شعار الموقع

الفكر الإسلامي في إيران .. مسارات واتجاهات ، جدليات وتحولات

هاني ادريس 2004-10-15
عدد القراءات « 1197 »

الكتاب: الفكر الإسلامي المعاصر في إيران, جدليات التقليد والتجديد.

الكاتب: محمد رضا وصفي

الناشر: دار الجديد ـ بيروت

الصفحات: 374 من القطع الوسط

سنة النشر: ط2, 2001م.

إن الناظر في مسارات التطور التاريخي الذي قطعت إيران أشواطه بكدح ومثابرة‏ـ إن سياسياً‏أو فكرياً‏ـ على امتداد قرون من الزمان, لا يسعه إلا الإندهاش والإعجاب لتاريخية زاخرة بكل ألوان النبوغ والتعاظم واليقظة. على أن هذه التجربة التاريخية لم تخل هي الأخرى من أزمات وإخفاقات. فهي بالأحرى تجربة مخاض تعايشت خلالها نجاحات وإخفاقات. لكن الحلم بقي حياً لم يمت. ويمكننا تبيُّن تاريخ محنوي لإيران يبدأ سياسياً من عصر بداية استكمال مشروع الدولة وهويتها وجهازها الأيديولوجي, إلى عصر التجزئة والأطماع الخارجية.. وهي مسارات خلّفت وراءها تراكمات هائلة وشمت الذاكرة السيساية الإيرانية منذ العهد الصفوي حتى الثورة الإسلامية في نهايات القرن المنصرم ـ 1979 ـ. وهو تاريخ حيّ ـ بلا شك ـ لم تنفد عزائمه, وإن كبا بين الفينة والأخرى. لكنه يظل متمنعاً عن الإستقالة.. إذ ليس المشكل في أن نخسر الرهان في لحظة ما من لحظات تاريخنا, بل المشكلة حينما تمر لحظات من تاريخنا في صمت. إن الأحداث والوقائع التي تحدث في المجتمعات, هي تعبير عن مخاضات حقيقية تعكس حياة الأمم. وإن اللحظة التي لا تشهد فيها أحداثاً‏كبرى, هي لحظات كما يصفها هيغل, تمر بلا تاريخ. وبالفعل, إن كل لحظات إيران كانت تاريخية. من هنا, فإن التعرض للتاريخ السياسي والثقافي في إيران, هو مهمة صعبة وخطيرة; صعوبة الرهان الإيراني وخطورة مهمته التاريخية.

من هنا أحب أن أدخل إلى موضوع كتاب الباحث الإيراني الجاد, محمد رضا وصفي, الموسوم بـ «الفكر الإسلامي المعاصر في إيران». الكتاب الذي ورد في زمانه المناسب, حيث لا يزال الجدل على أشده دائراً حول الشأن الإيراني, وحيث الملحمة السياسية والثقافية ماضية على أشدها. وحيث المشهد يعاني من التخمة السياسية. وهي في تقديري تحمل دلالة على مشهد واعد يتمتع بالعافية. وليس دليل استفحال سلبي كما تصوره وسائل الإعلام في بلاغاتها ومبالغاتها, حيث بين يدي مقال‏لإيرك رولو ـ نشرته لوموند ديبلوماتيك ـ يقرأ فيه الأحداث بعين سلبية ومغرضة. وهو أيضاً كتاب جاء بلغته المناسبة ـ العربية ـ مُشكلاً جديداً‏تفتقر إليه الخزانة العربية, التي تكاد تخلو من المصادر الكافية للتعريف بالأوضاع والرهانات داخل إيران. وهذه القيمة المصدرية للكتاب, تشفع للمنحى الوصفي للكتاب, الذي قام بعرض أهم التمفصلات والمسارات السياسية والفكرية في التاريخ الإيراني الحديث, دون التورط في مغامرة التأويل. لكن إذا كان «وصفي» قد التزم العرض والتقديم للأحداث والمنعطفات, مؤرخاً لها, فإن مراجعتنا هي نقدية بقدر ما تزيد من توليد المعنى, وتأويلية بقدر ما تنويه من تحليل, ليكون الكتاب محطة صلبة لتعميق السؤال أكثر حول المسألة السياسية والثقافية وأسئلة أخرى كرهانات التحديث والتطوير والإصلاح في إيران الإسلامية. لقد عرّى الباحث عن المخاضات السياسية والمعرفية التي جرت على مسرح التاريخ الإيراني الحديث. وهي مخاضات لها خصوصياتها من الناحية السوسيو ـ ثقافية والتاريخية. الأمر الذي تعكسه طبيعة التوزيع لجغرافيا السلطة داخل المشهد السياسي أو الثقافي في إيران, خلال تجربة تاريخية تَشَكَّلت عبرها خميرة الثورة الإسلامية. الثورة التي لا تزال تحمل مفاجآتها الواعدة, لأنها تنطوي على فعالية وطموح لا نهائيين. وحينما نتحدث عن خصوصية التجربة الإيرانية, فهذا ما يلاحظه الصديق والمعادي. ثمة مشاهد في هذه التجربة تكاد لا تتكرر, لكأنها معجونة من طينة فارس السرية وروحانية أبنائها الطافحة, الذين استُنبتوا من سدم النيروز. فهي لذلك نسخة غير يسيرة النسخ والتكرار. اختار الباحث التأريخ الوصفي والتقديم الاستعراضي للتحولات السياسية والفكرية الكبرى في إيران, وهو بذلك لم يتح لنا فرصة كي نمارس اختلافنا النقدي معه من الناحية التأريخية. لكنه استعرض من النماذج والمواقف والمدارس ما يمكِّننا من ذلك. أي تجاوز الكتاب نحو عوالمه الموضوعية معبرين عن انطباعنا وممارسين لتناصِّنا ونقدنا على تلك النماذج. هكذا فقط, تكون لمراجعتنا مبرراتها النقدية.

* العصر الصفوي, أو بدايات التأسيس

كما سبق وأكدنا, أن البحث الذي قدمه وصفي هو وصفي من حيث اقتصاره على التأريخ, وتلك مهمة أساسية. ليس فقط بالنسبة للمكتبة العربية التي تكاد تعدم وثائق جادة من هذا القبيل, بل الأهمية تكمن, على مستوى آخر, في حاجتنا نحن في العالم العربي إلى مادة تصلح أن تشكل المداميك الموضوعية لقيام قراءة قليلة الوثب لدولة يتأكد يوماً بعد يوم, أن مصيرها الاستراتيجي متصل تاريخياً‏ومستقبلياً بالمصير الاستراتيجي العربي. لاسيما وأن الباحث قدم بانوراما تمكن القارئ من تحديد البوابات الرئيسية وتمكنه أيضاً من مفاتيح الدخول إلى التاريخ الإيراني الحديث.

قد نكون على خطأ إذا نحن حاولنا اختزال تاريخ إيران ـ الذي يمتد آلاف السنين ـ في بدايات التأسيس الصفوي. لكن ثمة ضرورات منهجية تبرر البدء من هذا المفصل التاريخي. حيث البدء بالمرحلة الصفوية هو بمعنى آخر, البدء بتاريخ إيران الحديث. والإمساك بالمفتاح السري لمساراته الحديثة والمعاصرة. وبالتأكيد هذا لا يعني أن ما سبق هذه المرحلة من تاريخ إيران, لم يشهد تجارب ومنعطفات حضارية. إن التاريخ الإيراني القديم والوسيط هو منجم حقيقي للثورات الثقافية والفكرية, وموطن غني بموروث سياسي وأدبي وأخلاقي, تساكنت فيه طرحات متناقضة, ومفارقات عاتية, طغيان الأكاسرة وجبروت الشاهات من جهة, وأخلاقيات المُلك والعهد الأردشيري من جهة ثانية.

ربما كان المسار السياسي القديم لإيران قبل الإسلام قد واجه تحديات سياسية وثقافية من نوع آخر, انتهى بالعقل الفارسي القديم إلى حالة من العقم. وهذا ما يؤكد على أن دخول الإسلام إلى فارس, لم يكن اختراقاً, بل حاجة معرفية سرعان ما وعاها أهل فارس وحكماؤها. وشكلت لديهم قوة الدفع الكبرى, إذْ مكنت العقل الفارسي من أن يتخطى حالة العقم تلك, وهي في تقديري تتمثل في الأبعاد التالية:

1) سياسياً لم يستطع العقل السياسي الفارسي أن يرقى إلى الحدود القصوى في تصوره لعلاقة السلطة بالمجتمع. فالرحلة التي قطعها بدءاً من إفرازات ومناخات طبائع الاستبداد والكسروية حتى العهد الأردشيري, هي في الحقيقة نقلة من شطط السلطة ورعونة المستبدالجائر إلى حكمة المستبد العادل وأخلاقيات المُلك.

2) ثقافياً; إن رحلة العقل الفارسي في مجال التوحيد, هي أعنف مخاض عاشته فارس القديمة, حيث لم تتمكن من التحرر من الرؤية الثنوية والمانوية إلا بالقدر اليسير, حيث مثلت الزرادشتية غاية هذه الرحلة, مخففة نوعاً ما من هذه الثنوية دون إمكانية القبض على التوحيد الخالص.

3) اجتماعياً, كان للنزوع الثنوي أثر سلبي على الاجتماع الفارسي, حيث سرعان ما استفحل الوضع تحت تأثير عقيدة (أهرمن), بتداعياتها «الماجية» ـ كهانة وسحراً‏ـ.

