شعار الموقع

ثقوب في الوعي العربي ـ الإسلامي

محمد محفوظ 2004-10-15
عدد القراءات « 629 »
قراءة في الواقع وآفاق المعالجة

العلاقة مع الواقع:

من الظواهر الثابتة واللازمة لكل وجود إنساني (على المستوى الفردي والجمعي) ظاهرة وجود التطلعات والأمنيات حيث يتفق غالبية البشر على هذه المسألة.. فلا يوجد كائن انساني، لا يحمل تطلعاً ما، أو يحدث نفسه بأمنية ما، إلا أن البشر يختلفون في طريقة تحقيق الأمنيات وإنجاز التطلعات فلا يكفي أن يحمل المرء تطلعاً لأن هذا قاسم مشترك بين البشر الأسوياء جميعاً.
ولكن ثمة خلل عميق قد يصيب الانسان في هذه القضية، إذ كثير من الناس تختلط لديهم الأماني والتطلعات بالإمكانات والقدرات المتوفرة، لأن العمل والسعي الحثيث هو القنطرة الوحيدة لنقل التطلع من عالم التجريد إلى عالم التشخيص، ويجانب الصواب من يعتقد أن أحقية تطلعه، وأهمية أمنيته كافية لتحقيق ما يصبو إليه في الواقع الخارجي، والأنكى من ذلك حينما تكون تطلعات الانسان بعيدة المنال، مطلقة بحيث أن امكاناته وقدراته الذاتية، لا تتمكن من إنجاز تطلعاته وآماله، من هنا تنبع أهمية الموازنة بين التطلع والإمكانات، بين الواجب والواقع، بين ما ينبغي أن يكون وما هو كائن، لأن هذه الموازنة، هي التي توظف الإمكانات القليلة في سبيل تحقيق التطلع الأهم والمجدي.
ولعلنا حينما ندرس تجربة الانسان في الحياة، نجد أحد الثقوب الأساسية التي تحول بين الانسان وإنجاز تطلعه، هو حالة الخلل الموجودة بين الممكن والواجب، التطلع والإمكانات. إذ تختلط الأمور في ذهن الانسان، فيقوم في بعض الأحيان بأعمال وأنشطة ومشاريع لا تنسجم وظروفه الواقعية، بل تتناغم وتطلعه المتعالي على الزمان والمكان.
فالتاجر الذي يدخل في صفقة تجارية رفيعة المستوى، وأكبر من حجمه الواقعي، لاشك أنه يعرض نفسه وتجارته للخطر والخسارة، لأنه دخل في مغامرة ليست محسوبة النتائج.
إننا في هذا المجال، لا ندعو إلى أن يتخلى الانسان عن تطلعاته وأمانيه، لأنها ضرورة من ضرورات الوجود الانساني، لكننا ندعو الانسان عملياً وفعلياً، للعمل والتخطيط والدخول في الصفقات، وبناء المشاريع، وأن يوسع أنشطته وفق امكاناته وقدراته. لأن الانسان مهما أوتي من قوة، فإنه لن يستطيع أ، يحقق تطلعاته دفعة واحدة، وإنما عليه أن يعمل ويسعى لتحقيق خطوات وإنجازات ومكاسب، تقربه من تطلعه البعيد. وعلى هدى هذه الحقيقة تتأكد مسألة الموازنة بين الممكن والواجب في حياة الانسان بل إننا نعتبر هذه الموازنة هي الشرط الأساسي لنجاح الانسان في كل الحقول والمجالات.
ولاشك أن اختلاط الأمنيات بالإمكانات،ýوالمفروض بالواقع يأخذ عدة مظاهر في حياة الانسان أهمها مايلي:
الرفض المطلق للواقع: دائماً الأمنية والتطلع يشكلان الحد الأقصى لما يصبو إليه الانسان، لذلك فهما المعادل الموضوعي للمثالية المتعالية على الزمان والمكان. لذلك فحينما تختلط أماني الانسان بإمكاناته تتحكم الأمنية على ذهن الانسان، فتؤسس وضعاً نفسياً، يقوم على الرفض المطلق للواقع الذي يعشه، لأن ما يتمناه يعتبر مطلقاً ومتعالياً عن الظروف، وما يعيشه نسبياً وخاضعاً لظروف الزمان والمكان، لذلك من الضروري ايجاد حالة واعية من التوازن بين المثالية والواقعية، ولا نقصد بالأخيرة القبول بالواقع بعلاته ومشاكله، والخضوع له على ما فيه من هبوط وتخلف وانحطاط، وإنما نعني بالموازنة بين الواقعية والمثالية: مراعاة الظروف، وأخذ الزمان والمكان طرفاً في عملية التفكير والتخطيط والتنفيذ.
وعلى هدى هذا المعنى نزل القرآن الحكيم منجماً (بالتدريج). والدين الاسلامي في كل توجيهاته الفكرية وتعليماته الأخلاقية، وتشريعاته القانونية، يأخذ بعين الاعتبار واقع الحياة والانسان، وهذا لا يعني إخضاع المثال والقيم للواقع وإنما يعني العمل على رفع سيئات الواقع، وإحلال حسنات المثال والقيم بشكل تدريجي، لا يفاجىء الناس، ولا يعطل مسيرة المجتمع، ولا يقضي على عاداتهم وتقاليدهم دفعة واحدة وينبغي التأكيد في هذا المجال على: أن ربانية وإلهية النص القرآني، لا تنفي واقعية محتواه ومضمونه، ولا تنفي انتماءه إلى الوجود الثقافي والاجتماعي الاسلامي، بمعنى أن خطابه خطاب واقعي، لما يتضمنه من حلول لمشاكل واقعه. فهو ليس خيالاً ملائكياً، وإنما هو خطاب يستجيب للواقع لتقويمه، وتصحيح الإعوجاج الموجود فيه.
استعجال النتائج: إن من اختلاط الواجب بالممكن، يجعل عامل الزمن يغيب من حياتنا، لدرجة أننا نستعجل النتائج... بينما الشيء الطبيعي هو ربط نتائج أعمالنا بزمن.. لأن استواء الحقيقة ونضجها والوصول إلى النتيجة الفعلية لمجموعة الأعمال التي تقوم بها، بحاجة إلى زمن ووقت، ولهذا نجد غيرنا قديراً على ربط نتائج عمله بزمن طويل. ففي أول مؤتمر صهيوني (1897م) قال هرتزل: إن اسرائيل ستقوم بعد خمسين سنة، فعمل وكافح اليهود من أجل تحقيق هذا الوعد وتحقق لهم ما أرادوا عام (1948م) وقد أشار القرآن الحكيم إلى عامل الزمن، وعدم استعجال النتائج وضرورة ربط نتائج الأعمال بالبعد الزمني، يقول تبارك وتعالى: {إن من يتق ويصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين} (1) . فمعنى الصبر هو أن الأمر والقضية، تحتاج إلى زمن، واستعجال الزمن من الأخطاء التي تحول دون تحقيق النتيجة المرجوة، كما أن مراعاة الزمن والوقت من العوامل الأساسية لنجاح الخطط، كما أن غيابه، قد يكون سبباً أساسياً لفشل الخطة.
لهذا فإن علماء النفس يولون عناية خاصة للزمن ويعتبرونه جزءاً من العلاج. فلا يكفي حماس الانسان حتى تنجح خطته، وإنما لابد من توفر جملة من العوامل لنجاح الخطة. إحداها أن يكون تنفيذ الخطة في الزمان المناسب، ولعل الآية القرآنية التي تشير إلى أن الهزائم من عند أنفسنا تشير إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم إن الله على كل شيء قدير} (2) .
سيطرة العاطفة: العاطفة والحماسة من الأمور الضرورية، التي ينبغي توفرها في الانسان، الذي يحمل تطلعاً عالياً وهدفاً بعيداً. إلا أنها بحاجة إلى عقل ثاقب ونظر دقيق، حتى يتمكن من الاستفادة من هذه العاطفة الجياشة، بما يخدم الأهداف والتطلعات.
إن التدرج في تطبيق القيم وتنفيذ المبادىء وإنجاز التطلعات، جزء من القانون الكوني العام، لهذا فإننا نرى أن الخطوة الأساسية التي تمكننا من معالجة هذه الإشكالية، وفض الاشتباك بين الطرفين (الممكن والواجب)، هو العمل على تحقيق الممكن والاعتقاد بأن تحقيق الممكن، ليس نهاية الطريق، وإنما هو خطوة تقربنا زماناً ومكاناً من الوصول إلى التطلع البعيد، فالتاجر لا يستطيع أن يحقق تطلعاته التجارية دفعة واحدة، وإنما هو يبدأ بالممكن والمتاح لديه، فنجاحه وتمكنه في متجره الصغير، هو الخطوة الأولى لإنجاز التطلع البعيد. من هنا قيل أن قطع طريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة. كما أن مياه البحر عبارة عن قطرات تتجمع مع غيرها من القطرات، فتحقق بحراً عظيماً. وهذا القانون ليس مرتبطاً بالتطلعات الفردية فحسب، بل يشمل التطلعات الجمعية العامة، فالإنسان الفرد والمجتمع، لا يستطيع أن يحقق تطلعاته وأهدافه بالمبادىء والقيم العامة بوحدها. وإنما من الضروري إستنباط البرامج والخطط المرحلية من تلك المبادىء بما ينسجم وظروف الواقع واللحظة الراهنة. وإن المرء الذي يعجز عن توليد البرامج وإستنباتها في السياق الاجتماعي الطبيعي، لن يتمكن من تحقيق تطلعه والوصول إلى مطامحه.

