شعار الموقع

الامة والدولة في فكر الشيخ محمد مهدي شمس الدين

هاني ادريس 2004-10-15
عدد القراءات « 1113 »

تأتي هذه المساهمة في سياق مناسبة أليمة على لبنان الشقيق وعموم الوطن العربي والعالم الإسلامي، برحيل قطب من أقطابه الدينية والفكرية والسياسية.. وعلى الرغم من أن سماحة الشيخ محمد مهدي شمس الدين قد رحل عنّا بهذه الصورة المفاجئة، وفي ظرف عصيب على الأمة الإسلامية، فإن فكره الذي أمتعنا به طيلة هذه الحقبة، لم يمت بل آن الأوان ـ بالأحرى ـ أن تعاد مراجعته والإفادة من روائعه التي اثارت القريب والبعيد، وفرضت احترامها الاستثنائي على الجميع. ومع أن شخصية الراحل كانت متعددة الأبعاد ومتنوعة النشاط إلا أن ثمة خيطاً ناظماً لتراثه الفكري ما فتئ يتطور وينمو عبر مختلف مطارحاته المعمقة، التي اختارت منحى النظر العلمي والتحليلي. إن حياة الراحل مفعمة بالمواقف والأفكار الغنية والجريئة، ما يجعلها مدرسة مستقلة تستحق الاحتفال. وسوف نختار قضية شغلت اهتمام الشيخ الراحل أيما اهتمام، ألا وهي قضية الأمة وعلاقتها بالدولة. وهي موضوعة بقدر ما شغلته من اهتمام كبير في مطارحات الشيخ، مثلت ولا تزال قضية إشكالية في الفكر السياسي الإسلامي. ونكاد نجزم بأن مفهوم الأمة كان قد بلغ مداه الأقصى في كل مطارحاته وتصريحاته ومواقفه. ومع أنه شغل منصباً قربه كثيراً من الدولة ومؤسساتها، بحيث مثل قطباً من أقطاب المشورة والرأي، وفي وضع باتت فيه ظروف الدولة اللبنانية صعبة، بفعل الاستفحال اليومي متمثلاً في مسلسل الاعتداءات الإسرائيلية والتمزق المحلي الطائفي.. كل هذا لم يكن ليليّن من مواقف الشيخ الراحل من أن يرسم خرائط النظرية والممارسة لخيارات الأمة. فالشيخ مهدي شمس الدين هو رجل خيارات الأمة ـ لو شئت ـ وفي نفس الوقت رجل الدولة. هذه المفارقة تمثل في واقع الأمر بعدين متساكنين في فكر الشيخ الراحل. ومن هنا نفهم، إلى أي حد سعى إلى إيجاد صيغة للتصالح أو لنقل صيغة للتفاهم بين نزوعين في غاية التنافر، اي ضرورات الأنظمة وخيارات الأمة.

جدلية الأمة والدولة.

