شعار الموقع

عبد الرحمن الكواكبي والاصلاح الإسلامي

زكي الميلاد 2004-10-15
عدد القراءات « 2075 »
ندوة: حركة الاصلاح في العصر الحديث،
عبد الرحمن الكواكبي نموذجاً
عمان: 15 ـ 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2002م
رئيس تحرير مجلة الكلمة ـ المملكة العربية السعودية


[ 1 ] الكواكبي والاصلاح الإسلامي

لقد تطور الفكر الاصلاحي عند «عبد الرحمن الكواكبي» (1271 ـ 1320هـ/
1855 ـ 1902م) في مرحلتين أساسيتين بينهما ترابط واتصال من جهة، وافتراق في المكان والزمان من جهة أخرى. وهما المرحلتان التي اعتنى الكتاب والباحثون بدراستهما والتوقف عندهما باهتمام باعتبارهما من المحطات الرئيسية في حياته وحركته الاصلاحية، وفي تطور خطابه وفكره الاصلاحي.
وقد وجد هؤلاء الدارسون سهولة كبيرة في إمكانية التعرف على سيرته وحياته، وعلى فكره وحركته. بعكس ما وجده الدارسون والمؤرخون من صعوبات كبيرة في التحقيق عن سيرة السيد «جمال الدين الأفغاني» وكتابة تاريخ حياته وحركته الاصلاحية، نتيجة المحطات الكثيرة والمتباعدة في حياته، حيث عرف عنه السفر والانتقال وعدم الاستقرار في مكان واحد. لذلك لا توجد إلى اليوم سيرة واحدة للأفغاني متفق عليها بين الباحثين والمؤرخين في العالم العربي والإسلامي، وحتى في العالم الغربي.
والمرحلتان اللتان نقصدهما في الحديث عن تطور الفكر الاصلاحي عند الكواكبي، هما:
المرحلة الأولى: كانت في حلب التي ولد ونشأ وترعرع الكواكبي فيها. وفيها أيضاً تبلورت تجربته الاصلاحية عن طريق الأدوار والأنشطة التي تصدى لها أو نهض بها، وشملت مجالات الصحافة والمحاماة والتجارة. وهي الأنشطة والمجالات التي جعلته على احتكاك مباشر وحي مع المجتمع من جهة، ومع السلطة من جهة أخرى. لذلك فإن الأفكار التي توصل إليها وتمسك بها، وكان شديد القطع بها، هي نتاج اختبارات وتجريبات واحتكاكات، وليست مجرد تأملات أوتجريدات أوتنظيرات باردة.
فقد شغل في مجال الصحافة محرراً بجريدة «الفرات» مدة أربع سنوات (1872 ـ 1876م) وهي الجريدة الوحيدة في حلب آنذاك، والناطقة بلسان الدولة، وكانت تصدر باللغتين العربية والتركية. ولعل هذه التجربة المبكرة كشفت له عن قيمة الدور الذي تنهض به الصحافة في تنوير الرأي العام والقدرة على تحريكه والتأثير عليه. الأمر الذي شجعه على الانخراط في هذا المجال باستقلالية، فأصدر سنة 1878م جريدة «الشهباء» بالتعاون مع «هشام العطار»، وكانت في وقتها أول جريدة عربية مستقلة صدرت في حلب. لكنها توقفت بعد صدور خمسة عشر عدداً بأمر من والي حلب آنذاك «كامل باشا القبرصي» الذي لم يتحمل المنحى النقدي للصحيفة. وعاود «الكواكبي» التجربة مرة أخرى لقناعته بهذا الدور فأصدر سنة 1879م جريدة «الاعتدال» باللغتين العربية والتركية، لكنها توقفت هي الأخرى بعد صدور عشرة أعداد منها، وبأمر أيضاً من والي حلب «جميل باشا».
وبعد هذه التجربة في الصحافة التي وجد فيها «الكواكبي» عدم إمكانية النهوض بها في ظل استبداد السلطة التي لا تحتمل النقد أو الرأي المختلف، تحول إلى العمل الإداري والحكومي الرسمي، وبدفع من السلطة. الخطوة التي يمكن تفسيرها بقصد امتصاص النزعة النقدية واحتواء الحس المعارض الذي ظهر متجلياً في نشاطه الصحفي. فقد عين سنة 1879م عضواً فخرياً بدون راتب مالي في لجنتين هما المعارف والمالية. وفي سنة 1881م أصبح مديراً فخرياً للمطبعة الرسمية بحلب، ثم رئيساً فخرياً للجنة الأشغال العامة. وفي سنة 1892م عين رئيساً للغرفة التجارية إلى جانب رئاسة المصرف الزراعي، واستقال منهما في السنة ذاتها. وفي سنة 1896م أعيد ليكون رئيساً لغرفة التجارة بحلب ولجنة بيع الأراضي الأميرية.
هذا التحول والانتقال السريع في المناصب والمواقع يكشف عن عدم قدرة «الكواكبي» على الانسجام والتوافق مع مؤسسات الدولة المستبدة. كما يكشف من ناحية أخرى عن سعي السلطة في احتوائه وترويضه وقولبته وفق سياساتها. ومن المجالات التي انخرط فيها أيضاً سلك المحاماة والقضاء ولم يستقر في منصب محدد، بل ظل ينتقل من موقع لآخر. فقد عين عضواً بمحكمة التجارة سنة 1886م بأمر من وزارة العدلية العثمانية، وفي سنة 1894م أصبح رئيساً لكتاب المحكمة الشرعية بالولاية.
هذه المجالات والأنشطة ساهمت في تكوينات «الكواكبي» في تصوراته الذهنية، ومزاجه النفسي، وانطباعاته الاجتماعية والسياسية، وفكره النقدي. فالصحافة جعلته في موقع الرقيب والناقد والمؤثر، وفتحت ذهنه على مجريات الشأن العام، والاقتراب من قضايا الأمة، والتأثير على الرأي العام. أما المناصب الإدارية والحكومية فقد كشفت له عن ديناميات الاستبداد وكيف ينمو ويتوسع في مؤسسات الدولة ويستشري فيها؟ وكيف يتضرر الناس من هذا الوضع الفاسد؟ أما القضاء والمحاماة فقد عرفه على معاناة الناس والتعدي على حقوقهم. ويسجل للكواكبي ما قام به من دور مهم في إظهار ظلامات المواطنين وحجم الضرر الذي وقع عليهم عن طريق مكتب فتحه للمحاماة ظل يستقبل فيه الشكاوي والتعديات، إلى درجة أن السلطات المركزية العثمانية كلفت مفوضاً عنها هو «صاحب بك» رئيس دائرة المحاكمات في شورى الدولة أرسلته إلى حلب سنة 1885م، للنظر في الظلامات التي حررها ووثقها الكواكبي ضد الموظفين والولاة في الإدارات والمؤسسات العثمانية.
وقد حول الكواكبي بذهنيته المفكر والاصلاحية هذه التجارب والمعاناة والخبرات إلى تأملات في تحليل مشكلات الأمة وكيفية النهوض بها، وهي التأملات التي عكسها في كتابيه الشهيرين «طبائع الاستبداد» و«أم القرى».
المرحلة الثانية: وكانت في القاهرة، التي وصل إليها سراً سنة 1899م، وفيها عرفت أفكاره الاصلاحية التي بشر بها، وحاول نشرها وتعميمها في بلاد الشرق والعالم الإسلامي، مستفيداً من أجواء الحرية هناك خصوصاً في نقد السياسات العثمانية، ومن نشاط الصحافة الواسع، ومن موقعية مصر كمركز إشعاع واتصال ثقافي وسياسي. ومن القاهرة عرف الكواكبي في بلاد الشرق، وتلاقحت أفكاره واندمجت بحركة الاصلاح الإسلامي. وانضم إلى نخبة من المصلحين والكتاب الذين سبقوه إلى مصر كالشيخ محمد رشيد رضا ومحمد كرد علي وطاهر الجزائري وعبد القادر المغربي ورفيق العظم وعبد الحميد الزهراوي. ونقل عنه رشيد رضا بعد وصوله إلى مصر قوله «إن الإنسان يتجرأ أن يقول ويكتب في بلاد الحرية ما لا يتجرأ عليه في بلاد الاستبداد، بل إن بلاد الحرية تولد في الذهن من الأفكار والآراء ما لا يتولد في غيرها».
وفي القاهرة نشر الكواكبي على حلقات كتابه «طبائع الاستبداد» في صحيفة «المؤيد» التي كان يصدرها علي يوسف، ونشر كتاب «أم القرى» في صحيفة «المنار». الكتابات التي عرفت بالكواكبي وفكره ونظراته وطبيعة توجهاته. وعن أجواء هذه الكتابات يقول زميله في القاهرة إبراهيم النجار «حدث أن صدر المؤيد ذات يوم يحمل إلى قرائه كتاباً غريب الشكل واللهجة والأسلوب والموضوع،لم يسبق للمقطم أو غيره من الصحف التي عرفت يؤمئذ بكتاباتها الحرة أن كتبت مثله، فلفت الكتاب إليه الأنظار، وشغل الخواطر، وأخذت الدعوة الحرة تلبس شكلاً جدياً، وأخذ الكتاب والقراء والناس يتساءلون عن صاحب هذا الأثر البديع في جريدة المؤيد التي سلكت مسلك الصحف الحرة على رغم اتصالها الشديد بالخديوي عباس الثاني والأستانة. ويقولون ترى من يكون صاحب كتاب طبائع الاستبداد؟ فاعتقد الجمهور لأول وهلة أنه من نتاج قلم وتفكير فقيد الشرق الشيخ محمد عبده، لولا الجفاء الذي كان مستحكماً بين صاحب المؤيد وبينه، ولولا بعد الشيخ محمد عبده عن كل ما يتصل بالخديوي قريباً أو بعيداً. فلم تمض أيام على انتشار ذلك الكتاب في المؤيد حتى عرف الكتاب الكواكبي فوضعوه دفعة واحدة في الدرجة الأولى بين رجال الفكر والقلم، وأنزلوه منزلة الشيخ محمد عبده، فعرفوا منزلته وأعلوا قدره»(1) وخلال فترة وجيزة استطاع الكواكبي أن يحتل مكانة متقدمة في مصر بين المفكرين والمصلحين. فحين يتحدث غالي شكري عن الجسر الإسلامي كما يصفه الممتد بين فكر النهضة ومصر الحديثة، ويبرز الأسماء التي أمدت هذا الجسر ويذكر ثلاثة أسماء رئيسية هي السيد جمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي ويضيف إليهم عبد الرحمن الكواكبي الذي يعتبره آخر الجسور التي واكبت المرحلة الثانية من عصر النهضة في مصر. وهذا الجسر في نظر غالي شكري «كان أكثر تأثيراً وفعالية من كافة الجسور الوافدة من الخارج، وذلك لسبب داخلي محض هو أن غالبية الشعب المصري تدين بالإسلام وبالتالي كان من الممكن للأفكار الإسلامية المتحررة أن تؤثر بوزن أكبر»(2) .
ومن مصر وتحديداً في سنة 1901م انطلق الكواكبي يجوب بلاد الشرق والعالم الإسلامي. حيث قام برحلته الأولى التي وصفها محمد عمارة بأنها شهيرة وهامة(3) . وشملت أفريقيا الشرقية والجنوبية وامتدت إلى سواحل آسيا الجنوبية والهند واندونيسيا إلى السواحل الجنوبية للصين. واستغرقت ستة أشهر عاد بعدها إلى مصر. وكان يخطط لجولة ثانية إلى بلاد المغرب. والذي نفهمه من هذه الزيارات أنها ذات صلة بأطروحة كتابه «أم القرى» وهذا ما سوف يتضح لاحقاً.