المسلم بين الحق والواجب

يشكل الوعي قفزة نوعية في حياة الانسان، باعتباره الشرط الضروري لتوفر الكثير من الإمكانات المعنوية والفكرية والمادية، وطرق التعاطي الحسن والإيجابي مع الكثير من الأمور والقضايا التي يحتاجها الانسان في هذا العصر.
لهذا فإنه كلما تعمق الوعي في حياة الانسان، يتقدم خطوات في سبر أغوار الكون وأسراره، وامتلاك المزيد من العلم والمعرفة.
الوعي الانساني لا يمتلك حدوداً معينة يقف عندها، فهو إذا لم يتقدم في آفاقه وحركته، فإنه لا يقف عند حدوده السابقة، وإنما يتأخر ويرجع خطوات إلى الوراء.. لأن الوعي عملية كسبية، والعمليات الكسبية في حياة الانسان تزدهر وتنمو برعاية الانسان لها واستمراره عليها والتشبث بأسباب بقائها، كما أنها تتأخر إلى الوراء إذا أهملها الانسان، ولم يتمسك بأسباب نموها وازدهارها.
وأن واجبات الانسان في هذه الحياة في هذه الحياة وحقوقه متلازمة، بمعنى أنه كلما التزم الانسان بواجباته وأدى إلتزامه، بذات القدر حصل على حقوقه «والحصول هذا لا يعني الفورية في التحقق وإنما لعامل الزمن أهميته الخاصة في هذا المجال».
لهذا فإن من الحقائق الثابتة، أن الحق والواجب عنصران متكاملان في الدائرة الانسانية، وعلى صلة لصيقة بشخص الانسان، حيث أن كمال إنسانيته ونقصانها مرهونان بقدر تمتعه بحقوقه، وإلتزامه بواجباته، فإذا كانت المعادلة بين (الحق والواجب) مكتملة العناصر والأبعاد، فإن إنسانيته كاملة «بمعنى أنه يعيش وضعاً إنسانياً متقدماً على المستوى المادي والروحي». وكلما تعددت مواقع الخلل في هذه المعادلة، كان الانتقاص من انسانيته بنفس ذلك القدر.
وانطلاقاً من هذه الحقيقة فقد حظي الانسان باهتمام خاص ورعاية نوعية من قبل الدين الاسلامي، حيث حفل القرآن الكريم بذكر كلمة الانسان، التي وردت في القرآن (63) مرة وذكر بألفاظ أخرى من قبيل (بني آدم) ست مرات، وكلمة الناس تكررت (240) مرة، بل افتتح الوحي الإلهي خطابه إلى البشر عن طريق رسول الله ـ ص ـ بدعوة، الانسان إلى التعلم والقراءة، باعتبارهما نقطة الانطلاق والرافد الأساسي وحجر الأساس ومفتاح الرقي الانساني.. قال تعالى: {إقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الانسان من علق، إقرأ وربك الأكرم، الذي علم بالقلم، علم الانسان ما لم يعلم} (3) .
ولهذا اعتبر الإسلام أن الاعتداء على نفس واحدة اعتداء على الانسانية كلها، كما أن إنقاذ نفس إنقاذ للانسانية جمعاء.. {من أجل ذلك كتبنا على بني اسرائيل أنه من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعاً‏ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعاً} (4) .
فإن تنظيم معادلة الحق والواجب في الدائرة الشخصية، يتم في إطار المصلحة الاجتماعية العامة.. حيث أن هذه المعادلة في الدائرة الفردية ليست مطلقة، وإنما هي مقيدة بالبعد الاجتماعي والانساني لعنصري الحق والواجب، بمعنى أن واجبات الآخرين وحقوقهم تشكل عنصراً أساسياً في الحقوق والواجبات في الدائرة الفردية لهذا فإننا نرفض ما ذهب إليه دعاة (الفردية) من أن حق الفرد غاية في ذاته، ونقر بأن الحقوق الشخصية تطبق في إطار الحقوق الانسانية العامة.. وأي تصرف أو عمل فردي يضر بأي حق اجتماعي أو انساني آخر، يجمد الحق الشخصي، ويفتح المجال لتطبيق الحق الاجتماعي العام.
كما أن الواجبات الشخصية، ينبغي أن تتوجه إلى خدمة المصلحة العامة أيضاً، كما تخدم المصلحة الخاصة، وإذا تعارضت المصلحتان، قدمت العامة على الخاصة.
فالموظف الذي يلتزم بواجبه الشخصي، فإنه يحقق لنفسه رغبتها في الحصول على المال والرزق، كما أنه يحقق مصلحة عامة في إنهاء معاملات المراجعين، وإذا تعارض الواجب الشخصي الذي يقوم به الموظف مع المصلحة العامة، فإنه ملزم قانوناً بتقديم المصلحة العامة على الخاصة. فالموظف الذي يخاف الإرهاق والتعب فيؤخر معاملات الناس ومراجعاتهم حفاظاً على راحته ومصلحته الخاصة، فإننا لا نقبل كلامه، ونحثه على التعب والالتزام بالواجب الشخصي في سبيل المصلحة العامة.. ويشير إلى هذه الحقيقة الشيخ محمد أبو زهرة بقوله: (وأنه كما اشتدت الحاجة، عظم حق الناس في الأموال المملوكة، وضيقت حرية التصرف والانتفاع وحرية المنع والامتناع، وأن الحقوق مهما تكن شخصية، لا يمكن أن تكون منفصلة انفصالاً كاملاً عن حقوق الناس ـ المجتمع ـ).
وهنا ينبغي التذكير بمسألة أساسية وهي: أن المصالح الفردية الشخصية، لا يمكن أن تتحقق بعيداً عن الوسط الاجتماعي، باعتبار أن الانسان كائن حيوي اجتماعي بطبعه، لذلك لابد من تقديم المصالح الاجتماعية العامة، على المصلحة الشخصية حين التعارض والتناقض.. لأن الفرد لا يمكنه أن يتمتع بمصالحه الشخصية بدون وسط اجتماعي سليم بمعنى أن للمجتمع شخصية معنوية (اعتبارية) لا تتحقق إلا بأن يؤدي كل فرد ينتمي إلى هذا المجتمع وظيفة اجتماعية وتتشكل من خلال هذه المسألة الشخصية الإجتماعية العامة التي قوامها جهود الانسان الفرد في هذا المجتمع.. من هنا فإننا نستطيع القول أن التزام الإنسان بواجبه هو عبارة عن تحقيق حقوق البعض الآخر من الناس، فلو أن الموظف في إدارته التزم بواجبه الوظيفي بشكل جيد فإنه سيحقق ويوفر حقوق المواطنين المراجعين، كما أن الاستاذ في المدرسة حينما يلتزم بواجبه في شرح الدرس وتنمية مواهب الطلبة العالمية والمدرسية فإن التزامه هذا سيوفر حقوق الطلبة في الدرس والتحصيل العلمي.
كما أن العامل في المعمل والمصنع حينما يلتزم بواجبه العملي والوظيفي في الاهتمام بالجودة والتقنية المادية أو السلعة التي ينتجها، فإنه سيوفر حقوق المستهلك فيما يرتبط بالمواد التي يستهلكها.
وهكذا نجد أن الواجبات والحقوق متلازمة مع بعضها البعض بحيث لو كان الواحد منا التزم بواجبه وأدى وظيفته وأعماله على أكل وجه لتحققت حقوق الآخرين.. لهذا فإننا نقول أن الالتزام بالواجب، هو الطريق السريع لتحقيق الحقوق وتوفير المتطلبات.
وفي إطار تلازم الحق بالواجب نؤكد على مسألتين أساسيتين وهما:
1) إبدأ بنفسك، ولا تنتظر من الآخرين أن يلتزموا بواجبهم، بمعنى أن الكثير من الناس يتخلون عن الالتزام بواجباتهم تحت عنوان وتبرير أن الآخرين لا يلتزمون بذلك وهكذا يتخلى الجميع عن الالتزام بواجبهم تحت عنوان وتبرير أن الآخرين لا يلتزمون بذلك، وهكذا يتخلى الجميع عن الالتزام بواجباتهم، فتضيع حقوق الجميع.. لهذا فإن الحل الفعال، هو أن يبدأ كل واحد منا بالالتزام، ويشجع غيره على ذلك، فالقاعدة الذهبية لتحقيق معادلة الحق والواجب في الحياة العربية، هي أن يبدأ كل من موقع عمله بالالتزام بمسؤولياته وأعماله.
2) إن التطور الاجتماعي مرهون بقدرة أبناء المجتمع على تحقيق هذه المعادلة في الحركة الاجتماعية، إذ أن توازن العلاقة بين الحق والواجب، هو الذي يهيء الأرضية المناسبة للإقلاع الحضاري من قبل أبناء المجتمع.
لهذا فإن تحقيق هذه المعادلة ليس مسألة فردية محضة، وإنما هي مرتبطة بأبناء المجتمع بمختلف قطاعاته وشرائحه. فإذا لم تكن العلاقة متزنة بين واجب الشريحة الاقتصادية الميسورة وحقوقها، فإنها لن تشارك بفعالية في البناء الاقتصادي والاجتماعي، كما أنه إذا لم تكن العلاقة متزنة بين حقوق الشريحة المثقفة وواجباتها، فإنها لن تشارك بإمكاناتها المعرفية والاجتماعية في البناء والتطور.. وهكذا بقية الشرائح والقطاعات، فتحقيق مفهوم العدل بين الواجب والحق عملية تاريخية تعتمد على الوعي الجمعي وحالات التضامن والتكاتف الاجتماعي، لهذا فهي قاعدة التقدم ومنطلق التطور، والسبيل الأفضل للمشاركة الجمعية في البناء والعمران الحضاري.

