه الجبهة أو تلك.

الكلمة والفكر الباني

لقد آمنت إدارة مجلة (الكلمة) أن الإعلام أداة من أقوى أدوات الاتصال الحديثة التي يجب أن تنخرط فعليًّا في مساعدة القارئ العربي المسلم على مسايرة متطلّبات العصر، والتفاعل مع الأفكار والتصوّرات والأحداث، ومنحه القدرة على فهمها في سياقاتها وأطرها الكبرى.

لذا كانت مجلة (الكلمة)على امتداد المرحلة الزمنية التي انتظمت صدورها واعية برسالتها الإنسانية المتمثّلة في العمل على صناعة الرأي العام صناعة بناء لا صناعة هدم وخراب، والانخراط الجاد في تغيير المفاهيم الخاطئة، ومواجهة القيم السلبية وتعويضها بأخرى بديلة تؤسّس لثقافة الاعتراف وتنمّي أخلاقيات التسامح، التي قوامها الإيمان بهوية جامعة تعترف بالاختلاف، وتسلّم بخصوصية الآخر واستقلاليته المعرفية والعقدية والثقافية، من دون اشتراط تماهيه مع الأنا أو إلغاء تفاصيل الغيرية فيه.

لقد جسّدت (الكلمة) بموضوعاتها المتنوّعة ومجالاتها الرحبة، وبأقلام كتّابها الذين لم تُقم إدارة تحرير المجلة محاكم تفتيش فكرية أو مذهبية أو عقدية أو طائفية ضيقة ضدهم، ولم تبحث في أوطانهم أو جغرافيات حياتهم الخاصة، بقدر ما نظرت الى إنتاجاتهم الإنسانية المفيدة للبشرية، والمغنية لحقول المعرفة والفكر ومجالات الاجتهاد البشري والنظريات المعرفية المختلفة، الممتدة امتداد القيمة الإنسانية الفسيحة، التي تتجاوز النظرة التقزيمية الاستصغارية التي ترى في الإنسان مجرّد جرم صغير، إلى النظر إليه موجودًا مقدّسًا، فيه ينطوي العالم الأكبر، باهتماماته الفلسفية والعلمية والأدبية والروحية والفيزيولوجية والمادية الطبيعية والاجتماعية والتاريخية والتربوية والقانونية والسياسية والفنية والأخلاقية والترفيهية، التنظيرية والتطبيقية، وغيرها.

هذا الأمر هو ما يفسّر انفتاح المجلة على مشارب معرفية وتخصّصات متباينة قد تبدو متباعدة أحيانًا، لأن ما يجمعها هو الاعتراف بطاقات الإنسان الخلاقة والإيمان بأبعاده اللامتناهية.

منبر رسالة الوحدة

على نقيض كثير من الأقلام والمنابر الإعلامية الهدّامة، التي تعجّ بها الساحة والتي ما فتئت تشحذ كل طاقاتها، وتسخّر كل ما أوتيت من قدرات وإمكانات لإثارة الفتن، والهجوم على الآخر المغاير، من الطوائف الأخرى، ومن الأديان والمذاهب المخالفة، بما لا فائدة ترجى منه للأمة، سوى تغذية عواطف الكراهية والحقد ورفع منسوب العدائية للآخر، من أبناء البشرية النظراء في الخلق والإنسانية، ومن أبناء الأمة الواحدة المتآخين في الدين، وربما من أبناء الأسرة الواحدة، ومن أبناء الرحم الواحد أحيانًا.

على نقيض كل ذلك، اختارت مجلة (الكلمة) أن تُموضع نفسها ضمن جبهة واضحة المعالم ومعلنة الأهداف، وهي جبهة ما يعرف بالفكر والإعلام المستنير، الذي يستشعر مسؤولية البناء الحضاريّ والنهوض برسالة التكامل البشريّ، ووظيفة إسعاد الإنسانية لعمارة الأرض وتحقيق غائية الاستخلاف في الأرض.

وهي جبهة الفكر الذي يحمل على عاتقه تحصين جسم الأمة الواحدة من عوامل التفرقة والتشتيت، والتصدي لكل مقدّمات الهدم والتخريب، من خلال اختيار خطاب الوحدة والتآزر والتعاون، والانفتاح على الآخر، وتسليط الضوء على الجوانب المضيئة لديه، واستغلال مكامن القوة ومواطن اللقاء والتلاقي، وأسباب التعارف والتجاسر بين الجميع.