وهذا الربط والاتصال بين الكواكبي وحركة الاصلاح الإسلامي يستدعي الالتفات إلى ثلاثة أمور بحاجة إلى فحص وتشخيص وتحليل، وهي:

1 ـ إن الكواكبي حتى لو كان متأثراً بالسيد جمال الدين الأفغاني إلا أنه لم يكن تلميذاً له أو لمدرسته الفكرية والاصلاحية. وهكذا عن الشيخ محمد عبده. لذلك ليس صحيحاً ما يذكره بعض الكتاب في تصنيف الكواكبي علىتلامذة الأفغاني، كالذي حاول الاستدلال عليه عبد الباسط محمد حسن في كتابه «جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث». وهذا ما يظهر ويتأكد في حالة تحليل الأفكار عندهما، فهناك قدر من الاتفاق وقدر من الاختلاف أيضاً. والذين أرخوا لحياة الكواكبي وسيرته لم يذكروا إنه التقى بالأفغاني أو صاحبه. والاحتمال الوحيد في هذا الأمر هو ما ذكره حفيده سعد زعلول الكواكبي الذي كتب السيرة الذاتية الموثقة لجده، حيث يحتمل أن يكون الكواكبي قد اجتمع بالأفغاني سراً في آخر زيارة له إلى استنبول عندما كان الأفغاني في إقامته الجبرية هناك. ولم يذكر شيئاً عن مضمون هذا الاجتماع سوى أن الأفغاني يحتمل أنه حذر الكواكبي من مغبة اعتقاله، الأمر الذي جعل الكواكبي يسارع إلى ترك استنبول ويعود إلى حلب ليخرج منها نهائياً متوجهاً إلى مصر(4) . أما لقاؤه بالشيخ محمد عبده فلم يحصل إلى بعد وصوله إلى مصر، علماً أن الكواكبي لم يغادر حلب طوال حياته إلا إلى تركيا. وفي مصر لم يجالس الشيخ عبده كثيراً لأنه سرعان ما ترك مصر لينشغل برحلاته وسفراته الطويلة والبعيدة. والأمر المهم في هذا الشأن هو أن الكواكبي حينما وصل إلى مصر كان قد تحددت لديه أفكاره الرئيسية الناضجة والراسخة لديه. فكتابيه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» صنفهما في حلب وحملهما معه إلى القاهرة لينشرهما من هناك إلى بلاد الشرق والعالم الإسلامي.
2 ـ ما أضافه الكواكبي على الصعيد الفكري كان على قدر كبير من الأهمية في حركة الاصلاح الإسلامي، مع ذلك لم يكتسب تلك الأهمية المفترضة، وتراجعت تأثيراته الفكرية نسبياً في ظل هيمنة شخصية السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده على فكر ومشروع حركة الاصلاح الإسلامي. فالكواكبي كما يقول فهمي جدعان إذا لم يكن «أول عربي يتصدى للاستبداد بالنقد والتجريح في العصر الحديث، فقد سبقه إلى ذلك مفكرون كثر من أمثال خير الدين وابن أبي الضياف التونسيين وجمال الدين الأفغاني، بالإضافة إلى عدد من المسيحيين السوريين الذين إستقوا آراءهم السياسية من فلاسفة الثورة الفرنسية ومونتسكيو بصورة خاصة. لكن المؤكد أن الكواكبي كان أول عربي يتصدى للاستبداد بالتحليل والدراسة الجادة»(5) ويرى عاطف العراقي «إن الفكر السياسي عند الكواكبي يعد ثرياً ثراء لا حد له. وهذا الفكر السياسي يعد من أبرز الجوانب التي نجدها عند الكواكبي نظراً لأنه يصبغ الكثير من المجالات الأخرى التي يبحث فيها بصبغة سياسية وخاصة حين يبحث في بعض الأبعاد والمجالات الاجتماعية.. إن الكواكبي يعد واحداً من الأعلام والرواد الذين تركوا لنا آثاراً تدل على مدى الجهد الذي قام به، وهذه الآثار تدلنا على أن المؤرخ للفكر السياسي العربي المعاصر لن يكون بإمكانه إهمال فكر الكواكبي»(6) .
3 ـ لعل الكواكبي يمثل حالة وسطية بين الأفغاني وعبده. فهو في مجالات يتفق فيها مع الأفغاني ويختلف فيها مع عبده، وفي مجالات أخرى يحصل العكس يتفق فيها مع عبده ويختلف فيها مع الأفغاني. وقد اهتم بعض الكتاب والباحثين الذين درسوا حركة الاصلاح الإسلامي أو أرخوا لحياة المصلحين في إظهار المقارنة بين الأفغاني والكواكبي وجوانب الاتفاق والاختلاف بينهما. فأحمد أمين يرى بأن «الأفغاني اكتوى بالسياسة الانجليزية، فصب عليها جام غضبه، واستغرقت حملته عليها أكبر قسم في العروة الوثقى. في حين اكتوى الكواكبي بالسياسة العثمانية فكانت موضع نقده. الأفغاني نظر إلى العوامل الخارجية، والكواكبي نظر إلى العوامل الداخلية. لذلك كانت معالجة الأفغاني للمسائل معالجة ثائر، تخرج من فمه الأقوال ناراً حامية، ومعالجة الكواكبي معالجة طبيب يفحص المرض في هدوء ويكتب الدواء في أناة. الأفغاني غضوب والكواكبي مشفق، الأفغاني داع إلى السيف والكواكبي داع إلى المدرسة. الأفغاني حاد الذكاء حاد الطبع والكواكبي رزين الذكاء هادئ الطبع، إذا وضعت أمامهما عقبة تخطاها الأول قبل وتخطاها الثاني بعد. فلا عجب إن كان للأفغاني دوي المدافع وكان للكواكبي خرير الماء يعمل في بطء حتى يفتت الصخر»(7) وفي نظر الشيخ مرتضى المطهري بأن «الكواكبي كالسيد جمال الدين وعلى خلاف الشيخ عبده، يعطي للنشاط السياسي ورفع الوعي السياسي للجماهير اهتماماً أكثر منه بسائر الشؤون الاصلاحية في الحياة»(8) .
وإذا كان الكواكبي يشترك مع الأفغاني في مفهوم الجامعة الإسلامية، فإنه يختلف عنه في إعطاء موقعية الزعامة إلى العرب وبنوع من التأكيد والإصرار. ويشتركان في نقد ومعارضة الاستبداد، ويختلفان في أن الكواكبي يرى بأن الاستبداد لا يقاوم بالقوة أو الشدة وإنما باللين والتدرج. كما يمكن القول بأن الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد» يقترب من المزاج النفسي والعقلي عند الأفغاني، وفي كتابه «أم القرى» يكاد يقترب من المزاج النفسي والعقلي عند الشيخ عبده.