وإذن, فإن العقل الفارسي, سياسياً أو ثقافياً أو اجتماعياً, تلقى التوحيد الإسلامي من مستوى تجربته الحضارية, واستشكالاته الفلسفية. فقد دخل التوحيدإلى فارس وهي متخمة بمنظومة ثنوية غاية في النسقية, وإن كانت رؤية تنطوي على قلق معرفي مزمن. أي أن فارس كانت خلال رحلتها هذه تتجه نحو حل فلسفي, لفك عقدة الثنوية, فكان التوحيد حاجة معرفية, فضلاً‏عن كونه حاجة حضارية لفارس.

إننا لن نتوسع في دراسة هذه الحقبة بالتأكيد, ولكن لنقل إن البدء من التاريخ الصفوي, هو بدء من مرحلة أخرى بسماتها وخصائصها. أي اللحظة التي استكملت فيها إيران هويتها الثقافية ـ حيث العصر الصفوي هو عصر استكمال أسلمة فارس وبلورة الدولة وبناء الكيان السياسي الإيراني ـ أعني هويتها الإسلامية الشيعية.

من هنا يمكننا القول, بأن الزمان الصفوي, هو الزمان التأسيسي للهوية الإيرانية الحديثة, حيث استطاع الصفويون بسط سماتهم الخاصة على الفكر وعلى الاجتماع السياسي الإيرانيين. التأثير الذي يشمل النخبة والجمهور معاً. إن حركة الصفويين, وكما يؤكد الباحث وصفي «إحدى حركات الدراويش التي شاعت في القرنين الرابع عشر والخامس عشر الميلاديين. فالصفويون ـ ومركزهم في شمال غربي إيران ـ اعتنقوا المذهب الشيعي الإمامي في القرن الثالث عشر, بعد أن كانوا على المذهب الشافعي على الأرجح»ص24.

ومع أن الفترة الصفوية شكلت مفصلاً أساسياً في تاريخ إيران الحديث, لأنها مثلت شبه قطيعة سياسية مع السابق ـ فهي حينئذ دولة منسجمة سياسياً ذات سيادة وأيديولوجيا محددة ورهانات جديدة‏ـ إلا أنها ظلت محاطة بكثير من الأسرار التي استعصى حلها على كل من رام التأريخ لهذه المرحلة. حيث تلقوها كمعطيات مفصولة عن عللها, مكتفين بالوصف والإخبار. وهكذا يمكننا القول بأن ما ورد من تأويلات لهذه المرحلة المهمة من تاريخ إيران الحديث, لا يشفي الغليل إنها مرحلة لا تزال سجينة الإخبار التاريخي ولم تخرج بعد إلى فسحة التعليل. ومن هنا قد لا نجد أجوبة علمية على أسئلة ستبقى حتى الآن موضوع خلاف?

ما هي الأصول الحقيقية للصفويين. وهل هم حقاً سادة من بني هاشم أم أنهم من أصول أذرية?

كيف تحول الصفويون إلى المذهب الإمامي الإثني عشري, وما هي الأسباب الحقيقية لهذا الإختيار?

أسئلة كثيرة من هذا القبيل, لم يتم الحسم فيها. ولا تزال في أفضل الحالات, خاضعة لتعليلات موشومة بالميول المذهبية والأيديولوجية. ومع أن التاريخ حتى الآن لم يرصد هذه الفترة رصداً‏علمياً حاسماً, إلا أنه يكاد يجزم على أنها الفترة الحاسمة والمصيرية في تاريخ إيران. الفترة التي طبعت المشهد السياسي والسوسيو ـ ثقافي في إيران إلى اليوم بألوان من الألفاظ والعادات والفلكلور. وهي العادات نفسها التي جعلت علي شريعتي يتحدث في فترة ما عن التشيع الإيراني بوصفه تشيعاً صفوياً. لقد «استطاعت الدولة الصفوية التي بدأ حكمها في أوائل القرن السادس عشر الميلادي, واستمر أكثر من قرنين, أن توحد تحت حكمها كل البلاد الإيرانية التي كانت قبل قيامها دويلات متعددة, وأن توصل إيران إلى حدودها القديمة أو ما يقاربها, كما أنها تمتاز بأنها أول دولة إيرانية إسلامية جعلت المذهب الشيعي المذهب الرسمي للدولة, وقامت بنشر تعاليمه بحماس واندفاع, واهتمت ببسط قواعده وتحكيم أسسه العلمية والفلسفية, لكن بدون أي إحياء تجديدي في الأفكار»(ص24).

ويبدو أن الكاتب يتبنى الرأي الذي يفسر كل الاعتداءات والمشاكل التاريخية التي واجهت إيران الصفوية بالتعصب المذهبي الذي ألقيت فيه اللائمة على الصفويين. لذا يقول: «إلا أن التعصب المذهبي أدّى إلى ردود فعل متباينة. فقد أدّى إلى صراع كان يحتدم أحياناً, ويخف أحياناً أخرى, بين إيران وجيرانها من الأتراك والأفغان, كما أن ظاهرة السب المقترن بالاضطهاد الطائفي تركت ردّ فعل سلبياً‏على الطائفة الإثني عشرية في الحجاز والعراق وبلاد الشام, مما عرضها للاضطهاد بفعل مبدأ الرد بالمثل في المناطق الخاضعة للحكم العثماني, بعد أن تسلم السلطان سليم الحكم في الدولة العثمانية»(ص25).

قد يكون للحساسية المذهبية والذهنيات السائدة ـ عصرئذ‏ـ ما فيه الكفاية لخلق ذلك التوتر بين إيران وجيرانها. لكن في تحميل السياسة الصفوية وحدها مسؤولية التوتر, نكون قد بدأنا نقرأ الماضي قراءة غير تاريخية. ذلك لأن التعصب المذهبي كان قبل بروز الدولة الصفوية وبعدها. ولم يكن يقتصر على بلد دون آخر. فالأتراك مارسوا أبشع أشكال التعصب المذهبي, تجاه الأقليات, وبصورة وحشية تماماً. إن ما حدث في إيران الصفوية لم يكن سبباً لردود أفعال على الطائفة الإثني عشرية في تلك البلدان, بل ما حصل في إيران هو تاريخياً‏ردّ فعل على ما كان يجري في المحيط. إن مشكلات التعصب المذهبي, كانت عامة في العالم الإسلامي. وطبعاً كانت هناك فترات ذهبية أو أماكن لم تشهد أحداثاً خطيرة من هذا القبيل. لكن ذلك كان محدوداً. فما أريد تأكيده هنا, هو أن التعصب المذهبي ضدّ الأقليات عموماً‏ـ والشيعة تحديداً‏ـ هو ظاهرة عامة في العالم الإسلامي وأن الدولة الصفوية جاءت في غمر هذا التعصب والتغالب السياسي المذهبي.

ربما, الحديث عن هذه الفترة قد يتطلب مكثاً‏أكبر لا يتسع له المقام, ولا مقاصد المقال. لكن ثمة ما هو أهم في هذا المفصل التاريخي, وهو الإرهاصات الفكرية والسياسية التي شكلت إحدى أهم مفاتيح الفكر السياسي الإسلامي داخل إيران. أي بدايات تبلور ما سيعرف بعد ذلك بنظرية ولاية الفقيه. لقد وجد الصفويون أنفسهم أمام تحدٍ كبير, ربما لا يقل صعوبة عن التحديات الخارجية على إثر اختيارهم السياسي والمذهبي, أعني التحدي النابع من صميم التصور السياسي الشيعي للدولة في ضوء عقيدة الإمامة ومسألة الغيبة!

فالصفويون واجهوا مشكلة مزدوجة: أولاً, كيف يبنون الدولة ويمتلكون السلطة. ثانياً, كيف يبررون مشروعيتها استناداً إلى خيارهم المذهبي. كان على الصفويين إذن, أن يجدوا صيغة ما أو مبرراً شرعياً وعقلياً‏لتمكينهم من بناء دولة شيعية, دون أن يقعوا في تناقض بين ما هو سياسي وما هو أيديولوجي.

فالدولة حتى ذلك اليوم, كانت أمراً غير مفكر فيه لدى الشيعة الإمامية. لكن الصفويين نجحوا إلى حدّ ما في الانتقال بالتصور الإمامي السائد حينئذ من مرحلة الاستقالة السياسية, إلى مرحلة بناء الدولة. ولكنها الآن دولة تقوم على رؤية مختلفة, وإن كانت تقع في طول المشروع. أي بناء الدولة وحكومة غير المعصوم. يؤكد الكاتب على ذلك قائلاً: «كان الفكر السياسي عند الفقيه قبل قيام الدولة الصفوية, يقوم على أساس مشروعية نظام الحكم في زمن الإمام المعصوم فقط. لكن العصر الصفوي كان يعتبر بداية لنشوء فكرة مشروعية حكم «السلطان غير المعصوم», وهذا فصل جديد في الفكر السياسي عند الشيعة. فكل التطورات التي جرت فيما بعد حدثت انطلاقاً من هذا, خصوصاً‏الولاية السياسية للفقيه الإسلامي مع صفاتها اللازمة»(ص26).

لقد شهدت المرحلة الصفوية نشاطاً فكرياً‏هائلاً, جاء في سياق مشروع إيجاد أرضية أيديولوجية, متينة للدولة, ويصبُّ في طموحها إلى الإنسجام السياسي والمذهبي. حيث استقدمت الدولة علماء كباراً من خارج إيران, وتحديداً من لبنان والجزيرة العربية.. لتركيز الدعوة الشيعية الإمامية. وبالفعل, شهدت إيران نشاطاً ملحوظاً على مدار الحكم الصفوي, تجلى في حركة التأليف والتصنيف الموسوعي في مجال الفقه والحديث. بالإضافة إلى الكلام والإلهيات. وهناك بالإضافة إلى أسماء علمية كبرى تركت بصماتها على المشهد الثقافي والديني في إيران برزت شخصية فقهية وعلمية, كانت ممن استقدموا من البقاع اللبناني, استطاع أن يسجل حضوراً لافتاً‏في إيران الصفوية, ليس فقيهاً فحسب, بل وأيضاً سياسياً. وربما كانت صلته بالدولة وعلاقته المميزة بالشأن العام, قد فتح النقاش للمرة الأولى على علاقة الفقيه بالدولة. فكانت الحجر الأساس لبداية مشوار تكامل وتبلور ما سيسمى بعد ذلك بولاية الفقيه العامة. فمن هي هذه الشخصية يا ترى?!

