شعار الموقع

الأطروحات الإسلامية الحركية تقدم وتراجع وتجديد

حسن عبد الله جوهر 2004-10-14
عدد القراءات « 573 »

1ـ صعود وتقدم

شهدت الحركة الإسلامية، كظاهرة فكرية ـ اجتماعية ـ سياسية،انطلاقة منظمة على نطاق شعبي واسع لم يسبق لها مثيل منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية،وخلال الربع الأخير من القرن العشرين. وبلغت هذه الحركة ذروة تقدمها الإعلامي والسياسي وعلى نطاق جغرافي كبير استوعب معظم البلاد الإسلامية في نهايات عقد السبعينيات وطوال عقد الثمانينيات. ولم تكن الصحوة الإسلامية العارمة في تلك الأثناء مجرد طفرة تميّز بها مسلمو العالم بل تزامنت مع نهضة دينية عالمية شملت العديد من الديانات والمعتقدات المذهبية كاليهودية والنصرانية والهندوسية والكنفوشية وغيرها، إلا أن المد الإسلامي كان الأبرز من بين تلك النهضات والأكثر انتشاراً والأهم وقعاً على إحداثيات العالم وشؤونه وتفاعلاته. ولعل من بين الأسباب الرئيسة التي ساهمت في تنامي الصحوة الإسلامية وأكسبتها ذلك الزخم المبهر خصوصية التراث الإسلامي في احتضانه لثروة فكرية متجددة العطاء وعميقة المنبع وذات قدرة متميزة في طرح برامج علاجية في مختلف ميادين وشؤون المجتمع. كما لعبت عالمية الإسلام ورسالته الإنسانية دوراً مكملاً في استقطاب الشرائح المجتمعية المختلفة في العديد من الأوطان بتوقيت متقارب، الأمر الذي ساعد على سرعة النضوج الفكري والسياسي المتماثل بين الكثير من قطاعات المجتمعات المسلمة سيما فئة الشباب والمثقفين والمهنيين. إضافة إلى ذلك فقد كان للقبول الجماهيري العارم للأطروحات الإسلامية أثر فعّال في تأصيل الحركة الإسلامية ودفعها نحو العمل المؤسسي والميداني بين مختلف الطبقات الاجتماعية سواء الفقراء منهم أو الأغنياء أو طلبة الجامعات أو النقابات المهنية والثقافية، وذلك على عكس الحركات الدينية غير الإسلامية التي انحصر نشاطها في أوسط المؤسسات الدينية والمعابد كطقوس روحانية مجردة.

وعلى الصعيد العالمي، فقد مهّدت أجواء الحرب الباردة وصراع المعسكرين الشيوعي والغربي تعطّش الكثير من المجتمعات سيّما في العالم الثالث للبحث عن هويتها المستقلة كمخرج من تبعات ذلك الصراع الأيديولوجي السياسي والاقتصادي. وجاءت الأطروحة الإسلامية بشعارها «لا للشرق ولا للغرب» لتضفي على الحركة المستقلة الجديدة روحاً معنوية وأصالة يعتد بها كهوية حقيقية وقادرة على ترجمة وعودها على أرض الواقع. ومما زاد الرغبة الحقيقية في استقلالية الحركة الإسلامية تجربة مجتمعاتها المريرة مع الاستعمار الغربي الأمر الذي ولّد نزعة عدائية مزمنة تجاه المعسكر الغربي بما في ذلك مدرسته الفكرية وأطروحاته السياسية والاقتصادية. وعلى الرغم من ميلان المجتمعات الإسلامية نحو المعسكر الشرقي في أعقاب الحرب العالمية الثانية وتبني الكثير من حكوماتها النهج الاشتراكي والثوري المدعوم من الاتحاد السوفيتي، إلا أن هذه التجربة سقطت هي الأخرى أمام إنقاذ البشر من مستنقع الفقر والتخلف وعسكرة الموارد المالية كوقود للحرب الباردة وامتداداتها الإقليمية. وقضت النزعة العدوانية للشيوعية ضد الإسلام والمسلمين على آخر خيوط التقارب بين المجتمعات الإسلا مية والاتحاد السوفيتي بعد غزو الأخير لأفغانستان والبطش المنظم ضد المسلمين في جمهوريات آسيا الوسطى، فبات البحث عن الذات متطلب أساسي للنخب المثقفة التي سرعان ما استجاب لخطابها السياسي وحركتها الميدانية الجماهير المسلمة. كما كانت لتجربة الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 ونجاحها الباهر شحنة سحرية مفعمة بالتفاؤل عن إمكانية تدشين الدولة الإسلامية، الأمر الذي زاد من حماس الحركة الإسلامية وتوجه أهدافها نحو الحاكمية السياسية.