المسلم بين التقليد والتبعية

حينما يتفاعل الانسان مع قيم الخير والعمل، ويسعى في قضاء حوائجه، معتمداً على ذاته وإمكاناته ومن ثم ينطلق في رحاب البناء والاعتماد على نفسه وقدراتها، في عمله وبناء مستقبله.
أما حينما يُوجد الانسان لنفسه حاجزاً نفسياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، يحول بينه وبين تلك القيم صانعة الخير، ومحركة الانسان باتجاه الاعتماد على نفسه.. حينذاك يتحول هذا الانسان إلى كائن لا يأكل إلا من زرع الآخرين ولا يعمل ويبني إلا بعضلات الآخرين. وهكذا يصبح في أموره كلها معتمداً على غيره في تنفيذها والقيام بها، وما يصح على الانسان الفرد يصح على الانسان الجماعة.. فالمجتمع الذي يصنع لنفسه التبريرات والحواجز النفسية والعملية التي تحول دون تفاعله مع قيم الخير والعمل، يتحول إلى مجتمع استهلاكي.. أما المجتمع الذي يتفاعل مع تلك القيم ويتمثلها في سلوكه فإنه سيعمل ويسعى في سبيل توفير حاجاته ومتطلباته، وبذلك يتحول إلى مجتمع منتج.
من هنا فإن داء التقليد الأعمى الذي يصيب المجتمعات الانسانية هو وليد كسبهم وفعلهم الذاتي.. حيث أن التقليد هو عبارة عن عجز ذاتي، يمنع الاعتماد على الذات وممارسة دور الخلق الحضاري، وأمام هذا القصور الذاتي والنقص الابداعي، يبدأ الانسان باستثمار جهود غيره واقتناء منجزات الآخرين، كما أن التقليد الأعمى في إطاره العام، هو عبارة عن تأخر مستوى الوعي وتراجع درجة النضج العقلي والنفسي، بحيث ينتقل المرء من آفاق الابداع إلى حيز الاتباع، ومن مناخ المساءلة إلى مناخ التسليم حسب قول الدكتور (جابر عصفور) (5) .
فالتقليد هو عبارة عن حالة معرفية متوقفة عن النمو وتعتقد أن ما وصلت إليه من معارف وعلوم هي المستوى الأقصى للمعرفة والعلوم، فتتوقف عن النمو وتؤمن بأن ما تحمله من معرفة يشكل المعرفة المطلقة، التي تنفي نسبية المعرفة وإمكان الخطأ.
وبهذا تتكرس حالة من الجمود واليباس الفكري، بفعل الانغلاق والانحباس على الذات، انطلاقاً من وهم التميز المعرفي والتفوق الفكري.
والمسافة جد قصيرة بين التقليد بوصفه حالة معرفية ونفسية سائدة في محيطنا العام، والتبعية بوصفها علامة من علامات العجز الذاتي والتوقف عن النمو العام. وأكاد أقول أن التقليد هو الوجه الآخر للتبعية فهما وجهات لعملة واحدة، لا ينفصل عنوانها الثقافي عن وجهها الاقتصادي والسياسي.
من هنا فإن الاعتماد على الذات والاستقلال أو التبعية والتقليد الأعمى للآخرين. يبدأ بالفكر والثقافة قبل الاقتصاد والسياسة إذ أن الفكر المستقل سيصنع اقتصاد مستقلاً يعتمد على واقعه الموضوعي وخصوصياته الذاتية. كما أن الفكر التابع أو الثقافة المهزومة مهما أوتيت من إمكانات مادية هائلة لن تخرج عن اطار التبعية الاقتصادية ونقل النظريات الجاهزة وتطبيقها في تربة ليست تربتها.
فالمسافة بين التقليد والتبعية هي المسافة بين السبب ونتيجته، لأن التبعية تنبثق ابتداء كحالة وسلوك في حياة الانسان الفرد والجماعة حينما لا تتمكن الأنا من الفعل الايجابي في الحياة على مختلف المستويات والصعد، وذلك بالمعنى الذي يصل التقليد والعجز الذاتي عن النمو والابداع بحالة التبعية والخضوع سواء لسلطة الماضي والتاريخ أو سلطة الحاضر بتطوراته العلمية الرهيبة ونظرياته المعرفية الهائلة.. وإذا كانت التبعية هي الاستجابة الطبيعية لكل من توقف عن النمو ودخل في نفق التقليد الأعمى. فإن التقهقر الحضاري والانحطاط الثقافي والاجتماعي، هو الناتج الطبيعي لكلا الأمرين سواء على المستوى الفردي أو الجمعي. «ويبدو أن الحاضر الذي نعيشه لا يمزقنا بين الآخر الذي نحيا حضوره في علاقة تبعية من ناحية وتراث الماضي الذي نستعيده في علاقة تقليد من ناحية ثانية فحسب، بل يجعل من علاقة التبعية للآخر علة لعلاقة التقليد للماضي والعكس صحيح بالقدر نفسه. فالحضور التعويضي للتراث لا ينفصل عن الحضور المؤرق للآخر والآليات التي تحكم علاقات السلف بالخلف، فهذه هي تلك، في فعل الوجود الذي تغدو معه المعرفة نقلاً بغير دليل واتباعاً يلازم التسليم وتقليداً‏يرادف الإذعان، والذي تغدو معه هذه المعرفة تبريراً إيديولوجياً لمنطق التبعية وتعبيراً عن آليات التخلف في مختلف جوانبه العلمية والفكرية والاقتصادية والاجتماعية» (6) .
فجمود العقل ويباس الوجدان وتبلد الاحساس. لا يؤدي إلا إلى المزيد من التبعية.. لأن الجمود لا يصنع حركة، وتبلد الاحساس ويباس الوجدان لا يصنعان فعلاً وفاعلية باتجاه الاعتماد على الذات والتحرر من سطوة الحاجة للآخرين. لأن التبعية ليست مسألة مادية أو اقتصادية في بداية الأمر بل هي جمود عقلي، يحارب التجديد ويمنع الحركة الجدية الهادفة إلى تطوير الواقع. وإنهاء معوقاته، لهذا فإن المزيد من التقليد والجمود، يعني المزيد من التبعية والخضوع إلى شروط الآخرين ومتطلباتهم.
فالتبعية للخارج بجميع أشكالها وصورها هي حصيلة التقليد والجمود والوقوف عن النمو في الداخل. فالتبعية تتغذى باستمرار من الأمصال التي تمدها بها حالات الجمود في العقل والتقليد في التفكير التي يعانيها أي مجتمع.
ولم يسجل لنا التاريخ أن أمة من الأمم أو شعباً من الشعوب، خضع لمشروع التبعية والاستتباع الحضاري واستمر تحت هيمنة السيطرة، إلا على قاعدة تخلف عميق، وجمود شامل تعانيه تلك الأمة أو ذلك الشعب في ذاته وكيانه الداخلي.
وإن تقلص مستوى الحركة الذاتية وعمليات الدفع الطبيعية التي يوفرها النظام المعرفي الداخلي. هو الذي يؤسس الأرضية المناسبة لانتهاج نهج التقليد واتباع الآخرين (بوعي أو بدون وعي) في أفكارهم وأنماط معيشتهم وطرائق تفكيرهم.. وهكذا كلما تضخم مستوى التقليد كلما سقط الانسان في مهاوي التبعية والاعتماد على الآخرين في كل شيء، وبطبيعة الحال فإن الاعتماد على الآخرين لا يقف عند حد معين، بل يستمر ويستفحل لدرجة وصول الانسان إلى حد الإستلاب، وحينما يستلب عقل المرء ونمط تفكيره، يتحول إلى كائن استهلاكي لا هم له إلا إشباع بطنه وتقليد الآخرين في صرعاتهم وموضاتهم.
وبهذا يخرج هذا الانسان من الدورة الحقيقية للحياة، ويصبح ميت الأحياء لهذا فإن إنهاء الجمود والتحرر من عقلية التقليد الأعمى، وتجديد العقل والداخل في مختلف مجالاته، هو البداية الحقيقية للتخلص من مشروع الاستتباع الخارجي.
أما كيف نخرج من هذه الدوامة، فهو عبر (حضور الوعي) وتكثيف آلياته في حياة الانسان حتى تتأسس الشروط الملازمة للانطلاق في رحاب الوعي وآفاقه، بعيداً عن أطر التقليد الضيقة أو خيارات التبعية المذلة، ذلك الوعي الذي ينهي كل مفردات التقليد الأعمى من حياة الانسان، فتصبح ذاته ذاتاً عارفة متحركة باستمرا نحو الآفاق المعرفية المرجوة.
هذا الوعي بآفاقه المعرفية، الذي يعيد صياغة حياة الانسان وفق منظومة جديدة تنقل المرء من واقع التقليد والتبعية إلى آفاق الابداع والاستقلال.
إن الوعي وحضور بنوده ومفرداته في حياة الانسان، هي المهاد الفكري الضروري للانعتاق من قيود التقليد وأغلال التبعية، والانطلاق في آفاق نوعية إلى الأمام.

