شعار الموقع

إمكانية عودية المركزية الإسلامية بين وعي الأنا والآخر.. والشرط التاريخي

عبد الرزاق الجبران 2004-10-15
عدد القراءات « 769 »

إلى أي حدٍّ من ـ منطقياً‏ـ يمكن الإصغاء إلى استفهام حسن حنفي ـ مع كل استبطاناته ـ: «هل يعود مسار الحضارة في الغرب إلى الشرق؟ هل تنتقل روح التاريخ عكس ما انتهت إليه وإلى موطنها الأول الذي بدأت به؟ هل انتهى دور الريادة للحضارة الأوروبية وبدأ دور ريادة الحضارة الشرقية كما بدأت أول مرَّة؟ هل وصلت الحضارة الأوروبية إلى مرحلة الشيخوخة بعد أن تعبت وهرمت على ما يقول هوسرل؟. هل يمكن لحضارات الشعوب المتحررة حديثاً أخذ الريادة ووضع فلسفة جديدة للتاريخ،تكون الحضارة الأوروبية فيها جزءاً من الماضي، وتوضع في حجمها الطبيعي في تاريخ الإنسانية العام تكون إحدى حلقاته، وليست ممثلاً له؟» (1) . وإلى أي حدٍّ يمكن بناء أُسس لهذا الاستفهام التوقعي؟، وبأي قيمة احتمالية له؟، ثم مع اي فرضية يمكن تقدير بروز الوجه الشرقي عموماً والإسلامي خصوصاً في مركزيته الأولى؟، ومع من يمكن ربق خيوط أطراف مركزيته؟، وما هي المادة الفلسفية ـ‏لهذه الخيوط ـ التي يمكن أن تخلق وجود الأطراف. كل هذا يستدعي عمقاً معرفياً تنجزه العلوم الإنسانية والاجتماعية ـ ضمن آلياتها ـ بالدرجة الأساس، كون المسألة هي مسألة الإنسان واجتماعه وحضارته ومسيرته التاريخية بكل تعقيدات مسالكها، بالأمس واليوم وغداً.
إنَّ العبء اللاشعوري الذي يضاف إلى باطن المجتمع العولمي في الأطروحات المتراكمة لنموذجية كونية، مازالت تواصل تعبئتها في إطار ما رُسِّخ باسم «المركزية»، أعانها على ذلك استظلال نخب عالمية لشعوب الجنوب تحت مظلة تلك الأطروحات ورؤاها بافتقاد تلك النخب، غطاءاً إبستمولوجياً لفقه الاجتماع وحركته الراهنة وأُطره الزمكانية وأسسه، بما جعلها تتعامل مع الآخر كواقع حضاري من كل الأبعاد، إضافة إلى عدم البحث عن شراكة الهوية ودورها في تأصيل موضوعات تلك الأطروحات، كذلك دون وعي اختلاف الصبغة النفسية وتشكلات مجتمع جغرافية معينة بصبغ تحول دون إمكانية استنساخ أو سحب حلول تلك الأطروحات في عالم يختلف في قناعاته وأعرافه ومثله (2) ، الأمر الذي شكَّل من هذه الإعانة والانجذابية صفة (النواتية) للآخر (الغرب)، لذا فإنّ الإشكالية في وضع المركزية الرأسمالية ـ وماهية الانجذاب من الأنا والشرق كأطراف ـ تكمن في أن صورة الغرب تمثِّل «في وعي الشرق نموذجاً للتقدم والنهضة والحداثة والتغيير الاجتماعي والمستقبل. فهو نمط للتحديث، وقدوة للمستقبل خاصة بعد أن ذاع النموذج الغربي من خلال سيطرته على أجهزة الإعلام مما أنشأ في كل وعي لا أُوروبي ولدى كل شعب خارج أوروبا ظاهرة التغريب» (3) .

