شعار الموقع

الثقافة والمثقف في ظل العولمة

نبيه بن عبد القدوس الانصاري 2004-10-15
عدد القراءات « 747 »

منذ السبعينات من هذا القرن، عقد على المستوى الإقليمي والقومي مجموعة من الندوات والمؤتمرات واللقاءات، والمهرجانات، كلها تبحث قضية (الثقافة) في العالم العربي، باعتبارها المؤشر المركزي لطبيعة التحولات الفكرية الداعمة لحركة التنمية في محيط المجتمع العربي.
جمع لاحصر له من المصنفين في دائرة (المثقفين والأدباء والمفكرين) في عالمنا العربي ظل في حركة دائبة بين عواصم العالم العربي، يقدمون أوراقهم ومعارفهم عن الثقافة (حاضراً‏ومستقبلاً).. وأطروحات لاتبخل أبداً بتقديم ـ ما تظنه ـ (الرؤية المستقبلية الأنموذج) لما ينغي أن تكون عليه محورية الثقافة في عالمنا اللاهث هذا..
وكل تلك التجمعات ـ الرسمي منها والشعبي‏ـ سجلت في دفاتر وقائعها ومحاضر جلساتها كماً هائلاً من التوصيات والقرارات، تطوى صفحاتها ريثما يلتقي القوم ثانية، في اجتماع تال ليوصوا بضرورة النظر في التوصيات السابقة..وهكذا.. (ضجيج رحى ولاطحين..)


الثقافة.. ما هي؟

هل تعني المخزون المعرفي.. للفرد؟ أم المعادل الموضوعي للحضارة؟ أم هي التوجه القيمي للأمة؟ أم هي خليط من كل هذا..؟
علامات الإستفهام هذه، لاأحسب أني أجعل منها طوقاً ألف به خاصرة الثقافة، بل هي مجرد علامات على الطريق نستبين بها أمر ما نحن فيه..
الثقافة في مرجعيتها اللسانية واللغوية تعني (التقويم والتشذيب والتهذيب والإعتدال) من (ثقفت الرمح) إذا قومت اعوجاجه وعدلته..
وتقويم عود أو عصا الرمح ليصبح مستقيماً غير معوج لانتوء فيه يحتاج إلى كثير من المهارة والجهد، حتى نصل به لما نبتغيه..
ومعلوم أن (المهارة) تقوم على (المعرفة والتجربة) وهذان إذا ما أضيف إليهما الجهد المبذول بصدق للوصول إلى الغاية فإن النتيجة الحتمية هي إبداع وجمال وروعة.. وهذه هي الثقافة في ابسط وأيسر معانيها.
وبهذا المفهوم المبسط أستطيع القول بأن (المثقف) هو ذلك الشخص الذي تعتمل في نفسه كل معاني الخير والجمال، اللذين يفيض بهما على من حوله (خيراً وجمالاً) في سابقة سلوكية وخلقية تنشر الإعتدال النبيل على الناس..
في زماننا هذا، لقد بعد الناس كثيراً‏عن المعنى الحقيقي للثقافة والمثقف.. لقد ظنوه ذلك الرجل الطلعة صاحب المخزون المعرفي الواسع فحسب..ترى ما نفعل بجهاز (كمبيوتر) يستوعب في ذاكرته ملايين المعلومات، ويحدثنا في كل علم وفن. ولكنه لايملك حساً، ولايعرف شعوراً..
(المخزون المعرفي) هو واحد من ثلاث ركائز في معادلة (الثقافة) و (المثقف).. أما الركيزة الثانية وهي ذات أهمية عالية، هو أن يجعل هذا المخزون المعرفي صاحبه (إنساناً...
نعم (إنساناً) يحمل كل قيم الإنسانية الرفيعة النبيلة.. وهذه هي المعادل الحقيقي للمرجعية اللغوية اللسانية لكلمة (ثقافة) (ثقفت الرمح) أي قومته وأصلحت اعوجاجه..
ولا خير في معرفة لاتصلح من اعوجاج صاحبها وحاملها..
أما الركيزة الثالثة لـ (الثقافة) وهي أن يفيض على الآخرين، بما أفاض به على نفسه تقويماً وتعديلاً وتهذيباً.. وهذه قناعتي بأمر (الثقافة) و(المثقف)
دعونا نضع علامات استفهام تحتاج منا حقيقة إلى نظر مرفود ببصيرة، موفور بمنطقية لاتحامل فيها..
من غير ذكر أسماء، حتى لاندخل في جدلية عريضة ليس هذا ميدانها.. في عالمنا العربي اليوم من أصحاب الفكر والقلم والمعرفة الواسعة من نشروا بين الناس فكراً وآراء هي أقرب إلى الضلالة منها إلى الهداية (قصة ـ مسرح ـ شعر ـ مؤلفات فكرية وجدلية) والساحة مليئة بمثل ماذهبنا إليه، بل هي الأكثر تداولاً، حسب ظني..
ترى ما يفعل المجتمع بمعرفة كهذه، وبفكر كهذا..؟!
وصاحب هذا الفكر أصبح في عرف الكثيرين (المثقف) واسع الإنتشار..!
دعونا نسأل في براءة متناهية، هل هذا‏(الأديب والمثقف والمفكر) صاحب هذه المنهجية التي ذكرنا، هل يصلح لوضع ما تم التعارف عليه في أوساط المفكرين والمثقفين بـ (المشروع الثقافي للأمة العربية والإسلامية) أو ما عرف بـ (المشروع الحضاري للأمة العربية)..؟إذن دعونا نؤكد أن العلم بغير أخلاق دمار.. وإن الثقافة (المضمون المتعارف عليه اليوم) بدون أخلاق لاتبني أمة...


