شعار الموقع

الخطاب الإسلامي المعاصر: المبنائية والعلاجية

فيصل العوامي 2004-10-14
عدد القراءات « 754 »

عندما نتأمل في النماذج والملامح التي تجلّى فيها الخطاب الإسلامي الحديث والمعاصر،‏منذ صيحات السيد جمال الدين الأفغاني،‏ومروراً بنداءات المفكرين والحركيين والجماعات الإسلامية، وانتهاءً بكل صوت لأي داعية ومصلح نشط على الصعيد السياسي أو الفكري أو الاجتماعي، نجد أن الطابع الذي طغى على تلك النماذج كان طابعاً ‏يرمي في حقيقته إلى التجديد والإصلاح، وإن أصرّ بعضها على النمطية السلفية.. وكان لهذا الطابع أثر كبير في شيوع منهج النقد ونمط الإثارة في العمل الفكري ـ‏ولهذا فإن من يراقب الإعلاميات وكثيراً ‏من الإصدارات الثقافية يجد أنها مشبّعة بعدة من الآثارات التي عادة مالا يرتقي صاحبها إلى حد الحسم عند عرضها وإنما يقدّمها بصفتها إثارة تبحث عن مستقر علمي تستقر فيه‏ وعلى إثر ذلك كانت الأفكار والنظريات تسير في خطٍ سجالي تمتد تارة على الصعيد العلمي والشعبي وتنكمش في حالات أخرى.
ولاشك أن هذا الخطاب مع سجاليته إلا أنه سجّل تجربة رائعة في المراجعة والتصحيح الفكري، ولم يصل به الأمر إلى تجاوز أو تهميش الأصول والمباني الرئيسية للكتاب والسنة والسيرة وما أشبه،‏كما حدث في الغرب حيث كان مؤدى التجديد علمنة مطلقة.. وإن كانت ثمة أصوات تعالت في العالم الإسلامي كانت ترمي لاقتفاء المنهج الغربي بكل صوره،‏لكنها لم تستقر لا أقل على المستوى الشعبي.

إنها فعلاً تجربة رائدة في المراجعة وفي التصحيح أيضاً .. وهي تجربة يمكن أن تكون زاداً كافياً ‏يعتمد عليه ـ من خلال تجاوز أخطائه وتطوير إيجابياته‏ـ ‏في تقنين الخطاب الإسلامي الذي ينبغي سيادته في الألفية الثالثة. بناءً على ذلك فإن الخطاب الإسلامي المعاصر حيث كان تصحيحاً يعتمد على الرفض لبعض النماذج السائدة وبالتالي التأثر بالفعل ورد الفعل، وبسبب الطبيعة السجالية التي تجلّى فيها وشيوع نمط الإثارة بل والارتجالية أيضاً ، فقد أدى بعض ذلك إلى ظهور بعض النواقص العلمية والفنية، ولهذا فإن الخطاب القادم ينبغي أن يأخذ في اعتباره بعض الملاحظات التي تسهم في تهذيبه..


أولاً : الخطاب الإسلامي المعاصر بين ثقافة الشارع والثقافة المبنائية:

بفعل العوامل والظروف التي سبق الإشارة إليها، امتلأت المكتبة الإسلامية بأنواع متعددة من الثقافات الداعية للإصلاح، كان بعضها ثقافة متينة لها أسسها ومبانيها الواضحة، في حين كان البعض الآخر منها ثقافة خفيفة متسرعة أو ما يصطلح عليه بالثقافة السوقية..
ولو أردنا التمييز بين الثقافتين،‏فإننا سنجد أن ثقافة الشارع عادة ما تتصف بأمور أربعة:
1ـ هي ثقافة يكتبها غير المتخصص ـ بالذات ما يرتبط منها بالبحث التخصصي والأكاديمي، وقد تكون نتاجاً لمتخصص إلا أنه متخصص متسرِّع في انتاجه، وهو من استعجل الانتاج قبل أن تكتمل لديه الموهبة العلمية.
2ـ وهي ثقافة حماسية غير متزنة، تتكاثر فيها المواقف والأفكار الارتجالية.. ولهذا فهي عادة ما تخاطب السوق العام لكسبه وتحريك مشاعره، وتنأى بنفسها عن مخاطبة الحكماء وذوي الاختصاص.
3ـ كما أنها ثقافة هجومية،‏بل قد تكون حادّة في بعض الأحيان..‏وتتجلّى هجوميتها في التنكّر للماضي الفكري وتهميش قيمته العلمية.
4ـ تستند دائماً على أسلوب الإثارة في المناقشة الفكرية، وليس على المباني والقواعد العلمية ـ ولعل السبب يعود إلى أن أغلب كتّابها والمنادين بها من غير المختصين ـ،‏ولهذا فهي تكثر من إثارة الأسئلة والتوقفات والافتراضات.
وهذه الثقافة وإن أمكن القبول بها في ظرف زمني محدد،‏بحكم أنها تساهم في إثارة الجو العلمي وتحفيزه نحو الإصلاح والتجديد،‏إلا أن استمرارها له مضار جمة، من أبرزها تسطيح العقل المسلم، وإيجاد حالة من الإضطراف في فهم الأفكار خاصة في السوق الاجتماعي العام.
والمطلوب لتجاوز هذه الإشكالية اعتماد ثقافة المبنى، فهي تجعل العقل المسلم عقلاً مقَعَّداً يتحرك على قواعد ومباني متينة، كما أنها تساهم في خلق جوٍّ من الاستقرار والاطمئنان الفكري سواء على مستوى العقل العلمي أو السوق العام..‏وما نعنيه بثقافة المبنى «أو الثقافة المبنائية»، هي الثقافة التي تتحرك في المجال العلمي وتقبل وترفض بناءً على مبانٍ وأسس علمية صناعية،‏وهذه المباني عادة ما لاتكون وليدة لحظة وإنما نتاج تاريخ من السجال العلمي عند أهل صناعة من الصناعات العلمية،‏ولهذا فإن من قد يتأتى له إدراك حقيقة وروح تلك المباني إنما هم أهل صناعتها.. وهذا ما يجعلنا نطمئن إلى أن حركة التطوّر في الصناعة العلمية غالباً ما تكون بطيئة وغير ارتجالية لكنها راسخة. وعليه فإن الثقافة التي ينبغي أن يحملها معه الخطاب الإسلامي في متون الحقبة القادمة، إنما هي الثقافة المبنائية،‏ليس فقط في المجالات التخصصية وإنما حتى على مستوى الشارع الاجتماعي العام،‏وذلك لتمتين العقل المسلم وتعميق مستوى أدائه وتعاطيه مع الأفكار والرؤى.


