شعار الموقع

الاستشراق الأمريكي المبكر بالعرب والإسلام: تطبيقات في كتاب إرفنغ (محمد وخلفاؤه)

محمد الدعمي 2004-10-14
عدد القراءات « 613 »

إرفنغ والشرق: تفرد الدوافع.

ان تقييماً دقيقاً لكتاب (محمد وخلفاؤه) لواشنطن إرفنغ (1783ـ1859) يتطلب توجيه الضوء إلى المهاد الفكري الذي اكتنف تأليفه. وتبدو مهمة استقصاء تطور هذا العمل بإطار حياة المؤلف وطبيعة تطلعاته الشخصية بدرجة بالغة من الأهمية. وفي جميع الأحوال، يبرز هذا الكتاب واحداً من الشواخص الدلالية على طريق أية دراسة جادة للفكرة الغربية ـ والأمريكية على نحو خاص ـ عن الشرق العربي ـ الإسلامي. ليس هذا الكتاب مهماً فقط لأنه كُتب بقلم، «أول رجل أدب أميركي يعرف عالمياً» (1) ، ولكن كذلك لأنه يبرز تبرعماً مهماً من مفهوم غربي متغير للشرق، أناسه وحياته الروحية. ان موقع إرفنغ الفكري الاستثنائي، «مُوصلاً دولياً» (2) يضفي المزيد من الدلالات على قيمة آرائه التي تطورت عبر هذا وغيره من الكتب الاستشراقية المهمة والرائدة.
إذا ما رُصد استشراق إرفنغ بداخل مهاد فكري مضاد (3) ، فان اهتمامه بالشرق، فضلاً على غزارة نتاجاته في الموضوع ـ بضمن عملين نثريين كبيرين ومحاولة مسرحية مبكرة ـ يوجب علينا عزل مساهماته عن الاتجاهات الاستشراقية الأدبية في القرن التاسع عشر. ومقارنة بالكتّاب الغربيين المعاصرين عامة، لايحتل إرفنغ موقعاً بعد أي مفكر. في دراستها الممتعة حول (أوريندا ميلغل) Melvilles Orienda 1961، حاولت دورثي فنكلشتين أن تخضع استشراق إرفنغ للتصنيف باعتباره «تجسيداً» لاتجاه أدبي أوروبي (4) .

ولأن هذا الكاتب لايمثل بؤرة دراستها، حاولت هذه الباحثة أن تسوي نتاجات إرفنغ مع غيره كي تضعها في سلة استشراق «النيويوركيين» ـ نسبة لمدينة نيويورك ـ هؤلاء المفكرين الذين يتميزون عن التيارين الاستشراقيين الآخرين: الرومانسيون المثاليون Transcendentalist و«البوستونيون الجدد» (5) ـ نسبة لمدينة بوستن. ولكن إهتمامات إرفنغ تبدو مختلفة كثيراً عن هذه الاتجاهات بفضل أسبقيتها زمنياً وبفعل ارتكانها إلى خزين مرجعي غني للغاية. ان اهتمام هذا الكاتب بالشرق لاينحصر بكونه أسلوباً «لقراءة» أفكاره الخاصة «في هذا الشرق»، وهو اهتمام لايتحدد بوصفه، «بوابة لتحقيق الاشباع الروحي» (6) ، بالرغم من عكس كتاباته لمثل هذه الرغبات أحياناً. وإذ يتجذر ولع إرفنغ بالشرق في اهتمامات أميركية بحتة، فإن للمرء أن يلاحظ طلائعية استشراق هذا الكاتب بقدر تعلق الأمر بتأريخ الأدب والثقافة الأمريكية.