البحث هنا لا يتعلق بالأسبقية، بقدر ما يتصل بالعلاقة. فلا جدال في أصالة الأمة. ففي البدء كانت الأمة. وفي البدء كان الناس مسلطين على أنفسهم. وهذا ما يعني أن الدولة حدث طارئ متأخر. لكن وبما أن الدولة حدث تاريخي لازم الاجتماع السياسي، وشكل بؤرته الرئيسية، معناه أن ثمة ضرورات نابعة من داخل الاجتماع. وهي أن الدولة في حد ذاتها حاجة من حاجات الأمة، بها تنظم أمرها وتصون نفسها من الفوضى والتمزق. وحيثما انفرط هذا العقد الحر، وبدت الدولة تنحو منحى مُفارقاً، يجعلها وكأنها نشاز طارئ على الأمة، هنا فقط نتحدث عن مبدأ القطيعة، وبداية الصدام، وهنا فقط نتحدث عن الدولة المستبدة. لكن أي منظور يحمله الشيخ الراحل عن هذه العلاقة?
في الواقع لقد اجتهد ـ رحمه الله ـ في الكشف عن الغاية من وجود الدولة ووظيفتها في الأمة. ولعله هنا كان واحداً من المتأثرين بالفلسفة السياسية التي طورتها مدرسة الشيخ النائيني، من حيث منحاها المنفتح فكراً‏وتأصيلاً على الشورى والمشروطة ومعارضة الاستبداد. وتكاد تكون مجمل أطاريح الشيخ الراحل، بخصوص علاقة الأمة بالدولة، تعميقاً لما طمحت إليه واحتوته الرسالة التاريخية للنائيني: <<تنبيه الأمة وتنزيه الملّة>>.
إن حالة التمركز التي تتراوح بين الانتصار لأولوية الأمة أو أولوية الدولة، حالة لا تقتصر على الفكر السياسي المعاصر، بل هو جدل شهده الفكر السياسي الإسلامي على امتداد قرون من التطاحن حول السلطة. وقد برز الجدل بصورة أوضح وأعمق بعد حادثة الانشقاق التي تعرض لها معسكر الإمام علي بن أبي طالب في معركة صفين. أي تحديداً بعد حادثة التحكيم حيث انزاح التفكير السياسي الخوارجي إلى رؤية غاية في الغموض والمفارقة، ‏لقد أنكروا أهمية <<الإمارة>>، بحجة <<لا حكم إلا لله>>! وهو تأسيس لمنظور سياسي من شأنه إفراز مظاهر التطرف والنزوع إلى السلب وتقويض مفهوم الدولة أو الحكومة الزمنية. إن الحكم لله، هو مفهوم كلّي يتصرف إلى إجراءات تنفيذية، ترعاها <<إمارة>> قوية، بقاعدة شوروية متينة. وليس نزوعاً يتوبيا لا يستوعب ضرورات التنزيل، ويكفر بالأجرأة والتنفيذ. من هنا، الجواب الذي عبر عنه الإمام علي بن أبي طالب: <<نعم، إنّه لا حكم إلا لله، ولكن هؤلاء يقولون: لا إمرة. وإنه لابد للناس من أمير برّ أو فاجر، يعمل في إمرته المؤمن، ويستمتع فيها الكافر، ويبلغ الله فيها الأجل، ويجمع به الفيء، ويقاتل به العدو، وتأمن به السبل ويؤخذ به للضعيف من القوي، حتى يستريح بر ويستراح من فاجر>> (1) .
ومما لا شك في أن الجدل حول ثنائية الأمة والدولة الذي كان يأخذ طابعاً أقل تعقيداً من الجدل الراهن، باعتبار المنظور الجديد الذي يحدد مفهوم الدولة الحديثة والأمة بالمعنى القوماني السياسي =Etat-nation= لم يشهد التطور المطلوب مقارنة مع ما كان يحصل في مجالات عمرانية أخرى. الأمر الذي يفسر إلى أي حد ظلّ هذا المجال مؤطراً بمحاذير كثيرة ومصنفاً في دائرة الممنوع التفكير فيه. ما حصل بالفعل، هو أن ما طرح في هذا المجال لم يكن سوى تصريف وإعادة ترميم للمنحى السلطاني للدولة. وهذا بدا واضحاً تباعاً من خلال عينات من الكتابات السياسية التي جاءت لتعزز نظاماً سياسياً كان مفعولاً .لا أن توجد مساحة لإعادة تعميق السؤال حول إشكالية السلطة والنظام السياسي، إذن فهي تحمل في جعبتها مضامين إرشادية للأمير على طريقة ميكيافيلي. ويمكننا إدراج نماذج كهذه، مثل الأحكام السلطانية والتبر المسبوك في نصائح الملوك وغيرهما..
وكأنه قدر لتراثنا الفكري والسياسي أن يظل متمركزاً ومتمحوراً‏حول الشخص. فتاريخنا، تاريخ أشخاص لا تجارب أمم، وفكرنا السياسي، أحكام سلطانية ونصائح للمنصور لا فكر سياسي للأمة!