[ 2 ] طبائع الاستبداد

لقد عرف الكواكبي واشتهر بكتابه «طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد» كما عرف قبله أيضاً السيد جمال الدين الأفغاني بالعروة الوثقى، وخير الدين التونسي بكتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك»، والشيخ محمد عبده بكتاب «رسالة التوحيد» وهكذا غيرهم قبله وبعده. وقد صنف الكواكبي هذا الكتاب في حلب دون أن يطلع عليه أحد، وحمله معه إلى القاهرة، حيث نشره على حلقات في صحيفة «المؤيد»، وجمعه لاحقاً في كتاب. وظهرت نسخته المنقحة أول مرة سنة 1957م، وحفظت المخطوط الأصلي حسب رواية ابنه الدكتور عبد الرحمن الكواكبي في مديرية الوثائق التاريخية التابعة لوزارة الثقافة بدمشق.
في هذا الكتاب حاول الكواكبي أن يشرح رؤيته لما وصفه بالداء الدفين وسبب الانحطاط في الأمة وما هو الدواء؟ والانخراط في بحث المسألة الكبرى على حد وصفه ويعني بها المسألة الاجتماعية في الشرق عموماً وفي المسلمين خصوصاً. وهي المسألة التي وجد كما يقول أفكار سراة القوم في مصر وفي سائر الشرق خائضة عباب البحث فيه، كل يذهب مذهباً في سبب الانحطاط وما هو الدواء. ومنذ البداية وفي مقدمة هذا الكتاب حدد الكواكبي رؤيته النهائية والحاسمة التي استقر عليها في تفسير أصل هذا الداء بعد بحث وتأمل ونظر استغرق ثلاثين عاماً كاد يشمل كما يقول «كل ما يخطر على البال من سبب يتوهم فيه الباحث عند النظرة الأولى، أنه ظفر بأصل الداء أو بأهم أصوله، ولكن لا يلبث أن يكشف له التدقيق أنه لم يظفر بشيء، أو أن ذلك فرع أصل، أو هو نتيجة لا وسيلة»(9) وتمحص عنده أن أصل هذا الداء هوالاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية. الأصل الذي أعطاه الكواكبي وصف الإصابة والترجيح، وكيف أنه بذل جهداً كبيراً في التوصل إليه والثبات عليه، وحسب قوله «إن إراحة لفكر المطالعين أعدد لهم المباحث التي طالما أتعبت نفسي في تحليلها، وخاطرت حتى بحياتي في درسها وتدقيقها، وبذلك يعلمون أني ما وافقت على الرأي القائل بأن أصل الداء هو الاستبداد السياسي إلا بعد عناء طويل يرجح أني قد أصبت الغرض»(10) أما غاية المؤلف من هذا الكتاب فهو «التنبيه لمورد الداء الدفين، عسى أن يعرف الذين قضوا نحبهم، أنهم هم المتسببون لما حل بهم، فلا يعتبون على الأغيار ولا على الأقدار، إنما يعتبون على الجهل وفقد الهمم والتواكل، وعسى الذين فيهم بقية رمق من الحياة يستدركون شأنهم قبل الممات»(11) .
وقد اكتسب هذا الكتاب اهتماماً واسعاً من الكتاب والباحثين والنقاد، وذلك لطبيعة موضوعه وطريقة معالجته ووضوح وجرأة أفكاره، وتركيزه على قضية شديدة الحساسية يصنفها البعض في دائرة المحرمات والممنوعات، وجاء في وقت لفت الانتباه إليه بصورة كبيرة، وعرف على نطاق واسع، ولعل الكواكبي التفت إلى حساسية هذا الجانب في ربط موضوع الكتاب بزمنه وعصره كما لو أنه موجه إلى سلطة أو دولة معينة فتدارك هذا الأمر بقوله في مقدمة الكتاب «وأنا لا أقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة، إنما أردت بيان طبائع الاستبداد وما يفعل، وتشخيص مصارع الاستعباد وما يقضيه ويمضيه على ذويه»(12) .
ومنذ ظهور هذا الكتاب وهو يعتبر الأكثر أهمية في نقد الاستبداد وتشريح أصوله ومكوناته وعلائقه ومفاعيله، وإلى اليوم وهو يحافظ على هذا الزخم النقدي، وعلى قيمته المعنوية والفكرية، ومكانته المرجعية والمعرفية. لدرجة أصبح بالإمكان الاقتران بين الحديث عن الكواكبي والحديث عن الاستبداد، فهو أكثر من عرف من بين المصلحين في العالم العربي والإسلامي بنقد الاستبداد. وحين يصفه المستعرب الروسي المتخصص في تاريخ الفكر العربي الحديث والمعاصر «زلمان ليفين» يقول عنه بأنه «مفكر سياسي مفعم بكراهية الاستبداد في كافة مظاهره، وخاصة الاستبداد السياسي في الدولة العثمانية»(13) .
والاهتمام الواسع بهذا الكتاب لفت انتباه البعض لمعرفة طبيعة المصادر والمنابع الفكرية المكوّنة لمثل هذه الأفكار والمسائل والمقولات التي عبر عنها الكواكبي، واتصفت بالحيوية والنقدية والتنوير. خصوصاً وأن الكواكبي أشار في مقدمة وبداية هذا الكتاب إلى وجود اقتباسات بدون تحديد لنوعيتها ومصادرها، وكميتها ومساحتها في الكتاب. وحينما حاول الكواكبي تحديد الإطار العام أو الحقل المعرفي الذي ينتمي إليه موضوع الكتاب، حدده بعلم السياسة وقال عنه «أن السياسة علم واسع جداً، يتفرع إلى فنون كثيرة ومباحث دقيقة شتى، وقلما يوجد إنسان يحيط بهذا العلم، كما أنه قلما يوجد إنسان لا يحتك فيه. وقد وجد في كل الأمم المترقية علماء سياسيون تكلموا في فنون السياسة ومباحثها استطراداً في مدونات الأديان أو الحقوق أو التاريخ أو الأخلاق أو الأدب»(14) وهذا الحقل في نظر الكواكبي شهد تطوراً وتوسعاً عند الأوروبيين والغربيين عموماً، وحسب رأيه «أما المتاخرون من أهل أوروبا ثم أميركا فقد توسعوا في هذا العلم وألفوا فيه كثيراً وأشبعوه تفصيلاً حتى أنهم أفردوا بعض مباحثه في التأليف بمجلدات ضخمة، وقد ميزوا مباحثه إلى سياسة عمومية، وسياسة خارجية، وسياسة إدارية، وسياسة اقتصادية، وسياسة حقوقية الخ، وقسموا كلاً منها إلى أبواب شتى وأصول وفروع»(15) الأمر الذي يؤكد وجود اقتباسات من منابع الفكر الأوروبي. والذين حاولوا دراسة هذا الكتاب وتفكيك نصوصه يتفقون على هذه الحقيقة من حيث الإجمال والعموم، لكن من الصعب عليهم تحديد حجم ومساحة وحتى نوعية هذه الاقتباسات. وأكثر ما يتفق عليه هؤلاء هو استفادة الكواكبي من كتاب «في الاستبداد» للكاتب الإيطالي «فيتوريو ألفيري» (1749 ـ 1803م). وقد عزز الكواكبي هذه الحقيقة حينما أشار إلى إسمه في أواخر الكتاب ووصفه بالكاتب المشهور. لذلك فقد اعتبر أحمد أمين أن الكواكبي استفاد من الاقتباسات الأجنبية في كتابه «طبائع الاستبداد» واقتبس فيه كثير من أقوال ألفيري، لكنه لا يعرف كيف توصل إليها، أو كيف وصلت إليه(16) . أما فهمي جدعان فهو لا يعطي وصف الكثير إلى هذه الاقتباسات، ويرى أن الكواكبي استقى عدداً من أفكاره بدون تحديد لحجمها ونوعيتها، ويرجح عنده أن الكواكبي تعرف على كتاب ألفيري عن طريق ترجمته إلى التركية التي قام بها جودت عبد الله(17).