تأتي هذه المقدمة للخوض في مفاصل تحركت فيها (ورقة) الدكتور ميثم الجنابي الموسومة بـ «الإسلام والشرق، الحكمة الثقافية والاستراتيجية السياسية» والمنشورة في العدد (26) من مجلة الكلمة، إضافة إلى المنهج المُسْلَك في معالجة إشكالية العنوان والمفاصل والروابط المقتضاة بينهما في توجيه مقدمات ونتائج الشاغل، ويمكن ذكر أبرزها في:
1) دخول أو موقع الظاهرة الإسلامية ضمن فرضيات المستقبل الكبرى.
2) تقييم الموقف الذاتي من الشرق، والالتفات إليه سيما مع بعده الجيوسياسي وعلاقته بمركزية الظاهرة في التفعيل.
3) فرضية المركزية الإسلامية، وضرورة وعي الذات.
4) الضعف البنيوي الروحي للمركزية الغربية.
5) القطبية والوسطية، (الماهية، العلاقة، الايجاد).
تقترن الظاهرة في وجودها عادة بمصطلح (الفعالية) أو ميلاد فكرة أو تجددها (العودة المعاصرة) لَتْدخُل إلى عالم الأشخاص محركة إياه، يتبعها بالضرورة تشكُّل شبكة العلاقات الاجتماعية ـ كما يصطلح مالك بن نبي في تسميتها (4) ـ التي تنطوي أُسس تلك الظاهرة في الفعالية الاجتماعية، ليكون معها المناط الحضاري متحققاً.
هذه النقاط التي تجد نفسها في إطار مفاصل علم الاجتماع وفلسفة التاريخ وعلم اجتماع المعرفة والانتربولوجيا الثقافية والسياسية، برزت بلا شك ضمن أُفق معين وأبعاد معينة في المجتمع الإسلامي من جديد منذ بداية عصر الإصلاح الديني ـ وسمة الديني في هذا الإصلاح يمكن أن يوجه خط الأزمة تاريخياً في هذا الشطر الشرقي، وبعده الجوهري في الدراسة الحضارية وصناعتها في معادلة بني نبي المشهورة (5) ـ في اجتهادات معرفية لايديولوجية جديدة ومتجددة تتقارب وتتنافر أحياناً حد الصراع.. وهذا ما أثار أزمة فقدان الوحدة الثقافية بين العوالم الإسلامية عند الدكتور الجنابي، بما سينوّه عنها لاحقاً.
لكن المهم بِدءأً هو أنه بأي قدر برزت هذه الظاهرة (الفعالية) التي ترتبط جدلياً بفكرة الصحراء الأولى والتي أعطت عدَّة قرون للمركزية الإسلامية في فجره الأول؟، ومامدى قدرتها على أن تكون ضمن فرضيات المستقبل، ورقماً‏احتمالياً، وقيمة محتملة له؟، وهذا بالتأكيد يعتمد على ماهية تفجرها الثاني، كفكرة وايديولوجية (6) وقدرة ارتباطها بالواقع والتحكم به في علاقته مع الإنسان.
وبالتالي حركة هذه العلاقة في فرضيات المستقبل، وهذا يفرض بالضرورة مناقشة مفصل، مدى اغتراب المنظومة الفكرية الجديدة عن هويتها الأولى، كمقاصد وقيم ومبادئ ومنطلقات وأسس، وقدرتها على فرز المتغيرات في حركة الشريعة، كذلك قدرة هذه المنظومة في وعي الذات بكل ما تحمله الكلمة من روح وإطار، ففارق كبير «بين الإسلام في تفجره الأول كرسالة روحية كبرى متعالية، وبين الاتجاهات الايديولوجية التي تشكَّلت فيما بعد وحاولت احتكار الرسالة لمصلحتها من أجل ترسيخ هيمنتها وسلطتها» (7) ، وهذا هو الفارق الذي أفضت مخلفاته في ضياع المركزية الإسلامية الأولى وانحلال روابطها وانحلال روابطها وانحياثها، لتكون فيما بعد طرفاً، لذا كان المحتَّم منهجياً على الدكتور مثم الجنابي حين معالجته لوعي الذات أن يربط الظاهرة الإسلامية الراهنة بفلسفاتها الاجتماعية ـ كظاهرة شكلها الحضاري مطلقاً‏ـ والانطولوجيا (دراسة الانسان بما هو موجود كائن يعي وينشأ ويؤثر) على أساس مدِّ خيط لها مع الضرورة غير المنفكة للايديولوجية الأولى مع الأخذ بعين الاعتبار شروطها التاريخية، وهذا ما يحتِّم أساسية تجديد التفكير الديني الذي يشكِّل عين (بنية الظاهرة)، سيما أن الجنابي ذكر في ثنايا سطورة دون قصد للتأسيس «إنَّ الثقافة هي الوحيدة القادرة على الاستمرار والفعل في ضمائر الأمم وعقولها»ص79، وبالتالي يكون التكوين التلقائي للمركز، وإلا مع ترك «العودة إلى الذات»، إضافة إلى خطورة الوعي الأوروبي في هكذا شأن، ضمن عملية الاستلاب التي يمارسها وتغريب الرأي ـ بالنسبة إليه ـ عن مصادر وعيه التاريخي بطمس ايديولوجيته ـ مع مشاركة بعض عناصر الأنا في ايجاد وترسيخ مُعامل الاستلاب ـ وبالتالي سلب شخصيته ليذوب في غيرها قسراً ولو من باب الولع بتقليد ومحاكاة الغالب، وهذا ما أكدته التراكمات المعرفية لعلماء الاجتماع والتاريخي السياسي، كما تشي بها مقولة المفكر الأفريقي (عمر مولود): «إذا أردت أن تسيطر على شخص فاسلبه شخصيته (هويته)» (8) .