وتمثل فلسفة ابن خلدون السياسية قمة النزوع إلى فكر الدولة وضروراتها العمرانية. ولم يختلف هذا الأخير عن ميكيافيلي في جوهر نزوعه لهذا الضرب من الرؤية السياسية. والدولة كما يراها ابن خلدون، ليس باعثها الحاجة إلى النظام فقط، فهذا أمل يتصل اتصالاً وثيقاً بفلسفته في العمران. فالدولة هي صيرورة اجتماعية تزدهر بازدهار العمران، كما أنها تضمحل وتذوب في المحيط المتوحش. لكن ابن خلدون لم يكن ليهتم حقيقة بالسلطة أو الدولة من منظور المعيارية الشرعية. فهو من ناحيته كأشعري المنحى، لا يرى فيما حدث، أمراً مخالفاً لإرادة الخالق. فليس في الإمكان أبدع مما كان. وهو كفقيه مالكي، لا يرى إشكالاً في التصويب، إذ السلطة قوة تقوم على الغلبة. ومتى ما تحققت الشوكة في قوم، وجب لهم الاستئثار بالدولة. فيكون من واجب الأقل شوكة، الإذعان والطاعة. وهذا ما يعني أن ابن خلدون في عمق فلسفته السياسية لا يتحدث عن معيارية إرادوية. ومن ثمة عدم اهتمامه بالثورة إلا بالمقدار الذي يكون لها ما تستنهض به من شروط موضوعية، أي ضرورة الشوكة وحتمية الغلبة. وما دون ذلك غلط!

إن الذي حدث هو أن الفقه السياسي في التاريخ الإسلامي، ظل ينظم نفسه ضمن ضرورات الغلبة، فإذا كان تاريخنا، ‏هو تاريخ مقاتل ومصارع، فإن الفكر السياسي الذي ظل يعبر عن طموح السلطة الغالبة، سيختزل مظاهر الغلبة في صورة رؤى عامة ونصائح تقدم للمستبد أو في أفضل الحالات للمستبد العادل، لأنه هو مدار الساسة والسياسة. وهو صانعها ومنفذها. فلمَ الحاجة للتأصيل أو أي أجرأة هادفة إلى تحديد سلطاته طالما البيعة ذاتها جاءت بالسيف لا بالاختيار? وقد اكسبت تجربة الاحتكاك بالتراث السياسي الفارسي، إمكانية جديدة لبناء تصور سلطاني عن السلطة، تعكسه مبادئ وحِكم مؤسِّسة لنمط المستبد العادل. إن ما سمي فتحاً إسلامياً لفارس هو في الواقع فتح متبادل للذات والاخر على السواء. وأعني بذلك إن كان العرب قد أدخلوا التوحيد إلى فارس، فإن فارس فتحتهم بتعزيز نزوعهم إلى التوحيد والاستفراد السياسي وطبائع الاستبداد. حتى لكأن التراث السياسي العباسي، هو تراث فارسي بامتياز! وبهذا تفادى الفكر السياسي الإسلامي النزوع قبلياً وعصبانياً على النمط التقليدي الفاضح في الموروث العربي. كما تفادى ضرورات الخطاب التحرري الشوروي الذي تمثل عملياً في نموذج حكومة الإمام علي بن أبي طالب. كما تفادوا الوقوع في حمأة الاقتباس اللا مشروط من الديمقراطية اليونانية في نشأتها الأولى. إن استمرار النمطية الميكيافيلية في الأدبيات السياسية العربية والإسلامية، حاكٍ عن استفحال داء السلطة في العالم العربي والإسلامي وليس حاكياً‏عن عجز في بناء فقه سياسي قويم. إن عودة مفهوم الأمة للظهور إلى السطح، هو بفعل التحولات التي شهدها العالم العربي والإسلامي، والعالم من حولهما. ذلك نظراً‏لما شهده مفهوم الدولة من تعدد الأبعاد وتشعبها وظيفياً. ونظراً لاتصاله بمنتظم دولي يراقبه ويدخل معه في نسيج علاقة تذعن لحد أدنى من الأعراف الدولية المشتركة. وفي العصر الإسلامي الحديث، نكاد نجزم بعدم وجود رسالة في عمق تأصيلها وبعد نظرها، من تلك التي تقدم بها الشيخ النائيني في تاريخ إيران الحديث، تلك التي جاءت نقيضاً‏تماماً للنمطية الميكيافيلية، انتصاراً‏لنباهة الأمة ومطلب الشورى وضرورة الدستور. من هنا كتابه: تنبيه الأمة وتنزيه الملّة. وقد شهدت إيران حدثين سياسيين في تاريخها الحديث: الأول، ثورة المشروطة، وكانت إذناً بإرساء الدستور.
الثاني: مشروع الثورة الإسلامية في إيران، الذي حمل على عاتقه مهمة تاريخية جبارة، ‏لا تقل عن المهام التي نهضت بها الثورة الفرنسية، من حيث إعادة تأصيل ما لم يؤصل، وخلق مساحة لعودة الجدل الفقهي والاجتهاد السياسي من أجل بلورة مشروع حكومة إسلامية حديثة. وقد كانت هذه التجربة، التي لا تزال تطمح إلى مزيد من التكامل، مثالاً لأطروحة الشيخ النائيني من حيث إقرارها بنظام المشروطة، على قاعدة توزيع السلطات واستقلالية القضاء وتعزيز مهام مجلس الشورى، وأيضاً استحداث مجلس لصيانة الدستور. وهذا ما يعني أن مشروعاً كهذا يقطع مع تجربة سياسية تاريخية ظلت سائدة في تاريخنا العربي والإسلامي، أي نموذج الدولة السلطانية ودولة المنصور بالله، ‏المستفرد بالسلطة، الكافر بالشراكة، المهيمن على المؤسسات.
في هذا السياق تحديداً، يمكننا بسط الحديث عن مفهوم الأمة ومحوريتها في الأطروحة السياسية للفقيد الراحل. وهي رؤية تتصل بهذا التحول الذي شهده الاجتهاد السياسي الإسلامي، حيث ثمة أمران يدعمان هذه المحاولة، ويُمكِّنان <<الشيخ>> من إحراز الكثير من النتائج في مشوار بحثه، أعني عمق الفكر التحليلي وعمق الفقه الاستدلالي. وهما في تقديري الصفتان اللتان ميزتا تجربة الشيخ.