التاريخ بين الوعي والحاجة

مع نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، أطلق نيتشه صرخته المعروفة ضد التاريخ والمؤرخين.. محاولاً إضعاف هيمنة العلم التاريخي والفيلولوجي على كل مظاهر الحياة في ألمانيا وعموم أوروبا.
وأنذاك كان العلم الأوروبي بمختلف مدارسه ومشاربه قد انخرط في عملية استشكاف تاريخية لتراثه اليوناني ـ الروماني، ثم اللاتيني المسيحي.. وانطلاقاً من الظرفية التاريخية التي كان يعيش تحت تأثيرها نتيشه، نفهم أن صرخته كانت ضد الانغلاق في تفاصيل التفاصيل للتاريخ، دون الخروج بنتيجة أو نتائج محددة لتفسير حركة التاريخ، وقد أشار إلى هذه الحقيقة نفسه بقوله: من كثرة البحث عن الأصول، يصبح سرطاناً، ومن كثرة ما ينظر إلى الوراء، ينتهي به الأمر إلى الإيمان إلى الوراء أيضاً.. فالشيء الذي يرفضه نيتشه هو المعرفة المجانية، أو المعرفة من أجل المعرفة.
فالمعرفة ينبغي أن تثير الشهية للانخراط في الممارسة والعمل، ينبغي أن تكون قابلة للتطبيق وإعطاء الثمار.
لهذا فإن نيتشه يعيب على أولئك النفر الذين يقفون عند حدود المعرفة، دون سبر أغوارها، أو الخروج بنتائج مفيدة للحياة والوجود.. لهذا فإن التاريخ على مستوى العطاء الانساني، لا يشكل نهاية المطاف وقيمة الابداع الوحيدة وأكمل صورة من صور الحضارة والمدنية.. وإنما هو عبارة عن نتاج إنساني متواصل، لا يقف عند حدود معينة، وإنما هو عبارة عن سجل مفتوح، بإمكان الفرد بجهوده واجتهاده أن يسطر في هذا السجل أورع الأمثلة والنماذج في العطاء الانساني اللامحدود.
فالتاريخ يمكن أن يدفع ويساعد إذا نظرنا إليه نظرة موضوعية بعيدة عن التهويل والتهوين وأكدنا على الجوانب الايجابية فيه واستخرجنا العناصر الحية منه لكي تستمر وتنمو، وإذا هضمناه هضماً جيداً دون أن نغفل عن نبض العصر وحاجياته.. من هنا فإننا ينبغي أن نبتعد عن عملية الاسقاطات التي تتم على مستوى التاريخ والثقافة، حتى لا نكون جزءاً من منظومة ثقافية ـ فكرية، لا تنتمي إلى بيئتنا وتربتنا الثقافية. فقد «أدخل الاستعمار كل ثقافته المضادة للكنيسة إلى المجتمعات العربية والاسلامية، وأدخل الآداب والفلسفات التي قضت هناك على الاقطاع والارستقراطية والكنيسة المستبدة والخرافات، وبدأ مفكرونا الذين كانوا مفتونين بهذه الثقافة الاستعمارية حركة النضال ضد الدين والقديم والتاريخ والتقاليد والعادات وأشكال الحياة، وهم يظنون أنهم يقومون بأدوار فولتير وديدور في المجتمعات العربية والاسلامية.. ورأينا نتيجة نضالهم في أن مجتمعنا الذي كانت له شخصيته، وكان يفكر بنفسه ويختار بنفسه صار جسداً مكوناً من عناصر متنافرة» (7) .
ولكن السؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: ما هي حاجتنا إلى التاريخ؟
حضور التاريخ:
بطبيعة الحال، لا يمكننا بأي شكل من الأشكال، أن نمارس القطيعة التامة مع تاريخنا لأنه ببساطة حاضر فينا.. لهذا فإننا نرى أن دعوات القطيعة مع التاريخ هي أقرب إلى الخيال منها إلى الواقع. ولكن وفي نفس الوقت من الخطأ الاستغراق في شؤون التاريخ والانحباس في أجوائه وأحداثه، لأن التاريخ كمجموعة من الأحداث قد انتهت وأصحابها انتقلوا إلى ربهم، ودورنا ليس الوقوف الجامد على تلك التجربة الانسانية، وإنما من الضروري أن نقرأ التاريخ وندرس التجارب الانسانية، لأخذ العبر واستخلاص الدروس وإنضاج الأفكار وتجاوز نقاط الضعف في التجارب الانسانية السابقة، لهذا فإننا بحاجة إلى تحديد موقف سليم من التاريخ، لأنه يشكل جزءاً أصيلاً من تفكيرنا وحاضرنا.
وفيما يرتبط بنا نحن الأمة العربية الاسلامية، يأخذ حضور التاريخ فينا بعداً دينياً مقدساً، حيث في هذا التاريخ، كانت التجربة الاسلامية الأولى، لهذا فإن فهم التاريخ ضرورة لفهم التشريع الاسلامي.
والحاجة إلى التاريخ بالنسبة لنا تتعدى الحاجة الفلكلورية والاستئناس بالماضي، وتصل إلى أن التاريخ هو الوعاء الذي احتضن القيم التي نقدسها، فنحن نحتاج إلى التاريخ، كلما تذكرنا القيم الخالدة التي صنعت تاريخنا المجيد وحولته من تاريخ مليء بالصراعات الجاهلية والقبلية، إلى تاريخ مليء بالبطولات والتضحيات والقيم الحضارية.
اكتشاف التاريخ ضرورة للنهوض:
إننا سنتعامل مع التاريخ شئنا ذلك أم أبينا، لذلك وبدل أن يكون تعاملنا معه نابعاً من حالة نفسية مهزومة تهرب إلى كهف التاريخ لكي تبرز فشلها وتقاعسها في الحاضر، من الضروري أن تحدد منهجية سليمة للتعامل مع التاريخ تحول التاريخ بالنسبة لنا إلى قوة دافعة لتطوير الحاضر، وتؤكد المسؤولية الذاتية في التقدم والنهوض.
لهذا فإن اكتشاف التاريخ بمنهجية واعية ـ متحركة يعد بوابة أساسية لعملية النهوض.. والاكتشاف هنا لا يعني أن نعرف اليوم التي وقعت فيه الحادثة الفلانية، أو الموقع الذي نشبت فيه هذه المعركة أو تلك..ýإن الاكتشاف يتعدى هذا الفهم المكاني إلى الأحداث، ويصل إلى دلالات الأحداث والعبر المستوحاة منها والقيم الدافعة والصانعة لتلك الأحداث بشقيها السلبي والإيجابي.. فالاكتشاف يعني معرفة العوامل الحقيقية والفعلية للأحداث الكبرى التي حدثت في التاريخ وإدراك طبيعة الروح التي كانت تسير الأمور وتوجهها في أي اتجاه.
فحتى لا نكون بكراً على المستوى العقلي والانساني، نحن بحاجة إلى التاريخ، كتجربة إنسانية طويلة مليئة بالدروس والعبر ومشحونة بالدلالات والرموز المعرفية والانسانية.


