شعار الموقع

نحو مشروع للنهضة العربية في القرن الحادي والعشرين

هاني إدريس 2004-10-15
عدد القراءات « 685 »
النهضة العربية، مشروع لم ينجز!

هكذا بتنا ـ لا أقل ـ نقرر من دون أدنى تردد. خصوصاً وأننا نودع قرناً كاملاً، حافلاً بتراث من الوثب والإعاقة، في مشروع نهضة، واجهت كل أشكال الإجهاض والإخفاق. ها هي اليوم، على مشارف القرن الحادي والعشرين، لاتزال مسكونة بهواجس الخوف والتردد، وتحمل في ذاكرتها هزيمة منكرة. وهي مع كل هذا تحتفظ أيضاً بشيء من الإصرار على حلم طويل، لمّا يجد أرضية للتحقق حتى الآن. إننا أمام أكثر من منعطف في تاريخ الإنبعاث العربي والإسلامي، عبر مسارات نهضوية وإصلاحية تشمل طابوراً كاملاً من الرواد.. الأفغاني والكواكبي وعبده و.. و.. ثمة في تاريخ العرب الحديث، أكثر من محاولة جادة لكسر طوق التخلف. وقد سطع فجر القرن الحادي والعشرين، ولازلنا منهمكين في بكائياتنا على إثر مسلسل الإنهيارات العربية، التي ظل مؤشرها الرئيسي، يتمثل في الصراع العربي/ الإسرائيلي، هذه الإنهيارات التي انتهت بسقوط الخيار القومي العربي، وتيار اليسار العربي وانتهت بنكسة حرب الخليج الثانية.
أما ما يتعلق بالجانب الآخر، فهناك عودة للمسلسل العدواني الصهيوني داخل الأراضي العربية المحتلة، ورجوع مسار السلام مع هذا الكيان، إلى درجة الصفر بعد أن تمكن «نتنياهو» من تحطيم آخر حلم ـ صغير ـ لتكتل أوسلو، الذي تخلّق في ظل حكومة العمل السابقة. إن الحلم العربي ـ إذن‏ـ هو آخر ما تبقى في ظل انهيار المشروع العربي، الذي بدا، وكأنه يلفظ أنفاسه الأخيرة، دون أن يعترف بشيخوخته ونهايته. وقد تأكّد قبلها، بأن القرن العشرين ـ حيث نزمع على مغادرته ـ مثل مرحلة مخاض عسير، لم ينته‏ـ كما كان متوقعاً‏ـ بولادة ميمونة لصالح العرب. وعلى اساس هذا الحلم المتبقي يشهد العالم العربي نشاطاً، رغم أهميته، لايكاد يشفي غليل أمة حطمها الإخفاق، وكاد يستبد بها اليأس. خصوصاً وأننا نلاحظ بأن المشكل العربي، قلّ ما يعالج في ضوء رؤية ثقافية شاملة، وقلّ ما يساهم في تفعيله جهات رسمية في مستوى جامعة الدول العربية. ولايكاد يبرح أقطاراً عربية معينة، مع غياب التنسيق، في ظل وطن عربي مجزّأ، وفي ظروف لاتسمح بأن ينهض الفكر بكامل مسؤوليته في وضع يده على الجرح العربي النازف، من دون رُهاب أو تردد.
بهذا الخصوص، شهدت بيروت انعقاد المؤتمر السنوي الثالث للمركز العربي للدراسات الإستراتيجية، تحت عنوان: نحو (مشروع للنهضة العربية في القرن الحادي والعشرين). وذلك بالتعاون مع كل من الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، والأمانة التنفيذية للجنة الإقتصادية والإجتماعية لغربي اسيا (الأسكوا). احتضن في جدول أعماله عدداً من الجلسات وورشات عمل، موزعة علىýأكثر من محور إشكالي يندرج في المحور العام لهذا الملتقى الذي عقد في الفترة 28-29 مايو ـ أيار 1998م.
ومن خلال تتبعنا لأهم الأوراق التي قدمت داخل المؤتمر، وأيضاً ورشات العمل التي ضمت مجموعة من الفعاليات العربية، ارتأينا القيام بهذه القراءة النقدية لأهم ما طرح هنالك من رؤى وتصورات، ضمن المحاور الآتية..

