شعار الموقع

أدب المناظرات واستراتيجيا الخطاب ..

علي بن مبارك 2020-04-27
عدد القراءات « 643 »

أدب المناظرات واستراتيجيا الخطاب..

قراءة في مناظرات سعيد بن حداد مع الدعاة الفاطميين
من خلال كتاب «رياض النفوس»

الدكتور علي بن مبارك*

*         جامعي تونسي متخصّص في الحضارة الحديثة، البريد الإلكتروني:

benmbarek.alii@yahoo.fr

 

 

 

مدخل

ليس من اليسير أن نتعمّق في أدب المناظرات وشروط قيام هذا الجنس الخطابيّ التواصليّ المتجذّر في التراث الإسلامي، فقد حاول فريق من القدامى والمحدثين[1] تناول هذا المشغل، ولأنّ المقام لا يسمح لنا بالتعمّق فإننا سنكتفي بالإشارة إلى حدوث انزياح خطير على مستوى فهم المناظرات الإسلامية وإفهامها للاحقين والتأسيس لها في العصور المتأخّرة.

لقد شدّ انتباهنا ما حفّ بمصطلح مناظرة (مفرد مناظرات) من دلالات لغوية توحي بالوصل لا بالفصل وبالتعدّد لا بالإقصاء، وفي ذلك جاء في «لسان العرب» «تناظرت النخلتان نظرت الأنثى منهما إلى الفحّال فلم ينفعها تلقيح حتى تلقح».

وهذا يرمي بنا على مستوى الثقافة الموسوعية في مجال الخصب والتزاوج، وهو مجال حيويّ تفاعلي يقوم أساسًا على التكامل والتعاون والتعارف، ولذلك دلّت «النظرة» عند ابن منظور على «الرحمة»، وأحال التناظر عنده على «التراوض في الأمر ونظيرك: الذي يراوضك وتناظره، وناظره من المناظرة»[2].

ويبدو أنّنا كلّما تقدّمنا زمنيًّا في تاريخ الحضارة الإسلامية، ابتعدنا عن هذه الدلالات اللّغوية وتشكّلت دلالات حافّة أصبحت عبر العصور دلالات قارة لا تُنَازع، واقترب مفهوم المناظرة من مفاهيم أخرى من قبيل الجدل المطارحة والخلاف والعراك... وارتبط هذا المصطلح على مستوى الذّاكرات المذهبية بمعطيات أخرى، من قبيل التعصّب والغلوّ والإقصاء والتكفير والصراع والإقناع والاحتواء...

ولا بدّ أن ننبّه في هذا السياق إلى أنّ الثقافة الإسلامية حاولت ترسيخ تقليد يتعلّق بالمناظرات وآدابها، وسارت القيروان المسير ذاته فاحتضنت الجميع واستقطبت علماء كلّ الفرق والمجموعات الإسلامية الكلامية والفقهية والصوفية.

ولقد حدّثنا الخشني[3] في طبقاته عن مناظرات أقيمت في مدينة القيروان حول قضايا كلامية مختلفة، من قبيل الأسماء والصفات والوعد والوعيد والقضاء والقدر، وكانت هذه المناظرات الكلامية والفقهية المتعدّدة تقام في قصور الأمراء وفي البيوت.

إذ أخبرنا ابن الأبار في «الحلة السيراء»[4]، أنّ إبراهيم الثاني الأغلبي[5] كان ينظّم المناظرات، وكذلك تناظر الأحناف والمالكيين تحت رعاية زيادة الله الأول فيما يتعلّق بحكم شرب الخمر، ولقد نقلت لنا كتب تراث القيروان أنّ بعض العلماء كانوا ينظّمون الندوات في بيوتهم كما هو حال عبد الله بن طالب القاضي (ت: 275هـ/ 889م)، إذ نقل الخشني أنّه كان «يجمع بين أهل المناظرة في مجلسه وربما أباتهم عند نفسه»[6].

وإنّما سردنا بعض ملامح تقليد المناظرات في القيروان، لنؤكّد أنّ مناظرات سعيد بن الحداد مع الفاطميين لم تكن حالة استثنائية حتّمتها ظروف «الحرب المذهبية» التي أعلنها الفاطميون فيما ذكرت الذاكرة السنية، بل لا نبالغ إذا ذهبنا إلى أنّ سعيد بن الحداد استفاد من هذا التقليد في مناظراته من حيث الاستعداد النفسي والخلقي والمعرفي، ومن حيث بناء الخطاب وكيفية تشكيل صورة ذاته وذات «المخالف» فيه.

ولئن أفادت بعض القرائن (سنقف عندها لاحقًا) بأنّ مجالس الفاطميين وحلقاتهم كما يسمّيها محمد اليعلاوي[7]، جاءت أساسًا للتعرّف على تصوّرات علماء القيروان وتمثّلاتهم، ممّا يفسّر كثرة استفسارات الداعية الفاطمي بطريقة يتمرّد فيها أحيانًا على قواعد المحادثة[8] ومنطق تسلسل الكلام في الخطاب.

فإنّ النصوص اللاحقة كما هو حال (رياض النفوس) وجّهت تلك المناظرات وجهة مخصوصة، وأقحمتها في صراع مذهبيّ قويت شوكته بعد خروج الفاطميين من إفريقية والتحاقهم بالقاهرة، وتكاد الذاكرة المنشئة لهذه النصوص اللاحقة أن تحصر المناظرات في «غاية جدلية: إمّا تثبيت مقولة شيعية من جانب الداعي، وإما نفيها من جانب أبي عثمان»[9].

وأنّ المناظرة بهذا المعنى إثبات ونفي، إثبات للذات بما هي وجه للحقيقة ونفي للآخر المخالف ونفي الحقيقة مطلقًا عنه، وكما أنّ الحرب انتصار وهزيمة، وبما أنّ الحرب سجال كما قال القدامى، فإنّ مناظرات سعيد بن الحداد -كما رسمتها الذّاكرة- مثّلت جزءًا من خطة حربية قديمة متجدّدة، تعتبر المخالف في المذهب مخالفًا في الدين وعدوًّا بالقوّة والفعل.

وبذلك اندرجت هذه المناظرات من حيث يعلم أطرافها الفعليون أو لا يعلمون في استراتيجيا الحرب بالكلام (Guerre de mots)، أو ما يعرف في عرف السجال بالحرب الكلامية، وهذا يجعلنا نعتبر هذه المناظرات كما وصلت إلينا خطابًا سجاليًّا بامتياز.

أولًا: بناء صورة الذّات عند سعيد بن الحداد

من المفيد أن نهتمّ بصورة صاحب الخطاب المباشر للخطاب قبل إنجاز الخطاب ذاته، وقد نحتاج في هذا السياق إلى بعض المعطيات مع مراعاة اختلافات الرواة ودون تحويل العمل إلى سرد سير ذاتية، وحتى نتجنّب ما قد يتحقّق من تعسّف، سنقتصر على ما نجده في النصوص المصاحبة للمناظرات من إحالات مفيدة تخدم تحليل الخطاب وتوجّهه.

وممّا لا شكّ فيه أنّ ما يحمله الجمهور المتلقّي عن المتكلّم صاحب الخطاب من انطباعات، وما يضطلع به من أدوار اجتماعية مؤسساتية توجّه الصورة التي يعرضها المتكلّم عن نفسه وتؤثّر في الفعل الإقناعي للخطاب.

وقد تعمّقت الباحثة غاليا حداد (Galia Hadad, Ethos préalable et Ethos discursif) في هذا الصنف من بناء الذّات، وأكدت أنّ ما يسبق الخطاب من قرائن ومؤشرات، تسهّل على محلله تفكيكه وسبر أغواره.

ويمكن رصد صورة الذّات ما قبل الخطاب في عدّة مظاهر:

1- الاستعداد للمناظرة

لمّا علم سعيد بن الحداد في المناظرة الأولى برغبة أبي جعفر في ملاقاته «لبس ثيابه ومضى»، وربّما كان هذا العمل المنجز عملًا عاديًّا، ولكنّنا إذا علمنا أنّ سعيد بن الحداد اتّخذ له لباسًا موقّرًا باهض الثمن يلبسه فحسب عند اللقاءات المهمّة والمناظرات، أدركنا اهتمام الرّجل بشكله الخارجي وهيئته.