التنزيل الواقعي وضرورة التطبق

ثمة قلق يلازم مطارحات الراحل بخصوص الفكر السياسي الإسلامي وعموم المشاريع الإسلامية. وهو ما يتصل بغياب الرؤيتين، الفكرية والفقهية، وخلوهما شبه التام من الأدبيات السياسية الإسلامية. لقد اعترف سماحته لهذه التجارب بكونها قادرة على التعبئة وحشد القاعدة الاجتماعية وإثارتها، لكنها غير قادرة على صياغة برنامجها العملي في شكل مشاريع سياسية وحضارية واضحة. وربما أدّى هذا الغموض إلى تأجيل البت في تفاصيل المشروعات بعد تحقق الانتصار كما هو السائد في أدبيات كثير من الحركات الإسلامية. ولم يكن سماحته يعلق كبير أهمية على ما تظهره الشعارات البراقة والأدبيات الكثيفة، ‏طالما لم تقم مشاريع تفصيلية وتطبيقية لتقنين الأفكار العامة. وبهذا يكون الشيخ فكراً‏عملياً‏وواقعياً، لا يرى للشعار ـ مهما اشتد ـ أي اعتبار، ما لم يتنزل برنامجاً قابلاً للتطبيق. من هنا <<فالقول بأن الإسلام هو مصدر شرعية السلطة، دون تحديد لآلية اختيار السلطة وكيفية ذلك، يعد نظرياً وتجريدياً. والأمر نفسه يمكن قوله بالنسبة إلى شعار حاكمية الله>> (2) .
بالإضافة إلى العامل الثاني، وهو عدم وضوح الرؤية لدى الناهضين بالمشروع وغموضه <<في أذهان المعبرين عنه، ‏وهذا ما نلمسه في الحوارات الشخصية، ‏وفي نصوص مكتوبة ومعلنة إذ يقول البعض: إننا نستلم الحكم وبعد ذلك نضع المشروع. وفي تقديري إن مجموع هذه الأمور هو المسؤول عن تجريدية هذا الخطاب [..] ومن أحزاني العقلية والعاطفية، هي أن الحركة الإسلامية بهذا الأسلوب تتحول إلى مجرد قوة في وجه المجتمع، وليس في وجه النظام الذي تعترض عليه. هي قوة تجابه المجتمع [..] هناك حديث يروى، وهو <<أنه من اتجر بغير فقه فقد ارتطم بالربا>>. وكذلك من اشتغل بالسياسة بغير فقه ارتطم بالخيالية، أو التجريدية، أو بالفشل، وربما الانحراف>> (3) .
وعلى هذا الأساس، كانت رؤيته للمشروع السياسي الإسلامي في إيران تتسم بكثير من التقدير والاحترام، نظراً لما قامت به هذه الأخيرة على صعيد إعادة تفقيه ما لم يُفقَّه، وتأصيل ما لم يؤصل. رائياً بجدة إلى ما تحقق في دستورها، معتبراً إياه نموذجاً قابلاً للتعميم. مطالباً الأطراف الأخرى المختلفة بالعمل على تبني هذه التجربة، بتكييف الدستور مع ضروراتها الفقهية والكلامية. بقول: <<ولقد نصحت البعض، فقلت خذوا الدستور الإيراني وكيّفوه صعب معتقدكم الكلامي والفقهي، ليرتسم على ضوء هذا التكيف مشروع محدد>> (4) .
ومن هنا يتضح إلى أي حد كان الشيخ حريصاً على إيجاد صيغة لتكوين رؤية عن الدولة الإسلامية أكثر واقعية وإيجابية. إن اليوتوبيا حيثما حلّت، وأريد بها أن تحل محل الواقع بتطلباته وضروراته، فإنها تنتج العنف، فالتنزيل الواقعي والتأسيس التطبيقي للمبادئ العامة، هو أقصر طريق للقضاء على مظاهر العنف والاحتقان. على أن لهذا الطرح الإيجابي مقومات ومقدمات من دونهما يستحيل تقريب الفكر والفقه السياسيين من الواقع.