تعميق الوعي التاريخي:

إن التاريخ الانساني، يشكل سلسلة مترابطة الحلقات وسياق متواصل منذ فجر التاريخ وإلى الآن.. لذلك فإن التعاطي مع التاريخ باعتباره مجموعة من القصص المتفرقة أو الأحداث المنفصلة والغريبة عن بعضها لا تؤدي إلى الفهم السليم لهذا التاريخ.
بينما التعامل مع التاريخ كوحدة إنسانية مترابطة ومتواصلة عبر الزمن يعمق في نفوسنا وعقولنا الوعي التاريخي الذي يزيل الالتباسات ويقضي على ما يمكن تسميته بالوعي الطفولي للتاريخ. فالحاجة إلى التاريخ هي حاجة إلى تعميق الوعي التاريخي في عقولنا باعتباره شرطاً ضرورياً للنمو والتقدم.
وعلى المستوى الحضاري، لم يصل مجتمع من المجتمعات إلى ذروته الحضارية، أو قمته المدنية، إلا بعد أن أحسن علاقته بتاريخه، ودائماً كان حسن العلاقة مع التاريخ الشرط الضروري للانطلاقة الحضارية.
فحينما بدأت الهجرة الأوروبية إلى العالم الجديد (الولايات المتحدة الأمريكية)، لم يتركوا تاريخهم وراء ظهورهم، وإنما حملوا معهم تراثهم وتاريخهم وتقاليدهم وأعرافهم وانتصروا على مستوى الفكر والثقافة والأنماط الحضارية للنمط الأنكلوسكسوني وانطلقوا منه وأضافوا عليه وتشكلت عليه بهذه الجهود الموجة الحضارية الجديدة في الولايات المتحدة الأمريكية.
فالحاجة إلى التاريخ تبقى ضرورية لأنه يتضمن ذاكرة الأمة التي لا يمكن الاستغناء عنها.. فالتاريخ بأحداثه وتجاربه لا ينتهي بمجرد زواله الوجودي وإنما يظل حياً في خبرة الأمة وذاكرتها. لأنه ظاهرة مركوزة في التكوين الداخلي للأمة، لا يمكن الفكاك منه.


الواقعية في التفكير

يبدو أن العلاقة الجدلية التي تربط الفكر بالواقع وتأثير كل منهما على الآخر ستستمر وستأخذ أبعاداً أخرى، مادامت الحياة الاجتماعية تنبض بالحيوية. فالواقع يثري الفكر ويضيف إليه أبعاداً جديدة، كما أن الفكر يؤثر في الواقع ويسعى عبر الأدوات العقلية والثقافية التأثير في الواقع وصياغته بما يتناغم والخطوط الكبرى للفكر.
وأمام هذا التأثير المتبادل بين الأفكار والوقائع ينبغي أن يكون هناك سعي نحو تنظيم هذا التأثير بحيث نبتعد في تفكيرنا وعملنا الفكري والنظري عن المجردات، دون أن نحبس أذهاننا في إطار الواقع الضيق لأن العقل البشري لا ينمو أو ينضج إلا في زحمة الاتصال الاجتماعي، وفي ذات الوقت نعمل على ترجمة أفكارنا إلى وقائع وتحويل مفاهيمنا المجردة إلى قيم متجسدة في حركتنا الفردية والاجتماعية.
وتاريخ الفكر الإنساني عبر أطواره المختلفة هو محاولة بشكل أو بآخر لترتيب هذه العلاقة وتنظيم مفاعيلها ومتوالياتها، بحيث تتوفر القنوات الطبيعية لتأثير الفكر على الواقع، وذلك عبر وسائط بشرية وأدوات ثقافية واجتماعية مختلفة.
وفي ذات الوقت، الواقع بوقائعه وأحداثه وتطوراته وصراعيته، يغذي الفكر ويثريه بأبعاد جديدة، وأن أي محاولة انسانية لابعاد الفكر تحت مبررات طوباوية أو صوفية لا تجدي نفعاً ولا تتمكن من حبس الفكر عن محيطه الطبيعي، كما أن أي محاولة لفصل الواقع ومنع تأثير الفكر في حركته لا تؤدي إلا إلى اكتشاف ضرورة الفكر في حركة الواقع من أجل تقويمه وتطويره.
ولقد حاول بعض الطوباويين في الولايات المتحدة الأمريكية أن يؤلفوا من أنفسهم مجتمعاً هادئاً بعيداً عن تكالب الحياة، وقد نجحوا في ذلك الأمر لكنهم سئموا منه أخيراً وهربوا منه، يقول (وليم جيمس) بعدما عاش بينهم بضعة أيام، «أصبحت أشتهي أن أسمع طلقة مسدس أو ألمح لمعان خنجر أو أنظر إلى وجه شيطان».
ونحن هنا لا ندعو إلى وقف الحركة الاجتماعية والمحافظة على التقاليد البالية والأعراف السيئة، وإنما ندعو إلى الواقعية في التفكير بحكم العلاقة الجدلية الثابتة التي تحكم علاقة الفكر بالواقع، ويضرب علماء الاجتماع مثالاً واقعياً على هذه العلاقة الجدلية حيث عثر أحد الرعاة عام 1927م على طفل بشري في عرين الذئاب بالقرب من مدينة «الله أباد» في الهند وكان الطفل يبلغ من العمر عشر سنوات تقريباً، وقد توصل الباحثون إلى حقائق مدهشة في شأن هذا الطفل إذ وجدوا أنه يسلك سلوك الذئاب، فهو ينبح مثلهم، ويأكل الحشيش، ويمشي على أربع وقد يهاجم البشر فيعضهم أو يعض نفسه وتنتابه أحياناً نوبات من التوحش الشديد، وحين نقلوه إلى إحدى الملاجئ العقلية، هاجم الشرطة الذين كانوا يحرسونه عدة مرات.
فالواقع الذي عاشه هذا الطفل في الغابة أثر عليه تأثيراً مباشراً بحيث تحول نمط حياته إلى نمط حيواني.
فالواقعية في التفكير هي وليدة إدراك العلاقة الجدلية بين الفكر والواقع.