الشرق: (الهوية، القواسم، الارتباط)

يطالب الدكتور الجنابي بتوجيه الاهتمام إلى الشرق (الآخر المجاور) وإعادة النظر بتقييم الموقف الذاتي (الإسلامي) منه، ويرى فيه أمراً له أبعاد ثقافية وجيوسياسية كبرى بالنسبة لمستقبل الشرق، وبالتالي يتحدد أيضاً مستقبل العالم (ص78)، إلا أن الشرق سيما الأدنى منه، لم يجد نفسه طوال التاريخ على أنه طرفاً حتى نقول أنه يمكن تبسيط القضية في مسألة اهتمام وعناية ـ كما يرى الجنابي ـ بقدر ما يقتضي الأمر عمقاً معرفياً في العلاقة وإيجادها معه سيما أنها تقوم على ترك ما بحوزته من ثقافة تاريخية «فجدل الأنا والآخر واقع تاريخي مستمر لا يمكن إنكاره (..) في كل مجتمع ولدى كل شعب.. الأنا بمفرده نرجسية وغرور (..) لكن لابد من تحويل هذه العلاقة غير المتكافئة بين الأنا والآخر إلى علم دقيق ومنطق محكم وجدل تاريخي» (9) سيما مع أصحاب العمق التاريخي الزاخر بايديولوجيات الروح التي شكلت هوية تأخذ عمق زمنها بما يفرضه هذا العمق من وجود محرك لاشعوري يفوق الموجه الشعوري، بما يثار في (فلسفة العلم) ضمن علم النفس التحليلي في بعد اللاشعور بما أصّل لها ابستيمولوجياً، الابستيمولوجي الفرنسي غاستون باشلار (10) وهذا ما نجده راسخاً‏لدى الصينيين في منحى يكتشف انثروبولوجياً، بما يعلمون تلامذتهم: اعقلوا فالشمس تشرق من الشرق وليس من الغرب (11) ، كما أن عمق هذه الشعوب ـ مشتركة ـ يمتد إلى سبعة آلاف سنة، وهذا ما يفضي في وعيهم إلى تابعية أولوية الوجود (الكينونة) إلى أولوية الماهية، ولو تابعية احتمالية، إلا إن هذا العالم بقي مع كل قواسمه واشترك أغلب همومه معنا بعيداً‏عن وعينا، بحيث لم يكن الشرق بالنسبة لنا هو الآخر «فنحن لا نعيش آسيا قدر ما نعيش أوروبا بالرغم من الدعوات القائمة على «ريح الشرق» وبالرغم من انتشار الإسلام شرقاً قبل انتشاره غرباً، في آسيا قبل أوروبا» (12) لذا لابد من توجيه صورته لدينا ووضعها ضمن منطق محكم تتفاعل فيه كثير من الآليات التاريخية، كي يمكن اكتشاف نمط العرى التي يمكن توطيدها معه لتأسيس المركزية في كفة الشرق الأثقل ـ وبما ستعطي هذه المحطة للمركزية من ضمانيةتكاملها مع الغرب ـ وهذا يحتاج إلى مدى قدرة الثقافة والحضارة لديهم ولدينا في ان تنصهر في بوتقة الثقافة الإسلامية (13) .
في سياق دراسة مالك بن نبي لفكرة كومنولث إسلامي، في كتابه الموسوم بذلك، يَدْخُل إلى الموضوع بمنهجه المتميِّز (الكثافة الآلية للعلوم الإنسانية والاجتماعية) مع الموضوعية الصارمة في تحكيم الواقع ضمن شروطه التاريخية، فمع تقسيم العوالم المربوطة للمحور الإسلامي يطرق (بني نبي) مفهوم (الداخل، والمحيط) المرتبطين بالعوالم في تأصيل القطبية، الداخل إشارة للعناصر العضوية الخاصة بالعالم (المُكْتَشَف)، العناصر التي تكون هويته وأصالته الخاصة، أما المحيط إشارة إلى العناصر النفسية التي تعالج موقع الاتصال وتربط تلك الدوائر (14) ، فيرى أن هذا الربط لايتحقق ابتداءً من نقطة اشعاع ـ كما كان في التفجر الأولي للإسلام ـ للشروط التاريخية ولكن يجب أن تنتهي إلى نقطة التقاء، وهذا منطقياً يمثل المدخل المنهجي للتأصيل والتأسيس للعلاقة مع الشرق، وذلك في فلسفة العلاقة بين الإشعاع والإلتقاء وميكانيكا عملهما مع إسقاط الشروط التاريخية على أنساقها. ويمكن التأصيل لميكانيكا عمل حكمة الإلتقاء على أساس ما يسمى فلسفة الحاجة وهذا ما كانت تحتاجه دراسة الجنابي في منهج المعالجة، مع هذا نجد في بعض المواضع اختزالات موفقة، ومع الوقوف على إشارته في دوران العوالم الشرقية حول الرأسمالية العالمية. والوضع العلائقي بين هذه العوالم في فقدان وتشتُّت الوحدة الثقافية بينهما ـ‏وبتوجيه أثقل ـ في أنه لا تجمع هذه العوالم هموم فكرية أو عقائدية في ميادين الدين والسياسة‏(ص82) مما يُعسِّر أزمة التوحد مع الشرق. قد يكون من الصعب قبول الواقع هذه الرؤية إلا البعض، أما الأفق السياسي فبلاشك يعيش هذا التشتت، سيما مع الاختلاطات القومية للعوالم الإسلامية، وهذا قد يكون ناتجاً عن العلاقة غير الجدية بين قرارات السلطة ورؤى الجمهور المسلم، إضافة إلى أن بعض الإسلاميين أصلّوا للروح القومية وانجرفوا لها. أما التوحُّد الايديولوجي فمازالت هناك القواسم التي تفرض وجود وحدتها تلقائياً والتقائياً.