ولعل الذين بالغوا في تصوير هذه الاقتباسات هم بعض الكتاب الغربيين، حيث نظروا إلى الكواكبي كما لو أنه كان ناقلاً أو مترجماً لأفكار غيره من الأوروبيين، لكن في قالب يتكيف وطبيعة السياقات الاجتماعية والفكرية والسياسية للمنطقة العربية. وهذا ما يتجلى بوضوح كبير فيما طرحه «ليفين» الذي يرى بأن «طبائع الاستبداد» يتضمن «عرضاً موجزاً لمبادئ الايديولوجية التنويرية الفرنسية، ولأفكار الثورة الفرنسية التي لقيت فيه تدعيماً نظرياً فريداً وتطوراً تالياً في التربية العربية على أساس القرآن والاتجاهات العقلانية للفكر العربي.. ولا تكمن أهمية الكواكبي في أن مؤلفاته تعد قناة أخرى لتغلغل ايديولوجية التنوير الفرنسي البورجوازية التقدمية في الشرق العربي، بقدر ما تكمن في استيعابه وصياغته لهذه الايديولوجية بما يتماشى مع الاحتياجات الملحة للتطور الاجتماعي للعالم العربي وإطلاع العرب عليها في أنسب شكل لهم، يطابق مستوى استعدادهم الايديولوجي المعاصر»(18) ومن المحتمل أن يكون هؤلاء الكتاب الأوروبيون هم أول من تحدثوا عن مثل هذه الاقتباسات عند الكواكبي في كتابه طبائع الاستبداد، ومنهم نقل الكتاب العرب وجود التثاقف والتلاقح أو الاقتباس. وما يؤكد هذا الافتراض أن ألفيري الذي رجع إليه الكواكبي قطعاً لم يكن معروفاً في العالم العربي، ولعل الكواكبي هو أول من أشار إليه، وكتابه «في الاستبداد» إذا كان معروفاً في أوروبا فإنه كان مجهولاً في المنطقة العربية.
والملاحظ على تصويرات الباحث الروسي «ليفين» وغيره من الكتاب الغربيين الذين يتقاطعون معه أنها تصويرات تتصف بالمبالغة وعدم الانصاف والاعتراف بالجدارة العلمية، وفيها مصادرة واضحة لجهد الكاتب. كما أن هذه التصويرات تكشف عن ذهنية التعالي والاستحواذ عند الغربيين واحتكار عقل الحداثة والتنوير والتقدم. في حين أن فحص كتاب «طبائع الاستبداد» يكشف عن السيرة العملية للكواكبي نفسه وتاريخه في مصادمة الاستبداد، وأنه كتب بلغة شفافة وثائرة تعبر عن طبيعة معاناته وحقيقة وجدانه الداخلي وتكوينات إدراكاته الذهنية في تأملاته لمشكلات الأمة وتشخيص أصل الداء أو علة العلل. وغالباً ما كان يعبر عن شدّة معاناته وعمق تأملاته في استنباط هذه الأفكار، فحين يصف مباحث كتاب «طبائع الاستبداد» يقول عن حاله «طالما أتعبت نفسي في تحليلها وخاطرت حتى بحياتي في درسها وتدقيقها» وحين حاول تجديد النظر في الكتاب بعد نفاده في برهة قليلة كما يقول عبر عن حاله بقوله «أحببت أن أعيد النظر فيه وأزيده زيداً مما درسته فضبطته، أو ما اقتبسته وطبقته، وقد صرفت في هذا السبيل عمراً عزيزاً وعناء غير قليل»(19) وكأنه أراد أن يؤكد انتساب هذه الأفكار إليه، وتمسكه بها، وموثوقيتها التامة لديه. لذلك لا يمكن القول إلا بانتماء هذه الأفكار له، الجزم الذي لا يلغي استفادته من أفكار الآخرين وفي مقدمتهم ألفيري نفسه. وحتى هذه الأفكار تعامل معها الكواكبي بذهنية نقدية، فقد أظهر اختلافه مع ألفيري، وهو يناقش إشكالية أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني وحسب قول الكواكبي «تضافرت آراء أكثر العلماء الناظرين في التاريخ الطبيعي للأديان على أن الاستبداد السياسي متولد من الاستبداد الديني، والبعض يقول إن لم يكن هناك توليد فهما أخوان أبوهما التغلب وأمهما الرياسة، أو هما صنوان قويان بينهما رابطة الحاجة على التعاون لتذليل الإنسان، والمشاكلة بينهما أنهما ما كان أحدهما في مملكة الأجسام والآخر في عالم القلوب»(20) والفريقان في نظره «مصيبان في حكمهما بالنظر إلى مغزى أساطير الأولين، والقسم التاريخي من التوراة والرسائل المضافة إلى الانجيل. ومخطئون في حق الأقسام التعليمية الأخلاقية فيهما، كما هم مخطئون إذا نظروا إلى أن القرآن جاء مؤيداً للاستبداد السياسي، وليس من العذر في شيء أن يقولوا نحن لا ندرك دقائق القرآن نظراً لخفائها علينا في طي بلاغته، ووراء العلم بأسباب نزول آياته، وإنما نبني نتيجتنا على مقدمات ما نشاهد عليه المسلمين منذ قرون إلى الان من استعانة مستبديهم بالدين.. وهذا القرآن الكريم مشحون بتعاليم إماتة الاستبداد وإحياء العدل والتساوي حتى في القصص منه.. ـ فلا ـ مجال لرمي الإسلامية بتأييد الاستبداد»(21) إلى جانب أفكار أخرى ناقشها الكواكبي واختلف فيها مع ألفيري أيضاً كمسألة استخدام القوة في مقاومة الاستبداد الذي يراها ألفيري ويرفضها الكواكبي.
أما الملاحظات التي تسجل على كتاب «طبائع الاستبداد» فقد أخذ عليه أحمد أمين «حصره في دائرة النظريات، وكان الكتاب يكون أوقع في النفس لو ملأه بالشواهد، أو ما رأى وسمع من أحداث وهو معروف بسعة الاطلاع، فلو قرن النظريات بالشواهد لكان كتابه أكثر فائدة وأعم نفعاً»(22) ولعل الكواكبي كان حذراً من هذه الملاحظة ومتقصداً اجتنابها حين قال «وأنا لا أقصد في مباحثي ظالماً بعينه ولا حكومة أو أمة مخصصة»(23) حتى لا يتحدد الكتاب بزمان ومكان ويتأطر بهما.