والواقعية في التفكير تعني:

ـ تهيئة الأرضية الاجتماعية إلى المتغيرات والتطورات أو التطلعات العالمية والأفكار البعيدة.
ـ عدم الاتكاء أثناء عملية التفكير والتخطيط على الطوباويات والمثاليات، وهذا لا يعني أن الانسان لا يحمل أفكارً بعيدة، أو تطلعات مثالية، حيث أن الحلم ضرورة والتطلع جبلة إنسانية، ولكن حين التفكير للعمل والتخطيط للسعي ينبغي أن نبحث في أمور ممكنة وواقعية أي أن الظروف مواتية للوصول إليها. فالواقعية تعني: البحث في الأساليب الممكنة والمتاحة والعمل على قاعدة هذه الأساليب دون وأد التطلعات الانسانية.
ـ إن الواقعية التي ندعو إليها لا تعني البراغماتية والنفعية والانتهازية، وإنما ندعو إلى التفكير الذي يأخذ الواقع بمكوناته وإشكالياته طرفاً في عملية التفكير. فالواقعية هي فهم الواقع لا الاستسلام أمام مشاكله وتحدياته، وإنما الوصول إلى العوامل المناسبة لتغييره وتطويره، فهي لا تعني الانهزام النفسي أو الرضوخ السيء لمؤثراتها، وإنما تعني إدراك الواقع بكل تفاصيله وإشكالياته، كما هو لا لندب الحظ، وإنما للوصول إلى الطريقة المناسبة لتغييره.
كيف نحقق الواقعية في التفكير؟
ولكن السؤال الذي يطرح في هذا المجال هو: كيف نحقق هذه الواقعية في تفكيرنا بحيث تتحول إلى جزء أساسي في نمط التفكير والتخطيط.
والجواب هو:
إن الانعزال عن الواقع والتقوقع في الدوائر الضيقة والخاصة، كلاهما يؤدي إلى رتابة فكرية ورؤية إدارية، تنظر إلى الأمور والقضايا إما أسود أو أبيض، وبالتالي تتعاظم الحواجز النفسية والذهنية التي تحول دون معرفة الواقع، ومن ثم التواصل والتفاعل معه، فيؤدي إلى غبش في الرؤية وضبابية في المفاهيم والمعايير.
وكل هذه الأمور تؤدي إلى احدى حالتين: إما طوباوية حالمة لا ترى إلا ما ينبغي أن يكون، وكأن الطموحات الانسانية تتحقق صدفة أو بدون جهد، أو حالة من اليأس القاتل الذي لا يرى من الواقع إلا النقاط السوداء وفي كلتا الحالتين تنعدم الواقعية في التفكير، ولهذا فإن تحقيق الواقعية في التفكير مرهون بالتواصل الفعال (دون اللهاث العفوي) مع الواقع.
والتواصل يعني:
ـ التواصل مع الواقع على قاعدة من الوعي والحصيلة الفكرية التي تؤهل الانسان لبيان رأيه وموقفه تجاه الواقع وأحداثه.
ـ إن التواصل لا يعني الاكتفاء بملاحقة أحداث الواقع ومتابعة قضاياه وإنما تتضمن المساهمة والمشاركة في صنعه.
ـ القصدية والتخطيط والبعد عن ردود الأفعال المرتجلة التي لا تنم عن تفكير وتخطيط مسبق.
ـ الشهود والحضور والرؤية الشمولية للواقع دون العناية فقط بحقل خاص من حقول الواقع من زاوية واحدة فقط.
هذه المفردات جميعاً تشكل مفهوم التواصل مع الواقع، وحين تتعمق هذه المفردات والعناصر في حياة الانسان، تتجلى قيمة الواقعية في تفكيره، فهي معيار دقيق يمنع التهوين والتهويل تجاه الواقع وقضاياه.