الحكم ضرورة لحفظ النظام

وإن كان الشيخ يرى في الدولة أو الحكومة شرطاً طارئاً وجديداً قياساً مع عمر الأمة، إلا أنه يراها إفرازاً ضرورياً للأمة ذاتها. فهي ضرورة عقلائية، وليست ضرورة جعلية بالمعنى الجعلي التعبدي. ومن هنا تشترك الرؤية السياسية الإسلامية مع أكثر الرؤى الإنسانية في مجال بحث فلسفة الحكم وضرورة وجود الحكومة كمناط لحفظ النظام. ولهذه الحقيقة ما يثبتها نظرياً وممارسة. حيث لم يشهد التاريخ قيام أمة بلا نظام أو دولة تؤطرها، سواء أشغلت الدولة الحيز الأكبر من ضرورات الأمم أم حيزاً محدوداً. لكن يبقى انها إفراز طبيعي ضروري. ويظهر ذلك جلياً في الجدل الذي شهده الفكر السياسي الحديث مع الفلاسفة الغربيين ومنظري الفلسفة السياسية الأوروبية، أمثال جون لوك وتوماس هوبز وجان جاك روس ومونتيسكيو وكانط وهيغل.. فقد نلاحظ افتراقاً من حيث تعليل منشأ هذه الضرورة، فيما لو كانت ناتجة عن الطبيعة التوترية التي تفرضها علاقات الاجتماع ـ كما نحا جان جاك روسو ـ أو ناتجة عن الطبيعة العدوانية الفطرية في الإنسان كشخص عدواني بالطبع ـ كما ينحو هوبز ـ أو أنها ضرورة للإرتقاء بالشخص إلى أعلى مرتبة تربوية كما ينزع هيغل. لكن ثمة خلف هذا الامتياز ما به الاشتراك أيضاً، حول ضرورة قيام الدولة. وقد تبين أن <<سماحته>> كان يحمل إلى هذا المنظور الواقعي والعقلاني لتاريخية الدولة وضرورتها الفلسفية بوصفها لازمة عقلائياً لوجود الأمة. يقول: <<وعناية الإسلام بمسألة الحكم ليست بدعاً من الأمر، وإنما هي استجابة للضرورة التي يقتضيها الاجتماع البشري بحد ذاته، وبقطع النظر عن وجود شريعة ونظام للحياة ينتظم حياة الإنسان من جميع وجوهها ومجالاتها كما هو الشأن في الإسلام. فمنذ اقدم العصور اكتشف العقلاء من بني البشر، والمفكرون الفلاسفة، هذه الحقيقة ـ الضرورة في كل اجتماع بشري [...] وهذه الضرورة في المجتمع، هي: من وجهة نظر الإسلام في رؤيته الشاملة العميقة ـ التعبير البشري عن ضرورة عامة تحكم الكون كله بما فيه عالم الحياة، والطبيعة، والمجتمع البشري جزء واع من عالم الحياة والطبيعة>> (5) .
وقد ربط ـ رحمه الله ـ بين الأصل الذي تنهض عليه هذه الضرورة في الاجتماع الإنساني، وبين الأصل الذي يقوم عليه النظام الكوني. إنها بالتالي لا تشذ عن هذا النظام العام، المتوازن. هكذا يسعى سماحته ـ وتحديداً‏ـ من خلال كتابه <<نظام الحكم والإدارة في الإسلام>> وكتاب <<في الاجتماع السياسي الإسلامي>> إلى بسط الحديث من وجهة نظر التشريع الإسلامي، مؤصلاً ومؤسساً لمنظور فكري وفقهي يعزز هذه الضرورة.

في القداسة والمقدس

وبما أن الحكومة أو الدولة هي متأخرة رتبة عن وجود الأمة. وبما أنها ضرورة عقلائية، وليست جعلية إلا من حيث الإرشاد وليس المولوية ـ لو شئنا التعبير بلغة الأصول ـ فإذن، هي غير مقدسة على الإطلاق. لا بل، إن الشيخ لا يرى أي جعل لها شرعاً إلا بما هي من ضرورات الأمة. فالأصول الشرعية لا تتحدث عن الدولة بقدر ما تتحدث عن الأمة. ونفهم من ذلك، أن الدولة إذا كانت ضرورة من ضرورات الأمة، بها يقوم نظامها ويحض اجتماعها، لزمت من باب مقدمة الواجب. وهكذا نفهم أيضاً، أن وجوبها لغيرها، أي وجوب نابع من وجوب حفظ الأمة وصيانتها، لا وجوباً ذاتياً لها. وبهذا المعنى تصبح الدولة نسبية وهو ما يعزز كونها غير مقدسة. إن القداسة في النهاية هي للأمة وليس للدولة. ومن هنا تتراءى ثنائية المقدس واللا مقدس للشيخ الراحل، على أنها ثنائية بين الدولة والأمة، وليس بين المقدس واللامقدس في الدولة. فالدولة كلها غير مقدسة. يقول: <<ففي الفكر والفقه الإسلاميين، الدولة كلها غير مقدسة، ولا يوجد فيها مقدس على الإطلاق. المقابلة ليست بين المقدس وغير المقدس في الدولة، وإنما بين الدولة والأمة، أي بين المقدس وغير المقدس في الفقه، وفي الفكر الإسلاميين>> (6) .
طبعاً، لا يفهم من هذا الكلام، أن نزع صفة المقدس عن الدولة، يقوض أصل مشروعيتها، فلقد تبين أن رؤية الشيخ تلتقي مع فلسفة الحكم العقلانية من حيث أن الدولة ضرورة فطرية في الاجتماع السياسي وجزء من النظام الكوني، فضلاً عن ضرورتها التشريعية من حيث وجوبها إرشاداً. وفي كون الدولة مقدمة ضرورية لحفظ النظام وصيانة الاجتماع وسائر الوظائف المنوطة بها، فهي مقدسة. إذْ ما يقوم به المقدس هو مقدس بالضرورة. لكن الحديث هنا، هو أن قداسة الدولة هي مشروطة بطبيعة الوظائف التي تنهض بها. وبمقدار ما هي تعبر عن ضرورات الأمة. إذ أن الأمة ثابتة والدولة نسبية. وفي كون الدولة تابعة تدور مع الأمة وجوداً وعدماً، فهي بهذا المعنى غير مقدسة: <<نعني بالمقدس، المطلق أو العبادي، أو مايتصل بالشأن الديني المحض. وغير المقدس هو السياسي هو النسبي والزمني. في الإسلام مشروع الدولة كله مشروع غير مقدس لا لأنه مشروع مرفوض، ولكنه مشروع ناشئ من طبيعة الوظائف التي تقوم بها الدولة، ‏وهي ليست مؤسسة في ذاتها في الفكر، وفي الفقه الإسلاميين [..] وتاريخ الإسلام في الحقيقة إذا حذفنا منه تاريخ الأمة. فإن الدول الإسلامية التي تعاقبت على هذه الأمة لا يبقى لها شيء على الإطلاق>> (7) .
فالدولة لازمة الوجود، سواء أكانت دينية إسلامية أو غير ذلك، إنها ناتجة عن ضرورات الاجتماع. الدولة إذن ظاهرة سياسية عامة وكونية، وليست ظاهرة دينية. ومن هنا تحديداً تنبع صفتها النسبية وتنتزع منها صفة القداسة.