ونجد ما يبرّر هذا الاهتمام في آخر القسم المخصّص له من كتاب رياض النفوس، حيث سرد المالكي بعد ذكر المناظرات مجموعة من الأخبار تتعلّق بمكانة سعيد بن الحداد ورثائه بعد موته، وجاء في هذه الأخبار خبرًا مفاده أنّه ورث عن أخ له مات بصقلية أربعمائة دينار اشترى -على زهده– بخمسين منها كسوة بينما أنفق مائتي دينار من أجل هدم منزله وإعادة بنائه، ولقد ردّ على من انتقده واعتبره في ذلك مبذّرًا «وأمّا الكسوة فهو نظر في المعيشة لأنّه إذا كان عند الرّجل ثوب واحد هلك في أقرب وقت، وإذا كان عنده جملة من الثياب بقيت عنده مدّة من الزمن»[10].

ولئن تجنّب الحداد الحديث عن أهمية المظهر الخارجي المتمثّل أساسًا في الثياب في التواصل مع الآخرين، فإنّه أكّد بوضوح على تقشفه وزهده فيما تروي كتب الأخبار[11] أنّ اللباس الجميل والجديد ضروري لمن كان في مكانته، ولقد أكّد المالكي في (رياض النفوس) هذا المنزع عند سعيد بن الحداد، فنقل أنّ الرّجل «كان مع هذا التقلّل يلبس لباس الشرفاء للتهيّب في أعين الأعداء –يعني عبيد الله وشيعته- وكانت كسوته تقوّم بعشرين دينارًا»[12].

2- دعوة العلماء لسؤالهم ومناظرتهم

عادة ما تقع المناظرات من خلال استدعاء الداعية الفاطمي أو من ينوبه لعلماء القيروان «مدنيهم وعراقيهم» كما هو الحال في المناظرة الثانية. ولقد أكّد سعيد في المناظرة السادسة أنّه ما كان يأتي إلى قصر الفاطميين «إلَّا برسول»[13].

وهذا يعني أنّ المناظرة لم تكن شكلًا اعتباطيًّا من الخطاب، بل هي نمط مقنّن من الكلام يخضع لمراسم وإجراءات لا بدّ من اعتمادها، إذ إنّ مكانة سعيد العلمية والاجتماعية لا تجعله يطلب الحكام بل هم الذين يطلبونه، وهو من جهة ثانية ليس ملكًا لنفسه حتى يتصرّف كيفما شاء ويجادل فيما أراد، بل هو ممثّل عن مجموعة دينية مذهبية بلسانها يتكلّم وفي فضائها يتحرّك.

وقد لا نبالغ إذا ذهبنا إلى أنّ الذاكرة المذهبية اللاحقة المنشئة لهذا الخطاب، كرّست هذا البعد المراسمي في المناظرات وأفقدته تلقائيته، وهي تلقائية ترتبط عند أغلب المنظرين بالخطاب السجالي لأنّه خطاب حركي كما وصفه دسكال (Marcelo DASCAL ) بمعنى أنّه خطاب غير خطّي يتطرّق فيه المتخاطبون لقضايا شتى ومتباينة أحيانًا.

ولذلك اعتبر دسكال هذا الضرب من الخطاب خطابًا منفتحًا في بدايته ونهايته ومساره، إذ لا يمكن أن نتكهّن ببداياته أو الصورة التي ينتهي عليها، أو المنعرجات التي يتّخذها في مساره أو بطبيعة الحجج التي توظّف من قبل أطراف الخطاب.

ولقد وجدنا في نصوص مناظرات سعيد بن الحداد الواردة في «رياض النفوس»، أنّ الرّجل خرج مع «جماعة من القيروان للقاء الشيعي»[14]، كما جاء في النصّ نفسه أنّه «لمّا خرج لمناظرته خرج معه أهله وولده وهم يبكون فقال لهم: لا تفعلوا، لا يكون إلَّا خيرًا»[15].

وهذا يعني أنّ سعيد بن الحداد بادر بالخروج لمناظرة الفاطميين، ولئن عكس مصطلح «الخروج» خلفية تاريخية مذهبية فإنّه أكد أن ابن الحداد قد يكون طالبًا لا مطلوبًا ومبادرًا لا ملبيًّا سلبيًّا كما هو الحال في أغلب المناظرات.

الملاحظ أنّ العنصر الاستهلالي (الإخباري) السابق للسجال في المناظرة الأولى، والمتمثّل في دعوة سعيد بن الحداد إلى قصر إمام الفاطميين تضمّن سلسلة من الأفعال الواردة في صيغة «الأمر» (ادخل، قم، أذن، اجلس)، وهي صيغة سيتواصل تواترها في بقية الخطاب، وممّا لا شكّ فيه أنّ «الأمر» في هذا المقام عمل لغويّ وُظِّف توظيفًا محكمًا في بناء الخطاب.

ويعكس هذا العمل اللغوي (الأمر) تفاوتًا على مستوى الأدوار الاجتماعية، ويبني بذلك الخطاب على طرفين نقيضين من حيث امتلاك السلطة:

- الطرف الأوّل يمثّله سعيد بن الحداد، وبدا في الخطاب طرفًا ضعيفًا يؤمر فيطيع، وينقل من مكان إلى آخر حتى يلتقي مع عبيد الله المهدي.

- الطرف الثاني ويمثّله عبيد الله المهدي، وبدا طرفًا قويًّا ذا سلطة كثير الرّجال والنفوذ.

والملاحظ أنّ هذا البناء لصورة الذّات (الإيطوس الخطابي) المتعلّق بطرفي السجال، سيكون له انعكاس على مستوى الخطاب بما هو تبادل سجاليّ بين الطرفين، وهذا يعني أنّ محلّل الخطاب يحتاج إلى بعض المعطيات الفوق خطابية (Métadiscours)، المتعلّقة بصورة المتساجلين وسياقات السجال.

ولعلّ من أدلّ العبارات الدّالة على «إيطوس» سعيد بن الحداد قوله: «ها أنذا» إعلانًا عن وجوده واستعداده للقاء الداعية الفاطمي، وهذا دليل على شجاعته وجرأته وثقته بنفسه وموافقته على اللقاء دون تردّد.

ويتّضح من خلال قرائن الخطاب أنّ سعيد بن الحداد حاول التمرّد على السياق، واختار أن يتكلّم دون إذن صاحب الإذن الإمام الفاطمي، وهو بذلك ينزاح بالخطة السردية المرسومة في الخطاب، ممّا يجعلها بحقّ أمام خطّة انقلابية غير مستقرّة حبلى بالمفاجئات. وهذا يعني أنّ سعيد أنجز فعلًا قوليًّا دون أمر أو إذن أو طلب واختار الكلام وفق ما أراد.

وجدير بالذكر أنّ بداية السجال لم تكن منتظرة وناقضت المعهود، ممّا يؤكّد ما ذهب إليه داسكال عندما حصر المقوّم الرّابع من مقوّمات الخطاب في انفتاحه على كلّ الاحتمالات، إذ لا يمكن لمتابع هذا النصّ السجالي أن يتكهّن بالخطوة القادمة منه بل لا يستطيع التنبّؤ بشرارة البداية شرارة اندلاع الحرب إن صحّ هذا التعبير المجازي.

ولأنّ السجال حرب أو ضرب من الحروب، فإنّ بدايته خضعت –كبدايات الحروب الحقيقية- إلى تخطيط محكم. والطريف أنّ بداية الخطاب السجالي كانت في مناظرتنا حديثًا عن كتاب لطيف «كان يضعه عبيد الله إلى جانبه» ولقد أعطى وصف الكتاب مشروعية لتوجيه الخطاب.

والطريف أنّ الأعمال اللّغوية التي حفّت بالكتاب، اقترنت بدورها بصيغة الأمر، التي تعكس كما قلنا أدوارًا اجتماعية متقابلة تقوم على امتلاك السلطة، وتجعلنا أمام ثنائيات من قبيل «سائل ومجيب» و«آمر ومأمور» و«مهيمن وخاضع».

وعلى هذا الأساس وردت ثلاثة أفعال متتالية في صيغة الأمر: (اعرض الكتاب على الشيخ، تصفّح، اقرأ)، ويبدو من خلال هذه القرائن أنّ الخطاب خضع في البداية لخطة تقوم على الأمر والخضوع، وهما عملان يؤدّيان بالضرورة إلى انتصار الطرف القويّ (الآمر) على الطرف الضعيف (المأمور).