ومن ناحية ثانية، لايمكن أن يُعد إرفنغ رافداً من تيار أوروبي معاصر، بالرغم من استثماره لنخبة من الأبحاث الأوروبية الجديدة (7) ـ حينئذ ـ في تاريخ العرب والإسلام. إن دراسة دوافع إرفنغ لن تخفق قط في الاستدلال على غياب دافع «المسألة الشرقية» (8) الملحة حينذاك لأن هذا الدافع كان يحتكر الاستشراق المصلحي الأوروبي بفعل تواهن وترهل الدولة العثمانية وتسابق «الكولونياليات» الأوروبية لتقاسم أوصالها وموجوداتها بحسب تصارع عسكري وسياسي مرير. ومن ناحية أخرى لاتمثل كتابات إرفنغ استئنافاً عقيماً «لموقف أدبي رومانسي» يوظف الشرق، «قناعاً غرائبياً مستورداً» (9) . وبالرغم من أن كتاب (محمد) «ص» يوفر للقارئ الغربي مسحاً للتقاليد الدينية القديمة في الشرق الأوسط، فإنه لايمكن أن ينخرط في صفوف الجهود الفكرية المسخرة لما يسمى بـ «الجغرافية المقدسة» (10) Sacred geography الناشطة حينذاك، والتي تتبّع الجذور الدينية في «أقاليم الكتاب المقدس» (11) Bible Lands. ولاشك بأن عمق اهتمام إرفنغ وطبيعة خلاصاته تقدم البنية على أن رومانسيته تتجاوز تلك الرومانسيات التي تستحضر الشرقي تلونياً، أو أداة لتحقيق إصلاح محلي معاصر. إن انكماش واشنطن إرفنغ من المعاصرة، فضلاً على بغضه لأحوال عصره عامة، ذلك البغض المدفوع بانفصاليته الفردية، يكرسان الانطباع بأن استشراقه ما كان من تشكيل المصلحة السياسية الآنية الضيقة.

وإذا كانت أطروحة مونتغومري واط Watt بطلائعية موقف كارلايل Carlyle تجاه محمد (ص) والعرب والإسلام (12) قد تبدو صحيحة بقدر تعلق المسألة بالفكر البريطاني، فان المرء يضطر إلى الاعتقاد بأن مساهمة إرفنغ لاتقل قيمة عن مساهمة كارلايل إزاء الفكر الغربي عامة. ان مصادر إرفنغ الأغنى (13) ، وأساليبه في المعالجة ـ طرائقاً للإقناع ـ لم تكن من تشكيل ضغوط عصر مترد (14) . ان الأفكار المضادة للشرق العربي ـ الإسلامي السائدة في أميركا ارفنغ لاتختلف البتة عن الآراء العدائية التي كان كارلايل يحتج ضدها في أوروبا. ومن المفيد التنويه إلى أن «سيرة» محمد (ص) بقلم بوش Bush ـ وهي السيرة المؤسسة والمقبولة في أميركا حينذاك ـ لاتتعدى كونها عملاً، «يتبع خطى» بريدكس Prideaux (15) . أما كتاب بريدكس فهو تجسيد دقيق للتأريخ الأوروبي المشوه لحياة الرسول الكريم. إنه كتاب لايضيف شيئاً يذكر على أفكار العصر الوسيط المتحاملة على محمد (ص) والعرب (16) . ان بريدكس يستأنف تلك التشويهات المتأسسة إبان عصور التعمية والتصادمات العسكرية (17) .
وحيث يوبخ كارلايل الجهل الأوروبي المعاصر بالإسلام بوصفه جهلاً «معيباً لنا فحسب» (18) ، فإن محاضرته في «البطل نبياً: محمد: الإسلام» قد ألقيت عام 1840 ـ ونشرت على نحو فصل في كتاب (في الأبطال وعبادة البطل والبطولي في التاريخ) عام 1841. لقد سبقت هذه المحاضرة كتاب إرفنغ (محمد) «ص» 1849ـ1850 بثمان سنوات. وحيث أنها قد صُممت جزءاً من «نظرية البطل» (19) ، فإن المحاضرة لم تكن تشكيلية الأثر في أغراض إرفنغ وأفكاره. لقد تمخض استشراق الأخير عن مجموعة كتب ضخمة مصممة طبقاً لمتطلبات تختلف تماماً عن تلك التي كانت محاضرة كارلايل تتناغم معها. وفضلاً عن ذلك، فقد تم التخطيط لكتاب (محمد) «ص» مبكراً، عام 1827، خلال المكوث الأول للكاتب في اسبانيا (20) ، وهذه حقيقة تدعم الميل إلى غض النظر عن احتمالات تأثير كارلايل على إرفنغ.

وإذا استكمل إرفنغ خطة الكتاب الذهنية وترك مخطوطته جانباً، فإنه عاد لينقحها عام 1831، أي قبل محاضرة كارلايل بعشرة أعوام (Mah.،) وقد تعرضت هذه المخطوطة لتنقيح ثان أثناء رحلة الكاتب الثانية إلى إسبانيا، وبإيحاء من بحث للمفكر اليهودي الألماني غوستاف فايل Weil الموسوم (النبي محمد: حياته وتعاليمه) (شتوتغارت، 1843).
وقد أشار إرفنغ إلى مديونيته لهذا البحث في كتابه. ويخلو كتاب (محمد) «ص» لإرفنغ من أية إشارة، مهما كانت، إلى كارلايل أو إلى محاضرته.