* ولاية الفقيه ومساراتها الفكرية والسياسية

في سنة (1532) أصدر الشاه طهماسب على إثر وفاة الشاه إسماعيل, فرماناً, يعتبر فيه الشيخ عبد العالي الكركي نائباً‏للإمام الثاني عشر للشيعة. وهو بلا شك حدث شكل نقلة نوعية أخرى في مسار الفكر السياسي الشيعي داخل إيران. فبعد قيام الدولة واستساغتها مع الحفاظ على مسافة منها, تأتي مرحلة التخلص من الحذر أو لنقل «فوبيا» الدولة, لمعانقة منصب النيابة العامة, بما يستدعيه من مهام واختصاصات, سوف تؤدي إلى انقسام في الموقف, وتعمق النقاش أكثر باتجاه بلورة ولاية الفقيه. ويعبر الكاتب عن هذا المنعطف قائلاً: «يشكل نموذج الكركي مع الشاه طهماسب منعطفاً‏تاريخياً‏في حركة الفقه السياسي الشيعي. فلأول مرة يتقلد الفقيه منصب النيابة العامة عن الإمام المهدي ويصل إلى أعلى نقطة في الهرم السياسي»(ص29).

ولاشك أن واحدة من اختصاصات الإمام المعصوم في الفقه الشيعي, القيام بصلاة الجمعة. وقد جرى نقاش حول هذه المسالة. ذلك لأن حرمة إقامة الجمعة في عصر الغيبة تكاد تكون مقطوع بها ومجمع عليها عند الفقهاء. وهذا من بين التحديات التي ستواجه فكرة النيابة العامة. حيث ترى لنفسها كل اختصاصات الإمام الغائب. لعلّ هذا ما يفسر إقدام الكركي على تأليف كتاب «رسالة في صلاة الجمعة». إن قيمة رسالة كهذه, ليس في كونها رسالة فقهية خالصة. بل هي رسالة ذات أهداف سياسية أيضاً. فقد أكّد الكركي على وجوب إقامة الجمعة ليكسر بذلك الإجماع الفقهي السائد, وليؤكد على أن اختصاصات الفقيه تفوق مستوى الأمور الحسية والقضاء..

يورد الكاتب نصاً عن الكركي في «رسالة في صلاة الجمعة» جاء فيه: «الفقيه العادل الإمامي الجامع لشرائط الفتوى المعبر عنه بالمجتهد في الأحكام الشرعية نائب من قبل أئمة الهدى صلوات الله عليهم في حال الغيبة في جميع ما للنيابة فيه مدخل»(ص30).

ولم يكن الكركي وحده من تحدث عن الولاية العامة وأفتى بموجبها بوجوب صلاة الجمعة, وإقراره بالفرمان الذي أصدره الشاه طهماسب مخولاً إياه هذا الاختصاص. فقد استعمل الشهيد الثاني المصطلح ذاته ـ أي ولاية الفقيه ـ في كتابه الموسوم بـ «مسالك الأفهام». وهذا الجدل سوف يستمر إلى حدود الدولة القاجارية التي اقتفت الطريق نفسه في خلع الشرعية الدينية على الحكومة. لتشهد هذه المرحلة قفزة أخرى في الاتجاه نفسه, لكن بمزيد من التأسيس, أعني ما طرحه ملا أحمد النراقي في كتابه «عوائد الأيام».

هناك يمكننا الإشارة إلى أن رجال الدين لعبوا دوراً‏كبيراً, برز بشكل واضح في إذكاء حس الممانعة ضد الأطماع الأجنبية. وكان لهم دور كبير في المقاومة والجهاد. وهذا ما شكل عنصراً‏إيجابياً لصالح حركتهم. كما عمّق الثقة بمستوى أدائهم. كانت ولاية الفقيه المخرج السياسي المناسب الذي خوّل الفقهاء ممارسة الفعل السياسي, وامتلاك سلطة القرار. وهكذا نلاحظ أن ولاية الفقيه تشتد حيثما اشتد الخطب واستفحل في إيران.

وملا أحمد النراقي الذي تحدث بتفصيل عن الولاية العامة في كتاب العوائد, لم يكن مجرد فقيه منعزل في دهاليز الدرس الفقهي والديني, بل كان مجتهداً في قلب الأحداث. ونشاطه وخبرته تؤكد على تداخل مطلب ولاية الفقيه أو النيابة العامة والحاجة إلى إدارة الشأن العام وإنقاذ السياسة من نهاياتها السيئة على يد شاهات إيران. وقبل أن نلفت إلى تداخل أبعاد ملا النراقي المجاهد وملا النراقي الفقيه, تأكيداً على أن ولاية الفقيه ولدت وترعرت في منبت المسؤولية والجهاد, أحب أن أذكر بأن ولاية الفقيه بشكل عام, لم تكن هي المشكلة التي أرقت الفقهاء الإمامية. فهناك إجماع تام على أن للفقيه المجتهد بعضاً من الاختصاصات التي كان يمارسها الإمام. على أن لا تتجاوز أمور الحسبة وباقي الأحوال الشخصية. ولكن محور النزاع حول مدى ضيقها وسعتها. فالذين رأوا أن من حق الفقيه تولي كل مناصب الإمام الغائب, وهم من عرفوا بأنصار النيابة العامة, يؤكدون على أنها ولاية موسعة في أمور الحسبة والأحوال الشخصية كما تشمل الأمور العامة كالدولة وشؤونها. فالنزاع ليس في مرتبة ولاية الفقيه المقيدة في إطارها المحصور, بل النزاع في مرتبة ولاية الفقيه المطلقة!

وها هنا يجدر بنا التوقف عند ملا النراقي, بوصفه من الأوائل الذين لفتوا إلى ولاية الفقيه بمعنى النيابة العامة. بل هو أول من أفرد لها باباً خاصاً في تاريخ الفقه الشيعي. فالسياق التاريخي الذي جاء فيه هذا الإصرار على ولاية الفقيه من قبل النراقي, اتسم باندحار السياسة الإيرانية أمام الأطماع الروسية. وفي سياق معاهدة الذُّل التي لم يستسغها الجمهور الإيراني وعلماء الدين, أعني معاهدة تركمان جاي 1828م التي وقعها الأمراء القاجاريون مع الروس, حيث بموجبها ستفقد إيران خمس مقاطعات من ترابها الوطني. وكان النراقي من بين أولئك العلماء الذين تصدوا لسياسة الهزيمة ودعوا للجهاد. لقد توفي النراقي سنة 1829 وهي السنة نفسها التي تم فيها تعبئة الجماهير لاحتلال السفارة الروسية وقتل السفير الروسي ومعاونيه. وهي حادثة أكدت على مدى اتساع القطيعة ما بين الدولة القاجارية والفقيه الذي اعتزم الإمسام بزمام الأمور واسترجاع الحقوق الضائعة. يقول النراقي في كتابه العوائد: «أولاً كل ما كان للنبي والإمام اللذين هما سلاطين الأنام وحصون الإسلام, فللفقيه أيضاً فيه الولاية إلا ما أخرجه الدليل من إجماع أو نص أو غيرهما. وثانياً, كل فعل متعلق بأمور العباد في دينهم ودنياهم لابد من الإتيان به ولا مفر منه إما عقلاً أو عادة من جهة توقف أمور المعاد أو المعاش لواحد أو جماعة علية وإناطة أمور الدين والدنيا به»(ص33).

وإذا كانت الأحداث التي عصفت بإيران إبان العصر القاجاري, لاسيما بعد السقوط المفجع للسياسة الإيرانية أمام الأطماع الروسية, مثلت المناخ الملائم لتشكل الإرهاصات التأسيسية لما يعرف بالنيابة العامة وولاية الفقيه المطلقة, فإن ثمة مفصلاً‏آخر مثّل بدوره دفعاً‏جديداً في سياق تطور الفكر السياسي الشيعي ما بعد الغيبة على خلفية سياسية أكثر نضجاً واستيعاباً لما كان يجري من تطورات داخل إيران وخارجها. وأعني بذلك الفترة التي شهدت أحداث الدستور, وتفجرت على إثرها وقائع ما سمي حينئذ بأحداث «المشروطة». ما تميزت به هذه المرحلة عن سابقاتها, هو بروز معطيات جديدة, تمثلت في ذلك الانفتاح على الغرب. لقد تم في عهد حكومة فتح علي شاه إيفاد دارسين ودبلوماسيين وتجار إلى بريطانيا وفرنسا. حدث تأثير ملحوظ في عمليات التجديد والإصلاح والتحديث. الأمر الذي أكسب التجربة نَفَساً جديداً, وعمق الأسئلة أكثر من ذي قبل. ولم يكن ذلك مجرد إكراه من إكراهات النفوذ الغربي وسيطرته على القرار الإيراني, بل هنا ـ ربما ـ أسباب شخصية أيضاً‏دعمت هذا الخيار التحديثي المنفتح على التنظيم الإداري والتقنية الحربية والصناعة الغربية. وقد كان ناصر الدين شاه كما يؤكد الباحث وصفي «معجباً بالحضارة الأوروبية, ميالاً للتعرف عليها ومشاهدتها عياناً. وقد سافر إلى أوروبا ثلاث مرات, فقوبل فيها بحفاوة بالغة. غير أنه كان يخشى تأثير الأفكار الأوروبية على رعاياه ويكره أن تنتشر بينهم فكرة المشروطة على منوال ما انتشر في تركيا. وقد صرح ذات مرة بأنه يودّ أن يكون محاطاً بحاشية من الأغبياء لا يعرفون عن بروكسل هل هي مدينة أم نوع من حشيشة الكيف»(ص45).