ولكنّ منشأ الخطاب يفاجئنا مرّة أخرى ببنية انقلابية تقوم على ما يتّصف به سعيد من صفات خاصة (إيطوس) من قبيل الذكاء والفطنة والمعرفة، جعلته يدخل السجال من غير الباب الذي حدّده له عبيد الله الفاطمي أي من غير قراءة الكتاب «ورمقته ببصري فعرفت الكتاب»، «قال: اقرأ... فقلت له: عرفت الحديث، وهو حديث خم: من كنت مولاه فعليّ مولاه».

وهكذا نجد أنفسنا أمام مشروعين سرديين/ خطابيين متوازيين: مشروع رسمه الداعية الفاطمي، ومشروع موازٍ اعتمده سعيد بن الحداد ووجّه به الخطاب غير الوجهة التي أرادها له الفاطميّ.

والطريف أنّ هذه البنية الانقلابية لا تخصّ المناظرة الأولى، بل نجدها في مختلف المناظرات، إذ يبدو سعيد بن الحداد في صورته ما قبل خطابية مأمورًا مستمعًا ينفّذ الأوامر بانصياع، ثم يتحوّل إلى مستأثر بالكلام آمرًا يصيح ويرفع صوته، وممّا لا شكّ فيه أنّ هذه الصورة السابقة للخطاب، والمنتشرة فيه في آن تؤثّر في بنائه وكيفية تأويله من قبل المتلقيّ.

3- المفرد الجمع وجمع المفرد

اضطلعت الضمائر بدور كبير في بناء صورة «الذات» في القسم الاستهلالي للمناظرات السابقة عن الخطاب، وتتمحور لعبة الضمائر هذه حول ثنائية المفرد والجمع، ففي المناظرة الثانية «أرسل محمد بن عمر المروذي[16] في طلب العلماء مدنيهم وعراقيهم، فقال لهم: إنّي أُمرت أن أناظركم في قيام رمضان، فإن وجبت لكم حجّة رجعنا إليكم وإن وجبت لنا رجعتم إلينا»[17].

ويبدو أنّ صاحب الخطاب وضعنا منذ البداية أمام صورة ما قبل خطابية، تجعل من المناظرة مبارزة بين مجموعتين خطابيتين مختلفتين، وتحمل كلّ مجموعة تصوّرات مخصوصة ومواقف أيديولوجية تميّزها عن الأخرى، وعلى هذا الأساس استعمل المروذي ضمير «المتكلّم المذكّر الجمع» (أنتم) دلالة على علماء القيروان مدنيهم وعراقيهم وضمير «المتكلّم الجمع» (نحن) إحالة على الشيعة الإسماعيلية المتمثّلة في قاضيها المروذي.

وهكذا نجد أنفسنا أمام طرفين ظاهرين يخفي كلّ طرف منهما أطراف عدّة، وأصوات متعدّدة اخترقت الخطاب من قبل أن يبدأ، ووجهته من قبل أن يتشكّل، وكما يبدو من هذا الاستهلال الخطابي فإنّ هذه الأطراف هي:

الطرف الأول: محمد المروذي (من جهة).

الطرف الثاني: علماء القيروان مالكيون وأحناف (من جهة ثانية).

ونلاحظ أنّ أطراف الخطاب غير متكافئة من حيث الكمّ والنفوذ والخلفية المرجعية الموجّهة لكلّ منهما، واختيار الطرف الثاني في حالة جمع ليس اعتباطيًّا، لأنّ الحق دائمًا مع الجماعة ومن أجلها يكون، وهذا التوظيف لمقولة «الجمع» يستحضر موضعًا يرى أنّ «الأكثر أفضل دائمًا من الأقلّ»، وهذا يعني ضمنيًّا أنّ العلماء مجمعين سيكونون أفضل علمًا وخطابةً من مساجلهم محمد المروذيّ ذي المرجعية الشيعية.

ويبدو أنّ أطراف هذه المناظرة -كما هو حال بقية المناظرات – شاركوا فيها من منظور تمثيلي، إذ مثّل كلّ فرد مجموعته الدينية فكان صوتها وضميرها وذاكرتها، وهذا الانتقال من وضع المفرد إلى وضع الجمع، أو من وضع المتكلّم المخاطِب إلى وضع المجموعة الخطابية، أو المتكلّم الجمع[18] (ON-Locuteur)، لا يتمّ حسب بيار بورديو[19] (Bourdieu Pierre) إلَّا من خلال تفويض يحصل عليه المتكلّم من مجموعته الخطابية.

وهذا يكون صريحًا وضمنيًّا، فسعيد بن الحداد فُوِّض اجتماعيًّا ورمزيًّا أكثر من مرّة في أكثر من مناظرة، ويمكن أن نرصد ملامح هذا التفويض الاجتماعي الرّسمي عند حديث المالكي عن خروج «جماعة من القيروان للقاء الشيعي» وكان من بينهم ابن عبدون وسعيد بن الحداد، ولقد طلب الأوّل من الثاني «تقدّم يا أبا عثمان... تقدّم فليس هذا وقت مهاجرة، فلسانك سيف الله وصدرك خزانة الله، وإنّما أراد ابن عبدون بذلك أن يحرّضه على مناظرة الشيعي»[20].

ولئن أظهر ابن عمدون خلافه مع سعيد، فإنّه عكس تفويضًا رسميًّا مكّن سعيدًا من تمثيل مجموعته الدينية، وبموجب هذا التفويض أصبح سعيد بن الحداد لسان الأمة والمدافع عن الدّين الحقّ، ولذلك عرّفه المالكي في مستهلّ حديثه عنه «كان عالمًا ثقةً في الفقه والكلام، والذبّ عن الدين والردّ على فرق المخالفين للجماعة»[21]، وكذلك ردّد المعاني نفسه في القسم الذي ختم به، وخاصّة عندما تحدّث عن وفاته ورثاء الشعراء له، ولقد كان في معاني الرثاء ما يدلّ على صورة سعيد التمثيلية من ذلك قول الشاعر:

أين المقدّم والآذان مصغية

إليه حتى وعت كلّ الذي ثقفا

أين الذي كشف المعنى المعمّى لنا

فصار متّضحًا للناس منكشفا

وكم من مرّة يسأل أحد علماء القيروان فيندفع سعيد للإجابة بإذن وبدونه فيصبح الطرف الرئيسيّ بعد أن كان على الهامش، ولعلّ ذلك يعود إلى هذه النزعة التمثيلية التي لوّنت بها الذاكرة السنّية صورة سعيد بن الحداد.

وجدير بالملاحظة أنّ هذا المنزع التمثيلي شمل أيضًا الفاطميين المناظرين لسعيد بن الحداد، ويتجلّى ذلك بوضوح في استهلال المناظرة الثانية إذ صرّح محمد بن عمر المروذي بعد استقباله علماء القيروان مالكيين وحنفيين «إنّ أُمِرت أن أناظركم في قيام رمضان...»[22]، وعندما دخل سعيد في المناظرة السادسة على أبي عبد الله الشيعي وجده «وحوله جماعة من أصحابه»[23]، ومن بينهم خرج صوته في اتّجاه إبراهيم بن يونس «بأيّ شيء كنت تقضي»[24].

وهكذا نلاحظ أنّ مناظرات سعيد بن الحداد مع الفاطميين عكست لنا صورة «ذات» لا يمكن فصلها عن مجموعتها الخطابية، وعلى هذا الأساس لا يمكن فهم هذه الخطابات إلَّا متى استحضر محلّل الخطاب هذا البعد الجمعي، وعمل على تفكيك رموزه والولوج إلى الذاكرة المتحكّمة فيه والمخيال الموجّه له، ويحتاج في هذا الإطار إلى توظيف مجموعة من المعارف الموسوعية المتعلّقة بثقافة المجموعات الخطابية المنشئة للخطاب.

حاولنا في هذا من العمل أن نرصد كيف تشكّلت الذّات في الخطاب السجالي المتمثّل في مناظرات سعيد بن الحداد مع الفاطميين، وسنتحسّس معالم هذه الصورة من خلال مجموعة من المداخل نراها أساسية في تحليل هذا النوع من الخطابات، وسنهتمّ ببنية الخطابات والاستراتيجيات المعتمدة في تنظيمها وتشكيل الصورة فيها، ثمّ سنقف عند مواضيع المناظرات وما تطرحه من إشكاليات تتعلّق بمسألة المعارف المشتركة المتحكّمة في الخطاب والموجّهة له.