واقتراباً من هدف الكشف عن قيمة مساهمة إرفنغ في تكوين صورة جديدة عن الشرق العربي ـ الإسلامي، تنبغي الإشارة إلى حقيقة ذات شأن: إن اهتمام إرفنغ بهذا الإقليم يضرب بجذوره عميقاً في مزاجه وذوقه الشخصي. أما كتابه، فبالرغم من استفادته من مصادر أوروبية، فإنه يبدو نتاجاً ذا نكهة أمريكية بقدر تعلق الأمر بفكرة التأليف الأصلية. ومن الناحية الشخصية الأولى، كان كتاب (ألف ليلة وليلة) واحداً من إثنين من المؤلفات التي عشقها إرفنغ مذ كان صبياً (21) . وبإضافة المؤلف الثاني (روبنسون كروسو) إلى غذائه الفكري المبكر، يبرز حب الفتى اليافع للبعيد وللقديم وللشرقي على نحو عام. أما من الناحية القومية الثانية، فقد كان دافع مكوث إرفنغ الأول في اسبانيا (1826ـ1829) ينطلق من رغبة وطنية لأن يؤرخ لبلاده. بدءاً، يتلخص الهدف من الفترة الاسبانية بإيجاد مواد أولية وترجمة لحياة كولومبس، مكتشف أمريكا (22) . وإذ تبلورت هذه الرغبة بكتابه (حياة ورحلات كولومبس) 1828، شهدت جهود الكاتب إنتقالاً في بؤرة الاهتمام. لقد حلَّ الولع بالتاريخ وبالشواخص الاسبانية محل الاهتمام القومي بمكتشف أمريكا. وقد كان هذا التحول مُدراً بسبب اتصال الماضي الاسباني بماضي العرب. وكانت المحصلة مجلدات: (فتح غرناطة) 1829، (الحمراء) 1832، (محمد)، فضلاً عن مسرحية تجريبية ناجحة بعنوان (أبو حسن). ان هذه المتغيرات، إضافة إلى معرفة إرفنغ الحسنة باللغة الاسبانية ومعرفته المتواضعة باللاتينية والألمانية، تؤكد الطبيعة التشبثية الفردية لاستشراق إرفنغ. وإذ تدين اهتماماته بوجودها لخيال استشراقي مبكر، فإنها تبرز نتاجات عرضية لعشقه للقديم في نهاية المطاف.