وقد أسست العوامل سالفة الذكر أرضية جاهزة للخطاب السياسي الذي شق طريقه أمام الفراغات الفكرية والإعلامية والجماهيرية التي امتلأت بها الساحة الإسلامية، كما ساعد على رواج الخطاب السياسي للحركة الإسلامية سببان أو عاملان إضافيان: تجسد الأول في إمكانية نجاح الخطاب المبسط ذي المسحة العمومية ودون عناء التدخل في كثير من التفاصيل. وكان الطرح الإسلامي ولو بثوبه الظاهري كفيلاً باستحواذ الخطاب السياسي على ثقة الجماهير في مختلف القطاعات وبين معظم شرائح المجتمع. وتبيّن ذلك جلياً في سرعة أسلمة المؤسسات النقابية واكتساح الحركات الطلابية والمهنية ورواج الثقافة الإسلامية في عموم الأقطار الإسلامية. كما نجحت مشاريع التمويل والاستثمار ذات المرجعية الإسلامية وأحرزت ثقة الناس مما جعل من المؤسسات المالية الإسلامية عملاقاً عابراً للحدود القومية، وبدت عوائدها الربحية سنداً للكثير من الأنشطة الاجتماعية والثقافية والعمل الخيري. أما السبب الآخر والمهم في نجاح الخطاب الإسلامي فيكمن في روحية التحدي والمواجهة. فإزاء النجاحات متعددة الأوجه للحركة الإسلامية استنفر الإعلام، الغربي جهوده في تشويه صورة الإسلاميين والتحذير من ا تساع رقعة نشاطهم والتهويل لنتائج وصولهم للحكم. وساعد انهيار المعسكر الشيوعي على استفراد الإعلام الغربي بالصحوة الإسلامية كعدو بديل للشيوعية، وتم وضع كافة الإمكانيات المادية والتقنية ذات تجربة عريقة امتدت لنصف قرن لمواجهة المد الإسلامي الناشئ. ومن الطبيعي أن توازي هذه الحملة المكثفة بوسم الإسلام بأعتى صور الهمجية، والتخلف والإرهاب، ردة فعل داخلية تمثلت في روح الصمود والتحدي ما أكسب الحركة الإسلامية مزيداً من التجذّر والإنتشار خصوصاً مع مطلع عقد التسعينيات.