كما سنهتمّ في هذا القسم من العمل بقضية جوهرية مؤثّرة أيّما تأثير في بناء صورة الذات، تتمثّل في مبحث تعدّد الأصوات الكامنة في الخطاب، وتداخل الذّاكرات فيه، وتحيل على الوظائف التي اضطلع بها الخطاب في إطار رسم ملامح صورة الذات، وسنختم هذا الجزء من العمل بالحديث عن الحجاج وأنواع الحجج الموظّفة وسياقات المناظرات، لما تتضمّنه من قرائن تساهم في تشكيل صورة الذات وتشكّلها في ذهن المتلقّي.

ثانيًا: في بنية المناظرات

ممّا لا شكّ فيه، أنّ البنية عميقة الأغوار ومتداخلة الأبعاد، ولذلك سنركّز فحسب على البنية الانقلابية المتحكّمة في هذه المناظرات، إذ خضعت المناظرات لبنية انقلابية يتحوّل بموجبها سعيد بن الحداد من وضع مخصوص إلى نقيضه، فإذا به طالبًا بعد أن كان مطلوبًا، وسائلًا بعد أن كان ومسؤولًا، ورافعًا صوته بعد أن كان صامتًا لا يكاد ينطق.

ويمكن لنا أن نكتشف معالم هذه البنية الانقلابية من خلال نص المناظرة الأولى على سبيل المثال لا الحصر.

إذ يتّضح من خلال قرائن الخطاب أنّ سعيد بن الحداد حاول التمرّد على السياق، واختار أن يتكلّم خارج ما حدّد له، وهو بذلك ينزاح بالخطّة السّردية المرسومة في الخطاب ممّا يجعلها بحقّ خطّة انقلابية. وهذا يعني أنّ سعيد أنجز فعلًا قوليًّا دون أمر أو إذن أو طلب واختار الكلام وفق ما أراد.

وجدير بالذّكر أنّ بداية السجال لم تكن منتظرة وناقضت المعهود، ممّا يؤكّد ما ذهب إليه داسكال عندما حصر المقوّم الرّابع من مقوّمات الخطاب في انفتاحه على كلّ الاحتمالات، إذ لا يمكن لمتابع هذا النصّ السجالي أن يتكهّن بالخطوة القادمة منه بل لا يستطيع التنبّؤ بشرارة البداية شرارة اندلاع الحرب إن صحّ هذا التعبير المجازي. ولأنّ السجال حرب أو ضرب من الحروب فإنّ بدايته خضعت –كبدايات الحروب الحقيقية- إلى تخطيط محكم.

ولقد تمثّلت بداية الخطاب السجالي في مناظرتنا بالحديث عن كتاب لطيف «كان يضعه عبيد الله إلى جانبه» ولقد أعطى وصف الكتاب مشروعية له لتوجيه الخطاب.

ويبدو أنّ هذا البنية الطريفة المتحكّمة في مناظرات سعيد بن الحداد، لم ترد صدفة بل خضعت لرؤية استراتيجية عمل صاحبها استئناسًا بالذّاكرة أن يجعل من المهمّش عنصرًا محوريًّا، ومن الضعيف كائنًا قويًّا فاعلًا مؤثرًا، وكأنّ بالذاكرة تستحضر موضعًا ذا صيغة مليئة (forme pleine) يرى أنّ «الحق أولى من القوة» وأنه «يعلو ولا يعلى عليه».

وجدير بالذكر أنّ بنية المناظرات قامت في مواضع مختلفة منها على مواضع متعدّدة بصيغتيها المليئة والفارغة، ولعلّ استحضار تلك المواضع وتوظيفها في نسيج النصّ وتصنيع دلالاته يعكس بدوره صورة للذات في الخطاب: ذات المتكلّم وذات المتلقّي وذات ناقل الخطاب ومصنّعه.

1- مواضيع المناظرات ومسألة المعارف المشتركة

ليس من السهل التسليم باعتباطية المواضيع المعروضة في خطاب المناظرات، ولئن أكّد دسكال وغيره من دارسي الخطاب السجالي أنّ هذا النوع من الخطابات يتّصف بالتلقائية في طرح المواضيع، فإنّنا نرى أنّ مواضيع مناظرات سعيد بن الحداد كانت مدروسة دراسة دقيقة، ولا يمكن لنا قطعًا أن نؤكّد أو ننفي مدى تطرّق سعيد لتلك المواضيع ذاتها، ولكننا ندرك أنّ الخطاب كما وصل إلينا وبعد أن أعادت الذّاكرة بناءه وتصنيعه عكسًا منزعًا مخصوصًا في بناء صورة الذات: ذات المساجل وضديده.

وحتى تتّضح أمامنا بعض المعالم سنستعين بجدول توضيحي يتعلّق بمواضيع المناظرات والأطراف المقابلة لسعيد ابن الحداد.

جدول في مواضيع المناظرات

المناظرة

الطرف المقابل
لسعيد بن الحداد

المواضيع المطروحة

ملاحظات

1

عبيد الله الفاطمي

- حديث غدير خمّ

- ولاية الدين وولاية الرقّ

* سرد سعيد لأحاديث وآيات

2

محمد بن عمر المروذي

- حكم قيام رمضان

* سرد سعيد لأحاديث وآيات

3

أبو عبد الله الشيعي

- ختم النبوّة

* الاحتجاج بآيات قرآنية

4

غير محدّد

- عدم خوف سعيد من الخصوم

* نص قصير جدا

5

أبو عبد الله الشيعي

- مصادر القضاء

- مفهوم السنّة

- مشروعية القياس

- حكم شرب الخمر

- أعلمية علي بالقضاء

* سرد سعيد لأحاديث وآيات

6

أبو العباس

- فضل العالم على المتعلّم

- عام القرآن وخاصّه

- دلالة المحصنات في القرآن

- سعيد بن الحداد الأعلم بدينه

- تفسير الله

- تفسير الإلهية

- تفسير الربوبية

- تعريف المؤمن

- تعريف الذين هادوا

- تعريف النصارى

- تعريف الصابئة

- تعريف المشرك

- عبادة قريش للأصنام

* سرد سعيد لأحاديث وآيات

 

ونلاحظ من خلال هذا الجدول أنّ المناظرات لم تكن متجانسة من حيث طولها وتعدّد مواضيعها، كما نلاحظ أنّها لم تخضع لخطّية زمنية معقولة، فالمناظرة الأولى يفترض أنّها آخر المناظرات لأنها عقدت مع عبيد الله الفاطمي الذي حلّ متأخرًا بالقيروان بعد حلول أبي عبد الله وأخيه أبي العباس بها، وهذا يعني أنّ الذّاكرة لم تلتزم بمقامات الخطابات وتسلسلها الزمني بل أعادت تشكيلها وترتيبها من أجل بناء صورة مخصوصة للذّات تفعل في المتلقي فعلها التأثيري بالتدرّج.

ولقد ارتبطت المناظرة الأولى على قصرها بأخطر القضايا إذ تناولت مسألة ولاية علي بن أبي طالب وهي مسألة خلافية بين المجموعتين الخطابيتين المتناظرتين، وليس من اليسير معالجة هذا الموضوع بسلام دون تورّط أو توريط وهنا تكمن قوّة سعيد بن الحداد إذ استطاع أن يطرق هذا الباب في هذه المناظرة ومناظرات أخرى تلتها بأمان، وهذا يعني أنّ الخطاب قدّم لنا صورة ذات تحسن الإبحار ولا تخافه مهما كانت مخاطره ممّا يؤكّد كفاءة سعيد بن الحداد العلمية وجرأته وشجاعته.

وكما نلاحظ في خانة الملاحظات المرفقة بالجدول فإنّ أطراف المناظرات كانت تبحث دائمًا عن المعارف المشتركة لأنّه لا يمكن الحديث عن تواصل لغوي دون معارف يشترك فيها الجميع بها يحتجّ كلّ طرف من أطراف السجال، ولقد كان سعيد يستنجد بالقرآن والسنّة كلّما طرح عليه مناظره الشيعي موضوعًا من المواضيع كما كان الطرف الشيعي يسأل سعيدًا بكلّ فضول عن فهمه لآية أو حديث وكأنّا بمختلف الأطراف تبحث دومًا عن المشترك ولعلّها كانت تطوّق بذلك إلى التعارف والتقارب.