ومع افتراض ذلك, فإننا نرجع خيار التحديث في إيران على عهد ناصر الدين شاه أو غيره, إلى أسباب موضوعية أكثر من كونها أسباباً شخصية. فالنمو الاجتماعي‏ـ قبل الإرادة الشخصية للحاكم ـ أحدثت صدمة في صفوف النخب السياسية والثقافية والدينية. الأمر الذي تولدت على إثره الإرادة السياسية التي أذكتها وعززتها بعد ذلك الميول والإعجاب الشخصي بالمنجزات التقنية والحضارية الغربية. فإيران لم تكن بعيدة عمّا كان يجري في باقي البلاد الإسلامية, حيث اتضح أنها كلها واجهت نفوذاً استعمارياً وأكرهت على الانصياع لإرادة الغرب. ثمة حاجة إلى التحديث وَعَتْها هذه النخب وتزامنت أيضاً مع السياسة الخاطئة للتحديث التي نهجتها الحكومة, من خلال فتح البلاد على الشركات الأجنبية ومنحها الامتيازات. وهذا ما جعل النخب المعارضة من رجال الدين الذين لم يمانعوا في التحديث, أن يجدوا أنفسهم دائماً في مواجهة الكثير من الأنظمة والمواثيق التي تأخذ طابع الإصلاح والتحديث. وقد عرفت إيران أحداثاً‏خطيرة بسبب سياسة الامتيازات التي شهدت تطورات انتهت بثورة التنباك المعروفة. يقول وصفي: «وفي الثمانينيات من القرن نفسه, أعطى للبريطانيين امتياز إنشاء سكك للحديد والتنقيب عن المعادن, وسمح لمصارف أجنبية بالعمل في إيران, وعندما عارض الروس ذلك, من موقع التنافس, منحهم بالمقابل امتيازات تجارية ضخمة لاسترضائهم, إلا أن بعض علماء الدين اعترضوا على سياسة الامتيازات هذه وخصوصاً‏مسألة المصارف الأجنبية..»(ص47).

* الدستورية وحركات الإصلاح والتجديد.

لقد سبق وأشار الكاتب إلى أن بداية التأسيس للدولة الصفوية, تزامن مع ما كان يجري في أوروبا من حركات الإصلاح والتجديد على يد كالفان ولوثر وارازموس و.. و.. وها نحن في مرحلة متقدمة جدّاً من تاريخ إيران, بداية القرن العشرين, حيث ستشهد إيران ثورة الدستور. ثمة إذن زمن من الهدر مرّ على إيران, وجعل المسافة بينها والغرب تتسع بشكل مهول. فهل نستطيع القول إن ما حدث خلال هذه الفترة هو أشبه بحركات الإصلاح والتجديد التي سادت عصر الإصلاح الديني في أوروبا, من حيث أن فهم النصوص الدينية بدأ يخضع لضرورات التطوير والتجدد?

لا نستطيع الجزم بذلك. فالتحديث الذي جرى في أوروبا وتحديداً حركات الإصلاح الديني كانت تستقل بالدين عن الشأن العام, في حين ما حدث في إيران, سواء في مرحلة تأسيس الدولة في العهد الصفوي مروراً بالقاجار حتى الثورة الدستورية, كان اللاعب الرئيسي في كل التحولات السياسية هم علماء الدين, الذين, وعلى خلاف التجربة الأوروبية, تحركوا في اتجاه إخراج الدين من استقالته والزّج به في صلب الشأن العام. فالحركتان على طرفي نقيض. ما حدث في أوروبا أفضى إلى علمنة الحياة السياسية وفصل الدين عن الدولة. بينما الذي حدث في إيران أفضى إلى إعادة تسييس الدين أو تديين السياسية وفرض المعانقة ما بين الدين والدولة. وهكذا لا ننسى أن دور عالم الدين منذ قيام الدولة الصفوية حتى أحداث المشروطة, كان هو كلمة السّر في كافة الانعطافات السياسية الكبرى. فالثورة الدستورية كحدث كبير ومصيري والذي مثّل خطوة جريئة على طريق تحديث الحياة السياسية, كان من تدبير وتفعيل علماء الدين. وطبعاً نحن لا ننكر وجود نخب أخرى من العلماء عارضت هذه الحركة, ولكنها لم تكن معارضة قوية. تزامن ذلك مع تدهور الدولة القاجارية وانهيار مشروعيتها. وهكذا يبدو أن الدولة حيثما سقطت في إيران, كان علماء الدين هم من يعيدها إلى سكتها. يتحدث عن هذه الحقيقة المثقف الإيراني المعروف جلال آل أحمد قائلاً: «كلما اجتمع المثقفون وباستثناء سيد كاظم اليزدي والشيخ فضل الله نوري اللذين قادا حركة ضد المشروطة, نجد تياراً كبيراً‏قاده عشرات من علماء الدين الذين ناضلوا باستماتة منقطعة النظير من أجل حياة سياسية مدسترة, يسودها القانون. كان هؤلاء هم المبادرون الأوائل في الثورة الدستورية. وذلك انطلاقاً من «المجلس العام للأحرار الذي تكون عام 1902 من بعض رجال الدين ومهّد للثورة الدستورية, ثم كسب تأييد جناح من كبار رجال الدين والمؤسسة الدينية الذين وقفوا بثبات في صف الحركة الدستورية, ولولا دعمهم لما قامت للثورة قائمة»(ص50).

طبعاً, كانت هناك تداعيات رافقت أحداث المشروطة وأعقبتها, لا يتسع المقام للتفصيل فيها, وقد تعرض لها الباحث وصفي بصورة مفصلة ومنتظمة. وعلى الرغم من أن أسماء كبرى برزت في تلك الأحداث أمثال الشيخ محمد كاظم الخراساني ومحمد الطباطبائي والسيد عبد الله البهبهاني.. إلاأن هناك شخصية علمائية برزت من بينهم وخلدت اسمها من خلال نشاطها وتأليفها في هذا المجال, أعني بذلك الشيخ محمد حسين النائيني, الذي ارتبط اسمه بكتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملّة». حيث شكل أرقى مستوى في التنظير السياسي للحركة الدستورية حينئذ. ولسنا هنا في مقام إقامة مقارنة بين هذا الكتاب وكتاب طبائع الاستبداد للكواكبي, كما رجّح البعض أن يكون النائيني قد تأثر بالأفغاني تأثّر هذا الأخير بفيكتوريو أليّغري, قاصدين بذلك الكشف عن معابر التأثير السرية للغرب على عمليات التحديث والإصلاح في العالم الإسلامي. ولكننا نحب أن نلفت إلى أن هذا الكتاب جاء غاصّاً بردود عقلية وشرعية على خصوم المشروطة ناعتاً إياهم بأغلظ النعوت. وهي فضلاً‏عن أنها وثيقة احتجاج على حالة الاستبداد ودعوة صريحة لدسترة الحياة العامة, فإنها تبقى وثيقة تاريخية تكشف عن أن ثمة أيضاً من رجال الدين من كان له موقف سلبي من المشروطة. لقد أوضح النائيني موقفه من هذه الأخيرة لا باعتبارها بديلاً سياسياً عن دولة الفقيه أو دولة المعصوم, بل في كونها إجراءً يخفف من سطوة الاستبداد ويلجم الطغيان السياسي بقوانين ودستور يسود في البلاد. يصف الباحث رأي النائيني بهذا الخصوص: «وهو يرى في مشروعه أن الحكومة المشروطة أقل فساداً من الحكومة المطلقة. بعبارة أخرى, يعترف النائيني أن الحاكم يغتصب حق الفقيه في الولاية, لكنه يرى في ارتياح الشعب من ظلم السلطان الجائر أول شرط من شروط الحكومة المشروطة..»(ص56).

قد تكون هذه الرسالة ليست متقدمة بالنسبة لما كان يجري في أوروبا. ولكن قيمتها كما يؤكد الباحث وصفي, تتجلى في إطارها المحلِّي. فهل يكون ذلك القصور ناتجاً عن أن النائيني لم يكن مطلعاً‏على آخر ما بلغته التجربة السياسية والدستورية في أوروبا. أم أنه اكتفى بأقل قدر ممكن في هذا المجال?! لا ندري تماماً. ولكن يبدو لي أن النائيني, لم يكن ينطلق في رؤيته للمشروع الدستوري من فراغ. فهو لا يرى في ما ناضل من أجله البديل النهائي, بل لقد احتفظ لنفسه بانطباع معين بخصوص الجوانب التي يراها سلبية. فنظرته إذن للدستور هي نظرة واقعة في سياق تشخيص موضوعي للحالة السياسية, وأيضاً‏هي دعوة تستند إلى خطاب المصلحة والنفع العام. فما لا يدرك كله لا يترك كله!