في ما هية الحكومة الإسلامية

ماذا تعني الحكومة الإسلامية? هل هي حكومة دينية، لا هوتية، أم أنها أمر آخر?
يبدو أن هذا الوصف الذي أُطلق على مشروع الحكومة الإسلامية، دخيل على التصور العربي الإسلامي. فهو وصف منقول نقلاً تعسفياً عن الرؤية العلمانية الغربية التقليدية، تلك التي نشأت وتشكلت، في مناخ مختلف وتراكمت ضمن سياق تاريخ مغاير. فثمة من الباحثين الغربيين من رأى الشريعة الإسلامية، شريعة علمانية، بحسب الفهم الذي يحملونه عن العلمانية، أي لكونها شريعة منفتحة على العالم ـ الدنيا ـ. فالعلمانية في معناها الاشتقاقي تعني العالم. والتشريع الإسلامي لم يغادر صغيرة ولا كبيرة في ذلك إلا ووضع لها حكماً. فإذن، العلمانية بالمعنى المذكور ليست نقيضاً للشريعة بل هي صفة لها. ومن هنا، لم يكن من الموضوعي، من وجهة النظر الفلسفية والتاريخية، أن ننقل تصوراً غريباً للعلمانية بمناخه التاريخي الصراعي الذي وصم بالتوتر علاقة المؤسسة الدينية بالمجتمع. ففي ذلك، إذن، تجنٍّ وقصور ومفارقة. ومن هنا كان حقاً على العلمانية إذا ما اخترقت العالمين العربي والإسلامي، إلا أن تنتج العنف والمماحكات، بلا جدوى. في هذا السياق يمكننا التقاطع مع رؤية الشيخ الراحل الذي لا يرى في الحكومة والدولة سوى عرضٍ للأمة وضرورة من ضروراتها، لايحمل قداسة ولا يستقل بنفسه عنها. وهو بذلك لا يرى الحكومة الإسلامية، حكومة دينية، بل تتراءى له حكومة مدنية. وقد استند الراحل في ذلك على رؤية فقهية تقسم الفقه إلى قسمين: فقه الأفراد والفقه العام. الأول يتعلق بالأحكام التكليفية الشخصية، وهي أحكام لا صلة لها بالحكومة الإسلامية، إذْ هي قائمة بها وبدونها. فقد تجد أفراداً يتبنون هذا الفقه في دولة علمانية وقد تجد أفراداً لا يدينون بدين في الدولة الدينية. أما الفقه العام، فهو فقه اجتماعي يتصل بشرعية السلطة وبنظم الإدارة والاقتصاد.. وهي أمور ممكن قيامها على قواعد الفقه الإسلامي العام. فالنتيجة <<أنه من ناحية المنهج الصولي، لا أرى هذه الحدية في المواجهة أو القطيعة بين مفهوم علمانية أو مدنية أو بين مفهوم شريعة. لكن بطبيعة الحال ـ تبقى الدولة في الإسلام ذات شخصية إسلامية ـýأو ذات سمة إسلامية منبثقة عن بعض الثوابت. وضع المرأة في المجتمع، الموقف من النظام المصرفي الربوي، موقف معين من الملكية، الموقف من بعض المطاعم والمشارب المحرمة في الشريعة..>> (8) .
وإذن، فلا مجال للحديث عن ثنائيات متضادة. وأيضاً ليس ثمة من مبرر للحديث عن إسلام ديني وإسلام علماني. فهو يجيب عن هذا السؤال قائلاً: <<أنا لا أوافق على هذا المصطلح [أي الإسلام العلماني] لأني لا أحب تجزئة الإسلام، هذه أطروحة الغرب [..] في المضمون لا أوافق على تعبير <<الإسلام العلماني>>. [..] إن الفقه الفردي، فقه العبادات لا ينافي كون الإسلام ديناً وضعياً. ديناً تتمثل مبادؤه في الفقه العام>> (9) .
إن الذين تولوا المهام الإدارية في الدولة الإسلامية تاريخياً، لم يكونوا بالضرورة مسلمين. بل تاريخياً كثيرة هي المهمات التي تولاها نصارى ويهود، اختيروا لذلك على اساس الخبرة والكفاءة. إذن <<لا أستطيع [يقول الشيخ] إطلاقاً وبجميع معايير المقارنة ـ أن أرى أن الإسلام أنشأ دولة دينية. الإسلام عقيدة عامة وشريعة عامة. يمكن أن ينشئ دولة ويستمر من خلالها، ويمكن ألا ينشئ دولة ويستمر أيضاً. يمكن أن يستمر في حياة الناس ووجدانهم وممارستهم>> (10) .
إذن فالحكومة الإسلامية، هي حكومة مدنية، تتصل بوظائف دنيوية وتمارس علىýأساس الخبرة والكفاءة. وقد يشارك في إدارة بعض قطاعاتها أناس لا عهد لهم بالإسلام. فالنزاع بين ما يسمى بالحكومة الدينية والحكومة العلمانية، حينما نعمق النظر ونستحضر الرؤية الفقهية، نجده ـ وكما يعبر الشيخ ـ نزاع <<أشباح>>. وهكذا نستطيع وفي ضوء الرؤية الفقهية والتصور العام للفكر السياسي الإسلامي أن نقوض أصل النزاع، ونحتوي ذلك الصراع المفتعل، ما بين الدين والعلمانية، أو الديني والدنيوي. إذْ لا وجود لهذه الإثنينية في ممارسة المسلمين. وكون الدولة أو الحكومة الإسلامية عقلائية وضرورة من ضرورات الاجتماع وظاهرة سياسية هادفة لصيانة الاجتماع وحفظ النظام، فهي إذن دولة مدنية، وإن بدت بخصوصيات إسلامية. وهي خصوصيات لا تقوض البعد المدني للحكومة الإسلامية.