(محمد وخلفاؤه): إنتزاع الترسبات وتكوين الرؤية

يتبع كتاب (محمد) خطة ذهنية بسيطة البنية: فالكتاب ينمو مع نمو محوره. وفضلاً عن مقدمة أولية تتناول أحوال عرب الجاهلية، ينبني الكتاب من فصول قصيرة تقص الأخبار الرئيسية لحياة الرسول (ص).
ولولا زمرة من المقاطع المحتوية على تعليقات وتأملات الكاتب، فإن الكتاب منمط على أساس سيرة محمد (ص) الإسلامية التقليدية. وتؤول هذه الفصول إلى الفصل 39 والذي يتكرس لخلاصات الكاتب في شخصية الرسول (ص) وطبيعة رسالته (Mah.، 327-41). ويزيد المؤلف الكتاب بـ «ملحق» في «الايمان الإسلامي» في محاولة منقوصة لاختصار عناصر وعقائد وطقوس الدين (Mah.، 345-73)
وإذ يقدم إرفنغ شيئاً، «من قبيل الادعاء بجديد الحقائق»، فإنه يرتكن تأسيساً على سيرة «أبو الفدا» لحياة محمد (ص)، وهذه حقيقة ينوّه إليها الكاتب في «التوطئة». وتبرز أهمية اعتماد هذه السيرة من حيث أن الكتاب ليس ترجمة حرفية لمخطوطة أبو الفدا، ولا دحضاً لها من ناحية أخرى (23) . تقدم هذه المخطوطة الهيكل العام الذي يقوم الكاتب بإكسائه بمادة تحليلية ومعالجة متعاطفة. ينطوي مجرد القبول بسيرة كاتب مسلم، مصدراً أولاً للمعلومات، على لاثقة إرفنغ بالمراجع الغربية.
ولكن هذه الحال لاتعني بأن المؤلف كان مدفوعاً بضرورات ندرة المصادر: ان الكتابات التي عينها إرفنغ في كتابه غنية على نحو مثير للتعجب (24) . لاتعكس هذه المصادر عمق اهتمام الكاتب فحسب، بل هي مرآة لحريته في إستلال المواد والمقارنة فيما بينها.
ويتواصل اعتماد إرفنغ على تاريخ أبي الفدا مع عشقه للصوري وللقصصي. وهنا، كما هي الحال في السير الأخرى التي كتبها، إلتصق إرفنغ بالحقائق لأن «السيرة ليست عملاً روائياً، يُحرف بحسب إرادة الكاتب، ولكنها أثر يُستبنى ببطء» (25) . لقد استثمر المؤلف الحقائق العارية كي يحقق تناغماً بين التاريخ الصحيح والرومانسي، ذلك أنه موقن بأن القصة، «هي هيكل، عليه أفرش موادي» (26) . لقد كان وجود إرفنغ، بأسلوبه القصصي والتصويري، محسوساً عبر فصول الكتاب.
وتبدو إنتقائية إرفنغ عنصراً مهماً في استثماره للمراجع كما تعكس ذلك معالجته ومدخله المتمعن للموضوع. ويضطر القارئ للشعور بأن الكاتب كان دائم الشك في معالجته للمعلومات الأولية. انه يوظف جميع المصادر المتوفرة في محاولة لإنجاز تاريخ مكتمل. ولكنه، بذات الوقت، دائم الحذر في تعامله مع المواد، شرقية أو غربية: إذا كان أمامه خبر حقيقي أو كاذب أو مبالغ به. وهذه الميزة، إذ تعكس روحاً علمية متحررة من قيود الانحياز، وبرغم هذا، فإن تاريخ إرفنغ برز تاريخياً غير مفرغ من صفته الروحية والعلوية، فارفنغ يقترب من العدالة في تقديم جميع جوانب السيرة، إن هي تقليدية أو حديثة. وكمثال على ذلك، يقص الكاتب أخباراً استخدمها بعض الكتاب المسلمين، وهي حوادث تقص عدداً من المعجزات المنسوبة إلى الرسول (ص)، وهنا يعلق إرفنغ قائلاً:
إن المعجزات المسجلة هنا غير موجودة في صفحات أبي الفدا، وهي غير مؤكدة من قبل أي من الكتاب المسلمين الثقاة، ولكنها موجودة في التقليد.. لنا أن نتذكر بأن محمداً نفسه لم يدع بسوى القرآن معجزة. (Mah.، 101; see also، p.330) ويبدو إرفنغ، عند تعامله مع المصادر الإسلامية، حذراً من إشكالية كون، «الذكريات التوثيقية الخاصة بمحمد تميل للمبالغة، بينما تمتلئ التقليدية منها بالخرافة» (Mah.،333). حيث أنه يحاول تحقيق تقييم عقلاني مؤسس على الحقائق، فإنه يظهر نفس الدرجة من التشكيك عند استخدامه للتواريخ الغربية. ولهذا يتكرس الجزء الأكبر من فصله الأخير لدحض تلك التواريخ وما إعتراها من شوائب الضغائن. إنه لمن المثير للاهتمام أن تأملات إرفنغ أدت به إلى موقف بعيد عن الصورة المشوهة الظالمة التي «قدمها البعض» (Mah.، 337) من الغربيين، ان موقفاً مثل هذا ـ موقفاً متحرراً من الانحياز ـ يؤول إلى إعجاب لاغبار عليه بمحمد (ص).
لقد أبرز تأثير الحضارة العربية ـ الإسلامية لناظر المؤلف وطأة الفتوح العربية متمثلة في صروح وقلاع ومكتبات الحمراء; «لقد اكتسح هؤلاء الفاتحون زوايا العالم القديم» (Mah.، II.، 499) ولهذا يميل إرفنغ إلى تتبع النمو العجيب لتلك، «الغيمة الصغيرة التي ارتفعت من صحارى الجزيرة العربية» (Mah.، II.، 499)، كي يبرر الانتصارات الجبارة التي، «هزمت.. العصبة الرومانية، والكتائب الاغريقية، وجيوش فارس الجرارة، حاملين إنتصاراتهم من أبواب قوقازيا إلى السفوح الغربية لجبال الأطلسي; ومن سواحل الغانجز إلى السوس، أبعد أنهار موريتانيا، ليزرعوا بيارقهم الآن على أعمدة هرقل، ويهددوا أوروبا بذات الاكتساح». (Mah.، II.، 500)