الوعي الاجتماعي.. والفكر النقدي

يعتقد الكثير من الناس أن الوعي الاجتماعي، هو مجرد نصوص لفظية أو شعارات يلوكها لسان الانسان، وامتلاك القدرة على توصيف الواقع الاجتماعي بجملة من الكلمات والألفاظ البراقة، يعتبر واعياً اجتماعياً يضرب به المثال في هذا المجال، ولقد أضاع هذا الفهم ومتوالياته النفسية والاجتماعية والثقافية، الكثير من الفرص السانحة، التي كان بإمكان المجتمع العربي، لو كان يسوده وعي اجتماعي حقيقي، أن يغتنمها ويترجمها، إلى حقائق اجتماعية وثقافية تطور من واقعه، وتنهي الكثير من مشاكله وأزماته.
ومن جراء هذا الفهم المغلوط للوعي الاجتماعي، تحولت فرص النمو والانطلاق، في المجتمع العربي، إلى مهاوي تزيد من تعقيد المشكلة وتضيق لها أبعاداً أخرى.
وتظهر أعراض هذا الفهم المغلوط لمقولة الوعي الإجتماعي، في الكثير من الأعراض والمؤشرات والمسارات التي يسير على هديها المجتمع العربي. فهي أساليب التربية والتنشئة الاجتماعية، تسود قيم التلقين والتلقي والفردية القائمة على نفي حاجة الانسان إلى التعاون والتآلف مع الآخرين، لذلك ينشأ الواحد منّا وهو لا يفكر إلا في ذاته وفي حدودها الضيقة والآنية أيضاً.
وفي التنشئة الثقافية، تسود قيم الفرادة الموهومة ووهم امتلاك ناصية الحقيقة المطلقة وضرورة الاكتفاء بما عندنا من علم وثقافة، وكأن العلم والثقافة وصلا إلى حدودهما القصوى، وهي مخزنة في صندوق، وما علينا إذا أردنا العلم والثقافة إلا فتح الصندوق،ýودورنا ينحصر في استهلاك ذلك العلم المكتشف في ذلك الصندوق.
لذلك ومن جراء هذا التركيب المجتمعي القائم، على فهم مغلوط أو ناقص لمفهوم الوعي الاجتماعي، نخسر فرص النمو والتطور وتنقلب علينا بشكل سلبي وتتراكم في محيطنا عناوين ويافطات تبرر لنا هذا الواقع المعاش، وبدون الاستطراد في بيان الأعراض والآثار السيئة للفهم المغلوط لمقولة الوعي الاجتماعي، نحاول أن نوضح مقصودنا من هذه المقولة.
الوعي الاجتماعي هو عبارة عن جملة المفاهيم والأفكار والثقافات التي توجه حركة أفراد هذه المسألة ومتوالياتها المتعددة. لهذا يختلف الوعي الاجتماعي من مجتمع إلى آخر، باختلاف المفاهيم المهيمنة على المسار الاجتماعي، وطبيعة الفهم الانساني إلى تلك المفاهيم والحوافز القصوى التي تخلقها المفاهيم في حياة الناس، لذلك فإن الوعي الاجتماعي، هو وليد فهم الناس لتاريخهم وحاضرهم وقيمهم العليا، ونتائج التفاعل البشري مع الأطر النظرية المتاحة أو المتداولة.
وبهذا نستطيع أن نحدد مفهوم الوعي الاجتماعي بالعناصر التالية:
1) مجموع المفاهيم والقيم التداولة في حياة الناس ونظام التفاضل الموجود بينها.
2) تفسير الناس وفق ظروفهم ومستوياتهم المختلفة، لتلك المفاهيم والقيم.
3) تجربة الناس اليومية في الالتزام بهذه المفاهيم، ونظام علائقهم السائد في أوساطهم، وبينهم وبين الآخرين.
ووفق هذا المنظور، فإن الوعي الاجتماعي ليس مفهوماً ناجزاً ومكتملاً، وإنما هو دائم التحول والتطور من جراء تحولات المجتمع المختلفة، لذلك فإن بقاء الوعي الاجتماعي ثابتاً والواقع متحركاً ومتغيراً هو الذي يؤسس لفهم مغلوط ومشوه لمعنى الوعي الاجتماعي، من هنا فإن شرط الوعي الاجتماعي الفعال هو وجود فكر نقدي، يدعم هذا الوعي، ويرفده بالآفاق الجديدة، ويؤسس لحالات تحول اجتماعي متواصل بهدف الرقي والتقدم الاجتماعي، لهذا ينبغي أن لا نتشاءم أو ننظر بريبة وشك إلى كل الأفكار النقدية للعوائد والمسارات الاجتماعية وإنما من الأهمية بمكان أن نستوعب هذه الأفكار النقدية ونوفر لها الأطر الاجتماعية الطبيعية لكي تأخذ هذه الأفكار مسارها الطبيعي في التفاعل مع الواقع الاجتماعي وبهذا التفاعل تنضج الأفكار وتتبلور المسارات وتعم الحيوية الجسم الاجتماعي كله.
وتجارب المجتمعات ذات الوعي المتميز، تؤكد لنا أهمية حركة النقد وضرورتها القصوى في خلق الوعي الاجتماعي الجديد فلولا الأفكار النقدية، التي بثها فلاسفة التنوير في أوروبا وما أحدثته من وعي اجتماعي جديد لبقي الظلام والجمود سائداً في أوروبا فشيوع مفاهيم النقد البناء في المحيط الاجتماعي يبدد الجمود وينهي الرتابة ويبث الحيوية والحياة في أرجاء المجتمع ويزيد من مستوى المسؤولية العامة ويساهم في بلورة وإنضاج قوى اجتماعية جديدة، تأخذ على عاتقها دورها التجديد والتطوير في المحيط الاجتماعي.
وإن شيوع حالات الاضطراب والفوضى في بعض المجتمعات، ليس من جراء حركة النقط السائد وإنما هو في حقيقة الأمر من جراء غياب أطر الاستيعاب لأفكار النقد الجديدة أو من ردود الفعل السلبية وذات الطابع الارتجالي تجاه الأفكار الجديدة. أما المجتمع الذي يوجد لنفسه القنوات الطبيعية لاستيعاب أفكار أبنائه الجدية، فإنه سيتمكن من إضافة قوة جديدة إلى قوته وسيدخل دماء جديدة تنهي السكون وتحول دون تبلد وتكلس الحياة الاجتماعية.
لهذا فإننا نؤكد على ضرورة، توفر الأطر المناسبة لاستيعاب وامتصاص الأفكار الجديدة، والرؤى النقدية الهادفة إلى التطور واعادة صياغة وتشكيل الوعي الاجتماعي بما ينسجم ومتطلبات العصر وضرورات التقدم الاجتماعي.
ولابد أن لا نستعجل في إطلاق الأحكام واتخاذ المواقف، تجاه من اجتهد في سبيل تطوير وتجديد الوعي الاجتماعي. لأن التحليل العلمي النقدي للسائد اجتماعياً وثقافياً هو الذي يوفر الأرضية العقلية والنفسية لتجاوز البائد من ذلك السائد، وإنهاء ما فيه من أنماط بالية ولقد حاول الدكتور (هشام شرابي) في كتابه «البنية البطركية.. بحث في المجتمع العربي المعاصر» أن يوضح الصلة الضرورية بين الوعي الاجتماعي والفكر النقدي.
لهذا من الضروري أن نتعامل مع التحليلات النقدية لمسار المجتمعات العربية برؤية منفتحة ـ مستوعبة بعيدة كل البعد عن لغة النفي والتخوين ـ وإن النقد الهادف في أحد وجوهه الرئيسة، يشكل شرطاً ضرورياً لتحقيق التطور الاجتماعي المأمول.
فلا وعي اجتماعي متجدد، إلا بفكر نقدي، ولا فكر نقدي بناء، إلا بوجود أطر مجتمعية، تستوعب تلك الأفكار وتموجاتها. وهكذا يصبح الفكر النقدي شرطاً من شروط الوعي الاجتماعي الجديد، بمعنى أن وعي المجتمع بذاته وبالآخرين وبدوره التاريخي، لا ينجز إلا على قاعدة نقدية مستديمة، تسائل السائد، وتجعله على طاولة التشريح والتقويم. وضرورة الحفاظ على الوئام الاجتماعي، لا تعني بأي شكل من الأشكال قسر الجميع وإرغامهم على نمط اجتماعي محدد. وإنما تعني حيوية التنوعات وفاعليتها في إثراء مفهوم الوئام الاجتماعي، بأفكار ورؤى وآفاق جديدة.
وبالتالي فإن الاصرار على ايجاد مسافة تفصل الوعي الاجتماعي السائد، عن الفكر النقدي، يؤدي فيما يؤدي إليه، إلى شيوع حالة العجز التي تنتاب المجتمع تجاه مشاكله وتحدياته المصيرية.