الشورى والديمقراطية

وإذن، فمن الطبيعي، إذا ما تبين فكراً وفقهاً، بأن الحكومة ضرورة فطرية يحتمها الاجتماع السياسي. وإذا اتضح أيضاً بأن الحكومة الإسلامية مدنية بالفعل، ولا وجود لدولة دينية بالمعنى المطلق، بل هذا الدين في التصور الإسلامي دينة وسياسته متصلان على نحو حلولي فالسياسة والدين يتجادلان ويتكاملان في المنظور الإسلامي. أي أن السياسة هي للدين، والدين هو للدنيا أيضاً. والمقابلة هنا هي ليست بين الدين والدنيا، بل هي بين الدنيا والآخرة. في حين الدين هو للدنيا تحديداً. وعلى هذا المنوال، أمكننا القول، بما أن الحكومة هي ضرورة من ضرورات الاجتماع، فهي إذن تستمد شرعيتها وربما أيضاً جانباً‏من قداستها بما تقوم به من وظائف تصب في الهدف من وجودها. وفي طليعة الأهداف حفظ النظام بتحقيق العدالة الاجتماعية.
وإذن، هنا تكون الأمة حاكمة لنفسها، وهي المعنية باختيار الحكومة. فالشيخ الراحل ينطلق من هذه المسلمة أيضاً، وهي كون الأمة ـ وتحديداً بعد غياب المعصومين ـ لها الولاية على نفسها. وبناءً على أن الحكومة في نظره ـ ووفق مقررات الفقه الإسلامي ـ ليست شمولية‏ـ على الإطلاق ـ فهي تمثل إحدى ضرورات الأمة ومؤسسة من مؤسساتها، وليست هي المؤسسة الأهم. وهكذا، بقدر ما يعترف <<الشيخ>> للدولة بشرعية الوجود على خلفية حفظ النظام، إلا أنه يحجم من سلطتها، ليجعلها تحت سلطة الأمة لا خارجها. وهكذا يظهر أن الشورى التي يراها <<الشيخ>> شكلاً تنظيمياً يتقاطع مع الديمقراطية ـ بغض النظر عن الخلفيتين الفلسفيتين ـ فالشورى هي أساس تنهض عليه سيادة الأمة وولايتها على نفسها. وهي بالتالي أعظم مبدأ يقوم عليه الدستور السياسي للحكومة الإسلامية: <<ينبغي أن يكون مبدأ الشورى في الشؤون العامة، أهم المبادئ الدستورية السياسية على الإطلاق، عند جميع المسلمين: عند الشيعة الإمامية في عصر غيبة الإمامة المعصوم(ع)، وعند أهل السنة وسائر المسلمين منذ وفاة النبي (ص)، لأن مقتضى أدلة هذا المبدأ من الكتاب الكريم والسنة، أنه لا تستقيم شرعية أي حكم سياسي ـ لحاكم غير معصوم ـ ولا تستقيم شرعية أي تصرف في الشؤون العامة للمجتمع، من دون أن يكون قائماً على مبدأ الشورى>> (11) .
وهذا الواقع يعود بنا إلى مبحث إشكالي، وتحديداً في الفكر السياسي الشيعي، وهو ما يتعلق بالولاية بعد الغيبة. ويبدو أن الشيخ هنا يتبنى المدرسة التقليدية بخصوص ولاية الفقيه كما تجلت في المتون الفقهية العامة التي لم تقارب مسألة الحكومة بصورة مفصلة. كما يظهر ذلك على سبيل المثال في مكاسب الشيخ الأنصاري، محجماً لولاية الفقيه إلى حدود القضاء والمسائل الحسبية ودونها <<خرط القتاد>>. والحال، أن المنظور السياسي الذي يوسع من ولاية الفقيه ليجعلها عامة وشاملة كما تكاملت في أطروحة <<النراقي>> ونهض عليها مشروع الجمهورية الإسلامية، إنما تحكي عن اجتهاد كان له الفضل في إخراج فقه الدولة من حيز النسيان إلى حيز الوجود، لينتج على الأرض مشروع دولة وفقه سياسي تطبيقي. مع أن حكومة الجمهورية الإسلامية أدركت أهمية المؤسسات وخلقت تعايشاً بين مؤسسة الفقيه ونظام الشورى، لتنتج على الأرض حكومة مدنية ذات مجلس شوري حيوي وفاعل. ومن هنا، فإن القول بأن فكرة ولاية الأمة على نفسها هي نقيض لولاية الفقيه، ليس صحيحاً دائماً. لأن ولاية الفقيه ـ في تقديرنا ـ يمكنها أن تكون واقعة في سياق ولاية الأمة على نفسها. فولاية الفقيه من الممكن أن تكون مظهراً من مظاهر خيارات الأمة وليس بالضرورة مناقضة لها. بل إن وجود المخالف لا يعني نزع صفة ولاية الأمة عنها. ففي كل نسق سياسي دينياً كان أم علمانياً.. استبدادياً أم ديمقراطياً.. شمولياً أو تعددياً.. هناك وجود للنقيض. إن سيادة الأمة وولايتها على نفسها تتصرف إلى إجراءات تنفيذية وتتمأسس فكرياً وهيكلياً. فولاية الفقيه قد تكون إحدى مظاهر ووسائل سيادة الأمة على نفسها. لكن يمكننا رجوعاً إلى البداية، القول بأن الشورى ستظل هي الأساس الذي يميز الدولة الإسلامية ويعزز من خيار الأمة وسيادتها على نفسها. ولا يرى الشيخ حرجاً في أن يتحدث عن صيغة للشورى تلتقي مع المضمون الأدوي للديمقراطية بعيداً عن أصول الفلسفية. فالشورى ليست قضية عبادة حتى نحكم بمناقضتها للديمقراطية على أساس الخلفية والكلامية. بل إنها شأنها شأن الديمقراطية، هي جملة الإجراءات لتنظيم المجتمع. <<الشورى ليست عبادة، هي صيغة تنظيمية للمجتمع. وهذا واضح في الأمر. أمر الحكم الذي هو أمر الناس. أو هو أمر الناس الذي من شؤونه الحكم. كما أن <<أمرهم شورى بينهم>> يعني اشتمال إدارة شؤون المجتمع الأهلي وإدارة الدولة والنظام>> (12) .
ومن هنا لا حرج في أن تتراءى الديمقراطية للشيخ، كأفضل القول في الحضارة الغربية. ولا حرج في أن نتبنى ما يعزز منظورنا للشورى، فنسبغ علينا صبغتنا، التي هي صبغة الله، ومن أحسن من الله صبغة. مع عدم إلزامية أبعادها الأخرى، أي الأبعاد الفلسفية والتشريعية، ‏والاكتفاء بأبعادها التنظيمية!