[ 3 ] الكواكبي والنائيني

هناك مساحة مهمة فيما يمكن أن نطلق عليه بعملية التثاقف والتلاقح أو التناص مع تجربة الكواكبي في كتابه «طبائع الاستبداد»، وهذه المساحة على أهميتها إلا أنها مجهولة أو غير مكتشفة عند العديد من الأوساط والنخب العربية، كما تكشف عن ذلك الكتابات والأدبيات العربية نفسها، التي لا تتطرق في معظمها لهذه المساحة أو تقترب منها لعدم الاطلاع عليها وتكوين المعرفة بها. وقد التفت إليها مؤخراً بعض الكتاب والباحثين الذين أكدوا بدورهم على قيمة هذه المساحة وأهميتها في تراكم وتطور تجربة الكواكبي. وهي تجربة الشيخ محمد حسين النائيني (1277 ـ 1335هـ/1860 ـ 1936م) في كتابه «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» الذي جاء كتنظير فقهي للحركة الدستورية في إيران مطلع القرن العشرين (1905 ـ 1911م). وهناك من وصف هذا الكتاب بأنه شديد التشابه والتقارب والتماثل مع كتاب الكواكبي «طبائع الاستبداد»، الذي ترجم إلى اللغة الفارسية منذ وقت مبكر جداً وتحديداً في سنة 1907م، وصدر كتاب الشيخ النائيني سنة 1909م. ولعل هذه الترجمة هي أسبق الترجمات من العربية إلى لغة أخرى، وقام بهذه الترجمة عبد الحسين قاجار ونشرته المكتبة العلمية الإسلامية في طهران. لذلك كان الإيرانيون هم أول من التفتوا إلى استفادة النائيني من كتاب الكواكبي، وإظهار ما بين المحاولتين من تقارب وتشابه، والذين كانت لهم محاولات في دراسة وفحص وتحليل كتاب الشيخ النائيني كانوا دائماً يتوصلون لمثل هذه النتيجة ويلفتون النظر إليها. فالنائيني كما يقول الباحث الإيراني عبد الهادي حائري «قد تأثر كثيراً بكتاب الكواكبي ليس فقط بنقل أفكاره بل استخدم ألفاظ ومصطلحات الكواكبي مثل الاستعباد والاعتساف والتسلط والتحكم والحكم المطلق ومال الرقاب والظالم القهار، ويسمي الذين يخضعون لسلطة الحكومة الاستبدادية بالأسرى المستصغرين والمستنبتين»(24) ومن أكثر الدلائل النصية التي يتوثقون بها في الاستدلال على استفادة الشيخ النائيني من كتاب «طبائع الاستبداد» هو ما ذكره الشيخ النائيني في استحسان تقسيم الاستبداد إلى سياسي وديني، ونص كلامه «من هنا تظهر جودة استنباط بعض علماء الفن الذين قسموا الاستبداد إلى نوعين سياسي وديني، يرتبط كل منهما بالآخر ويسنده، واعتبروهما توأمين لا ينفك أحدهما عن الآخر»(25) والذين يتوقفون عند هذا النص يعلقون دائماً في الهامش إلى أن المقصود بهذا الكلام هو الكواكبي، وهذا ما يذهب إليه السيد محمود الطالقاني في تعليقاته على كتاب الشيخ النائيني حيث يقول «الظاهر أن المصنف يشير إلى عبدالرحمن الكواكبي الذي خصص فصلاً عن الاستبداد الديني في كتابه طبائع الاستبداد، وأظنه أول من استعمل هذا الوصف بين الكتاب العرب»(26) وكانت لبعض الكتاب الإيرانيين محاولات في تمييز كتاب الشيخ النائيني والإعلاء من شأنه في مقابل التقليل من قيمة كتاب الكواكبي لأن أغلب محتوياته كما يقول عبد الهادي حائري مأخوذ من كتابات ألفيري(27) . وفي رأي آخرين «صحيح أن هناك تشابه ظاهر بين مباحث طبائع الاستبداد وتنبيه الأمة، ولكن يمتاز كتاب تنبيه الأمة بأنه أكثر علمية، ويدل على السعة والعمق الفكري لمؤلفه، وأنه أبدع وأكثر تنظيماً من طبائع الاستبداد، بالرغم من عدم شهرته بسبب تعقيد أسلوبه وطريقة استدلاله، والبحث والمقارنة الدقيقة لا يؤيدان دعوى اقتباسه من طبائع الاستبداد»(28) وحين يتحدث الشيخ مرتضى المطهري عن الكواكبي الذي يعتبره الشخصية الاصلاحية الثالثة التي ظهرت في العالم العربي، بعد السيد جمال الدين الأفغاني والشيخ محمد عبده، يشير إلى الترجمة الفارسية لكتاب طبائع الاستبداد في بداية ثورة الدستور، ويقارب بين الكواكبي والنائيني حول مفهوم التوحيد ويخلص إلى تعظيم رأي الشيخ النائيني، وحسب قوله «من الانصاف القول أنه حتى الآن لم يفسر التوحيد العلمي والاجتماعي والسياسي في الإسلام، تفسيراً دقيقاً بأفضل من تفسير العلامة الكبير والمجتهد الفذ المرحوم ميزرا محمد حسين النائيني في كتابه القيم تنبيه الأمة وتنزيه الملة. وان كل ما كان يقصد من أمثال الكواكبي حول التوحيد فإن المرحوم النائيني أثبته في ذلك الكتاب بأدلة إسلامية، ولكن مع الأسف أن محيط الجهل الذي عم مجتمعنا هو الذي دفع المرحوم النائيني إلى السكوت والصمت بعد نشره الكتاب»(29) .
هذا النوع من المقاربات أو المقارنات يكاد يكون غائباً في الأدبيات العربية لعدم تكوين المعرفة بكتاب الشيخ النائيني. ومن المحاولات العربية الجديدة التي تذكر في هذا الشأن محاولة الباحث السوري محمد جمال باروت الذي نشر مقالاً بعنوان «الكواكبي والنائيني جوانب غير مكتشفة» واختيار هذا العنوان يعبر عن غياب مثل هذه المقاربات. وقد أسس باروت مقالته على اكتشاف الترجمة الفارسية لكتاب «طبائع الاستبداد» وبعبارته «تم أخيراً اكتشاف الترجمة الفارسية لكتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد لعبد الرحمن الكواكبي في مكتبة جامعة برنستون في الولايات المتحدة، وقد بين مترجمها عبد الحسين في مقدمته المقتضبة أنه أنهى هذه الترجمة في شهر شعبان سنة 1325هـ أي ما يوافق شباط 1907، حيث قامت المكتبة العلمية الإسلامية في طهران بطبع الترجمة عام 1327هـ أي عام 1909م.. وتزامن نشر هذه الترجمة لكتاب الكواكبي مع إصدار الميزرا محمد حسين الغروي النائيني منظر ثورة المشروطة لكتابه تنبيه الأمة وتنزيه الملة في وجوب المشروطة في العام نفسه. والذي يعتبر وثيقة نادرة وراقية وبالغة التطور تكشف عن مدى نضج الخطاب الاصلاحي الإسلامي في المجال الشيعي.. وقد جاء في مقدمة المترجم إنه قام بهذه الترجمة استجابة للأوامر الصادرة لتعميم الفائدة للعوام والخواص، بوصف كتاب طبائع الاستبداد من الكتب النفسية والمفيدة في مجال توعية الشعب وإيقاظه من نوم الجهل والغفلة وخلق استعداد الرقي والتربية، وبذلك فهو من أفضل المؤلفات القديمة والجديدة، بل يمكن القول في هذا المجال بأنه لم يؤلف كتاب مثله حتى الآن»(30) وانتهى باروت إلى وصف الشيخ النائيني بأنه كواكبي الشيعة.
والذي اعتقده أن القيمة الحقيقية بين هاتين المحاولتين ليس في إظهار المفاضلة بينهما، أو الانحياز والتبجيل، ولا في البحث عن المشتركات والمفترقات بين التجربتين ولكن القيمة الحقيقية هو في التراكم المعرفي والتواصل الحيوي المبكر بين المحاولتين ولأنهما ظهرتا في مجتمعين وبيئتين مختلفتين من جهة الروافد الثقافية والمنابع والمرجعيات الفكرية. وفي ظرفين مختلفين أيضاً، بين ظرف يتوجه فيه الخطاب إلى الدولة العثمانية، وظرف يتوجه فيه الخطاب إلى الدولة القاجارية. ومن منطلقين مختلفين كذلك، فالكواكبي كان ينطلق من تشخيص المشكلة وتحديد أصل الداء في الأمة، والنائيني كان ينطلق من تشخيص الحل وتحديد العلاج والتأصيل الفقهي والقانوني لهذا الحل والعلاج. وكلاهما توصل إلى نتيجة متقاربة ومتطابقة تماماً وهي أن معالجة الاستبداد السياسي والحكم المطلق إنما يكون بالحكم المقيد بنظام الشورى والدستور. وأما المفارقات بينهما أو الخصائص التي تميز كل محاولة عن الأخرى، منها أن الكواكبي كتب مؤلفه بلغة المفكر السياسي، والنائيني كتب مؤلفه بلغة الفقيه القانوني، طبائع الاستبداد كتب بأدب بسيط وواضح عكس خبرة الكواكبي الصحفية، وتنبيه الأمة كتب بأدب فيه صعوبة وتعقيد عكس المعرفة الفلسفية وطبيعة نظام التعليم في الحوزات الدينية التي ينتسب إليها النائيني. الكتاب الأول يعكس خبرة أو معرفة علم السياسة، والثاني يعكس خبرة أو معرفة علم الفقه والأصول.