القطبية والوسطية (الماهية، العلاقة، الايجاد)

إن الذي يحرك مسار التاريخ ـ تداخلياً‏بين الشعوب ـ هي الصور الذهنية المتبادلة التي تكونها الشعوب والحضارات عن بعضها البعض، حتى تتحول إلى صور نمطية توجِّه السلوك الفردي والجماعي لها (15) ، لذا يكون حتماً منهجياً البحث في صورة الشرق لدينا، وصورتنا لديه، وتحليلها وتوجيهها إلى عمقها الواقعي بما تتأطره من ثقافة وتراث يشكِّل سوراً‏ايديولوجياً لهويتها‏ـ من هنا كانت الضرورة في مشروع علم الاستغراب عند حسن حنفي في تحويل الملاحِظ إلى ملاحَظ، والموضوع إلى ذات، تمتلك بغية هذا إطارها الأول ـ البحث في صورة الآخر ـ فالتأسيس ينطلق في إمكانية توجيه صورتنا لديه (بما تقتضيه فلسفة الحاجة) في محاولة إبراز الظاهرة الإسلامية بصورة المنظومة الايديولوجيا التي تفوق المركز الراهن في علاج مشكلة الإنسان وحضارته، وهذا ما يوكَّل إلى كفاءة الفكر الإسلامي المعاصر في وضع إطروحته التي يمكن أن تقوم بهذا التفوُّق، الذي يجر وراءه حدوث الحالة التلقائية بما تفرضه الحاجة من توجُّه إلى مضانِّها.. وهذا المضنّ سيتبدى ولو بعد حين مركزاً.
ومع هذا السبر يمكن فهم توجيه نص الجنابي بما يستبطنه من دلالة محتملة: «إن إشكالية العلاقة «بالشرق» بالنسبة للعالم الإسلامي المعاصر هي إشكالية تأسيس تلقائية الثقافة (لا يريد بها التلقائية السالفة انطباقاً). إذ عليها تتوقف موازنة العلاقة السليمة «بالشرق» و«بالغرب» وتجانسها. وذلك لأن هذه التلقائية الثقافية وحدها فقط تستطيع تفعيل الحكمة الخالدة، التي تراكمت في تجارب «الأمة الوسط» والقائلة بضرورة إعطاء الأولوية للصفة الأكثر امتيازاً في تجارب الأمم والثقافات والبقاء في حيز الأصالة الثقافية (ص83) وهذه الإشارة الأخيرة لعدم نفي الآخر بمنهج التثاقف أو المعاقلة الحية، تتوافق مع مبدأ تراثي يؤسس عليه طه عبد الرحمن: «إن الظفر بالصواب لا يكون إلا بمعونة الغير» (16) .
بعد هذا يمكن الدخول في بعدين في فلسفة التاريخ (للمجتمع الحضاري) عوّل عليهما مالك بن نبي لميلاد المجتمع الحضاري، يمكن سحبهما لمعالجة مسألة القطبية والتلقائية مع الشرق فتشكل المجتمع الحضاري ينتمي إلى أثرين:
1ـ النموذج الفكري (الايديولوجي).
2ـ النموذج الجغرافي (تحديات الوسط مطلقاً.. حتى ايديولوجياً).