وفي جهد لاستطلاع القوة الأصلية المحركة والكامنة وراء هذه الفتوحات، يجد إرفنغ أن عرب قبل الاسلام هم «عنصر مقاتل، غير واع لقوته.. مفكك وغير مؤذٍ في أعماق صحاريه» (Mah.، 29. وهكذا يقود إرفنغ إلى استمكان «عبقرية» أو «إرادة» فذة لوت هذه القبائل التي لاتلتوي، وأطلقتها لتكتسح العالم القديم. إن أية مراجعة لأحوال عرب الجاهلية لن تخفق في إماطة اللثام عن دور محمد (ص) التثويري:
جاءت الساعة بعد طوال زمن لأن تتحد القبائل المتنافرة بدين واحد، ليسكنها هدف واحد، إذ برزت عبقرية جبارة تجمع الأفخاذ المشتتة، لتبعثها بروح متحمس جسور، وتقودها إلى الأمام ـ عملاقاً صحراوياً ـ كي ترج وتقلب إمبراطوريات الأرض. (Mah.، 29)

وليس من شك بأن إرفنغ لايجد محمداً (ص) فاتحاً عسكرياً; فلو كان هذا هو دافعه فقط، «لغدا واحداً من أعظم المخططين العسكريين» في التاريخ (Mah.، 338). لقد كان إيمانه الروحي وراء العرب المسلمين الأوائل، دافعاً ومحرضاً، على طريق، «إنتصارات لايمكن لأي مقياس عسكري التكهن بها» (Mah.، 338). وبرأي إرفنغ، فإن محمداً (ص) يسمو فوق طبقة الفاتحين التأريخيين الذين يركضون وراء ثروات الدنيا وأبهة الأرض. ان تحليل إرفنغ لتواضع الرسول (ص) ولسموه الروحي يؤكد عمق ونقاء رسالته وإيمانه غير المشوب. يقول إرفنغ، «لم توقظ إنتصاراته العسكرية أي تفاخر أو تمجيد وخيلاء، كما كانت لتوقظ لو أنها توجهت نحو أهداف أنانية» (Mah.، 339). وإزاء مهاد غربي مؤسس على إعتبار محمد (ص) «رجل السيف»، يستجيب الكاتب مذكراً بأنه، «إذا كان يهدف للهيمنة العالمية، فهي هيمنة الإيمان» (Mah.، 339). وينجذب إرفنغ على نحو خاص إلى تكريس محمد (ص) الروحي لذاته، وهي مسألة تنطوي على رفض الكاتب للمترددات الغربية المشوهة: لقد إستخدم محمد (ص) الثروات التي أتت بها انتصاراته في:
مساعدة الفقراء من المؤمنين، حيث غالباً ما كانت تفرغ خزينته حتى آخر قرش. يقول عمر بن الحارث بأن محمداً، وهو على فراش الموت، لم يترك ديناراً ذهبياً ولا درهماً فضياً، لم يترك عبداً أو أَمَة، ولا أي شيء باستثناء بغله «دلدال»، وسلاحه والأرض التي وهبها لزوجاته.. وللفقراء. (Mah.، 339)
ان قائداً من هذا النمط لايمكن أن يكون رجلاً، «بلا مبادئ»، كما «صُور لنا» (Mah.، 330) على حد تعبير إرفنغ. وإذ يعي المؤلف مفاهيم قرائه المؤسسة بحذافيرها، فإنه يتقصد التحذير من أن محمداً، «بريء من التطرف الذي أُلصق باسمه» (Mah.، 330). انه لمن المثير للاهتمام ان الكاتب يرد على الكثير من الاتهامات الغربية والتقولات المدعية بدنيويته. ولذلك يذهب إلى استخدام تضحيات محمد (ص) مؤكداً على، «نكران الذات المثالي» (Mah.، 340) لديه. وفضلاً على ذلك يحاول إرفنغ تفحص دوافع محمد (ص) بدقة، متسائلاً:
هل هي الثروة؟ كان زواجه من خديجة قد جعل منه رجلاً ثرياً قبل ذلك.. هل هي الشهرة؟ لقد وقف محمد قبل نبوته عالياً في موطنه، رجل ذو ذكاء وأمانة. انه ينحدر من قبيلة قريش الشهيرة، ومن أشرف منازلها. هل هي القوة؟ إن سدانة الكعبة سوية مع زعامة المدينة المقدسة، كانت حكراً لعائلته لأجيال عديدة، وقد كفل وضعه وظروفه له مستقبلاً مؤمّناً نابعاً من هذه الثقة العالية. لقد سدد محمداً ضربة إلى جذور جميع هذه الميزات، في محاولته إطفاء الإيمان الذي كان سائداً. (Mah.، 333)
لقد قدم محمد (ص) تضحياته في ظروف تميل إلى العدائية أكثر منها إلى الاستجابة العقلانية، وهكذا يستأنف إرفنغ تحليله المأخوذ بلا مصلحية الرسالة، إذ يخفق مرة بعد أخرى في إيجاد أية أهواء مادية. وبدلاً عن الأهواء المصلحية، ينبهر إرفنغ لمعاناة محمد (ص) التي قاساها، «في فترة من العمر، يحاول الإنسان خلالها الاستمتاع براحة إثمارات الماضي، أكثر من أن يغامر بمشاريع جديدة» (Mah.، 127-8). ان المعاناة التي عاشها الرسول (ص) خلال المرحلة المكية تقدم لإرفنغ رجلاً ذا إيمان لامثيل له:
أكان هناك أي شيء مضيء في بداية رسالته، شيء يعوضه عن هذه التضحيات؟ على العكس، لقد بدأت نبوته وسط جو من الشك والسرية. ولأعوام طوال لم تحظ دعوته بأي نجاح يذكر. وإزاء إعلانه عقائده ووحيه، تعرض محمد للسخرية وللإغفال وللقذف، وبالتالي، للاضطهاد المستمر; لقد دمر هذا كله ثروته وثروات صحابته، ودفع ببعض أفراد أهل بيته وصحابته إلى اللجوء في أرض أجنبية، وفرض عليه الاختباء عن الأبصار في موطنه، وأخيراً دفع به لأن يحيا هارباً يبحث عن مستقر غير أكيد في مكان آخر. (Mah.، 334)