كل ذلك عبر فسح المجال لأقلام كتّاب من أجيال مختلفة، ومن تخصّصات تكاد لا تنتهي تعدّدًا وتنوّعًا، يجمعها البحث في الكونيّ والإيمان بالمشترك الإنسانيّ، وتتعالى على سفاسف الأمور، وتترفّع بمسؤولية وقرار مسبق على سياسة استغلال (مسمار جحى) لتوسيع هوّة الخلاف وتمديد مساحة التباعد.

تم ذلك عبر التركيز على تقديم دراسات ومقالات وكتب وندوات ومؤتمرات بديلة، نابذة للعنف والكراهية، ومتعالية على نشوة الاختلاف المرضيّ، وعاملة على تفعيل خطاب التسامح والتعارف والوحدة والاتحاد في ظل الحضن الإنسانيّ والأخوة الآدمية، واحترام الأديان والمعتقدات والأفكار والتوجهات والمذاهب، وعدم الاستسلام للأفكار الجاهزة وللقناعات المسبقة والمعلّبة، والعمل على تأمين سبل الحصانة الفكرية والمعرفية والعقدية الصحيحة، والاجتهاد في سبيل إيجاد أفكار توفّر البيئة المناسبة للحماية الذاتية، وسبل التهذيب الأخلاقي الذي يرتقي بصاحبه إلى مقامات الترفع عن المهاترات وظلمات التنابز المقيت.

الكلمة والفكر الأصيل

تمثّل مجلة (الكلمة) بحق منهج الفكر الأصيل من خلال تبنّيها استراتيجية المنهج الثقافيّ العمليّ، القائم على الاعتقاد السليم بأصالة الحاجة إلى التدين في الإنسان، وأنها حاجات فطرية لا يمكن تجاهلها أو التنكّر لها في التعامل مع الإنسان والتواصل معه.

لذلك أعلنت عنايتها بقضايا الفكر الإسلامي وما يرتبط بشؤون الأمة ومستلزمات البناء الحضاريّ والتطوير الفكريّ والمعرفيّ، الذي لا يفرّط في أسبقية العقيدة والتهذيب الأخلاقي للفرد والأسرة والمجتمع، ولا يسمح بالترويج للنظريات والأفكار التي قد تمسّ بهذه الحاجة الدفينة في الفرد، أو تسهم في تشويهها أو حرفها عن معناها الحقيقيّ.

وتبعًا لذلك انفتحت مجلة (الكلمة) على عديد الكتاب الذين لا يُخفون منطلقاتِهم الإسلامية الواضحة، ولا يتحرّجون من اعتماد المنظور الديني الإسلامي في مقاربة الواقع والنظر إلى الأشياء، ومعالجة الإشكالات الإنسانية الراهنة.

وفي هذا الصدد لا يخفى مدى احتفاء المجلة الخاص بفكر مدرسة أهل البيت (عليهم السلام)، ومدرسة الدين المحمديّ الأصيل، الصراط المستقيم والسبيل الحق، وبوصفه الأرضية الصلبة، والمساحة الواسعة الممتدة التي تتّسع للكونيّ والعام وتُؤَمّن للجميع مكانته الطبيعية، وبوصفه المنهج الرباني الذي يبقى المنهج الوحيانيّ الوحيد والأقدر دون سواه، على توفير الإجابات المقنعة لكل من يحترم عقلة ووجدانه السليم، ولكل مهموم بشؤون التكامل في سلّم الحضارة والرقيّ، بالنسبة إلى الفرد والمجتمع على حد سواء، وعلى كل الأصعدة الماديّة منها والمعنويّة، استنادًا الى الشعار القرآني الخالد: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِين}، واستنادًا إلى التوجيه النبويّ المعصوم: «تَرَكْتُ فيكُم مَا إِنْ تَمَسَّكْتُم بِه لَنْ تَضِلُّوا بَعْدي أبدًا؛ كتاَبَ اللَّهِ وعِتْرَتِي أَهْلَ بَيْتِي».

لذلك كانت مجلة (الكلمة) معنيّة بفسح المجال لكتّاب كثر من العالمين العربي والإسلامي لطرح فكر مدرسة أهل البيت بشكل علمي أكاديميّ متخصّص، وبطريقة منضبطة لقواعد الحكمة والموعظة الحسنة، بما يؤسّس لمجتمع متعارف يتحقّق فيه التواصل المعرفي الخلَّاق، وبما يكون مصداقًا لمجتمع المودة والإنسانية الصادقة، المؤسّسة على قواعد المعرفة الحقّة والتنوّع البنّاء والفائدة العميمة.