بلا شك تاريخ الشعوب الشرقية وحضارتها يمثل بنية النموذج الايديولوجي بما عُرِفَ في دنوه للروح في أدبيات هويته، وهذا ما يسهِّل وجهة «التلقائية» والانجذاب للمركز الإسلامي للاتساق في المنشأ الايديولوجي. فبوصلة حاجته تتجه قسراً (طبيعياً) نحو الإسلام في ريادته ذلك إزاء ريادة المادة في المنهج الغربي، سيما مع رسوخ ما يسمى «اليأس من الأطروحات» الوضعية، لحل إشكالية الإنسان في إيجاد اجتماع يتحرك بصورة حضارة «فجميع القوانين التي أملتها السماء، أو المحاولات البشرية هي إجراءات دفاعية لحماية شبكة العلاقات الاجتماعية» (17) وهذا ما تبتغيه الشعوب مما يطرح في شاغل الإشكالية، سيما الشعوب الشرقية لالتصاق هويتها وتقاليدها بهكذا منزع ـ الوجه الاجتماعي ـ تغطيها القداسة. لكن الغرب أخيراً‏مع كثير من المحاولات وتراكمات مدارس فلسفية اجتماعية ـ يصغى لها ويجرى أفقها التطبيقي ـ مازالت تظهر نكساتها هنا وهناك.. بما ينافي الفطرة والمدركات العرفية مع بساطتها.. مع كل تقدمه المادي الباهر، لكن «مشكلات الإنسان غير مشكلات المادة، ومجال المجتمع غير مجال الميكانيكا» (18) بما اتفق من صعوبة الإدراك لكينونة الإنسان وعدم القدرة في الوقوف على ضوابط يمكن حسابها في منهج يطرح للمجتمع، ومن هنا يلاحظ تأخر العلوم الإنسانية والاجتماعية وتباين رؤى مدارسها، نسبة إلى باقي العلوم، الأمر الذي يستدعي مناقشة مسألة «الوحي» وأطروحة السماء للأرض.. وتميز مناطق الإدراك «المدرِك والمدرَك»، ـ خاصة مع ربط هذا التأخر واستمرارية اليأس في توجيه حركة المجتمع بالصورة السليمة في نتاجات العلوم الإنسانية والاجتماعية بقضية «اتحاد الذات والموضوع» (19) .
قد لا يمكن دخول مفهوم الوسطية، بما يحتله المنبع الإسلامي جغرافياً كمركز بقدر ما يدخل المفهوم في العنوان الايديولوجي بما يمتلكه من مركزيته في الرؤية الكونية، تحاول الأطراف الاتصال بها لحل أزمة العلاقات الثلاث: (إنسان ـ إنسا، إنسان ـ‏الله، إنسان ـ طبيعة)، مع عدم إهمالنا للدور الكبير الذي يلعبه الموقع الجغرافي في الوجود الحضاري بما أصل من علماء الاجتماع والتاريخ، فبعيدٌ جداً أنْ يكون الاكتشاف لمركزية «مكة المكرمة» لليابسة ـ بما أُثير قبل أربع سنوات تقريباً‏ـ صدفة في وجودها الجغرافي بما تدحضه (فلسفة الاحتمالات)، حتى إن (حسن حنفي) ارتأ في وضع الأنا في المنطقة الوسطى من العالم في قلب الحضارات كموقع جغرافي إلى أن يكون الآخر آخرين (20) (إشارة للشرق)، وبالتالي يكون المركز الجغرافي مؤكداً‏(الاختيار الإلهي) للمركز الايديولوجي، بمعنى آخر يكون (المركزي الوجودي) هو عينه (المركز الماهوي) (21) .