فضيلة الموضوعية

القيم الكبرى يسعى الانسان دائماً إلى التشبث بأهدابها، حتى لو كان واقعه وكيانه نقيضاً جذرياً لتلك القيم الكبرى، إذ يسعى الجميع أفراداً وجماعات إلى التجلبب بجلباب تلك القيم لما توفره تلك القيم من شرعية وسمعة طيبة، ومن تلك القيم التي يسعى الناس جميعاً بمختلف طبقاتهم وشرائحهم وانتماءاتهم إلى التجلبب بها أو التمسك بأطرافها وإدعاء تمثيلها، قيمة الموضوعية، إذ أن الجميع يدعي أنه في سلوكه ومواقفه يجسد قيم الموضوعية، ويعتبر نفسه الأنموذج التطبيقي لها..
وحتى لا نتوه في المصاديق الخارجية التي تدعي جميعاً التمسك بكل عناصر الموضوعية في حركتها الشخصية والعامة، من الضروري أن نعرف مفهوم الموضوعية حتى نعتمد على هذا المفهوم كإطار نظري عند تقويماتنا للأمور والقضايا. وقد عرّف الموضوعية كتاب «المفاهيم والألفاظ في الفلسفة الحديثة» بأنها: حالة التصور الذهني وقد تثمل صياغة معينة تجعله في متناول إدراكات الآخرين. والموضوعي كمفهوم معرفي هي ضمان صحة كل علم، فهي التي تؤسس كل معرفة علمية خارج تغييرات أحاسيسنا وتخيلاتنا الفردية، فنجعل المعلوم مجرداً مقاماً على قوانين ثابتة معترف بصلاحيتها من طرف الجميع.
وهذا يعني أن الموضوعية في حدودها العليا والقصوى هي عملية الاتساق والتناغم التام بين القيم والمبادىء التي يحملها الانسان وواقعه الخارجي، فالانسان الذي ينادي بقيمة العلم والمعرفة، ولكن واقعه الخارجي عبارة عن حروب مستمرة ضد كل ما هو علمي ومعرفي، هذا الانسان بعيد كل البعد عن مفهوم الموضوعية، لأن واقعه العملي والسلوكي لا ينسجم وقناعاته الذهنية والنظرية.
من هنا فإن الموضوعية تعني انسجام الفعل مع القول والمشروع العملي مع المشروع النظري وما ينبغي أن يكون مع ما هو كائن، لهذا فالموضوعية قيمة تحفز الانسان باستمرار نحو إنطباق الواقع مع المثال. وتأسيساً على هذا نقول: إن الموضوعية لا تعني «كما يزعم البعض» غياب أو ضعف الالتزام الأيديولوجي لدى الانسان، وإنما تعني أن تكون أحكامنا ومواقفنا معتمدة على الواقع الموضوعي الذي نعيشه حتى ولو كان هذا الواقع مرفوضاً على المستوى الايديولوجي. فالايديولوجية ليست حجاباً يمنع رؤية الواقع بعناصره كما هو، وإنما هي طاقة روحية وعقلية خلاقة تتجه إلى حفز همم الانسان وتوفير الشروط النفسية والعقلية المطلوبة لعملية تقويم الواقع وجعله عبر «العلم والعمل» منسجماً والقيم الكبرى في الايديولوجية.
فالموضوعية تعني: إبعاد الذات عن الموضوع والأشخاص عن الأفكار حتى يكون تقويمنا للموضوع لا الذات، وإلى الأفكار لا الأشخاص، وقد جاء في المأثور «لا تعرف الحق بالرجال، اعرف الحق تعرف أهله».
وإنطلاقاً من هذا المفهوم إلى الموضوعية والمكونات، نرى إن للموضوعية عناصر ومكونات، وهذه العناصر والمكونات، هي عبارة عن القيم الحاكمة في مسيرة الانسان الموضوعي وهذه العناصر كالآتي:
1 ـ نشدان الحقيقة والمعرفة بصرف النظر عن مصدرها: دائماً التطرف في كلا الاتجاهين «الحب والبغض» يصادر الحقيقة ويشرع للاستبداد وإقصاء الرأي الآخر، ويخرج الانسان من دائرة الموضوعية، لأن التطرف يحرم على الناس المشاركة في صنع الحقيقة والمعرفة، ويصادر منهم الحق في الاختلاف، له وحده «المتطرف» الحق في أن يخالفهم وليس لهم أي حق في إبداء رأي مخالف له. لهذا ومن أجل أن لا تُستباح الحقيقة ويُزيف الواقع وتُنتهك السمعة والكرامة، ويُرجم أصحاب الرأي المخالف، نحن بحاجة إلى الاعتراف بأن الحقيقة المطلقة لا يملكها إنسان أو فئة من الناس، لهذا فإننا ينبغي أن ننشد الحقيقة ونبحث عنها في كل مكان وحين الحصول عليها أو الوصول إليها لابد أن نتشبث بها، ونعض بالنواجذ عليها دون أن نلتفت إلى مصدرها ومنبعها، لأن الحقيقة بأجزائها المئة موزعة عند الناس جميعاً، يقول في هذا الصدد الفيلسوف الكندي «خليقٌ بنا ألا نخجل من الاعتراف بالحقيقة واستيعابها مهما كان مصدرها» ويقول ابن رشد ايضاً «إنه يجب علينا أن نستعين على ما نحن بسبيله بما قاله من تقدمنا في ذلك سواء أكان مشاركاً لنا في الملة أم غير مشارك طالما كان صواباً». لهذا لابد أن يتحلى المرء بآداب الاختلاف والحوار والجدل، حتى تتسنى لنا معرفة الحقيقة أولاً والقبول بها ثانياً، ويقول عبد الرحمن الكواكبي في أدب الحوار والجدل: إن الأنفة من الانقياد للحق عجز، وإن الاعتراف به والتجرع له عز، فلا يمتنع من قبول الحق إذا وضح له، ولا يكون قصده من الجدل ألا يقطع فإن من كان ذلك غرضه لم يزل في تنقل من مذاهبه، وتلون في دينه، وإنما ينبغي له أن يعتقد من المذاهب ما قام البرهان عليه إن كان مما يقوم على مثله برهان أو وضحت الحجة المقنعة فيه، إن كان مما لا يوجد عليه برهان، وبهذا تتأسس قواعد التواصل الانساني الحضاري القائمة على المساواة بين الشعوب بما تقتضيه الحياة الانسانية بطبيعتها من تكافل وتآلف ومحبة وسلام.
2 ـ احترام التخصصات: إن توسع العلوم وتشعبها أدىýإلى بلورة الاختصاصات العلمية المختلفة بحيث أصبح لكل جانب من جوانب العلم أهله وأصحاب الاختصاص فيه لهذا فإن الموضوعية تقتضي احترام هذه التخصصات لأنها تنطلق من واقع العلم التفصيلي بذلك الحقل أو التخصص فليس من الموضوعية في شيء أن نأخذ دقائق علم الاجتماع مثلاً، من الطبيب البشري لاختلاف التخصص، كما أنه ليس من الموضوعية أن نأخذ علم الطب بقوانينه وتفاصيله الدقيقة من علم الاجتماع، وهذا بطبيعة الحال لا يمنع أن تكون للانسان معلومات عامة حول مجمل حقول العلم، ولابد من القول إن احترام التخصصات العلمية المختلفة يؤدي إلى تركيز العلم والمعرفة، لأنها لا تنطلق إلا من ذلك الانسان المختص.
3 ـ عدم العجلة في إصدار الأحكام: إن الموقف الذي يتخذه الانسان على هدي دراسة مستفيضة ومعرفة عميقة دائماً يكون سليماً، كما أن الموقف المستعجل، أو الذي لم ينطلق من معرفة عميقة يكون غالباً مجانباً للصواب، وبعيداً عن الحقيقة. لذا فإن الموضوعية تتضمن عدم الاستعجال في اتخاذ المواقف وتحديد الأحكام، لأنه غالباً كما يقرر علماء المنطق أن العجلة والتسرع من أسباب الخطأ الرئيسية. ولعمري إن الكثير من المشكلات التي تعانيها ساحتنا الأدبية والثقافية هي من جراء غياب الموضوعية، وفق هذا المعنى، إذ نتسرع جميعاً في اتخاذ المواقف أو تحديد الأحكام تجاه أي نشاط وإبداع، دون أن نقرأه بتمعن، أو نفهم السياق الفكري والاجتماعي الذي ولد فيه هذا النشاط أو الابداع، إننا بحاجة لأن ندرس بعمق إنتاج ساحتنا الأدبية والثقافية، قبل أن نقوّم هذا الانتاج أو نتخذ تجاهه موقفاً محدداً، لأن هذه الدراسة العميقة، هي التي تجعلنا نعطي لكل ذي حقٍ حقه فالموضوعية تلازم المعرفة العميقة والتأني في تحديد الأحكام تجاه أي ظاهرة إنسانية، فحينما تنشأ ظاهرة اجتماعية أو سياسية أو ثقافية، ينبغي ألا نستعجل في اتخاذ المواقف تجاهها أو وصمها بالسلب أو الإيجاب، وإنما ينبغي أن يسبق اتخاذ الموقف، وضوح الرؤية، وتوفر المعلومات الكافية التي تؤهل الانسان ذاتياً وموضوعياً لاتخاذ الموقف الموضوعي تجاه تلك الظاهرة.
4 ـ النظر إلى الآخرين بعيداً عن التهوين والتهويل: إذ أن الموضوعية تقتضي جعل الآخرين في مواقعهم الطبيعية والنظر إليهم بدون استصغار أو تضخيم. فالنظرة التي ترى الآخرين القوة المطلقة ـ القادرة على فعل كل شيء نظرةً غير موضوعية، كما أن النظرة التي ترى الآخرين وكأنهم أرقام صفرية لا تستطيع أن تحرك ساكناً نظرة غير موضوعية. إن النظرة الموضوعية تعني أن تجعل الآخرين في مواقعهم الواقعية بعيداً عن التهوين والتهويل. ولا شك أن تحقيق هذه النظرة في الفضاء الخارجي مرهون بنظرة الانسان إلى نفسه، فإذا كان ينظر إليها نظرة احتقار وتصغير فإنه سينظر إلى الآخرين نظرة تهويلية، أماýإذا نظر إلى ذاته نظرةً معتدلة ترى الحسنات كما ترى السيئات، فإنه سينظر إلى الآخرين ذات النظرة.
فجماع القول في هذه المسألة هو: إن مضمون النظرة إلى الذات هو الذي يحدد طبيعة النظرة إلى الآخرين.

مصادر البحث:

(1) القرآن الكريم ـ سورية يوسف آية (90).
(2) القرآن الكريم ـ سورة آل عمران أية (165).
(3) القرآن الكريم ـ سورة العلق آية (1-5).
(4) القرآن الكريم ـ سورة المائدة آية (32).
(5) راجع كتاب هوامش على دفتر التنوير ـ المركز الثقافي العربي ـ بيروت 1994م.
(6) المصدر السابق ص20.
(7) مجلة الوحدة ـ تصدر عن المجلس القومي للثقافة القومية ـ السنة السابعة ـ العدد 81 يونيو 1991م ـ ذو الحجة 1411هـ.