هل تراني ركزت على الجانب المظلم من القضية؟!

إن كان الأمر كذلك، فإنه من باب (درء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وهي قاعدة فقهية قننها وعمل بها أعلام فقهاء وعلماء هذه الأمة...
أما أولئك الأخيار من المثقفين والكتاب والشعراء والمفكرين فإنهم كثر في عالمنا العربي والإسلامي ولله الحمد، وكم وددنا أن يكون صوتهم هو الأعلى من غير تحجيم أو إسكات..
(مستقبل الثقافة الإسلامية في ظل ثورة المعلومات وتحديات العولمة)
هذا العنوان يحمل موضوعين أحسبهما ـ إلى حد كبير ـ خطين متوازيين لايلتقيان هما (الثقافة الإسلامية) و (العولمة)
أما الثقافة فقد سجلنا فيها قناعتنا حسب رؤيتنا لها..
وإذا كان الثقافة في مضمونها العام تعني التقويم والتهذيب كما أسلفنا، فإنها إذا ما أضيف إليها كلمة (الإسلامية) فأصبحت (الثقافة الإسلامية) فإنها تضيف مضموناً أوسع وأرحب تكتسب معنى (القيمة).. القيمة الإيمانية العليا، السالكة بالنفس المؤمنة، والنفس الإنسانية بعامة مدارج السمو في سلم الرقي إلى الأنموذج الأمثل، تطهيراً للنفس وتزكية، تطيب بها الحياة.. ونفس بهذا التركيب المتجانس المتسامي، لاشك تغدو في كل مجالاتها عطاء خير وجمال وإبداع..
(الثقافة الإسلامية) حددت للمسلم معالم الطريق للحياتين الدنيا والآخرة... وربطت بينهما برباط وثيق..
وحددت للمسلم طبيعة العلاقات الأزلية الأربع: (علاقته بنفسه) و(علاقته بالله) و(علاقته بالناس) و(علاقته بالكون)
الأولى: علاقة اصلاح للنفس وصلاح لها، وصدق معها.
والثانية: علاقة صدق لله في العبودية ومتعلقاتها.
والثالثة: علاقة خير ومعروف وإصلاح متبادل بينه وبين الناس.
أما العلاقة الرابعة: فهي علاقة نفع وانتفاع بهذا الكون المسخر للإنسان في إطار منهجية غاية التعبد، التي هي من أهم خصائصها أن الأمر كله لله، حتى لاتطغى هذه النفس الإنسانية..‏وطغيان النفس الإنسانية كم لمسناه اليوم في واقعنا المعاصر.. إنه دمار في دمار..هذه هي منهجية الثقافة الإسلامية في خطوطها العامة.
(العولمة).. صيغة غير محددة المعالم.
ومن مجموع ما قرأت عنها أستطيع القول‏ـ إلى حد ما ـ أنها تعني (واحدية المنهج) أن يجتمع العالم على منهج واحد في الإقتصاد، التجارة، السياسة، الثقافة، الفكر، المجتمع... الخ.وهذا برأيي هو مرحلة (القطب الواحد) أو (مركز الدائرة)..
على هذا (المركز) المزعوم أن يخطط ويمنهج ويضع الأسس لـ (عالمية) مركزية على العالم تنفيذها..
ومعلوم أن شعوب العالم تختلف في مدلولاتها وعطاءاتها الحضارية والتراثية والفكرية.. ومختلفة في عاداتها وتقاليدها، بل وفي منهجيتها العامة للحياة المستقاة من كل معطياتها.
وشعوب بهذا التباين في أبجديات حضاراتها غير ممكن إلغاء خصوصياتها الموروثة لتأخذ بنظام عالمي موحد...
فإن كان أمر (العولمة) بهذا المفهوم‏ـ وهذا ما أظنه ـ فإن العولمة تصبح ضرباً من ضروب إلغاء الذات..أما إن كانت (العولمة) منهجية يمكن الأخذ بأحسنها، وترك سيئها فليس في الأمر بأس..
وعلى كل حال، فإن في ثقافتنا الإسلامية ما يغنينا إن دققنا فيها النظر، وأحسنا التعامل بها ومعها..

(*) صاحب مجلة المنهل ورئيس تحريرها/ المملكة العربية السعودية.