طبعاً, ثمة أحداث أخرى رافقت هذه الثورة التي استطاعت أن تحقق نصراً‏على خصومها, وبموجبها وضع دستور للبلاد, وبرلمان احتوى على مناضلين من رجال الدين, ووضع أيضاً‏ما يسمى بعد ذلك بمجلس صيانة الدستور الذي لا يزال حتى اليوم مؤسسة قائمة في إيران, لكننا نحب التوقف عند المفاصل الرئيسية في هذا المسلسل الإصلاحي الكبير. وفي ظني أن لا مفصل آخر بعد الثورة الدستورية من الثورة الإسلامية ذاتها, بقيادة الإمام الراحل اليد روح الله الخميني (ق.س). الثورة التي جاءت لتعزيز الدستور وصيانته.

ففيما يبدو للوهلة الأولى, أن ثمة مسار تطور تدريجي في النظرية السياسية الإسلامية الشيعية في إيران, مازالت تنمو وتتكامل, لتأخذ صورة النسق الحاسم, على يد المؤصِّل الأكبر لولاية الفقيه; أعني الإمام الخميني إن ما يميز هذه المرحلة, هو ما يميز شخصية الإمام الراحل نفسه, من صرامة الموقف وشدة الوضوح.

ولئن كان علماء الدين في السابق, يتحركون أفقياً, ويقودون نشاطهم بصورة عفوية لا تخلو من تنازلات, وعدم وضوح الرؤية, فإن الإمام الخميني بكاريزميته النادرة, عرف كيف يمسك بزمام الأمور وكيف يدير الصراع, مستعيناً بتيار يتشكل أغلبه من تلاميذه وثمرة تربيته. وأهم من ذلك كله, هو أن الإمام سلك الخيار التغييري الجذري, إذْ بدت له إيران في عهد الشاه بمثابة الرجل المريض الذي لم يعد ينفع معه علاج. وليس ذلك فيما يبدو لي نزوعاً ثورياً غير مدروس. ذلك لأن الإجابة تكمن في الاستفهام التالي: لماذا غاب الإمام عن المسرح طيلة الفترة ما قبل (1962)?!. هذا يعني لنا أن الإمام أدرك أن اللحظة التي دخل فيها الحلبة وأمسك فيها بناصية الموقف, كانت هي اللحظة المناسبة لبدء مسيرة التغيير بناءً على خيار جذري, ومنظور مختلف يقطع نهائياً مع الخيار الحاكم. الأحداث التي واكبت حركة الإمام قبل المنفى وبعده وأثناء الحرب حتى وفاته أظهرت للعالم مدى صرامته وقوة عزيمته وشجاعته. لا, بل وهذا هو الأهم, أثبت مدى نظافته السياسية. ثمة بعد آخر للإمام الخميني لم يكن خصومه في الغرب مستعدين لإدراكه, وهي أنه بقدر ما كان صلباً‏في مواقفه تجاه الخارج, كان ليناً وميّالاً باتجاه عواطف شعبه. الأمر الذي عزّز من مصداقيته كقائد على دولة اقليمية عظمى, يسكن بيتاً شعبياً بجمران شمال طهران. فكان خطابه إلى الجهاد منسجماً‏مع نظرته إلى دور الفقيه في الأمة. لقد عبر عن رأيه السياسي من خلال تلك المحاضرات التي ألقاها في المنفى وجمعت في كتابه «الحكومة الإسلامية». كما عبّر عنها في كتابه «البيع». يقول الباحث وصفي: «في الواقع كان الإمام يتمتع بشجاعة قلّ نظيرها, وبثبات على المبدأ لا يتزعزع, وإصرار على رفض المساومة, وقد تجلّت تلك السمات في شخصيته, بحيث ظهرت جلية واضحة خلال حياته السياسية. فلذلك يفسر «محسن كديور» في كتابه: «نظريات الحكم في الفقه الشيعي» رأي الإمام في قوله: لقد كان الإمام يختلف عن سائر الفقهاء باعتقاده أن إقامة الحكومة الإسلامية معروف لا مفر من الأمر به, وكان الفارق الجوهري بينه وبين سائر العلماء هو أن هؤلاء حتى القائلون منهم بضرورة إقامة الحكومة الإسلامية, كانوا يشترطون للتصدي لممارسة السلطة تهيئة الظروف المناسبة لذلك, أما الإمام بعزة نفسه وهمته العالية فقد عمل من أجل تهيئة هذه الظروف..»(ص219).

* عودة إلى المسارات الثقافية في إيران

لاجرم أن هذا التوقف في استحضار المنعطفات الكبرى في مسارات تطور الفكر الإسلامي في إيران ليس من قبيل النافلة أو استراحة مقاتل من أثقال وأتعاب النظر السياسي. بل إن العُلقة من الوثاقة بمكان, إذْ لا يستقيم الحديث في السياسة في إيران دون استحضار ما حبل به المشهد الإيراني من أحداث متصلة بالفكر والثقافة. فهما معاً يشكلان عمودي السكة لتطور إيران المعاصرة. لقد أوقفنا الحديث عند نظرية ولاية الفقيه, وتحديداً عند الإمام الخميني‏(ق.س) لنعود إليه بعد استيعابنا للعنصر الثقافي والفكري الذي يشكل مدماكاً في ذاك البناء. ولكي يُمكِّننا من فهم طبيعة النزاع الذي جرى يومها ويجري اليوم أيضاً‏حول هذا الموضوع.

لقد تميز العرص التأسيسي لإيران لحديثة, أعني العصر الصفوي بموجة عارمة من النشاط الفكري والفقهي. مثله أبرز علماء وفقهاء ومحدثوا إيران والعالم الشيعي قاطبة. ففضلاً‏عن الأنشطة التي أفرزت أعمالاً‏موسوعية في مجال الفقه والحديث, قام بها كل من الشيخ محمد بن الحسن الحر العاملي صاحب «وسائل الشيعة», والعلامة محمد باقر المجلسي صاحب «بحار الأنوار», وآخرون, فإن ثمة نشاطاً‏لا يقل أهمية كان يجري في مجال الحكمة والعرفان. حيث أنتجت إيران حينئذ أكبر فلاسفة العالم الإسلامي أعني أولئك الذين تمكنوا من مواصلة النظر الفلسفي إلىأبعد من حدوده التي بلغتها السينوية والرشدية. فقد انتجت الميرداماد الذي استطاع أن ينتزع لقب المعلم الثالث. وثمة أسماء لامعة في هذا المجال, أمثال صدر الدين الشيرازي الملقب بملا صدرا وملا محسن فيض الكشاني واللاّهجي والتبريزي وملا هادي السبزواري. مع لفت الانتباه إلى أن حالة هؤلاء الحكماء لم تكن بمستوى حالة الفقهاء, حيث تمكن الأخيرون من توطيد علاقتهم بالسلطة السياسية, خلافاً للحكماء الذين بقوا بعيدين عن النفوذ السياسي وربما الاجتماعي أيضاً. «لم يكن وضع هؤلاء الفلاسفة مريحاً كالفقهاء الذين توطدت علاقتهم بالسلطة السياسية, وكانوا أصحاب النفوذ الاجتماعي والسياسي. وإذْ اضطر صدر الدين شيرازي إلى العيش عقداً من الزمن منعزلاً‏في ضاحية صغيرة خلف هضبة عالية غير بعيدة عن مدينة «قم» فإن السبب كان عدائية الفقهاء وموقفهم المنغلق تجاه كل ما يسمى حكمة وعرفاناً»(ص40).

لا يمكننا المرور على هذا المنعطف دون التأكيد على أن أهم المتون المرجعية التي وضعها فقهاء ومحدثو الشيعة كانت قد تمت في هذا العصر. ولكن ثمة جانب مهم أيضا يتصل بمجال الكلام والحكمة والإلهيات, حيث يمكننا القول, أن ما جاء بعد ذلك, إن هو إلا تناص وشروح وهوامش على ما خلدته تلك المدرسة التي أقامها ميرداماد, وبرع فيها بشكل منقطع النظير, ملا صدرا الشيرازي. هذه المحطة أثرت في كافة الخطابات الكلامية والفكرية في إيران ما بعد الصفوية. حيث أمكن ملا صدرا أن يردم تلك الهوة السحيقة التي ظلت قائمة بين القول الفلسفي والبحث العقلي وما بين التأمل العرفاني والكشفي. وهو فيلسوف ناقد لم يوجد له مثيل في أسلوبه النقدي المتين ونهجه الذي استطاع أن يخلخل أعتى الأنساق الفلسفية ما قبل عصره. إذْ يمثل أول ناقد جاد للفلسفة اليونانية. استطاع هذا الأخير أن يرسي الفلسفة الإسلامية على أسس أنطلوجية مختلفة بصورة جذرية, مثل أصالة الوجود, والجعل البسيط للعلة, والحركة الجوهرية, وهذه في نظري مفاهيم ثورية في مجال الفلسفة والفكر الإسلامي. إن أصالة الوجود كسرت أقفال الماهية وأصالتها الوهمية. كما حطمت الحركة الجوهرية فكرة الثبات والنظرة الميكانيكية للعالم. الأمر الذي جعل الفكر الإسلامي, وخلافاً للعهود السابقة فكراً‏أصيلاً ينفتح على الوجود بإيجابية قصوى كما ينفتح على التطور والاحتمال والنسبية بصورة من الصور. وإذا كان العالم الإسلامي, لم تتمكن منه هذه الفلسفة تمكن السينوية منها, فإن إيران عاشت مغلقة طيلة هذه الفترة على مخزون علمي هائل متقدم على كثير من أفكار النهضة الأوروبية, وعلى نشاط إبداعي كسر جمود ما بعد الرشدية في المجال العربي والإسلامي. قد يكون للعصر الصفوي الفضل في نبوغ أمثال هؤلاء. وأيضاً‏قد يكون سبباً في عدم وصول أفكارهم وإنتاجهم إلى عموم المجال العربي والإسلامي, ولكن مع ذلك نُصرُّ على أن المشكلة ليست معلقة على مشجب الدولة الصفوية المعادية للأتراك والأفغان, بل إلى وضع عام عاشه العالم الإسلامي حينئذ, هو استفحال الطائفية إلى درجة مقززة. هذا دون أن نغفل أن إحدى أسباب الحصار على هذا القول راجع إلى تنامي التيارات النقلية المعادية للتيارات العقلية والعرفانية. وكما يصف الكاتب ذلك : «وبرأيي كباحث في هذه الرسالة فإن سبب هذا الهجوم غير اللائق في تاريخ العلوم الإسلامية قديماً وحديثاً يرجع إلى ما بعد تأسيس فكرة المدارس النقلية في العهد السلجوقي إلا أن هذا ليس مجال بحثنا»(ص42).