وكنتيجة لإفرازات ما سبق ذكره من أحداث وتطورات بات من المؤكد رجاحة كفة الخطاب الإسلامي ـ سياسياً وإعلامياً ـ على امتداد الأمة الإسلامية وتمثلت نجاحات ذلك إما بالثورة الشعبية كما حدث في إيران والسودان، أو من خلال الانتخابات العامة وتبني البرنامج الإسلامي كما هو الحال في ماليزيا وتركيا قبل الانقلاب العسكري في عام 1980، والجزائر قبل إلغاء نتائج الانتخابات التشريعية، أو من خلال ركوب الموجة الإسلامية من قبل النخب العسكرية والاقتصادية مثلما حدث في باكستان إبان حكم ضياء الحق والسودان في عصر النميري. وعلى صعيد آخر ساهمت الحركة الإسلامية في المجتمعات الغنية، وخصوصاً دول الخليج، في تعزيز النشاط الخيري اجتماعياً وفكرياً وعلى مستوى الدعوة في الكثير من دول آسيا وأفريقيا المسلمة. وأخيراً ، فقد شهدت معظم الدول الإسلامية تجمعات دينية متفاوتة النشاط والانتشار.
وعلى الصعيد العالمي، شهدت الحركة الإسلامية بروزاً دولياً أضفت على الخطاب السياسي بعداً جديداً خصوصاً من الناحية الإعلامية. وأخذت هذه الحركة نوعين من الاهتمام أولهما بروز الهوية الإسلامية بين أوساط المسلمين المغتربين في أوروبا وشمال أمريكا وانخراط هؤلاء في العمل الاجتماعي والسياسي، ما خلق جماعات ضغط على صناع القرار السياسي ضمن الإطار الدستوري والقانوني لهذه الدول. أما النوع الآخر للحركة الإسلامية فقد تمثل في قيام كيانات مطالبة بالاستقلال والحكم الذاتي إثر انهيار المنظومة الشيوعية ونجاح البعض منها في إعلان دولها القومية كجمهوريات آسيا الوسطى واستمرار البعض الآخر في نضالها السياسي تحت شعار إسلامي كما حدث في البوسنة والهرسك وإقليم البلقان عموماً إضافة إلى الشيشان وقرة باغ وغيرها.

2ـ ركود وتراجعات

وقد لايختلف اثنان على وجود تحوّل ملحوظ في مسارات الحركة الإسلامية ولعل الأمر قد بلغ نقطة انحدار منحنى المد الإسلامي نحو التقهقر أو الركود على أفضل التقديرات. وقد يكون من الصعوبة بمكان الإلمام بالأسباب التي حالت دون استمرار الصحوة الإسلامية لتداخل جملة من العوامل والمتغيرات الداخلية والخارجية بسبب التحولات الكونية الهائلة والتي تزامنت أيضاً مع تطورات موازين القوى الدولية ودخول حقبة الألفية الثالثة بما لها وما عليها من آثار ونتائج على مستقبل البشرية ككل. ورغم ذلك يمكن تسليط بعض الضوء على عدد من النقاط التي أثّرت سلباً على مسيرة الحركة الإسلامية وزرعت بداخلها أسباب الضعف والركود. ويمكن أن نقسّم هذه الأسباب إلى نوعين رئيسيين أيضاً .
ويكمن النوع الأول من هذه الأسباب في جملة من التناقضات التي ولدت مع نشأة الصحوة الإسلامية ولكنها استفحلت مع استمرار الحركة الإسلامية. وفي طليعة هذه الأسباب هشاشة مبدأ الوحدة الإسلامية بين مختلف الفصائل الإسلامية العاملة في الميدان الاجتماعي والسياسي خصوصاً بين المذهبين السني والشيعي. وساهمت الحرب العراقية ـ الإيرانية على مدى ثماني سنوات في تغذية وتعميق هذا الخلاف وزيادة حدة الطائفية، حيث فضلت الكثير من الحركات الإسلامية البعد السني في نظام علماني ومستبد وعدواني، على البعد الشيعي في نظام إسلامي مؤسسي وشعبي ناشئ تمثّل في إيران. ولعب الحصار الدبلوماسي والاقتصادي العالميين على إيران دوراً مباشراً في استمرار المشاكل الاقتصادية والإنمائية وعدم إفساح المجال أمام نجاح التجربة الإيرانية وتحولها إلى نموذج يحتذى به من قبل المجتمعات الإسلامية الأخرى.