وبعيداً عن القبول بالتشويهات الغربية قديمة الجذور، تؤول تحليلات إرفنغ إلى إعجاب صريح بإيمان محمد (ص) الثابت. ففي فترات القوة، «خذل محمد شهوات الأرض بعد أن آلت له القوة الدنيوية» (Mah.، 340).
وقد كان محمد (ص) يديم إيمانه الثابت خلال فترات الأزمة والأتراح. ولهذا يتفحص إرفنغ سلوك الرسول (ص) عند فقدانه ولده الوحيد. يتبع محمد (ص) جنازة إبنه إلى القبر وسط آلام الفراق، إذ «يقدم بيّنة أخرى على أن عناصر دينه دائمة الحضور في ذهنه» (Mah.، 303). ويتأكد هذا الثبات الروحي من خلال ساعته الأخيرة في الحياة، في ذلك الوقت الذي يفقد خلاله المرء جميع الآمال الدنيوية وتخبو المغريات والمصالح. هذا بلا شك هو وقت الكشف عن مكنونات النفس وحقائقها. يتعجب إرفنغ من أنه حتى أثناء ساعته الأخيرة، حيث لادافع دنيوي.. كان محمداً ينطق بنفس إيمانه الديني، وإيمانه برسالته. وقد انطلقت آخر الكلمات من بين شفتيه لتقدم ثقته بالتحاقه لرفقة الأنبياء الذين سبقوه. (Mah.، 341)
ودحضاً للاتهامات الغربية الذائعة والمشكلة ضد الرسول (ص) بإدعاء أنه «مستعير» من النصرانية والأنظمة الدينية القديمة، يقدم إرفنغ رداً ضمنياً ذكياً. فمن خلال استعراض للعقائد الدينية السائدة في جزيرة العرب قبل الإسلام (Mah.، 23-8)، لايجد إرفنغ نظاماً دينياً نقياً وخالصاً من التحريف، كما يقول. وعلى نحو مناقض للفكرة الغربية الملحة والقائلة بتأثيرات مسيحية، يميل الكاتب للبرهنة على أن الطوائف المسيحية المعاصرة للرسول لم تكن أكثر من، «صهاريج مهدمة، وسواقي عكرة ومنحرفة بسبب هؤلاء القائمين عليها» (Mah.، 336). وبعد تقديم مسح حسن المعرفة للكنائس الشرقية التي ينعتها إرفنغ بـ «الانفصالية والهرطقية» (Mah.، 79)، يجد أن «الإيمان الذي بشر به محمد حتى الآن أنقى من ذلك الذي كان يدعي به بعض النصرانيين الزائفين في جزيرة العرب» (Mah.،336).
وحيث يجد إرفنغ نفسه مسحوباً بين قطبين: المفاهيم الغربية المشوهة من جهة، وضياء خلاصاته كاتباً، من جهة ثانية، فإنه يبقى متحيراً في زاوية حرجة. إنه لمن المثير للتنبه بأنه لايظفر بتحرير نفسه تماماً من الترسبات المتصلبة التي غلفت ثقافته وتنشئته. وأمام غياب الوثائق الكافية والسجلات المحققة، كما يشير هو إلى ذلك (Mah.، 333 and 337)، يعترف إرفنغ بارتباكه إزاء، «تكوين تقييم عادل لشخصية محمد» (Mah.، 340). وعلى نحو متكرر يعبر إرفنغ عن «صعوبة حل لغز شخصيته وسلوكه» (Mah.، 333 and 341). ولهذا يجد الكاتب نفسه «مضطراً للبحث عن.. ثمة تفسير» (Mah.، 334)، تفسير يتدبر من خلاله إعجابه بمحمد بضمن بيئة فكرية مضادة وعميقة القدم. وبداخل مثل هذه البيئة، التي أخفقت في رؤية إيمان محمد (ص) كاملاً، يضطر إرفنغ للاعتماد على «الافتراضات» (Mah.، 341)، أكثر من الارتكان إلى خلاصات واضحة وملموسة. وإذ يقدم المؤلف تأريخاً ينطوي على تقدير بالغ لشخصية الرسول (ص)، فإنه يبدو ميّالاً إلى موقف توفيقي للتسوية بين تطرف التراث الغربي الملبد وبين عواطفه الفردية الخاصة:
إنه لمن الصعوبة بمكان أن نوفق بين مثل هذه التقوى المتقدة والمثابرة من جهة، وبين الإدعاء بنظام كاذب وكافر متواصل، ولابين مدارك نقية ومتسامية حميدة كتلك الموجودة في القرآن، وبين ذهن تطارده العواطف غير النبيلة، ذهن مكرس لشهوات النفس الدنيوية. (Mah.، 341)