وقد شهدت إيران بالقدر ذاته موجة أخرى أعقبت هذا النشاط الفكري, تمثلت في بروز كل من الشيخية على يد أحمد الإحسائي (1753ـ1826). واستمرت مع السيد كاظم الرشتي وانتهت إلى البهائية مع ورود ميزرا حسين علي الذي لقب بـ «بهاء الله». والحال, أن الباحث لم يتوقف طويلاً‏عند هذا الفصل وفي موضوع الشيخية. مكتفياً‏بعرض خاطف مع أنه يمثل محطة جديرة بالدراسة. اللهم إلا إذا رأى أنها لا تخدم أهداف البحث ومقاصده.

وكما كان يجري في مجال الفلسفة وعلم الكلام, فإن نزاعاً خطيراً‏كان يجري في مجال الفقه بين تيارين كبيرين, أحدهما يمثله أنصار الاجتهاد, والآخر يمثله تيار النقل والأخبار. فالتيار الاجتهادي أو الأصولي الذي يستند إلى علم أصول الفقه في عمليات الاستنباط, يبني موقفه من الأحكام, باعتبارها تابعة للموضوعات المتجددة. وأن انسداد باب الاجتهاد هو دعوة لاندراس الشريعة وتقادمها, وذلك بناءً على ما سموه بمقدمات الحكة, حيث إحداها, أن الاجتهاد يرفع الحرج عن المكلف الذي ليس له خيار بعد ذلك إلا التبرؤ من الشريعة أو الانصياع لشقاوة الإحتياط. بينما التيار الإخباري نسف كل المباني الأصولية, وقال بعدم حجية الاجتهاد والعقل وتبنى عقيدة الاكتفاء بالنصوص. وقد استطاع الإخباريون أن يسددوا ضربة قاضية للتيار الاجتهادي بصورة مؤقتة مع ورود ملا محمد أمين الاسترابادي. رغم أن المجتهدين تمكنوا في البداية من توطيد مبانيهم, ورغم أنهم سيعيدون الكرة ثانية مع محمد باقر البهبهاني.

لقد وضع ملا محمد أمين الاسترابادي كتابه «الفوائد المدنية» بالفعل, واستطاع إيقاف مسار المدرسة الأصولية, الأمر الذي مكّن لثقافة الرواية والنقل على حساب الدراية والاجتهاد. إذا اعتبرنا أن الاجتهاد كان هو الوسيلة المناسبة لتحقيق التطور المعتبر في مجال الفكر كما في مجال الفقه داخل إيران, فإننا نرى في عودة الإخبارية إلى المسرح, ما عطل مسار التطور هذا. وإن استطاعوا, وتحديداً‏مع كبير منظريهم, الاسترابادي, أن يقدموا أفكاراً مهمة في نقد العقل وإطلاقاته. لكن ـ وهذه وجهة نظري أسوقها هنا ـ ثمة خطئين ارتكبهما التياران معاً:

1ـ الخطأ الأول هو أن التيار الإخباري بقدر ما دافع عن أهمية النصوص بقدر مافشل في إيجاد فلسفة حيوية للنص. بحيث تُمكِّن النص من التعبير عن نفسه والكشف عن انثناءاته الممكنة. انهم اكتفوا بموقف إيماني من النص واستبعدوا إمكانية نطقه المتجدد. فكان اهتمامهم بالنص انتصاراً للجمود لا انتصاراً للنص. فالخطأ الإخباري تجلى في كونهم لم يتمكنوا من خلق مدرسة في التأويل وفلسفة للنصر منتجة!

2ـ الخطأ الآخر, وهو أن التيار الأصولي الاجتهادي, لم يفتح الآذان صاغية للتيار الإخباري. واعتبر المعركة معه, معركة استئصال واستبعاد. ولذل نجد كثيراً من نقادهم من الأصوليين لا يكلفون أنفسهم بالإطلاع الموضوعي على إدعاءاتهم. فالشيخ الأنصاري يستشهد في رسائله بمقاطع من أقوال الاسترابادي دون الإحالة على مصدره بشكل موثق, ودون إيراد السياق العام لكلامه. وقد ازدهر البحث الأصولي والنشاط الاجتهادي, واعتبروا أن الأمر خلا لهم بعد أن استأصلوا شأفة الأخبار, وفي ظل غياب كتبهم النقدية الأساسية, مثل «الفوائد المدنية» الذي لا يزال حتى اليوم سجين طبعته الحجرية. فقد كان متعيناً على المدرسة الأصولية أن تجعل من النقوض الإخبارية لحجية العقل أو الظن, سنداً للنهوض برؤية أكثر ثراءً وانفتاحاً في مجال فلسفة المعنى وأصول استنباطه من النصوص.

وقد لا نجد خلافاً مع الباحث في كون التقدمية أو الرجعية ليستا حكراً‏على التيار الاجتهادي أو على التيار الإخباري. فثمة تعايش بين البعدين داخل المدرسة الواحدة. يقول الكاتب: «هنا يجدر بنا أيضاً‏أن نذكر بأنه من السذاجة بمكان اعتبار أن كل الاجتهاديين تقدميون بالكامل, وأن منافسيهم تقليديون رجعيون بالكامل»(ص39).

في نظر الباحث, ثمة محطات مهمة في تطور الفكر التجديدي والإصلاحي في إيران. بل مع أنه حرص أن يكون البحث محصوراً في مجال الفكر الإسلامي. إلا انه أشار في معرض حديثه عن مسارات تطور هذا الفكر إلى آراء وأفكار, مثلتها حركة الصحافة والأحزاب والمنظمات الوطنية والديمقراطية والشيوعية والحركات الإسلامية بما فيها الفدائية والمقاتلة. ولكن حتى بدايات الثورة الإسلامية في إيران, برزت أسماء كان لها صيت أكبر على المشهد الإيراني, ومثل أصحابها نموذجاً حقيقياً للعالم المجاهد والمثقف العضوي, الذي زاوج بين مهمة التنوير ورسالة التغيير. إن إيران وخصوصاً‏في بداية الثورة الإسلامية, كانت منجماً حيوياً لهذا النموذج من العلماء والمثقفين. ثمة أسماء بارزة كالمهندس بازركان ود. علي شريعتي والأستاذ مطهري, وبهشتي, وغيرهم..

يرى الباحث أن مهدي بازركان هو أول مؤسس لنظام فكري في إيران بعد أن ظلت هذه الأخيرة مدينة لثلاثة أقطاب في الفكر الإصلاحي, هم محمد إقبال اللاهوري وجمال الدين الأفغاني والسيد النائيني. وذلك من خلال كتابه «الأيديولوجيا الإسلامية»! يقول الكاتب: «كان مهدي بازركان من جملة صانعي الفكر في منتصف القرن العشرين في إيران. فقد حاول طرح الإسلام كرؤية كونية في المنظومة الأيديولوجية, وفي الإعلان الذي كتبه عام 1970 حاول إعطاء إجابة عن أسئلة مثل من أنا. وأين سأصبح. ماذا علي أن أفعل»(ص154).

وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة لمهدي بازركان, فإن الأمر سيزداد عمقاً‏واتساعاً وانسجاماً مع التأسيس الأيديولوجي لعلي شريعتي (1933ـ1977) فهذا الأخير بالنسبة للباحث أيضاً «من أهم الشخصيات التي سعت إلى تأسيس هيكلية معينة لنظام فكري, وتحويلها إلى نوع من الأيديولوجية الإسلامية»(ص163).

فما يميز أفكار شريعتي, هو صبغتها الاجتماعية, الثورية, النضالية. فأعمال شريعتي هي صورة إيرانية تتقاطع بشكل واضح مع ما كان يجري في مجالات أخرى على يد حركات التحرير الوطني. إنه نموذج آخر لفرانز فانون أو ريجس دوبري أو أمثالهما. إن المناخ الذي تربى فيه شريعتي وأيضاً‏تخصصه في علم الاجتماع الديني وخبرته النضالية وتقلبه في البلاد وبين البلدان, أو صلة إلى أن لا بديل خارج المكون الذاتي للأمة; من هنا كتابه «العودة إلى الذات». من هنا سعى إلى إعادة الإتصال بالدين على أرضية فهم أكثر ثورية ونزوعاً إلى التغيير وأكثر استنباتاً لليقظة والنباهة والأنسنة.

وكما يؤكد الباحث وصف: «لم يأت شريعتي ببديل خارجي, ولم يجابه الدين, بل انتقد مفهوماً معيناً‏من الدين. وكان يدعو الناس بقوة إلى الإيمان والإسلام. وقد استهدفت محاولات إخراج الدين من الانعزال وجعله من جديد دين الحياة والكفاح الاجتماعي, ثم التركيز على الممارسة والدور الاجتماعي ـ السياسي للدين, كأفضل تعبير عن الإيمان والالتزام بمبادئ الإسلام. وكان في عمله هذا وكأنه انطلاق من الصفر في هذا الجهد»(ص164).