فكرة التلقائية التطبيق والشروط التاريخية

يبقى الشاغل في مناطه هو اقتضاءات الشروط التاريخية المعاصرة في توجيه منهج تطبيق هذه الفكرة بكل ما تفرضه أو تلقيه هذا الشروط من أبعاد صراعية على كل المحاور الحضارية، وبسبب هذا الاختلاف في الشروط التاريخية نجد مالك بن نبي في فكرة الكومنولث بما لها من علاقة تأسيسية في الارتباط بين العوامل الإسلامية ـ يضع مخطوطتين (22) يحذِّر من أحدهما كونها تمثل المركزية الأولى في شروطها التاريخية الأولى القائمة على الإشعاع كما في المخطط التالي:
العالم الإسلامي الأسود والأفريقي
العالم الإسلامي العربي
العالم الإسلامي الأوروبي
العالم الإسلامي الإيراني
العالم الإسلامي الماليزي
العالم الإسلامي الصيني ـ المنغولي


(علاقة الإشعاع)

وهذا ما كانت تفرضه الشروط التاريخية الأولى في علاقة الإشعاع (الإرادة الخاصة)
بينما مع الشروط التاريخية المعاصرة تتحدد العلاقة بالانجذاب.. من الداخل لكن موحدة (عالم) ليكون التعبير «الإرادة الجماعية»
العالم الإسلامي الأسود والأفريقي
العالم الإسلامي العربي
العالم الإسلامي الأوروبي
العالم الإسلامي الإيراني
العالم الإسلامي الماليزي
العالم الإسلامي الصيني ـ المنغولي


(علاقة الالتقاء)

هذا ما تفرضه الشروط التاريخية المعاصرة في (التلقائية) تحت إطار فلسفة الحاجة (الإرادة الجماعية)
قد تشير فكرة مالك بن نبي إلى إطار مغاير بعض الشيء.. أومضت لنا فكرة التلقائية المركزية وتوظيفها في المدار بغية تدشينها، ويمكن تمثيل هذه الفكرة بالطبيعة الواضحة في علاقة الأستاذ بالتلميذ، فماهية الإرتباط تدور أيضاً في شكل مركزية الأستاذ.. على نحو التلقائية، أيضاً بما تُحتمه فلسفة الحاجة حاجة التلامذة عند المعلِّم، وهذه الحاجة المعرفية لأهميتها في شخصية وأهداف الطلبة ومصلحتهم تفرض توجهاً تلقائياً وملجأ قسري من الذات، ومن هنا يمكن فهم ما يُتحرك ضمن الآية {لاإكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي} في جدلية الحرية، ليس في امتناعية القسر القلبي فقط وإنما للصفة الإنسانية في الإرتباط بين إرادة الإنسان وقناعته، وكذا مع مفهوم «حب الذات» وطلب منفعتها، والحاجة ليس إلا ذلك.
وبتمثيل أحكم يقع في قاعدة (توائم العقل والطبيعة) و(الطبيعة مصدر الفكر) بإدخال معايير الشروط التاريخية في أثرها على الفكرة ما نجده في حركة الإلكترون ودورانه وارتباطه بالنواة، فكلما وجد الالكترون نفسه ذات طاقة تفوق طاقة المدار، خرج إلى مدار أبعد منفكَّاً بعض الشيء عن نواته،‏وكلما حمل طاقة أكثر ابتعد حتى حالة الانفكاك، لضعف المركزية في شدها إليه بما يحمله من طاقة، وهذه هي قصة العوالم الإسلامية مع الأحداث والتشكلات التاريخية التي دارت في مراكزه وتبعثرها، مما حدا بها إلى الخروج عن هذا الارتباط، لتلاشي الحاجة لها، فقد كانت الأطراف تجد نفسها أفضل في حركتها مما لو ارتبطت بحركة المركز، وبهذا أشار الدكتور الجنابي: «إلى أن غيبوبة التاريخ الإسلامي المستقل (الكيان السياسي الثقافي) أفضى إلى أن يكون الدوران في فلك الزمن الأوروبي اقتصادياً وسياسياً‏وعسكرياً وفكرياً أمراً محتوماً»ص83، وهذا ما يطابق فحوى المثال ورمزيته وكنايته في تحرر الالكترون من المركز، فغياب الشخصية الإسلامية وهويتها الثقافية وايديولوجيتها الاجتماعية، مما أفضى إلى ارتفاع الحاجة الطبيعية للعوالم الإسلامية في سد حاجتها لذلك ومنفعة أمتها، التي كانت تفرض تلقائياً‏توجه تلك العوالم.. لأمة قويِّة قادرة.. ذات حضارة ارتقت بالإنسان واجتماعه. حتى عصر النهضة الغربية، تلقائياً نجد كثير من المفكرين وأممهم ينقادون تلقائياً بل يروجون لها بقوة.