ثانياً : الخطاب الإسلامي المعاصر من صناعة النقد إلى صناعة الحل..

لقد شاعت في المرحلة الماضية ثقافة النقد، وأصبحت الدعوة إلى النقد من أولى الشعارات الثقافية التي امتلأت بها المحافل العلمية بشتى أصنافها، وليس على هذا المستوى فحسب بل امتلأت بها الأسواق العامة.. حتى تراءى لكثير بان العقل العلمي إنما هو العقل المتحفّز لنقد المسلمات والأفكار والأشخاص وما أشبه، وفي خضم ذلك غابت ثقافة الجواب وتراجعت نسبة الحلول والعلاجات العلمية..
والحقيقة أن الاستطاعة العلمية إنما تكمن في مستوى القدرة على صناعة الأجوبة للإشكالات المثارة،‏والنقد وإن كان مطلوباً إلى حدٍّ ما، إلا أنه لايعبّر بالضرورة عن قدرة علمية مستقرة،‏لذا ينبغي أن يكون محطة سريعة وقنطرة يُتَوصَل من خلالها إلى الحلول العلمية..‏هذا مع ما نلتزم به من تحفّظ على القول بمنهجية ثقافة النقد من الجهتين الكبرى والصغرى.. فإما كبروياً فإن المنهج الأسلم والأعمق ليس هو النقد وإنما هو التفكير، وما جاءنا به الدين من منهج لتحريك العقل عند التعامل مع الأفكار، ووضَعَ له أنظمة وقواعد إنما هو التفكير ـ‏وليس هذا مقام التفصيل في الاستدلال على هذا التصوّر ـ، وإما صغروياً فإن ثقافة النقد قادت منتهجيها إلى الاصطدام بمطبات مؤذية، على رأسها ان الاكتفاء بالنقد واغفال الحلول جعل الناقد ضعيفاً ‏في ثوابته، كما أنه ومع مرور الزمن والتمادي في تصويب الانتقادات جعل مشروع الناقد هو النقد ذاته مماýأفقده للمشروع.
وعلى كل حال فإننا حتى لو سلّمنا بالنقد ونظرنا إليه على أنه منهج علمي، فإننا إنما نتحفّظ على الاعتماد عليه كثيراً في صياغة الخطاب الإسلامي في هذه المرحلة وندعو لاعتماد ثقافة الجواب لأمور:
1ـ لأنَّ تكوُّن الخطاب الاسلامي من مجموعة توقفات وأفكار غير محسومة بفعل التراكم الكبير للانتقادات والتشكيكات، يحوّله إلى خطاب هزيل ومتوقف، بعكس ما لو كان متكوّناً من إجابات واضحة ونظريات محسومة، فإنه آنئذ سيكون خطاباً ‏متيناً ‏ومتحركاً بل محرِّكاً .
2ـ حصر التنظير في ذوي الاختصاص.. وذلك لأن غير المختص غير قادر على صناعة الأجوبة،‏وإنما قدرته تنحصر في إثارة الإشكال فقط، بل حتى لو سعى لتقنين إجابة فإنها عادة ما تكون هزيلة.
فهذه وغيرها ملاحظات علمية أو فنية تهدف إلى ضبط الخطاب الإسلامي، وإبعاده قدر الإمكان عن الارتجالية والسطحية، بالذات فيما له صلة بالرؤى الدينية.

* كاتب من المملكة العربية السعودية