خلاصة:

لن تخفق أية قراءة، مهما كانت عرضية، للجزء الأول من كتاب واشنطن إرفنغ (محمد وخلفاؤه) في تتبع ذهن متحرر يحاول إطلاق الذات من مكبلات العدائية والضغينة والتشويه. لقد تميزت نقطة البداية عند هذا الكاتب الأمريكي الرائد بأنها نقطة حيادية لعدم التمكن من إستمكان مصالح أو مخططات معاصرة دافعة وراء تأليف الكتاب.
لقد طور موقف الكاتب المتحرر أفكاراً ومفاهيم جلية التباين عن الأفكار السائدة في الغرب، برغم نقصانها. ان ضخامة عمل ارفنغ، فضلاً على الجهود المسخرة في إنجازه، تعكس عقلاً ومزاجاً متعطشاً للحقائق أكثر من ميله إلى الجدل اللامجدي. وإذ نما عمله هذا من خلال إهتمام شخصي بالشرق واهتمام أمريكي بتاريخ إسبانيا، فإنه استقر على الفتح العربي ـ الإسلامي لاسبانيا. وقد تزامن هذا كله مع الاتجاه نحو دراسة لشخصية الرسول الكريم (ص)، الذي وحّد العرب وأطلقهم نحو العالم القديم في فتوحات شملته بأسره. وبالرغم مما يشوب أفكار المؤلف من نواقص ولاإكتمال، فإنها أفكار مهمة مقارنة مع المفاهيم المعاصرة وتلك التي هيمنت على تاريخ الفكر الغربي. وبأخذ محاضرة كارلايل بنظر الاعتبار، تبرز مساهمة إرفنغ أكثر استيعاباً وشمولية، إذ أنها تعكس ولعاً ذاتياً لانظير له وحيادية محسوسة وجديدة. إن الكتاب ذو شأن: ليس فقط لأنه كتب بقلم، «أول سفير أدبي أرسله العالم الجديد إلى العالم القديم» ـ إذا جاز للمرء استخدام كلمات ثاكري، بل كذلك لأنه يلقي ضوءاً باهراً على موضوع بقي من مسلمات الغرب عبر العصور.