ولكنّ الطريف أنّ الذّاكرة المذهبية جعلت من البحث عن المشترك تفرّدًا ونفيًا للآخر، وحوّلت هاجس التعارف الكامن في المناظرات إلى صراع وحرب كشف فيه كلّ طرف عن مخالب السجال (La griffe du polémique) كما يسمّيها الباحث الكيباكي دومينيك ڤاران «Dominique Garand»[25].

ولقد حاولنا تتبّع بعض مواضع استحضار المعارف المشتركة، فتبيّن لنا أنّ التواصل كان ممكنًا ويسيرًا في أغلب الحالات على عكس ما نقلته لنا كتب التاريخ والأدبيات المذهبية الضيّقة، ولقد استطاع سعيد بن الحداد في المناظرة الأولى أن يتعرّف بمجرّد نظرة على الكتاب الذي كان بجانب مخدّة عبيد الله[26]، وبناء على ضوء ذلك، سيناريو خطابي ورؤية تعكس التمشّي الخطابي المنتظر، ولذلك أجاب بكلّ أريحية عندما سأله الفاطمي أن يقرأ الكتاب «عرفت الحديث وهو حديث غدير خمّ»[27]، ولقد كان هذا الكتاب بما هو شكل من أشكال المعرفة المشتركة منطلقًا لتبادل الآراء حول مسألة ولاية الإمام علي بن أبي طالب.

والطريف أنّ المناظر الفاطمي سأل سعيدًا -لّما أراد أن يرمي به في فضاء المشترك من المعارف– «هل من شاهد من كتاب الله عزّ وجلّ؟»[28] و«أين تجد ذلك في كتاب الله عزّ وجلّ؟»[29]، وكان سعيد سريع الاستجابة لمطالب محادثه فيورد الآيات وبعض الأحاديث، وربّما أحال على قول مأثور لعليّ بن أبي طالب، تقرّبًا من ذاكرة مجالسه.

وهذا البحث عن المعارف المشتركة يعكس حيوية داخل الخطاب ويؤكّد تقارب المجموعات الخطابية الكامنة فيه، وإن بالغت الذاكرات المذهبية لاحقًا في بيان ما بينها من خلاف عميق، وتباين لا يمكن بحال التقريب بين تمثّلاته، والحال أنّ مختلف الأطراف تتحرّك في المجال الديني والعقدي نفسه، وتنطلق من نصوص التأسيس وإليها تعود، تأوّلها بدرجات متفاوتة ثمّ تحوّل ما أوّلته من معاني إلى حقائق لا تنازع، وتتهمّ تأويل غيرها بالزيغ والضلال ومخالفة الحق، وفي هذا الإطار تتنزّل أهمية التأويل باعتباره وجهًا من وجوه بناء صورة الذات في الخطاب.

2- مركزية التأويل في خطاب المناظرات

تعرّضنا سابقًا إلى أهمية التأويل في نظام اشتغال الخطاب السجالي، إذ اعتبر دسكال أنّ التأويل جزء لا يتجزّأ من الخطاب السجالي يساهم في تشكّله وتمثّله من بعد عند المتلقّي، وربّما لا نبالغ إذا أكّدنا أنّ التأويل هو مفتاح تمثّل الخطاب وتبيّن التسلسل فيه.

ولقد تناول رولانبلك[30] (Roellenbleck, GEORG)، دور التأويل في بناء النصّ السجالي بصفة عامة، ووجدنا في تحليله ما يساعد على دراسة المناظرات التي تقوم بدورها على بنية تأويلية، إذا يضطلع كلّ طرف مساهم فيها بتأويل ما طرح من معارف مشتركة أو تأويل ما تلفّظ به مشاركه في المناظرة، ويمكن لكلّ محلّل خطاب أن ينتبه منذ بداية المناظرة الأولى إلى أهمية التأويل في بناء خطّة الخطاب وتوجيهه، ويتجلّى ذلك في تأويل سعيد بن الحداد الحديث المتعلّق بولاية الإمام علي بن أبي طالب بطرق تناقض تمامًا قصد المتلفّظ له.

وكأنّ التأويل بهذا المعنى يقوم ضرورة على تحريف أقوال المساجل المخالف من خلال آلية التأويل، وهذا التحليل يجمع بين ما ذهب إليه كلّ من داسكال وتيتاسكي[31]، إذ أكّد الأوّل على التأويل باعتباره مقوّمًا أساسيًّا من مقوّمات الخطاب السجالي، بينما رأت الثانية أنّ التأويل يدفع إلى تحريف محادثات الخصم، ولهذا اعتبرت الباحثة أنّ الخطاب يهدف إلى تحريف المحتويات من أجل بيان عدم كفاءة الخصم.

وهذا التوجّه نلحظه بجلاء في هذه المناظرة ويتمثّل في تأويل عبيد الله الحديث على أنّه دليل على شرعية أن يكون الناس عبيدًا للفاطميين، وفي المقابل رأى سعيد بن الحداد أنّ مساجله يخلط بين «الرق» و«الولاية»، وفي هذا الإطار استحضر سعيد بن الحداد آية[32] تلبية لطلب مناظره في إيراد حجّة من نصّ التأسيس، ولقد أظهر سعيد قدرة على التأويل والقياس فأكّد أنّ «ما لم يجعله الله عزّ وجلّ لنبيّ لم يجعله لغير نبيّ وعليّ لم يكن نبيًّا»[33]، وهذا الضرب من تأويل النّصوص اعتمده ابن الحداد في كلّ المناظرات بل قد نجده يبالغ في التأويل إلى درجة لا نتحسس فيها وجود علاقة بين المعنى المستنبط والنصّ المؤوّل من ذلك احتجاجه بالآية {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ}[34] للتأكيد أنّ بدعة قيام رمضان «من البدع التي يرضاها الله عزّ وجلّ ويذمّ من تركها»[35]، كما استدلّ في الإطار نفسه بالآية «وَرَهْبَانِيَّةً ابتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغَآءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}[36].

ويمكن لنا أن نتبيّن هذا المنزع المغالي في التأويل عند سعيد بن الحداد عند تبريره للقياس باعتباره أصلًا من أصول الفقه إذا أجاب عن سؤال أبي عبد الله الداعي: «فمن أين قلتم بالقياس؟»[37]، باستحضار آية قرآنية نصّها: {يَـٰأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ}[38].

وتوصّل من خلال تأويل معقّد إلى القول بأنّ «فالصيد معلومة عينية، والجزاء الذي أُمرنا أن نمثّله بالصيد (المعلومة) عينه ليس بمنصوص فعلمنا بذلك أنّ الله تعالى إنّما أمرنا أن نمثّل ما لم ينص ذكر عينه: بالقياس والاجتهاد»[39].

والطريف أنّا لم نجد عند المفسّرين[40] وخاصّة من المنتمين إلى المجموعة السنّية من ذهب إلى هذا التأويل تصريحًا أو تلميحًا، وهذا يعني أنّ سعيد بن الحداد تفطّن إلى أهمية التأويل عند مناظره الفاطمي، وأدرك أنّ آلية التأويل يمكن أن تكون لغةً مشتركةً بينه وبين من محادثه من الشيعة الإسماعيلية، وهذا يعود أساسًا إلى محورية التأويل في الفكر الإسماعيلي.

ولئن عرف التأويل الإسماعيلي بالغلوّ حدّ الباطنية فإنّ تأويل سعيد بن الحداد كان أكثر غلوًّا، ولا يمكن أن نفصل هذا المنزع في الحجاج بخطّة سعيد بن الحداد ومن ورائه الذاكرة في بناء صورة الذّات في الخطاب، إذ أظهر في مواضع عدّة من مناظراته قدرة على توظيف ذاكرة مناظره واستغلال معارفه فكان يحيل على الإمام علي بن أبي طالب نظرًا لموقعه المحوري في المنظومة الشيعية عامّة والإسماعيلية بصفة مخصوصة، كما استطاع من جهة ثانية أن يعتمد آلية التأويل وهي آلية محورية في فهم النصّ عند الإسماعيلية.