[ 4 ]أم القرى

وصف الشيخ رشيد رضا كتاب «أم القرى» في جريدته «المنار» بأنه «لم يكتب مثله في الاصلاح الإسلامي»(31) واعتبره أحمد أمين بأنه «بحث مبتكر يدل على كبر عقله ـ أي الكواكبي ـ وقوة تفكيره، وسعة اطلاعه، وصدق غيرته على العالم الإسلامي»(32) ولاشك أن هذا الكتاب قد تميز بأطروحة فريدة من بين مؤلفات المصلحين، وحاول الكواكبي من خلاله أن يقدم تحليلاً شاملاً لمشكلات الأمة، وبمنهجية تستوعب تعدد البيئات والقوميات واللغات وتنوع المجتمعات والثقافات، وصياغة برنامج مشترك للنهضة والتمدن.
ومن أكثر ما شغل اهتمام الكتاب والباحثين في هذا الكتاب هو معرفة ما إذا كانت هذه الجمعية التي تحدث عنها الكواكبي لها أساس من الوجود أم لا؟ ومنشأ هذا الاهتمام هو دقة الطريقة التي اعتمدها الكواكبي في تصوير وتوصيف اجتماعات هذه الجمعية والتي تعطي كل إيحاءات الحقيقة وباتقان فني محكم. فقد تساءل أحمد أمين «هل كانت هذه الجمعية حقيقة، أو هي من نسج خياله؟ يقول هو ـ أي الكواكبي ـ إن لها أصلاً في الحقيقة، وأن الخيال تممها فهل هذا صحيح؟ أم هو من قبيل تأييد الخيال كما يفل كثير من الروائيين؟»(33) وقد رجح أحمد أمين الرأي الثاني. وهذا ما يؤكده ويقطع به حفيده عبد الرحمن الكواكبي الذي اعتنى بتدقيق مؤلفات جده فقد نوه في تقديم كتبه بعد مراجعة وتدقيق كتاب «أم القرى» بقوله «ولما كان السيد الفراتي(*) لم يغادر حلب خلال مقامه فيها إلا إلى استنبول، ولم يقم بجولاته إلى العالم الإسلامي إلا بعد رحيله إلى مصر، فإن المؤتمر الذي عقد في مكة، والذي يدور عليه موضوع الكتاب، إنما هو مؤتمر تخيله المؤلف ليعرض فيه آراءه الاصلاحية في قالب جذاب يستهوي النفوس»(34) مع ذلك هناك من اعتقد بأن هذه الجمعية ليست مجرد رواية مختلقة أو محاورات متخيلة، ويذهب إلى هذا الرأي محمد عمارة الذي يؤكده ويقطع به، ويستشهد بما نقله رشيد رضا عن كلام الكواكبي له بأن لهذه الجمعية أصلاً(35) . وينقل عبد الباسط محمد حسن رأياً غربياً لصاحب كتاب «الحركات الحديثة بين المسلمين» قوله بأن هذه الجمعية إذا كان لها وجوداً حقيقياً فليس بعيداً أن يكون السيد جمال الدين هو منشئ الجمعية. ويتمم هذا الكلام عبد الباسط بقوله «إذا راعينا أن منهج الجمعية كان قائماً على أساس تناسي الاختلافات المذهبية بين السنة والشيعة، وتوحيد قوى المسلمين لوجدنا أن هناك صلة كبيرة بين منهج الجمعية ودعوة جمال الدين»(36) أما الذي اعتقده فهو غير ذلك تماماً، وهو يتحدد في أمرين:
الأول: إن الكواكبي لم يكن بصدد كتابة رواية أدبية يعبر فيها عن أفكاره الاصلاحية، وإنما لأنه قد تمحص عنده كما يقول بأن أصل الداء هو الاستبداد السياسي ودواؤه دفعه بالشورى الدستورية، فإنه أراد أن يجسد مفهوم الشورى ويؤكد عليه كمنهج لحل وعلاج مشكلات الأمة وطريق للنهوض بها نحو المدنية. فالكتاب يقدم تصويراً عملياً ممكناً لتطبيق الشورى الجامعة لكل الأمة.
الثاني: إن هذه الجمعية لم يكن لها وجوداً حقيقياً بالفعل، ولم يكن القصد من الحديث عنها هو من قبيل تأييد الخيال على طريقة بعض الروائيين كما يقول أحمد أمين. والذي أرجحه في هذا الشأن هو أن الكواكبي أراد القول بحاجة الأمة إلى مثل هذه الجمعية وضرورة السعي نحو تكوينها، ولعله كان يحاول النهوض بجمعية بهذه الصورة والكيفية. ومن المحتمل أيضاً أن رحلته الطويلة إلى أفريقيا وشرق آسيا تأتي في هذا النطاق تحديداً أي لتكوين المعرفة بالعالم الإسلامي والتأكيد على ضرورة قيام جمعية تتبنى مشروع النهضة الإسلامية في الأمة. وبالتالي فإن الغاية من الكتاب هو تكوين صورة واكتشاف المثال وبلورة نموذج للقياس عليه. إلى جانب هذا التفسير هناك بعض الحقائق المهمة التي يكشف عنها هذا الكتاب، وهي:
1 ـ إن المشكلة التي تعاني منها الأمة هي مشكلة عامة وشاملة، أو كما وصفها الكواكبي على لسان الأستاذ الرئيس في الاجتماع الثاني بالفتور العام أي «أن هذا الفتور شامل لكل أعضاء الجسم الإسلامي، فيناسب أن يوصف بالعام، وربما يتوقف الفكر في الوهلة الأولى عند الحكم بأن الفتور عام يشمل كافة المسلمين، ولكن بعد التدقيق والاستقراء نجده شاملاً للجميع في مشارق الأرض ومغاربه»(37) الأمر الذي يتطلب تكوين المعرفة بهذه المشكلة العامة أو الفتور العام في الأمة وتشخيص هذا الفتور وتحديد مسبباته وأعراضه وتداعياته ومفاعيله، وكيف يظهر ويتطور ويؤثر في المجتمعات الإسلامية، وضرورة أن يعرف الجميع مشكلة الجميع. وقد حدد الكواكبي هذه المشكلات واعتبر «أن هذا الفتور المبحوث فيه ناشئ عن مجموع أسباب كثيرة مشتركة فيه، لا عن سبب واحد أو أسباب قلائل تمكن مقاومتها بسهولة وهذه الأسباب منها أصول، ومنها فروع لها حكم الأصول، وكلها ترجع إلى ثلاثة أنوع، وهي أسباب دينية، وأسباب سياسية، وأسباب أخلاقية»(38) .
2 ـ إن الأمة بحاجة إلى اجتماع عام يضم أهل الحل والعقد ومن كل الملل والنحل للتداول في قضايا الأمة العامة ومشكلاتها الكبرى وكيفية النهوض بها واكتشاف طريق المستقبل والمدنية. الاجتماع الذي يفترض فيه أن يتعالى عن الخلافات المذهبية، ويتخطى إشكاليات ورواسب الماضي، ويتجاوز خطوط الانقسام بكافة صورها، وذهنية التصنيف بجميع أنماطها. ويرسخ من جهة أخرى المشتركات العامة، والتوافقات الكلية، والاجماعات التامة، والتفاهمات المتحدة، وينطلق من رؤية جديدة لمفهوم الأمة والمستقبل.
3 ـ لكي تتغلب الأمة على هذا الفتور العام وتغير من أوضاعها ومن موقعها في هذا العالم فهي بحاجة إلى نهضة في كل أجزائها وأطرافها، وفي كل مللها ونحلها. نهضة عامة وشاملة يشترك فيها الجميع، ويتحمل مسؤوليتها الجميع، ويتشاور ويتفق عليها الجميع.
4 ـ هذه النهضة تتطلب الاتفاق على برنامج عام يشترك الجميع في بلورة تصوراته ومكوناته وعناصره، وصياغة ملامحه ومرتكزاته ومنطلقاته. وضرورة أن تكون هناك جمعية تعمل على تحريك وتطبيق هذا البرنامج ومتابعة مقرراته وتوصياته في سبيل تحقيق النهضة الإسلامية.

وقد حدد الكواكبي العناصر العامة والأساسية لمثل هذا البرنامج وهي حسب رؤيته التي حددها في النقاط التالية:

1 ـ المسلمون في حالة فتور مستحكم عام.
2 ـ يجب تدارك هذا الفتور سريعاً، وإلا فتنحل عصبيتهم كلياً.
3 ـ سبب الفتور تهاون الحكام، ثم العلماء، ثم الأمراء.
4 ـ جرثومة الداء الجهل المطلق.
5 ـ أضر فروع الجهل، الجهل في الدين.
6 ـ الدواء هو: أولاً تنوير الأفكار بالتعليم، ثانياً إيجاد شوق للترقي في رؤوس الناشئة.
7 ـ وسيلة المداواة عقد الجمعيات التعليمية القانونية.
8 ـ المكلفون بالتدبير هم حكماء ونجباء الأمة من السراة والعلماء.
9 ـ الكفاءة لازالة الفتور بالتدريج موجودة في العرب خاصة.
10 ـ يلزم تشكيل جمعية ذات مكانة ونفوذ في دائرة القانون»(39) .


[ 5 ]ملاحظات واستنتاجات

أولاً:

لقد حاولت بعض الكتابات العربية أن تصور أفكار الكواكبي على أنها البدايات الأولى والحقيقية والناضجة لانبعاث القومية العربية والفكر القومي العربي. ويذهب إلى هذا الرأي سليمان موسى ويضيف إلى جانب الكواكبي نجيب عازوري، ويرى أن الكواكبي دعا في كتابيه «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» إلى أن يتولى العرب إدارة بلادهم، وإلى نزع الخلافة من الأتراك وإعادتها إلى العرب(40) . سليمان موسى الذي اعتبر كتابات الكواكبي على أنها تمثل البدايات الحقيقية لأفكار القومية العربية، مع ذلك لم يأت على ذكر الكواكبي إلا مرة واحدة فقط في كتابه الذي حاول فيه أن يقدم دراسة تاريخية وثائقية عن الحركة العربية الحديثة. فهو من جهة لم يبرهن على صدقية هذا الرأي، ولم يظهر من جهة أخرى أهمية هذه المكانة الفكرية للكواكبي وتجاهلها كلياً في دراسته الموسعة. وأما محمد عمارة الذي يدافع عن هذا الرأي أيضاً في كتابه حول الكواكبي، وهو الكتاب الذي غلب عليه عموماً الافراط في المبالغة والتبجيل. فقد اعتبر أفكار الكواكبي أنضج بناء فكري شهده تطور الفكر القومي عند العرب حتى ذلك الحين، والبناء الأول في هذا المجال، حيث اكتملت لديه عناصر النظرة المتكاملة.. وأن نظرية الكواكبي في العروبة والقومية إنما تقف في مقدمة الأبنية الفكرية، والتي هي من تجديداته وإبداعاته. ويعتقد عمارة بأن الذين أخطأوا في فهم موقف الكواكبي من قضية العروبة إنما خلطوا وجهةنظره فيها بحديثه عن الدين الإسلامي، والروابط الروحية التي تربط بين المسلمين. ومصدر هذه الأخطاء حسب رأي عمارة هو كتاب «أم القرى» وهؤلاء إما أنهم لم يتعمقوا في دراسة هذا الكتاب، أو أنهم درسوه دون أن يتعمقوا الفروق الدقيقة والحاسمة بين عدد من المصطلحات والأسماء التي اشتمل عليها الكتاب(41) . والنتيجة التي يريد عمارة الوصول إليها هي تخطئة الذين صوروا الكواكبي على أنه داعية خلافة إسلامية أو جامعة إسلامية، أو يدعو إلى دولة تقوم على العقيدة الدينية. وهناك من يرى بأن الكواكبي مثل حلقة الوصل بين حركة الاصلاح الإسلامي وبين الحركة القومية والفكر القومي.
هذا النمط من القراءات لأفكار الكواكبي فيه قدر من النزعة التوظيفية التي لا ضرورة لها، لأن من الواضح على كتاب «أم القرى» إنه يدور في إطار مفهوم الجامعة الإسلامية مع إعطاء العرب موقعية الزعامة في هذه الجامعة. وحتى هذه الزعامة للعرب لا يربطها الكواكبي بمنطلقات عرقية أو قومية، وإنما بخلفيات واعتبارات دينية. وحتى اللغة العربية لا ينظر الكواكبي لها باعتبارات قومية وإنما باعتبارات الدين لكونها لغة القرآن الكريم.
يضاف إلى ذلك أن الفكر القومي العربي كما تحدد في مساراته ومسلكياته الفكرية وبالصورة التي وصل إليها، يلاحظ عليه أنه تحول من المرجعية الإسلامية التي كان يمثلها الكواكبي إلى المرجعية العلمانية التي مثلها نجيب عازوري وساطع الحصري لاحقاً. التحول الذي ترتب عليه قطيعة فكرية بين حركة الاصلاح الإسلامي ومرجعيتها الفكرية وبين الفكر القومي العربي ومرجعيته الفكرية.


ثانياً:

هناك مقولة جاءت في سياق تحليل العلاقة بين كتابي «طبائع الاستبداد» و«أم القرى»، الملفت في هذه المقولة أنها تكررت بتمامها وتطابقها عند ثلاثة من الكتاب المصريين في أزمنة مختلفة لكنها ليست متباعدة. ومن حيث التراتب الزمني فإن أقدم هؤلاء هو أحمد أمين الذي اعتبر أن كتاب «طبائع الاستبداد» هو في نقد الحكومات الإسلامية، و«أم القرى» هو في نقد الشعوب الإسلامية(42) . هذه المقولة ذكرها بتمامها عبد الباسط محمد حسن في كتابه «جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث»(43) وأعاد تكرارها عاطف العراقي في كتابه «العقل والتنوير»(44) وهذا التكرار ليس بالتأكيد هو من محض الصدفة، ولا هو نوع من التثاقف والتناص أو التواتر. وليس القصد من ذلك هو الكشف عن هذا التكرار، وإنما القصد هو مناقشة هذه المقولة. ومن حيث الإجمال يمكن القول بصحة هذه المقولة من جهة التوصيف العام، لكنه ليس هو التوصيف الأدق في تقديري لأن هناك اختلاف أو تمايز في المنطق واللغة والغاية بين الكتابين. فالمنطق العام لكتاب «طبائع الاستبداد» هو البحث في تحليل أصل المشكلة، أما كتاب «أم القرى» فمنطقه العام هو البحث عن حل المشكلة. الكتاب الأول جاء بلسان الفرد والكتاب الثاني جاء بلسان الجماعة. الأول أقرب إلى عالم السياسة والثاني أقرب إلى عالم الثقافة والاجتماع. الأول كتب بذهنية الثائر والثاني كتب بذهنية المفكر. الأول يصنع معارضة وممانعة ورفضاً والثاني يصنع رؤية وتصوراً ومنهجاً.


ثالثاً:

إن الرؤية التي قدمها الكواكبي في توصيف مشكلة أو مشكلات الأمة كانت على قدر كبير من الأهمية والتميز، واتصفت عن غيرها من رؤى وتصورات المصلحين والمفكرين في عصره بالتركيز والتحديد والضبط والنظام. فمن السهولة معرفة هذه الرؤية ومكوناتها وعلائقها وهكذا حدودها ونظامها، إطارها ومنهجيتها. وقد ظهر الكواكبي بمظهر الواثق في التعبير عن هذه الرؤية والقاطع بها، بعد أن بذل جهداً واسعاً في البحث والتأمل والنظر كما كان يصف حاله دائماً، خصوصاً في كتابه «طبائع الاستبداد» في حين أن الدارس لرؤية السيد جمال الدين الأفغاني يواجه صعوبة في تجميع هذه الرؤية وتوثيقها بالكامل لأنها رؤية مشتة ومتناثرة في مقالات وكتابات وخطابات موزعة بين دول ولغات مختلفة وبأسماء متعددة. أما رؤية الشيخ محمد عبده فقد مرت بأطوار وتحولات وتغيرات فحين كان في مصر كانت رؤيته في طور معين، وبعد نفيه إلى الخارج أصبحت هذه الرؤية في طور آخر، وبعد عودته إلى مصر دخلت هذه الرؤية في طور مختلف كلياً عما كانت عليه سابقاً. وهكذا الحال مع رشيد رضا الذي تغيرت رؤيته بين عصرين، عصر استاذه الشيخ عبده، وعصر ما بعده. بخلاف الكواكبي الذي كان واضحاً في التعبير عن رؤيته وأفكاره واهتم كثيراً في ضبط وتحديد هذه الرؤية.


رابعاً:

لقد التفت الكواكبي منذ وقت مبكر إلى مشكلة الاستبداد والاستبداد السياسي، واعتبرها أصل الداء وعلة العلل، فالقائل مثلاً والكلام للكواكبي «إن أصل الداء التهاون في الدين، لا يلبث أن يقف حائراً عندما يسأل نفسه لماذا تهاون الناس في الدين؟ والقائل إن الداء اختلاف الآراء يقف مبهوتاً عند تعليل سبب الاختلاف. فان قال سببه الجهل، يشكل عليه وجود الاختلاف بين العلماء بصورة أقوى وأشد، وهكذا يجد نفسه في حلقة مفرغة لا مبدأ لها»(45) والرؤية التي قدمها الكواكبي في تحليل وتفكيك هذه المشكلة هي من أنضج الرؤى التي أنتجها الفكر الإسلامي الحديث، وتحولت إلى رؤية مرجعية في مجالها، ومازالت هذه الرؤيةتحتفظ بقيمتها وفاعليتها في الفكر الإسلامي المعاصر. وكان من المفترض أن يكون لهذه الرؤية تحريضاً قوياً نحو زيادة الاهتمام بهذه المشكلة وبمختلف أدوات البحث ومنهجيات العلوم الاجتماعية والانسانية. لأنها ظاهرة معقدة وخطيرة، ولها رواسب وجذور قديمة، وعلائق وتأثيرات واسعة وممتدة. وقد حاول الكواكبي أن يهول من شدّة هذه المشكلة بتوصيفات خطيرة وكأنه يريد إلفات النظر لها، كقوله «أن الاستبداد داء أشدّ وطأة من الوباء، أكثر هولاً من الحريق، أعظم تخريباً من السيل، أذل للنفوس من السؤال. داء إذا نزل بقوم سمعت أرواحهم هاتف السماء ينادي القضاء القضاء، والأرض تناجي ربها بكشف البلاء»(46) ومع ذلك فإن الفكر الإسلامي المعاصر مازال مقصراً في مستويات الاهتمام ودرجات الالتفات والنظر لهذه المشكلة المستشرية والمستعصية، حيث لم يقدم معالجات مهمة أو تراكمات معرفية، فالكتابات الإسلامية في هذا المجال تعد ضئيلة ومحددة، لا تعادل على الإطلاق حجم وخطورة هذه المشكلة.