*رئيس قسم اللغة الانكليزية كلية التربية للبنات ـ جامعة بغداد

الهوامش
(1) Geoffrey Moore، ed.، American Literature: A Reprentative Anthology of American Writing from Colonial Times to the Present (London: Faberx & Faber، 1964)، p. 178.
(2) Bliss Perry، The American Spirit in Literature: A Chronicle of Great Interpretes (New Haven: Yale Univ. Press، 1918)، p. 92.
(3) المراجعة المفاهيم السائدة في الغرب إبان القرن التاسع عشر وماسبقه حول محمد (ص) والاسلام، راجع:
W. Montgomery Watt، «Carlyle on Muhammed»، Hibbert Journal، 53 (1954-5)، pp. 247-54.
(4) Dorothee Metlitsky Finkelstein، Melville's Orienda (New Haven: Yale Univ. Press، 1961)، p. 16.
(5) Ibid.، pp. 14-15.
(6) Ibid.، p. 15.
(7) كما تشير «التوطئة» لكتاب إرفنغ (محمد) وكما تبين المصادر.
(8) Finkelstein، pp. 6-7.
(9) Ibid.، p. 121.
(10) Ibid.، p. 7.
(11) Ibid.، p. 3.
(12) See: Watt، pp. 247 and 254.
(13) لتكوين فكرة عن مصادر كارلايل، يراجع:
Watt، pp. 249-254.
ويراجع كذلك:
Muhammed Abdul-Hussain Al- Da`mi، «Carlyle`s Concept of the Arab-Islamic Orient: A study in The Hero as Prophet»، Orientalism: Comparative Culture Book Series، vo1. II. (Baghdad: Cultural Affairs & Afaq Arabia، 1987)، pp. 64-77.
(14) Rene Wellek، «Carlyle and the Philosophy of History»، Philological Quarterly، XX III (Jan.، 1944)، p. 72. See also: Al- Da`mi، p.66.
(15) Finkelstein، p. 166.
(16) Watt، pp. 247-8.
(17) لتكوين فكرة واضحة عن وطأة التصادمات العسكرية بين أوروبا والشرق العربي الاسلامي، إبان الحروب الصليبية على نحو خاص، على أوروبا القرن التاسع عشر، يراجع: Watt، pp. 248-9.
(18) Thomas Carlyle، On Heroes، Hero-Worship، and the Heroic in History (Ny: Dutt،on، 1973)، p. 279.
(19) للمزيد من المعلومات عن «نظرية البطل»، انظر:
B.H. Lehman، Carlyle`s Theory of the Hero (Durham: Duke Univ. Press، 1928).
(20) Washing Irving، Mahomet and His Successors، vol. I. The Works of Washington Irving، vol. VI (N.Y: G.P. Putnam`s Sons، 1881)، p. ix.
جميع الإشارات الأخرى إلى هذا الكتاب ستكون من نفس الطبعة وستضمن في المتن مع رقم الصفحة كما يلي: (رقم الصفحة Mah.،)
(21) Washington Irving، Rip Van Winkle and Other American Essays from the Sketch Book (Boston: Houghton Mifflin Company، 1922)، p. vii.
(22) Brander Matthews، An Introduction to the Study of American Literature (N.Y: American Book Company، 1896)، p.50/
(23) صادف إرفنغ مخطوطة «السيرة» لأبي الفدا في دير القديس «إسيدرو» اليسوعي في مدريد.
(24) لقد أشار ارفنغ إلى عدد من المصادر الغربية والإسلامية من خلال كتاب (محمد)، لابد أنه قد اطلع على المصادر الإسلامية مترجمة ذلك أنه لم يكن يعرف اللغة العربية. أما المصادر الغربية فقد كانت مصادر استشراقية وتقليدية الطبيعة على نحو عام تتضمن المصادر الغربية مايلي:
Custav Weil`s «Mohammed der Prophet، Sein Leben and Seine Lehre»; Burkhardt`s Notes on Bedounis; Layard`s Nineveh; Niebuhr`s Travels; Sale`s Translation of the Koran; Lane`s Modern Egyptians; Abbe`de Marigny`s History of the Arabians; D`herbelot`s Bibliotheque Orientale; Hammer- Purgstall`s Gemaldesaal; John P. Brown`s Translation of Tabari; in the Journal of the American Oriental Society.
وقد أشار ارفنغ إلى عدد من المصادر الإسلامية وهي: «سيرة محمد (ص)» لأبي الفدا (مخطوطة) و(مشكاة المصابيح). وقد أشار الكاتب إلى كتاب مسلمين دون تحديد مؤلفاتهم، وهم: المعلم، أبو عبد الله محمد الواقدي، أبو هريرة، البخاري، الطبري، أحمد بن يوسف، الجنابي.
ويشير كتاب (تاريخ أدب الولايات المتحدة) إلى صداقة أسسها ارفنغ مع «بعض المزارعين الأندلسيين». كما يشير الكتاب ذاته إلى اهتمام ارفنغ الخاص بكاتب سيرة اسمه «عبادية رك» Obadiah Rich، وهو اسم عربي الوقع. أنظر:
Rebert E-Spiller and Others، eds.، Listerary History of the United States، pp. 250 and 249.
(25) Matthews، p. 50
(26) Cited in Arthur Hobson Quinn، ed.، The Literature of the American People: An Historical and Critical Survey (N.y: Appleton- Century- Crofts، lnc. 1951)، p. 214.