لا نبالغ إذا ذهبنا أنّ مناظرات سعيد بن الحداد مع بعض رموز الشيّعة الإسماعيلية لم تكن غير مناظرات بين تأويلات، وهذا يؤكّد أنّ السجال في حقيقته صراع تأويلات بالأساس، ولا يمكن لهذه التأويلات أن تقام إلَّا متى وجدت معارف مشتركة تعترف كلّ الأطراف بحجيتها ومشروعيتها، وتجسّدت هذه المعارف في مناظراتنا في القرآن.

ويمكن لنا أن نلمح سجال التأويلات هذا بصفة واضحة في المناظرة الخامسة إذ عرّج أبو عبد الله الداعي على موضوع ختم النبوّة، وسأل سعيدًا من خلفية تأويلية باحثًا عن تأويل مغاير «أفلا أوجب قول الله تعالى عند من سمعه: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ}[41] انقلاب أصحاب محمد (صلى الله عليه وسلم)»[42]، ويتفطّن سعيد لقوانين اللّعبة كما ضبطها السائل ومن ورائه التقليد الإسماعيلي فيشهر سيف التأويل اعتمادًا على قاعدة «وخاطب القوم بما يفهمون»، وذهب أنّ تركيب «أفإن مات» يحتوي «استفهامًا» وكذلك حال قوله: «انقلبتم» فهي جملة تفيد أيضًا الاستفهام وإن أظهرت عكس ذلك، وهذا يعني أنّنا في الآية أمام استفهاميين «والاستفهامان إذا جاءا في قصة واحدة اجتزئ بأحدهما عن الآخر. وهذا الاستفهام إنّما هو في معنى التقرير بأَلَّا تنقلبوا على أعقابكم»[43]، وكما نلاحظ اعتمد سعيد التأويل اللغوي وراجع على أساسه الأعمال اللغوية المعهودة فجعل من الخبر إنشاءً ومن التقرير استفهامًا[44].

وفي هذا المستوى يجد محلّل الخطاب نفسه أمام نمط مخصوص من بناء صورة الذات في الخطاب يستعمل فيه المتكلّم لغة مخاطبه ويلبس لبوسًا قريب من لبوس مناظره، وهذا يعني أنّ ما يظهره صاحب الخطاب ملامح لا تعكس بالضرورة حقيقته ولا تماثل هويته، ولقد تعمّق أرسطو في هذا الصنف من بناء «الإيطوس» في الخطاب.

إنّ انتهاء بعض المناظرات بصمت المناظر الشيعي لا تعني -كما يعتقد البعض- انتصار سعيد وعجز خصمه الشيعي على مواصلة الحديث، بل يعني -حسب رأينا- اعتراف من قبل الإسماعيلي بنجاح ابن الحداد في ركوب فرس التأويل والعبور بها إلى مرفأ الأمان.

ولذلك أعجب عبيد الله بسعيد بن الحداد وأمّنه على حياته كما هو الحال في المناظرة الأولى «انصرف لا ينالك أحد»[45]، كما أقرّ أبو عبد الله مشروعية ما ذهب إليه سعيد من تأويلات تخصّ عدّة قضايا طرحها في مناظرته الخامسة، ورأى أنّ الخلاف لا يحكم فيه الله، وأنّ من مشمولاته دون البشر واستدلّ في ذلك بآية معبّرة نصّها {وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّىٰ يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ}[46].

ولقد ذهب الطبري في تأويل هذه الآية تأويلًا طريفًا، التتويج لا يمثًل انتصارًا لسعيد ابن الحداد مفاده «والله خير من يفصل وأعدل من يقضي، لأنه لا يقع في حكمه ميل إلى أحد، ولا محاباة لأحد»[47]، وهذا كما أرادت الذّاكرة إيهامنا، بل هو انتصار لأدب المنظرات بما هو «مجالسات ومسايرات» و«مقامات» كما يسمّيها المالكي وحلقات نقاش كما ينعتها محمد اليعلاوي.

4- تعدّد الأصوات وتداخل الذاكرات

لعلّ أهمّ سؤال يشغلنا في هذا المستوى من البحث: من المتكلّم في هذه المناظرات؟ ومن المخاطب فيها؟ هلّ عبّرت هذه الخطابات عن ذات متكلّمة وإيطوس فردي، أم تراها استحضرت ذواتًا ورسمت إيطوسًا جماعيًّا يعكس مشاغل المجموعة الخطابية التي مثّلها المناظر؟ وبمعنى آخر: ما هي الأصوات الكامنة في هذا الخطاب؟ وكيف حضرت فيه؟ وإلى أي مدى ساهمت في انبنائه واشتغاله؟..

لقد أكّد قوفمان[48] «Erving Goffman»[49] أنّ وراء كلّ خطاب تكمن وجوه[50] متعدّدة، وربّما أحيانًا تتعدّد وجوه شخص ساهم في الخطاب، وفي هذا الإطار تتنزّل نظريته المتعلّقة بالأقنعة الخطابية، وعلى محلّل الخطاب أن يحسن كشف هذه الأقنعة وتمثّل الوجوه الكامنة في الخطاب، وهذا يجعلنا أمام «أسطورة الأنا» (Le(s) mythe(s) du Moi) كما سمّاها قوفمان في كتابه «Les Cadres de l›expérience».

وعلى هذا الأساس لا تتشكّل الذّات مفردة في الخطاب بل تتشكّل من خلال تفاعلها مع مختلف الأطراف، وبهذا المعنى يصبح البحث عن تجلّي الذات في الخطاب بحثًا عن تفاعلها (interaction)، وفي الإطار ذاته أكّد ديكرو (Oswald Ducrot) بأنّ كلّ خطاب تسكنه أصوات متعدّدة (La polyphonie)[51] تتجاوز أصوات أطراف المصرّح بها، ومن ثمّة لا يمكن الحديث عن صوت واحد (une voix unique) في الخطاب.

ويمكن لقارئ مناظرات سعيد بن الحداد مع الدعاة الإسماعليين أن يدرك تعدّد الأصوات الكامنة فيها، ويمكن أن نرصد هذه الظاهرة من خلال مستويين اثنين يتعلّق الأوّل بالأطراف المسهمة في الخطاب، ويختصّ الثاني بالأصوات الكامنة في الذّاكرات والأزمنة.

والطريف أنّ دارس هذه المناظرات يحار أحيانًا في صاحب الكلام المتلفّظ به إذ تتداخل الأصوات إلى درجة يصعب الفصل بينها أحيانًا، ويمكن لنا رصد هذا التداخل منذ مستهلّ المناظرة الأولى عندما أعلم أبو جعفر سعيدًا بأنّ «عبيد الله» يحب أن يجتمع به[52]، وإذا علمنا أنّ صيغة التصغير «عبيد» أفادت التحقير والتهكّم وأنّ الرّجل يسمّى عبد الله تساءلنا: من هو صاحب هذا الصوت المتهكّم هل هو المتكلّم المباشر (أبو العباس الشيعي)، أم هو سعيد راوي الخبر؟ أم هو المالكي ناقل المناظرات ومدوّنها؟ أم تراهم أطراف أخرى سكت عنها النصّ؟

ومن اليسير أن نرصد هذه الظاهرة من خلال الجمل الإنشائية التي اضطلعت بعمل اللّعن من قبيل «فإذا بعبيد الله (لعنه الله)»[53] و«فعطف عليَّ عبد الله (لعنة الله عليه)»[54] و«أرسل ورائي الشيعي –لعنة الله عليه-»[55]، ولقد أثبت محقّق كتاب رياض النفوس أنّ هذه الجمل ساقطة في نسخ أخرى من المخصوص، ممّا يدلّ على أنّ هذه الأصوات اللّعنة أصوات متأخّرة زمنيًّا أعادت تشكيل المشهد وتوزيع الأصوات وفق منظور مذهبي أيديولوجي ضيّق.