خامساً:

من المفارقات التي تظهر بين كتابي «طبائع الاستبداد» و«أم القرى» وتحتاج إلى تفسير هي طبيعة الموقف من السياسة. فطبائع الاستبداد كتاب في السياسة بامتياز، وخطاب في المعارضة السياسية بامتياز أيضاً. وقد صنف الكواكبي هذا الكتاب منذ البداية على حقل السياسة بشكل واضح وصريح، وقدم تعريفاً لعلم السياسة ربطه بالاستبداد، وحسب قوله «لما كان تعريف علم السياسة بأنه هو إدارة الشؤون المشتركة بمقتضى الحكمة، يكون بالطبع أول مباحث السياسة وأهمها بحث الاستبداد، أي التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى»(47) هذا الاقتحام في السياسة ومن موقف المعارضة للاستبداد، يفارقه ما دعا إليه في كتاب «أم القرى» من عدم التدخل في السياسة. فقد جاء في قانون الجمعية التي اقترحها ما نصه «الجمعية لا تتدخل في الشؤون السياسية مطلقاً فيما عدا إرشادات وإخطارات بمسائل أصول التعليم وتعميمه»(48) وفي مكان آخر من الكتاب يقول أيضاً «من المأمول أن تكون الحكومات الإسلامية راضية بهذه الجمعية حامية لها ولو بعد حين، لأن وظيفتها الأساسية أن تنهض بالأمة من وهدة الجهالة وترقى بها في معارج المعارف، متباعدة عن كل صبغة سياسية»(49) مع إن الكتاب لا يخلو من إشارات ومضامين سياسية ففي أكثر من مكان يؤكد الكواكبي على ضرورة النظر السياسي لمشكلات الأمة، ففي حديثه عن أمراض الأمة يقول بضرورة أن «يتشخص المرض أو الأمراض المشتركة تشخيصاً سياسياً»(50) وقوله «لنبدأ بتشخيص داء الفتور المستولي على الأمة تشخيصاً سياسياً مدققاً»(51) .
والقدر الممكن في تفسير هذه المفارقة هو أن الكواكبي في «طبائع الاستبداد» تحدث عن رؤيته بما يراها هو، واعتبر علة العلل في الاستبداد السياسي، أما في كتاب «أم القرى» فقد تحدث عن رؤيته لكن بما تراها الأمة، ووصف المشكلة بالفتور العام. ولأنه كان يتطلع لتأسيس جمعية إسلامية عامة تضم مختلف الملل والنحل الإسلامية، فأراد لهذه الجمعية أن تكون مستقلة وغير متحيزة لا لمذهب ولا لحكومة ولا لمنطقة، وإنما معبرة عن الجامعة الإسلامية.
سادساً: لقد وصف الكواكبي مشكلة الأمة بالفتور العام، وقبله وصف الشيخ محمد عبده هذه المشكلة بالجمود واعتبرها علة تزول. ولعل الكواكبي أراد أن يبعث الأمل في إمكانية التغلب على هذه المشكلة والنهوض بالأمة نحو المدنية، وقد قال على لسان الأستاذ الرئيس في كلمة افتتاح الاجتماع الأول «انه ينبغي أن لايهولنا ما ينبسط في جمعيتنا من تفاقم أسباب الضعف والفتور كي لا نيأس من روح الله، وأن لا نتوهم الإصابة في قول من قال إننا أمة ميتة فلا ترجى حياتنا، كما لا إصابة في قول من قال إذا نزل الضعف في دولة أو أمة لا يرتفع، فهذه الرومان واليونان والأمريكان والطليان واليابان وغيرها، كلها أمم أمثالنا استرجعت نشأتها بعد تمام الضعف وفقد كل اللوازم الأدبية للحياة السياسية.. ثم أيقنوا أن الأمر ميسور، وظواهر الأسباب ودلائل الأقدار مبشرة أن الزمان قد استدار ونشأ في الأمة أنجاب أحرار وحكماء أبرار»(52) وبعد قرن على غياب الكواكبي من الصعب القول بأن مشكلة الأمة هي مجرد فتور عام، بل هي أعمق من ذلك بكثير فهي مشكلة حضارية وليست مجرد فتور عام.


(1) عبد الرحمن الكواكبي وفلسفة الاستبداد. سمير أبو حمدان، بيروت: الشركة العالمية للكتاب، 1992م، ص31.
(2) النهضة والسقوط في الفكر المصري الحديث. د. غالي شكري، القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1992م، ص171.
(3) أنظر كتاب: عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام. د. محمد عمارة، بيروت: دار الوحدة، 1984م، ص39.
(4) نوافذ. ملحق اسبوعي لصحيفة المستقبل، بيروت، ملف مئة سنة على وفاة عبد الرحمن الكواكبي، سعد زغلول الكواكبي، الأحد 5 أيار/ مايو 2002م، ص10. أنظر أيضاً كتاب: عبد الرحمن الكواكبي السيرة الذاتية، سعد زعلول الكواكبي، بيروت: بيسان للنشر، 1998م.
(5) أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. د. فهمي جدعان، عمان: دار الشروق، 1988م، ص298.
(6) العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر. د. عاطف العراقي، القاهرة: دار قباء، 1998، ص175.
(7) زعماء الاصلاح في العصر الحديث. أحمد أمين، بيروت: دار الكتاب العربي، 1979م، ص278.
(8) الحركات الإسلامية في القرن الأخير. الشيخ مرتضى المطهري، ترجمة: صادق العبادي، بيروت: دار الهادي، 1982م، ص57.
(9) طبائع الاستبدا ومصارع الاستعباد. عبد الرحمن الكواكبي، دمشق: دار المدى، 2002م، ص15.
(10) المصدر نفسه، ص16.
(11) المصدر نفسه، ص16.
(12) المصدر نفسه، ص16.
(13) الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في مصر والشام. ز. ا. ليفين، ترجمة: بشير السباعي، القاهرة: دار شرقيات، 1997م، ص117.
(14) طبائع الاستبداد، مصدر سابق، ص19.
(15) المصدر نفسه، ص19.
(16) زعماء الاصلاح في العصر الحديث، مصدر سابق، ص254.
(17) أسس التقدم عند مفكري الإسلام في العالم العربي الحديث. مصدر سابق، ص298.
(18) الفكر الاجتماعي والسياسي الحديث في مصر والشام. مصدر سابق ص117.
(19) طبائع الاستبداد. ص16.
(20) المصدر نفسه، ص29.
(21) المصدر نفسه، ص29ـ34.
(22) زعماء الاصلاح في العصر الحديث. ص266.
(23) طبائع الاستبداد. ص16.
(24) الدستور والبرلمان في الفكر السياسي الشيعي. جعفر عبد الرزاق، إيران: كتاب قضايا إسلامية معاصرة، 2000م، ص34. نقلاً عن كتاب: تشيع ومشروطيت در إيران، عبد الهادي حائري، طهران، 1986م، ص223.
(25) ضد الاستبداد: الفقه السياسي الشيعي في عصر الغيبة. توفيق السيف. بيروت: المركز الثقافي العربي، 1999م، ص268. تضمن هذا الكتاب النص الكامل لكتاب تنبيه الأمة وتنزيه الملة مع تعليقات السيد محمود الطلقاني.
(26) المصدر نفسه، ص268، أنظر أيضاً كتاب: اتجاهات الفكر الديني المعاصر في إيران. مجيد محمدي، ترجمة: ص. حسين، لم ينشر بعد.
(27) الدستور والبرلمان في الفكر السياسي الشيعي. مصدر سابق، ص34، نقلاً عن كتاب عبد الهادي حائري.
(28) المصدر نفسه. ص34، نقلاً عن مجلة الحكومة الإسلامية، السنة الثانية، العدد الأول، ربيع 1998م، ص134 السيد محمد ثقفي، أنديشه سياسي ميرزاية نائيني.
(29) الحركات الإسلامية في القرن الأخير. مصدر سابق، ص58.
(30) الكواكبي والنائيني جوانب غير مكتشفة. محمد جمال باروت، جريدة المستقبل، بيروت، مصدر سابق، ص8.
(31) عبد الرحمن الكواكبي. د. سامي الدهان، مصدر سابق، ص74.
(32) زعماء الاصلاح في العصر الحديث. ص253.
(33) المصدر نفسه. ص266.
(*) يقصد عبد الرحمن الكواكبي كما أطلق على نفسه في كتابه أم القرى.
(34) أم القرى. عبد الرحمن الكواكبي، بيروت: دار الرائد العربي، 1982م، ص1.
(35) عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام. مصدر سابق، ص165.
(36) جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث. د. عبد الباسط محمد حسن، القاهرة: مكتبة وهبة، 1982م، ص226.
(37) أم القرى. مصدر سابق. ص158.
(38) المصدر نفسه. ص158.
(39) المصدر نفسه. ص191ـ192.
(40) الحركة العربية: المرحلة الأولى للنهضة العربية الحديثة. سليمان موسى، بيروت: دار النهار، 1986م، ص23.
(41) عبد الرحمن الكواكبي شهيد الحرية ومجدد الإسلام، ص76ـ72ـ45.
(42) زعماء الاصلاح في العصر الحديث. ص252.
(43) جمال الدين الأفغاني وأثره في العالم الإسلامي الحديث. مصدر سابق، ص225.
(44) العقل والتنوير في الفكر العربي المعاصر. ص162.
(45) طبائع الاستبداد. ص72.
(46) المصدر نفسه. ص72.
(47) المصدر نفسه. ص20.
(48) أم القرى. ص199.
(49) المصدر نفسه. ص18.
(50) المصدر نفسه. ص128.
(51) المصدر نفسه. ص18.
(52) المصدر نفسه. ص16.