مع هذا السياق نرى الدكتور الجنابي موفقاً في كشفه المفارقة المزدوجةـ التي تُنكس الوجهة التلقائية ـ‏في جهل المركز الإسلامي بالشرق ودمجه به وتصنيفه عليه، لتلتحم مع رؤيته الأولى للإشكالية في بداية الدراسة، في أن الهوة السحيقة بين عالم الإسلام و«الشرق» ناتجة عن دورانهما المتجزئ في فلك الكولونيالية، ومركزيتها الرأسمالية (العالمية) ص78.، كذلك نجد إشارة أمتن في اختزالياتها تأتي امتداداً لشاغل (التلقائية) يقول: «إن تحرير العالم الإسلامي من هذه المفارقة المزدوجة للجهل الذاتي يفترض أولاً وقبل كل شيء تحريره من «الشرق» و«الغرب» بالرجوع إلى المرجعية التاريخية والثقافية في «الأمة الوسط» وإعادة تأسيسها عقلانياً وأخلاقياً في العالم المعاصر»(ص83)، وهذا بالتأكيد المنطلق والعلة الأولى لكل مدارات هذا الشاغل «إيجاد الوسطية التلقائية» وذلك بالرجوع إلى المرجعية التاريخية في كل ابعاد وعي الذات بما يحمله حائط هذا المفهوم (وعي الذات) من مشاجب معرفية في وعي الأُمة، سيما مع قناعة الدكتور الجنابي في أُسيَّة هذه المرجعية التاريخية ـ‏الثقافية، لتشكيل الأمة الوسط، لكن ذلك ـ كما يرى ـ مشروطاً‏بإعادة التأسيس على أساس العقلانية وماهية الأخلاق والبعد الروحي المعنوي وفي «عالم معاصر» مما تحتِّم عليه كثير من الشروط التاريخية منهجية جديدة في متغيرات (الأمة الوسط) لتفرض نفسها فرض الاختيار وكأن العلاقة ستكون مع التلقائية نحو الأمة الوسط، هي علاقة طلب عضوية (من العوالم) لا طلب انضمام (من المركز).
وبهذا تستدعي المسألة المطروحة في العلاقة مع الشرق أو الغرب خطورة معرفية، بما تفرضه مفاهيم ذات غطاء إعلامي سادر، من العولمة ونهاية التاريخ (نهاية الدورات الحضارية في المركزية الرأسمالية) ومدارات حوار الحضارات وصراعها بما انطلقت منها في (جدلية التقاطب). والثورة المعلوماتية بما تفضيه من آثار توجه حركة الارتباط واتجاهها بين الأمم، والأشكال الحداثوية لفلسفات الغرب، ومفارق المجتمع المدني وبنيته المُسْتَقْطِبَة للانتاج الرأسمالي بما يحتكره في أغلب معالم هذا المجتمع ولريادته له، كذلك الأبعاد المطروحة في الأحلاف السياسية والاقتصادية.. الخ مع كل هذا ستعي المجتمعات أن الفكر لا ينظر إلى المدينة بما أنتجته من منافع للإنسانية ولكن أيضاً بما جنت البشرية منها من خسائر.