الأمة والدولة، المعانقة والمفارقة

في البدء كانت الأمة والدولة هي إفراز فطري لها. لكن ليس بالضرورة أن تلتقي الأمة مع الدولة دائماً. فهي تارة معانقة لها وتارة أخرى مفارقة. وتاريخنا السياسي، هو تاريخ يكاد يكون كله تاريخ مفارقة بين الأمة والدولة. وهذا التنازع والاحتقان، هو مبعث قلق عند الشيخ الراحل. وإن كان لم يشر إلى علّة هذا الافتراق مكتفياً بالوصف، باعتبار أن المعضلة هنا تكمن في أن النظر إلى هذا الإشكال بمنظور وصفي يزيد في توسيع الدائرة المفرغة. والحال أن هذه المفارقة بقدر ما كانت علّة بؤس السياسة في التاريخ العربي والإسلامي، إلا أنها كانت أيضاً معلولة لأسباب أخرى موضوعية. وعلى كل حال، فإن الشيخ لا يتردد في أن يرى في المشاريع السابقة وفي الدولة الإسلامية التاريخية نموذجاً منحرفاً. ذلك لأن الدولة تفقد رضا الأمة وتعلن عن مفارقتها، يوم تفشل في حفظ النظام باقرار العدالة الاجتماعية. ويوم تفشل في صنع التنمية. وفي التاريخ الإسلامي، الدولة فشلت في كل ذلك. وظلت العلاقة بينها وبين الأمة غاية في التوتر والعداوة. <<إنها لمأساة عظيمة أن نفكر بأن أمة من أعظم الأمم في التاريخ، كانت وما تزال، صيغتها الفكرة، ‏وعاشت في التاريخ بالفكرة، قد عانت من هذا الفصام الفكري. هذا التناقض الذي هو انتحار داخلي دائم بين ذاتها وبين دولتها. كيف استطاع المسلمون أن يستمروا?>> (13) .
إن التاريخ الإسلامي إذا حذف منه مشروع الأمة، لم يعد يمثل شيئاً. فالدولة لم تكن سوى جزءٍ من مشروع الأمة وليس كل مشروعها. وقد تنبه الشيخ إلى أهمية إعادة النظر في الفكر السياسي الإسلامي بصورة تقطع مع النموذج الماضي لصالح نموذج جديد، ينطلق من ضرورات النظر الفكري والفقهي، ويواصل مهمة الاجتهاد على أرضية الفقه العام المفتوح على مساحة من الفراغ ما يعني أن مختار الشيخ هو حكومة إسلامية مدنية تقوم على أساس ولاية الأمة على نفسها. وهذه الصيغة كفيلة، ليس فقط بأن تعيد طرح المشروع من جديد بالصورة الأنضج، بل كشرط لتجاوز أزمة التصادم والفصام ما بين اهداف الأمة وضرورات الدولة. وهكذا وبناءً‏عليه، سعى الشيخ إلى ترتيب جملة أهداف ونتائج على هذا المفهوم كما تجلى في المواقف التالية:
1/ الدعوة إلى مصالحة داخلية بين الأطراف الفاعلة في الأمة ومحاولة تشكيل رابطة قومية إسلامية أو ما يشبه جبهة تاريخية، سماها <<المتحد القومي ـ الإسلامي>>، يقول: <<نأتي إلى الشروط من الناحية العملية [...]: تكوين تنظيم على مستوى العالم العربي يستند إلى مفهوم (المتحد القومي ـ الإسلامي) ويتكون من القواعد الدنيا للمجتمع في الحي والقرية والمزرعة، ويتصاعد تدريجياً إلى أن تتكون له أمانات عامة وقيادات إقليمية وقومية..>> (14) .
2/ إعادة مد جسور العودة مع الأنظمة والمصالحة معها، تعزيزاً للجبهة الداخلية لمواجهة التحدي الخارجي، وفي مقدمته الكيان الصهيوني، <<المصالحة مع الأنظمة، ادعو الإسلاميين إلى أن يصالحوا الأنظمة إذا قدروا وإلى أن يهادنوا الأنظمة إذا لم يروا المصالحة [..] وأوجه القوميين إلى نفس هذه الدعوة>> (15) .
وهذا يقع في سياق إعادة بناء المواطن وإشراكه في الدفاع عن نفسه وعن مجتمعه. إذْ نلاحظ ومنذ <<تأسيس الدولة الحديثة في العالم العربي، فإن الأنظمة من جهة والنخب من جهة أخرى، أخذت على عاتقها قيادة المجتمعات والبت في قضاياها، وساهم ذلك في سلب كل دور للمواطن العادي أو همّشه تهميشاً كبيراً، كان موقفه دائماً موقف المتلقي والمنفعل..>> (16) .
وفي هذا السياق تأتي دعوته إلى ضرورة إندماج الشيعة في اوطانهم، وإعادة صياغة المواقف على رؤية فقهية بعيداً‏عن الخطاب التعبوي. وخاصة في البلاد العربية حيث وجد الشيعة أنفسهم مهضومي الحقوق، رغم إسهامهم الكبير في مشروع بناء الدولة العربية والإسلامية. ولا ينكر الشيخ هذا الواقع الذي يقارب الوجع. لكنه أيضاً ألقى باللائمة على الشيعة من حيث أنهم أمعنوا في العزلة وساهموا، بذلك في رسم صورة عن أنهم أعداء ومصدر خوف وتهديد. فالمطالب ممكن تحقيقها بالاندماج والتدرج وعلى أساس إعادة جوّ الأُلفة لدى المجتمع.
إن مثل هذه المساعي أثمرت واقعاً من المشاورات، وأهمها ما جاء في كلمة له أمام وفد من شيعة المملكة العربية السعودية حيث جاء فيها: <<إن الوحيدين الذين يقفون بوجه تسوية الشرق الأوسط هم الشيعة، هذا الأمر بمقدار ما يفتخر به بعض الشيعة وقصار النظر، هو يشكل خطراً حقيقياً على الشيعة. لا يجوز أبداً بحال من الأحوال أن يبدو أن الشيعة وحدهم في مقابل ما يسمى مشروع سلام الشرق الأوسط، إما أن يشاركهم فيه غيرهم، وإلا فلا داعي لأن يظهروا بأنهم وحدهم عشاق ليلى. إما أن يكون لهم شركاء في عشقها، أو لا داعي لأن تكون معشوقة على الإطلاق>> (17) .
وقد تكرر الموقف ذاته، من خلال المحاضرات التي ألقاها أثناء زيارته الأخيرة للبحرين. تكاد تدور كلها حول محور المواطنة والاندماج والسلم المجتمعي وإعادة النظر في إدارة المشروع السياسي الإسلامي!
إن ما يميز وجهة النظر السياسية للشيخ الراحل، هو هذا النظم الدقيق لمنظوره الذي يقوم على جناحي الفكر والفقه. وبغض النظر عن الجانب المعياري لفكر الشيخ، فإننا أمام مدرسة عتيدة في الفكر السياسي، زادت في رصيد مراكماتنا على صعيد الاجتهاد السياسي. لكن قد يلاحظ أن ثمة مساحات غامضة أو مسكوت عنها فيما طرح الراحل، وهو غموض في رأينا له ضروراته الموضوعية، ‏وإن كان الشيخ واعياً بذلك متفادياً التوغل فيه بحكم موقعه الإداري والسياسي في الدولة وبحكم علاقاته ومسؤولياته. لكنه يبقى قابلاً للتفكير أو إعادة التفكير فيه، ما يعني أننا لسنا دائماً أمام رؤية موضوعية، مهما بدا عمقها ومتانتها. ومن ذلك نظرته إلى التاريخ السياسي العربي والإسلامي على أنه تاريخ مقاطعة، نازعاً عنه صفة الخيانة والتآمر <<وعملياً أنا لا ألقى الله بتخوين أحد>> (18) . هذا وإن كان ينم عن جرأة في الرأي، إلا أننا لا يمكننا أننجعل التاريخ السياسي العربي والإسلامي خالياً من عنصر المؤامرة كما ليس معقولاً أن يكون تاريخاً تآمرياً مطلقاً. لكننا نثمن رؤيته للأمة باعتباره في مقام المركز وباعتبار أن النص الشرعي نفسه يتحدث عن مظاهر السلطة ويصفها بالأمة. لا نقول أن سماحة الشيخ الراحل، قدم دستوراً تفصيلياً شافياً، لكنه دعا ـ رحمه الله ـ إلى إنجاز ذلك ضمن رؤية وفكر سياسي لائق في عصر استبد فيه أهل السياسة بالسياسة، وتغولت فيه الدولة وطغت فيه لغة الشعار.. فكان الإسلام هو المتهم!

المصادر
(1) ابن أبي الحديد، شرح النهج، بتوسط الشيخ شمس الدين: في الاجتماع السياسي الإسلامي، ص75ـ76، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ط1ـ 1412هـ‏ـ 1992م‏ـ بيروت.
(2) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، الأمة والدولة والحركة الإسلامية، ص42، منشورات الغدير، المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ـ ط1ـ1414هـ/1994م، بيروت.
(3) المصدر السابق. ص43ـ45ـ47.
(4) المصدر نفسه. ص42ـ43.
(5) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، في الاجتماع السياسي الإسلامي، ص65ـ69.
(6) الأمة والدولة والحركة الإسلامية، ص21.
(7) المصدر نفسه. ص22ـ23.
(8) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، حوار حول الشورى والديمقراطية، مجلة منبر الحوار بيروت، ص12 ـ السنة التاسعة، العدد 34، خريف 1994م.
(9) المصدر نفسه. ص12ـ13.
(10) المصدر نفسه. ص14.
(11) في الاجتماع السياسي الإسلامي. ص107.
(12) حوار حور الشورى والديمقراطية، المصدر السابق، ص19.
(13) الأمة والدولة والحركة الإسلامية، ص37.
(14) الشيخ محمد مهدي شمس الدين، التطبيع، في ضرورات الأنظمة وخيارات الأمة، ص18، مركز أفق للصحافة والعلاقات العامة، بيروت (بلا تاريخ).
(15) المصدر نفسه. ص23.
(16) المصدر نفسه. ص35.
(17) الأمة والدولة والحركة الإسلامية. ص175.
(18) التطبيع، ص23.