وهناك إلى جانب المثقف العضوي المناضل تحت لواء الإصلاحية والتجديد الإسلامي, فإن ثمة نموذجاً آخر لعالم الدين المثقف أو لنقل الفقيه المثقف, الذي يعتبر نموذجاً إيرانياً خالصاً لتكامل مهمة الفكر مع مهمة الفقه في استنهاض الأمة. وهناك طبعاً أسماء مهمة في هذا المجال, لكن يبقى هناك عَلَم من هؤلاء الأعلام, استطاع أن ينجح في هذه المهمة; عالم ديني معمم ومتفلسف ومناضل وواحد من أكبر تلامذة الإمام الخميني المقربين, أقصد العلامة مرتضى المطهري الشهيد. ما يميز أطروحاته, أنها بقدر ما هي ثورية تجديدية هي أصيلة. وبقدر ما هي واضحة, هي اجتهادية ونقدية أيضاً. لقد قدم أعمالاً ومحاضرات كثيرة في مجال الإلهيات وموضوعاتها, وفي مجال التوعية الدينية والتنوير والنهضة. كما قدم شروحاً غاية في الأهمية في مضمار الفلسفة الإسلامية. لقد تعاطى مطهري مع الشأن الديني بروح تجديدية وحس نقدي كبير. فهو ينطلق من هذا البيت الداخلي لإجراء نقد بناء.

استطاع أن يؤسس لفكرة البعث الإسلامي والنهضة دون أن يلجأ إلى الأفكار والتيارات الغربية, ما جعل أعماله تتسم أكثر من غيرها بالأصالة والاجتهاد. «وكان يؤمن بالبرهان في مقام الحكم ومقام العمل, فلذلك عاش طيلة حياته العلمية في نوع من الكفاح الفكري, وكان من أول المفكرين الذين تكلموا عن أبحاث عقلية, وردت تحت عنوان «الكلام الجديد», تضرب كلها تقريباً على وتر برهان النظم»(ص181).

لقد اهتم مطهري بأسئلة النهضة الكبرى, مثل قضية العدل والحرية والمرأة والاقتصاد. كما أعاد النظر والاجتهاد في إطار ما يعرف بعلم الكلام الجديد, معيداً صياغة تصور إسلامي حول الإنسان والفطرة والأخلاق والدين والعلم وما شابه ذلك من موضوعات. كما واجه التيارات الغربية بطرحاته النقدية للأفكار الليبرالية والماركسية.

ولمطهري موقف إيجابي في مجال الإختلاف الفكري. فامتلاكه للرؤية العقلائية والواقعية التي كان يتطلبها مشروع التنوير والتجديد, كان مشفوعاً‏أيضاً بحس فائق لحرية الفكر والتعبير. إنه يدعو إلى فتح باب الاجتهاد ومواجهة المختلف بآراء واجتهادات ومواجهة التحدي بالتحدي عبر التطوير وإنماء الأفكار. ويكفي ذلك المقطع من خطابه الذي أورده الباحث, إذ هو كعضو في مجلس قيادة الثورة يقول: «إنني أعلن أنه ليس في نظام الجمهورية الإسلامية أي حصار للأفكار, ولن يكون فيه شيء من تحديد الآراء, نعم كل الناس أحرار في عرض نتائج أفكارهم وآرائهم.. إن الفكر حرّ من وجهة النظر الإسلامية, فكلما بدالكم أن تفكروا فكروا, وكيف ما أردتم أن تعلنوا عن عقائدكم, بشرط أن تكون عقائدكم واقعاً, أعلنوا عنها, وكيفما أردتم أن تكتبوا, اكتبوا لن يمنعكم عن ذلك أحد. إن السبب في بقاء الإسلام هو هذه الحريات. فلو كان الأمر في بداية الإسلام بحيث لو أنكر وجود الله تعالى حكم عليه بالضرب والقتل ولم يبق من الإسلام شيء, فسرّ بقاء الإسلام هو مواجهته بكل شجاعة وصراحة للأفكار المختلفة»(ص194).

* الدولة الإسلامية والفقيه المؤسس

إذا أردنا التعرف على رؤية الإمام الخميني, سواء في الحقل السياسي أو مجالات الفكر والمعرفة, يكفي الإطلاع على أعمال تلاميذه, وعلى رأسهم الشهيد مرتضى مطهري. لقد تعلموا قيم الجهاد والعدالة الاجتماعية والتحرر والتحرير والنهضة من أستاذهم الذي بذل في سبيل تكوينهم زهرة عمره قبل إعلان الثورة على الشاه. ومع ذلك نقول, إن الإمام الخميني هو استمرار لكل الأفكار التجديدية ولكل النتائج العلمية الكبرى في تاريخ إيران السياسي والفكري. فسياسياً, أوصل الفكر السياسي الإسلامي إلى أرقى مستوى من الإنسجام والوضوح. متجاوزاً بذلك النائيني في مشروع التاسيس النظري للمشروطة. لقد خطا الإمام الخميني إلى أبعد مما سعى إليه النائيني. فإذا كان هذا الأخير قد تحدث عن المشروطة في ظل أنظمة غير مشروعة, فإن الإمام الخميني سعى إلى بناء نظام إسلامي يمثل الضمانة الحقيقية لهذه المشروطة, لينهي بذلك الإزدواجية السياسية بين لا مشروعية النظام ومشروعية المشروطة. وذلك بالبحث عن المشروعية الكاملة. وبعد أن عانت نظريةولاية الفقيه بعضاً‏من اللّبس وقلة الوضوح مع «الكركي» مروراً «بالنراقي», فإنه بلغ بها منزلة التأصيل النهائي لبناء الحكومة. وهكذا لم يكن غريباً‏أن يدعو إلى بناء الجمهورية الإسلامية وترسيخ قيم التحرر السياسي بتوفير مؤسساته وضماناته الدستورية, كالبرلمان وتوزيع السلطات وانتخاب الرئيس. وهذا ما يعني أن ولاية الفقيه كما نظر لها الإمام الخميني وأصَّل لها, لا تقوم إلا في مجال مؤسس على واقع دستوري وسيادة القانون وبرلمان وانتخاب. أما على المستوى الفكري, فإن الإمام الخميني حمل معه كل الأفكار التحررية والإصلاحية التي تجسدت في بناء إيران الحديثة, والتوجّه نحو الصنائع وجهاد البناء والتقنية وتحرير المرأة وإشراكها في الأنشطة السياسية والاجتماعية. وهو من ناحية أخرى كفيلسوف ورجل عرفان, عرف كيف يوفّق بين الفقه العملي والعرفان النظري, وكيف يوفق بين الجهاد الأصغر والجهاد الأكبر. ويمثل مدرسة الحكمة المتعالية للحكيم الإيراني ملا صدرا? الحكمة المتعالية التوفيقية التي عرفت كيف توفق ما بين مفهوم الوحدة والكثرة.. الكشف والبرهان.. الفقه والعرفان.. العقل والنقل.. الدليل والحدس.. ففكر كهذا من شأنه أن يجعل الأذهان أكثر انفتاحاً على النسبية والاحتمال وعلى ضرورة التطوير والانفتاح. فملا صدرا هو فيلسوف أصالة الوجود بوصفه صيرورة والحركة الجوهرية, وكلاهما جدير بأن يجعل أذهان تلامذته أكثر التفاتاً إلى أهمية الواقع ومسألة التطور والنقد الفكري المستدام. أما من الناحية الفقهية, فهو استمرار للمدرسة الاجتهادية التي ترى إلى الواقع كمعطى متجدد. وقد حثت مقالاته وخطاباته ووصاياه على استمرار النظر الفقهي وتعزيز فتح باب الاجتهاد على مصراعيه. لقد مارس هو بدوره الاجتهاد الفقهي من موقعيته القيادية. سواء فيما يتصل بالفقه الخاص أو فقه الدولة. بل إن مبرر قيام ولاية الفقيه هو استمرارية الاجتهاد ومشروعيته. بل إن الاجتهاد فيما يبدو لي يتسع باتساع سلطة الفقيه وسعة اختصاصاته. إذ حيثما اتسع مقدار هذه الولاية, تعيّن تنامي مساحات الاجتهاد ومن ثمة آلياته.

وأحسب أن المؤلف وصفي عبّر بما فيه الكفاية عن هذه الحقيقة بالقول: «وبعبارة أخرى لا مبالغة في القول إنه أحدث ثورة في الفكر وفي الفهم, ثم أحدث الثورة في الواقع, لقد كان أول عالم دين يحيي واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المتون الفقهية والرسالة العملية المعاصرة عند الشيعة»(ص220).

وأضيف إلى ذلك, أن الإمام الخميني لم يثُر فقط على ما هو خارج المؤسسة الدينية, بل لقد ثار من أجل الإسلام التحرري والاجتماعي, على السلطة وعلى رجال الدين أيضاً, حيث وصفهم بما كان سبباً في استعدائهم. حيث التفّ حوله مثقفون وتكنوقراط وتجار وسياسيون. فولاية الفقيه بحسب النسق السياسي والفكري الذي حاول الإمام بلوغه, تقوم على مشاركة علماء الدين وكذا الخبراء حسب اختصاصاتهم.