الهوامش
1) حنفي، حسن، مقدمة في علم الاستغراب، القاهرة، الدار الفنية، ط1، 1991م، ص768.
2) أصِّلت هذا المسألة من علماء الاجتماع باسم (جغرافية الكلام والحلول) و(نسبية الفكر الاجتماعي) انظر علي شريعتي، (المفكر أو المثقف ـ حسب الترجمات‏ـ ومسؤوليته في المجتمع)، نص مترجم للكتاب ضمن كتاب (هكذا تكلم علي شريعتي) لفاضل رسول، بيروت، دار الكلمة للنشر، ط2، 1983م، ص104ـ106، كذلك مالك بن نبي في ميلاد مجتمع، وفكرة كومنولث وبعض مؤلفاته الأُخرى.
3) حنفي، مصدر سابق، ص774ـ775.
4) انظر كتابه: ميلاد مجتمع (شبكة العلاقات الاجتماعية)، دار الفكر، بيروت، وتحليله المجتمع لعناصره الأساسية (عالم الأشخاص، عالم الأفكار، عالم الأشياء) وعنصر الفكرة وعلاقتها بتحكيم وإنشاء هذه الشبكة في علاقة مجتمعها وتحول الإنسان من فرد في النوع بواسطة الفكرة إلى شخص في المجتمع لا التجمُّع بما يفرِّق بينهما في فلسفة توحُّد الاتجاه.
5) الحضارة= إنسان + وقت + تراب. أنظر أغلب كتاباته في مشكلات الحضارة التي دارت حول هذا الشاغل.
6) نستعمل هذا المفهوم (الايديولوجيا) لاقتناعنا في تترسه المعرفي الذي ركَّز عليه الدكتور علي شريعتي في أطروحاته.
7) انظر هامش الدكتور هشام صالح لكتاب محمد آركون: تاريخية الفكر العربي الإسلامي، بيروت، مركز الإنماء العربي والمركز الثقافي العربي، ط2، 1996م، ص145.
8) انظر: الإنسان والإسلام، د. علي شريعتي، ترجمة:عباس الترجمان، طهران، دار الصحف، ط1، 1411هـ، ص88، ويمكن أن تجد التفصيل المنهجي لهذه الحالة ـ‏الاستلاب في نفس المصدر ـ والتأصيل لها من ناحية علم الاجتماع السياسي التاريخي.
9) حنفي، مصدر سابق، ص776.
10) عزّام، محمد، مدخل إلى فلسفة العلوم، دمشق، دار طلاس، ط1، 1993م، ص13.
11) ماو، تسي تونغ، مؤلفات ماوتسي تونغ المختارة، المجلد الأول، بكين، دار النشر باللغات الأجنبية، ب ط، ب ت، ص449.
12) حنفي، مصدر سابق، ص773ـ774.
13) هذا الذي ارتآه ـ تاسيساً‏ـ مالك بن نبي في محاولة تشير وحدة العوالم الإسلامية فلا يجدي شيئاً إن لم تكن عناصر الوحدة متقاربة مرتبطة مسبقاً‏بروابط صهرها التاريخي والأساس في قوله «فوحدة الحضارة والثقافة تستطيع وحدها خلق هذه الروابط» انظر: فكرة كومنولث إسلامي، القاهرة، مكتبة عمار، ط2، 1971م، ص7.
14) ن.م، ص62.
15) حنفي،‏مصدر سابق، ص773.
16) عبد الرحمن، طه، تجديد المنهج في تقويم التراث، بيروت، المركز الثقافي العربي، ط2، ب ت، ص421.
17) بن نبي، مالك، ميلاد مجتمع، بيروت، دار الفكر، ط3، 1406هـ، ص94.
18) ن.م، ص103.
19) انظر: الاتجاهات الرئيسية للبحث في العلوم الاجتماعية والإنسانية (القسم الأول‏ـ‏العلوم الاجتماعية)، ترجمة جماعة من الأساتذة المختصِّين، دمشق، وزارة التعليم العالي، ط1، 1396هـ، ص89.
20) حنفي، مصدر سابق، ص777.
21) مصطلحا الوجود والماهية الفلسفيان، في حيز العلوم الاجتماعية يأخذان إطار التكامل البشري بين البداية (الايجاد) في بساطته التكوينية وبين التحصيلات التي تعطي الحقيقة المعنوية التي يتشكَّل الفرد لاحقاً بها مع الانخراط في الحياة مع مراحل الوعي والإبداع.
22) بن نبي، فكرة كومنولث إسلامي، مصدر سابق، ص63ـ65.

* مناقشة لموضوع (الإسلام والشرق.. الحكمة الثقافية والاستراتيجية السياسية) د. ميثم الجنابي، الكلمة، العدد 26، شتاء 2000م/1420هـ، ص78ـ84.

** رئيس تحرير مجلة الوعي المعاصر/ من العراق.