وهكذا نلاحظ أنّ الأصوات الكامنة في الخطاب تتغيّر بتغيّر الزّمن وتتطوّر أدوارها بتغيّر مراحلها التاريخية والذّاكرات المنشئة لها، ولذلك كانت بعض المعطيات ضبابية أو متناقضة أحيانًا، ممّا يؤكّد أنّها كانت حصيلة تراكمات معرفية ونفسية كوّنت الذّاكرة، ولقد علّق محقق كتاب «رياض النفوس» على بداية المناظرة الثالثة «ويحكى أنّ أبا عبد الله الشيعي قال له يومًا»[56] تعليقًا طريفًا نصّه: «في المتدارك قال أبو عبد الله الشيعي أو أخوه أبو العباس»[57]، وهذا يعني أنّ الخبر صنّعته الذّاكرة بما هي تراكمات وتأويلات وتنقيحات وانزياحات، ممّا يجعلنا أمام صورة لتجلّي الذات شكّلها المخيال وتقبّلها الناس على أنّها حقائق تاريخية وصور ذاتية تعكس حقيقة المتكلّم.

وربّما رسمت تلك الذّاكرة صورة تناقض حقيقة المخاطِب والمخاطَب في آن، فسعيد بن الحداد اتّخذ له في هذه المناظرات صورة تختلف عن صورته كما تداولتها كتب السير والتراجم، فالرّجل كان مجتهدًا متمرّدًا على التنميط، انتقد المدوّنة وتقديسها، ولاقى جرّاء ذلك سخط العامّة وتهميش الخاصّة له إلى درجة مضايقته وثلبه وتعنيفه، ولا جرم اقترفه غير أنّه دعا إلى الاستنباط والتحرّر من قيود التقليد للمذهب وأعلامه.

هذه الصورة تكاد تختفي في هذه المناظرات، فإذا بنا أمام سعيد آخر يقدّس المذهب تقديسًا مفرطًا يتجاوز حدّ تقديس الدّين، ويتعصّب لمجموعته الدينية حدّ الغلوّ، ويمكن لنا أن نتبيّن ملامح هذه الصورة من خلال ما ورد في المناظرة السادسة حينما سأل أبو العباس سعيدًا «فكانّك تقول: إنّك أعلم النّاس؟»[58].

ويجيب أبو عثمان في غير تواضع وبكلّ تعصّب –على غير صورته المعهودة-: «أمّا بديني فنعم»، ولعلّ القارئ يظنّ أنّ المقصود بالدّين في هذا السياق دين الإسلام الشامل لمختلف المذاهب والاتجاهات، ولكنّنا نفهم من السياق في مفهومه العرفاني أنّ الذّاكرة جعلت من الجزء كلًّا، ومن الفرع أصلًا، ومن المذهب دينًا. وهذا ما أكّده خطاب سعيد بن الحداد عندما أكّد أنّه لا يحتاج إلى زيادة (فما تحتاج فيه زيادة؟[59]) في مجال الدين، فهو مجال مكتمل عنده ومنغلق وبرّر ذلك بأنّ «ديني الذي أنا عليه هو الحق الذي ليس الحق في سواه أبدًا»[60].

وبهذا المعنى تتحوّل المناظرات في سياقها العام من مجالس لتبادل الآراء، أو مناظرات بين اجتهادات وتأويلات إلى صراع ديانتين لا تواصل بينهما ولا حوار، والطريف أن سعيد أصرّ على غلوّه في التعصّب من خلال تأويل النصوص وتطويعها، فذهب أنّ الآية {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا}[61] التي استدلّ بها «الضديد» الشيعي على حاجة موسى إلى معارف الخضر -ممّا يؤكّد أنّ المعارف نسبية ومتطوّرة ومتحوّلة-، لا تعني بالضرورة جهل موسى و«[قائل] هذا طاعن على نبوّة موسى C؛ إذ يزعم أن الله تعالى اصطفاه برسالته وبكلامه وبنبوّته وهو محتاج إلى أن يتعلّم بعد ذلك شيئًا من دينه –معاذ الله- إنّما (كان) العلم -الذي كان عند الخضر- دنيويًّا: سفينة خرقها لعلمه بالملك الذي يأخذ كلّ سفينة غصبًا، وغلامًا قتله: علِم كفره وإيمان أبويه، وجدار أقامه: علمًا بالكنز الذي تحته وذلك كلّه لا يزيد في دين موسى [شيئًا]»[62].

وهكذا نلاحظ أنّ الذّاكرة جعلت من سعيد بن الحداد يكرّس جهده لتبرير المذهب وترسيه ما حفّ به من تقديس نجده عند القدامى وبعض المحدثين على حدّ سواء، بل ويبحر في تعميق آي القرآن لترسيخ ما ذهب إليه فيفصل بين العلوم الدنيوية والعلوم الدينية، وكأنّ النبيّ كائن غيبيّ لا علم له بشؤون الحياة ولا علاقة له بالواقع المعيشيّ، وعلى هذا الأساس لا تزيد معارف الخضر «في دين موسى شيئًا»[63].

وهذا الفصل بين المعرفتين خطير؛ لأنّه يجعل من الدين بصفة عامّة والمذهب بصفة أخصّ خطابًا روحيًّا عقديًّا فحسب لا تاريخية له ولا علاقة له بالثقافة والعمران كما يتصوّره عبد الرحمن بن خلدون، والطريف أنّ هذا التأويل الذي اقترحته الذّاكرة على لسان سعيد ابن الحداد لا نجده محلّ اتّفاق بين المفسّرين بل أغلبهم يذهب أنّ موسى أظهر حاجة معرفية ودينية لمعارف الخضر، وهذا ما عبّر عنه بوضوح الزمخشري في تفسيره الكشّاف، فذهب في تفسير هذه الآية «رَشَدًا قرأت: «بفتحتين» و«بضمة وسكون» أي: علمًا ذا رشد، أرشد به في ديني»[64].

إنّ ما يهمّنا في هذا المقام أنّ الذاكرة أعادت تصنيع صورة سعيد بن الحداد وربّما شوّهتها وحرّفت من معالمها، كما فعلت مع مناظريه من الشيعة الإسماعيلية فقدّمتهم في صورة غريبة تتناقض كليًّا عن صورتهم في كتب أصحابهم كما هو حال كتاب «المجالس والمسايرات» للقاضي النعمان، أو صورتهم المذهبية كما تتجلّى في مراجعهم وأصولهم.

ولعلّ خير مثال على تحريف هذه الصورة تقديم الشيعة الإسماعيليين على أنهم أهل عربدة ومجون يحبّون الخمر ويشجّعون على شربهم وينتقدون من يحرّمه ويسخرون منه، وهذا ما نلحظه بجلاء في المناظرة الخامسة حينما عطف أبو عبد الله الشيعي «على موسى القطان فقال له: أين وجدتم حدّ الخمر في كتاب الله تعالى؟»[65]، ولا تعكس صيغة السؤال استخبارًا أو رغبةً في المعرفة بقدر ما تعكس إنكارًا وتهكّمًا عملت الذّاكرة على إبرازهما، ولذلك سيندفع سعيد مدافعًا عن حكم تحريم الخمر معتمدًا التأويل والقياس.

لا ندّعي في هذا العمل الإلمام بكلّ ما تعلّق بمناظرات سعيد بن الحداد مع خصوم المذهب فاطميي القيروان، فهذه الخطابات متداخلة الوجوه ومتعدّدة المداخل، اختلط فيها المكتوب بالشفوي، وزاحم فيها النصّ الخطاب، وتنافست فيها الذاكرات والأصوات والمرجعيات، وتعانقت فيها الأزمنة حدّ التمازج، ونتج عن كلّ ذلك انبناء صورة طريفة لتجلّي الذات في الخطاب لم تمثّل صورة المتكلّم المباشر إلَّا جزءًا منها، ولعلّه أبسط الأجزاء وأقلّها تأثيرًا.

لقد استطاعت الذّاكرة المذهبية أن تجعل من نصوص المناظرات بما هي طوق إلى التعارف والاكتشاف إلى نصوص سجالية بامتياز، قامت على تحريف أقوال المخاطَب ومحاولة تهميشه وإقصائه وبيان ضعفه وهشاشته، ولم تجد الذاكرة أفضل من تأويل النصوص المقدّسة آليةً لرسم معالم هذه الصورة الغريبة العجيبة القائمة أصلًا على التناقضات.