ثمة محطة أساسية لافتة للنظر, تتعلق باللحظة التي أعقبت الحرب العراقية ـ الإيرانية. فهي بحق حرب أوقفت أو أعاقت الكثير من طموحات وأحلام الثورة, وإن كان الإمام الراحل عرف كيف يديرها ويحولها إلى مدرسة لتربية المواطن الإيراني على كثير من الحس الوطني وقيم التضحية والزهد والكرامة. وهكذا انتهت الحرب, والشعب الإيراني أكثر تماسكاً‏ووحدة في الصف وأقوى تعبئة وتضحية وزهداً. لكن ثمة مرحلة جديدة طرأت على المشهد, كان لها دور في تغيير نظام الأولويات وسلم الاهتمام الإيراني في قضايا الشأن العام. فالتحدي الذي داهم إيران منذ ثورتها حتى اليوم, من شأنه أن يحور اهتماماتها إلى الملف الأمني. وهو بالفعل ما تم بوتيرة متصاعدة. وإن كان له تأثير على القطاعات الأخرى. يقوم هذا التوجه على ترجيح خيار التعسكر ـ وطبعاً دون إهمال كبير للقطاعات الأخرى ـ على مبررين:

1ـ التحدي الموضوعي متمثلاً في العداء لإيران والتربص بها دولياً‏وإقليمياً.

2ـ المبرر الروحي والنفسي للثورة. إذْ لا تزال تهيمن على العقل الإيراني وروح التضحية والزهد فداءً لكرامة الشعب واستقلاله.

وثمة عامل آخر, يتمثل في البعد الأممي لإيران. أعني كونها ترى إلى دوره الإقليمي والدولي ليس فقط كممثل لإيران, بل ممثلاً لعموم العالم الإسلامي. وهذا يفرض اتجاهاً‏استثنائياً في مجال التنمية. فإيران فيما يبدو ـ وهي من معارضي اتفاق أوسلو ـ دخلت في شبه سباق للتسلح مع إسرائيل. وذلك قصد بناء استراتيجية للردع والتوازن الحربي في المنطقة. فقد نجحت إيران نسبياً في ذلك. وفي اعتقادي أن استراتيجية من هذا الوزن, تحتاج إلى استمرارية الرأسمال الرمزي للثورة, وإلى خطاب الإمام الخميني أكثر من أي خطاب آخر. الخطاب الذي يقوم كما كان في السابق وتحديداً إبّان الحرب والحصار, على نفي الأنانية والنفعية, كما يؤكد الباحث. لكن ما هو واضح تماماً, أن الإمام الخميني في عزّ دعوته للابتعاد عن العقل النفعي كان يؤسس لخطاب نافع للمرحلة. إذْ ما ينسجم مع أزمة الحرب والحصار, هو بث قيم الزهد والصبر والتضحية.

لكن فيما يبدو أن تغيراً‏حصل في الأولوليات, وتحديداً في الخريطة البشرية. فجيل الثورة والحرب لم يعد يمثل جيل الشباب الذي أمسى أكثر مطالبة وإلحاحاً على ما يسمى بالإصلاحات. وهي تعني بالدرجة الأولى الإصلاحات المدنية. المطالب التي وجدت لها ممثلها المناسب, والخارج من رحم التيار الديني نفسه; السيد محمد خاتمي. بالفعل إن نجاح السيد خاتمي في الانتخابات الرئاسية في تقديري, لم يكن ثورة داخل الثورة, بل هو اكتشاف للوجه الآخر للثورة.

ذلك الذي استبعدته ظروف الحرب ويوميات التوجس والصراع الإقليمي والدولي. وهو مع ذلك لم يأتِ بشيء خارج حلم الثورة الإسلامية الإيرانية منذ قيامه. بل إنه يرى نفسه يتحرك في الخط ذاته الذي اختطه الإمام الخميني, وجاءت الثورة من أجل تحقيقه. بل أكثر من ذلك, لقد بدأت إرهاصات التوجه السياسي والتنموي ما بعد الحرب إلى مزيد من الانفتاح والإصلاح منذ تولي الشيخ رفسنجاني للرئاسة. هذا ما يؤكد أن الرؤية التي جاء بها خاتمي ليست رؤية جديدة على فعاليات الثورة الإسلامية الإيرانية. وقد يكون النزاع كما يظهر من الجدل السياسي الجاري اليوم, أنه خلاف في كيفية التصريف البرنامجي لهذه الإصلاحات; خلاف في طبيعة الأداء وسلم الأولويات ووتيرة التنفيذ. ثمة مساحة مهمة في هذا الجدل الجاري اليوم في إيران, بين من سمو في وسائل الإعلام بالمحافظين وخصومهم الإصلاحيين. مساحة لم تخضع حتى الآن لدراسة تحليلية. حيث ظلت مسرحاً لقراءات سياسوية مفرطة في التسطيح والتصنيف. ولئن كان هناك من وصف موضوعي للباحث محمد رضا وصفي عن حقيقة ما يجري الآن في إيران, فهو قوله: «ويمكن القول إن الصراع القادم ليس صراعاً بين الحداثة والتقليد, بل هو صراع على كيفية أخذ القرار نحو التجديد ورعاية المصالح العامة وحل المشاكل, وهو الكفيل بتعبئة الصفوف وتوحيدها وإضفاء المشروعية على كل واحد من الفرقاء»(ص280).

إن ما يسميه الكاتب انتقالاً من العقلانية النفعية إلى العقلانية الموضوعية التي اصطبغ بها العقد الثاني للثورة الإسلامية في إيران, هو حركة ناتجة عن الإكراهات التي أعقبت الثورة ومأزق الحرب. ولكن المؤسف أن دُولاً وأقطاراً لم تشهد هذا التحول الحيوي في إيران, تنظر إلى ما يجري هناك وكأنه تحول باتجاه نموذجها. وكأنها ترى أن حركة الفكر والسياسة في إيران تقع ما قبل تاريخها المعاصر. والحال أن ما يجري هناك كله مؤشر نهضة تتكامل عبر مشوار صعب, لكنها في النهاية تبحث عن صيغتها المثلى. وهذا ما يجعلنا نُؤكد أن ما يحدث في إيران بالأمس واليوم, هو حدث تاريخي, وليس ثمة لحظات صمت في إيران. قدم الباحث وصفي عرضاً قيماً‏وجامعاً لما حدث خلال هذا العقد للتحولات في النظر, خصوصاً‏على مستوى القراءة الموضوعية للمشكلات القائمة في الواقع الإيراني سياسياً‏واقتصادياً بمعية تطور آخر جرى بالموازاة من ذلك في مجال ما يعرف بعلم الكلام الجديد, الذي أمسى علماً‏يتجاوز المعضلات الكلامية التقليدية في مجالات الاعتقاد ليلامس موضوعات جديدة تتصل بالنهضة والدولة والمجتمع والتنمية والمجتمع المدني و.. و.. وهذا التطور حصل في إيران بامتياز. لكن على المستوى الفكري وفي المرحلة المتأخرة من الثورة الإسلامية الإيرانية, أصبح المشهد أكثر غلياناً وانفتاحاً. وبالطبع هذا الانفتاح يعزز من وجهة النظر التي طرحناها في مبتدأ هذه المراجعة, وهو أن انفتاحاً كهذا ما كان له أن يقوم لولا وجود مؤسسات دستورية وكيان قانوني يؤهل الفواعل الإيرانيين لأن يعبروا ويخوضوا معارك استحقاق سياسي وفكري. ومن هنا أرى أن ما يجري الآن في إيران من مخاض, سواء سياسي أو فكري لا يحمل سوى مطالب ضمن شعارات وأحلام الثورة نفسها. فالتقدم والتحرر والتجديد والإصلاح و.. و.. كلها شعارات جاءت بها رياح الثورة, وهي اليوم تملأ الملف المطلبي لدعاة الإصلاح.

في هذا السياق استعرض الباحث وصفي أهم الأفكار التي تشكلت في المرحلة الأخيرة للثورة ومَثَّلها مثقفون إيرانيون وهي أفكار تملك من الجرأة ما لا تملكه أفكار أخرى في بلد آخر. فالأفكار التي يطرحها «سروش» مثلاً, ويروج لها عياناً في إيران اليوم, لا يمكن أن تطرح بهذه الصورة في دولة لا تتمتع بقدر معين من إطلاق الحريات. لاسيما إذا ما تذكرنا أنها تطرح في ظل حكومة إسلامية دينية. لكن وبموازاة ذلك مازال التجديد في علم الكلام جارياً‏على قدم وساق. فالباحث يستعرض أفكار سروش حول مسألة الدين والفهم الديني كما يتطرق لفكرة شبستري حول علم الكلام الجديد وأفكار مصطفى ملكيان عن فلسفة الدين والفقه.. أفكار وطروحات تبغي إعادة صياغة الأسئلة الأولى, وتنزع إلى تحديد الموقف من علاقة الدين بالدولة. وثمة طرحات مهمة بلغ عمقها وتفرعها, فإنها تفتقر إلى الحجية والمصداقية, لاسيما وأنها طرحات تحمل أزمتها في صلبها; أعني تحديداً المنحى الذي سلكه عبد الكريم سروش, والذي لا يقدم فيه خياراً‏عملياً بقدر ما سعى إلى تعزيز رؤية تعانق مفهوم «المفارقة» الكانطي واللاإرادية من خلال تفجير أزمة اليقين والقول بتساوي الأدلة.. وهو منحى يتطلب وقفة أخرى يتسع لها المقام.

يبقى أن نذكر بأن العمل الجاد الذي قام به الأستاذ وصفي, ليستدعي اهتماماً خاصاً, حيث مراجعتنا ما كان لها أن تستوفي كامل مشاهده وتفاصيله. لكنه يظل سفراً في عمق التجربة الإيرانية بوجهيها السياسي والثقافي.. إضافة إلى ما يتمتع به الكتاب من كفاية الاستقصاء ودقة التأريخ وجودة التصنيف!