وعلى صعيد آخر، ولّدت استمرارية الحركة الإسلامية وتشبّعها تيارات فرعية كثيرة ومتنوعة، مما أفسح المجال أمام التنافس البيني في الاجتهادات والأطروحات النظرية منها والميدانية، وكان الزمن كفيلاً بتحويل مثل هذه التفرعات إلى خلافات حقيقية وربما صراعات على قيادة الحركة أو التفاوض باسمها. وأخيراً ، شهدت الحركة الإسلامية انسحابات بارزة في صفوف البعض ممن ركب الموجة بسبب مصالح شخصية، وانعزال البعض الآخر تحت وطأة المواجهة مع السلطات السياسية في دولهم، وانحراف البعض الثالث بسبب الغنى الفاحش في التعاملات المالية ذات الطابع الإسلامي، أو شراء ذممهم بالمناصب والاغراءات السياسية والنفوذ الاجتماعي.
وكانت محصلة ذلك ظهور استقطابات حادة في حركة العمل الإسلامي ما بين التطرف واللجوء إلى العنف من جهة، والمهادنة والاستسلام من جهة أخرى، الأمر الذي جعل الأغلبية الصامتة في حالة من التيهان وانعدام الوزن إما لأسباب مالية أو غياب القيادات المتميزة، وتزامنت هذه الأسباب مع نوع آخر من العوامل الخارجية أو الموضوعية التي عمقت نقاط الضعف في مسيرة الحركة الإسلامية. ومن بين أبرز الانتقادات الموجهة إلى رموز وقيادات الكثير من التنظيمات الإسلامية توجهها نحو الخطاب الضيق خصوصاً نحو فئة المتدينين والطرح العدائي لبقية شرائح المجتمع وصولاً إلى التكفير لقطاعات عريضة بسيطة الفهم والإدراك. وقد بلغ الأمر عند هذه الجماعات بتكفير بعضها البعض. كما يعيب على الكثير من الحركات الإسلامية عدم مواكبتها لمتطلبات عالم اليوم سواء ما يتعلق بمفردات الخطاب السياسي أو آلياته. وفي هذا الصدد نجد استمرار المسحة العفوية والمبسطة والتي تصل أحياناً إلى حد السذاجة والانخداع برموز لاتمتلك الكفاءة. ويؤخذ على الحركة الإسلامية أيضاً ضعف آليات الخطاب الإعلامي واستخدام التقنية الحديثة، سيما تكنولوجيا الإنترنت والفضائيات التي بدأت تغزو ال مجتمعات الإسلامية وبمادة إعلامية مائعة ومضللة.
ولم تتواكب الحركة الإسلامية كذلك مع حتميات العولمة وخلق المؤسسات الإقليمية ذات الطابع التكاملي والنشاط العابر للحدود القومية وذات الأهداف المحددة والواضحة. وأخيراً ، كان للاختراق السلطوي والمواجهة الأجنبية لصفوف الإسلاميين وتجفيف منابعهم المالية أثر كبير في إضعاف حركة المسلمين في الكثير من المواقع.

3ـ تطوير وتجديد

وختاماً ، يجب أن نقر بأن الحركة الإسلامية في مختلف بقاع العالم الإسلامي لاتزال من أكثر التجمعات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية تنظيماً وأقربها إلى الاطمئنان والثقة الشعبيين، رغم كل ما ذكر من انتقادات ونقاط ضعف ومازال الأمل معقوداً على استمرار نجاحات هذه الحركة في حالة اتباع عدد من المناهج النظرية والعملية، منها تطوير مفردات خطابها الإعلامي والسياسي وخاصة ما يتعلق بمفاهيم الحرية والتسامح والتكامل الإسلامي، ضمن صيغ سياسية تحفظ أسس النظام العالمي وتعزز من موقع المجتمعات الإسلامية.
وكذلك، ينبغي على القيادات المنظرة للعمل الإسلامي استقطاب فئة الشباب لتحديث نمط نشاطها وتقديم قيادات جديدة قادرة على مواكبة التغيرات السريعة والمتلاحقة التي تجتاح العالم بلا هوادة.