ولا نبالغ إذا ذهبنا إلى أنّ نصوص المناظرات كما وصلتنا حرّفت الصورة، ولا نقصد فحسب صورة الفاطميين، بل كذلك صورة سعيد بن الحداد، ولا ظلم أكثر من تشويه صورة الإنسان وتحويله من مجتهد يتوق إلى التعدّد إلى متعصّب للمذهب حدّ الغلوّ، فهل يمكن لنا إعادة تشكيل صورة سعيد بن الحداد، ومن ثمّة إعادة تشكيل صورة القيروان بما هي مدينة التعدّد والاختلاف؟

 

 



[1] يمكن الرجوع إلى مقدّمة كتاب: مناظرات في أصول الشريعة الإسلامية بين ابن حزم والباجي، عبد المجيد تركي، دار الغرب الإسلامي، بيروت، 1994، وفيه تناول المناظرة وتاريخيتها.

[2] جمال الدّين محمد بن مكرم ابن منظور، لسان اللّسان: تهذيب لسان العرب، بيروت: دار الكتب العلمية، 1993، مادة «نظر»، ص628.

[3] محمد بن أحمد بن تميم الخشني، طبقات علماء إفريقية، القاهرة: مكتبة مدبولي، 1995، ص 220.

[4] محمد بن عبد الله ابن الأنبار، الحلة السيراء، بيروت: الشركة العربية للطباعة، 1963، ص263.

[5] تولى الحكم الأغلبي من 874م/261 هـ إلى 982م/ 289 هـ.

[6] الخشني، المصدر نفسه، ص198.

[7] تحدّث محمد اليعلاوي عن «الحلقات القيروانية»، ويذكرنا ذلك بما يحدّث اليوم من حلقات علمية في مختلف المجالات المعرفية. انظر: محمد اليعلاوي، الجدل المذهبي بين المالكية والشيعة عند انتصاب العبيديين، أعمال ملتقى «القيروان مركز علمي بين المشرق والمغرب حتى نهاية القرن الخامس للهجرة»، مركز الدراسات الإسلامية بالقيروان، 15-17 أبريل، ط 1995، (سلسلة الملتقيات)، ص 270.

[8] من أهمّ قواعد المحادثة عند قرايس قاعدة التعاون وتتمثّل في أن تكون مساهمتك في المحادثة مطابقة لما يطلب منك:

Grice.H.P, logique et conversation, in communication K n30K p57-72 (trad , d’un articles paru en 1975).

[9] محمد اليعلاوي، المصدر نفسه، ص 270.

[10] أبو بكر عبد الله بن محمدالمالكي، رياض النفوس، بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1994، 1-2، تحقيق: البشير البكوش، ج2، ص100.

[11] خصّص المالكي في آخر حديثه عن سعيد بن حداد ومناظراته فصلًا بعنوان: «ذكر زهد أبي سعيد بن الحداد»، ص 97-115.

[12] المالكي، المصدر نفسه، ج2، ص97-98.

[13] المالكي، المصدر نفسه، ص76.

[14] المالكي، المصدر نفسه، ص 75.

[15] المالكي، المصدر نفسه، ص 75-76.

[16] قاضي الشيعة الإسماعيلية وهو معاصر لأبي عثمان سعيد بن الحداد.

[17] المالكي، المصدر نفسه، ص 60.

[18] للتعمّق في هذا المفهوم يمكن العودة إلى مقال جان كلود أنسكونبر (Jean-Claud ANSCOMBRE):

«Le ON-Locuteur: Une entité au multiples visages» وفيه رصد التحوّل الذي حصل لسانيا من مفهوم «تعدد الأصوات polyphonie» إلى مفهوم «المتكلم الجمع ON-Locuteur».

[19] انظر كتابه «Ce que parler veut dire: l›économie des échanges linguistiques» 1982م، ولقد خصّ فصلًا من فصول كتابه بعنوان «Les actes autorisés» أي الأعمال المفوَّضة.

[20] المالكي، المصدر نفسه، ص 75.

[21] المالكي، المصدر نفسه، ص 58.

[22] المالكي، المصدر نفسه، ص 60.

[23] المالكي، المصدر نفسه، ص72.

[24] المصدر نفسه.

[25] راجع كتابه «GarandDominique , La griffe du polémique. Le conflit entre régionalistes et exotiques au Québec, Montréal, Hexagone, 1989». وكذلك يمكن الاستفادة من مقال تناول هذا الكتاب:

Hayward Annette ,La Griffe du polémique, in voix et image, vol 16, n 2 , (47) 1991, p329-331

[26] راجع الخبر، ص 59.

[27] المالكي، المصدر نفسه، ص59.

[28] المالكي، المصدر نفسه، المناظرة 1، ص60.

[29] المالكي، المصدر نفسه، المناظرة 2، ص61.

[30] Roellenbleck, GEORG, Le Discours polémique: aspects théoriques et interprétations, GunterNarrVerlag, 1985 (Réunit les communications d›un colloque... tenu en mai 1978 à Cologne).

[31] TUTESCU Mariana, L’Argumentation Introduction à l’étude du discours, Université de Bucarest, 2002 Chapitre V. Le discours polémique, aspect outrancier de l’argumentation

[32] آل عمران/ 79-80 {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ اللَّهُ الْكِتَٰبَ وَالحُكْمَوَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَـٰكِن كُونُواْ رَبَّـٰنِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَٰبَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ، وَلاَيَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ المَلاَئِكَةَ وَالنَّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ}.

[33]المالكي، المصدر نفسه، ص 60.

[34] سورة فصلت، آية:42 .

[35]المالكي، المصدر نفسه، ص61.

[36]المالكي، المصدر نفسه، ص 62.

[37]المالكي، المصدر نفسه، ص 77.

[38] سورة المائدة، الآية: 95.

[39]المالكي، المصدر نفسه، ص 77.

[40] عدنا إلى التفاسير التالية: جامع البيان في تفسير القرآن، الطبري (ت 310 هـ)، مفاتيح الغيب/ التفسير الكبير، الرازي (ت 606 هـ)، الجامع لأحكام القرآن، القرطبي (ت 671 هـ)، تفسير القرآن الكريم، ابن كثير (ت 774 هـ)، أنوار التنزيل وأسرار التأويل، البيضاوي (ت 791 هـ)، تفسير الجلالين، المحلي و السيوطي، المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، ابن عطية (ت 546 هـ)، زاد المسير في علم التفسير،ابن الجوزي (ت 597 هـ)، تفسير القرآن، ابن عبد السلام (ت 660 هـ)،... إلخ.

اعتمدنا موقع التفاسير http://www.altafsir.com/

[41] سورة آل عمران، الآية 144.

[42] المالكي، المصدر نفسه، ص 82.

[43] المالكي، المصدر نفسه، ص 82.

[44] تؤكّد بعض النظريات اللسانية التداولية الحديثة هذا المنزع، وترى أنّ كلّ عمل لغوي هو عمل إنشائيّ بالضرورة... إلخ.

[45] المالكي، المصدر نفسه، ص60.

[46] سورة الأعراف، الآية 87.

[47] الطبري، تفسير جامع البيان في تفسير القرآن، اعتمدنا موقع التفاسير http://www.altafsir.com/

[48] عالم اجتماع أمريكي من أصول كندية ولد سنة 1922 وتوفي سنة 1982

[49] وذلك في كتابه كتاب «The Presentation of self in everyday life» 1973 الذي ترجم إلى الفرنسية سنة 1979 تحت عنوان: «La Mise en scène de la vie quotidienne»، واستفدنا خاصة من الفصل «La Présentation de soi».

[50] تتعلّق نظرية «الوجه» عند قوفمان بالقيمة الاجتماعية للشخص وبمكانته.

[51] هذا المفهوم مفهوم أساسي عند ديكرو أخذه خاصّة من باختين (Bakhtine) وبالي (Bally).

[52] المالكي، المصدر نفسه، ص 58.

[53] المالكي، المصدر نفسه، المناظرة 1، ص60.

[54] المالكي، المصدر نفسه، المناظرة 1، ص60.

[55] المالكي، المصدر نفسه، المناظرة 5، ص76.

[56] المالكي، المصدر نفسه، ص62.

[57] المالكي، المصدر نفسه، هامش صفحة 62.

[58] المالكي، المصدر نفسه، ص 91.

[59] المالكي، المصدر نفسه، ص 91.

[60] المالكي، المصدر نفسه، ص 91.

[61] سورة الكهف، الآية 66.

[62] المالكي، المصدر نفسه، ص91.

[63] المالكي، المصدر نفسه، ص 92.

[64] اعتمدنا موقع التفاسير http://www.altafsir.com

[65] المالكي، المصدر نفسه، ص78.