مشروع النهضة العربية في إطار الكونية:

من المؤكد أن مشروع النهضة العربية اليوم يتطلب تصوراً جديداً، في أفق غياب المعطيات التقليدية التي نتبع بها المنظور النهضوي القديم، وهو يتطلع إلى تحقيق تقدمه في إطار من السيادة والوحدة القومية، كرهانات تساوق مقتضيات الوضع الدولي ما قبل الوضع العالمي الجديد. وهنا تطفو مشكلة الكونية، كعنصر حيوي لايمكن التغافل عنه في مضمار أي مشروع نضهوي. وهكذا فإن الرؤية المستقبلية لهذه النهضة، تنطلق من هذا المعطى المطروح بإلحاح اليوم، أي النهضة في أفقها الكوني، وفي عالم شديد الوثب والتغيير.
في إطار هذا المحور، تتحفنا ورقة أ. السيد يسين، بـ «نظرة استشرافية للتطورات العالمية في القرن الحادي والعشرين». محاولة جادة في رصد أهم التحولات المرتقبة، ضمن تيارات مختلفة تعكس أنواعاً من التغيرات والتحولات العالمية وأهم ملامحها. هذه التيارات التي ارتأى تقسيمها إلى ثلاثة أقسام:
ـ الإتصال المتبادل.
ـ ضغط الزمن.
ـ التيار الذي يعكس ظاهرة تفكيك المؤسسات.
فإذا كان التيار الأول، سيزيد في المستقبل من فرص تلاقح الثقافات وتداخلها، بفضل الإتصال بين الأفراد والجماعات والشركات التجارية، فإن التيار الثاني سوف يكثف من عملية صنع الافكار والرؤى والمفاهيم، يجعل عملية صنع القرار، تتم في حيز زمني أضيق مما مضى. أما التيار الثالث، فإنه يتمظهر في تفكك المؤسسات الكبرى وباقي الأنساق العقائدية التقليدية، لصالح المؤسسات الصغرى والأنساق الجديدة المختلفة. مما ينعكس على المكون الإجتماعي، والمعاني التي يطلقونها على الوحدات الإجتماعية الأساسية. فالباحث يرى من خلال هذه التيارات الثلاثة أن العالم، سوف يخضع لصياغة جديدة، تتجاوز مشروع الحداثة إلى ما بعد الحداثة. لاشك أن ما يجري الآن من تحولات في العالم، يحمل كل بوادر الإنفتاح على الآخر ضمن الإطار الكوني، الذي تندك فيه كافة المعوقات الثقافية. كما أن لعبة القفزات التي هي في حدّ ذاتها تجاوز لمقولة الزمن بالمعنى الذي أقرته الحداثة الغربية، وأخيراً مظاهر تفكك المؤسسات وتغير الأنساق و.. و.. كلها تحكي عن أن العالم يتجه مرغماً إلى نمط جديد من العلائق.
لكننا نتساءل بدورنا عن أننا وإن كنا أمام مظاهر تناقض في ظاهرها مقتضيات التطور بالمنظور الحداثوي، فإننا نصادف أن مظاهر الحداثة الغربية نفسها، لا تزال تجترح لها وسائل أنفذ لتكريس مظاهرها، حيث استمرارية التمركز واتجاهه نحو القطب الوحيد، مما يضفي عليها مظهراً تقليدياً في مجال العلائق.
إننا أمام تفكك بالنتيجة لايمثل حالة تفكك حقيقية، بقدر ما يحمل بذور تحويل التكوينات العالمية المفكك إلى حيز التبعية، بشكل من الأشكال، سوف نبينه فيما بعد. أما الزمن فإن يستثمر هنا بكيفية، لاتناقض مشروع الحداثة الغربية، بما هو مشروع متجه بمرونة نحو المستقبل، ومستوعب لكافة مظاهر تحولاته. إننا بالتالي أمام حداثة تُكيف نفسها باستمرار، وتخلق لنفسها فرصاً للبقاء، وهي بذلك تخفي اقوى مظاهر أزمتها، وتمركزها. ولاشك من أن التحولات الجارية الآن، تعكس مظاهر تغيير عالمي كبير، وتنعكس على مختلف القطاعات الحيوية للمجتمعات. وهو ما يعني قضاءاً مبرماً على الأنساق العتيقة، وأهمها الدولة القطرية وسيادتها. وهذا ما أكدت عليه الورقة الأخيرة، وتركز مرة أخرى مع ورقة من اعداد محمد جمال باروت.

مصير الدولة القطرية في ضوء معطيات التحولات الكونية.

إنه، بالنتيجة، قدر على الكونية أن تلتهم أقوى الأنساق القديمة. والدولة القطرية المقومنة، ظلت هي المؤشر الحقيقي لهذا التحول الذي يحيل على أن نمطاً جديداً في علاقات القوة بين الأقطار والمجتمعات، سيحل محل الأنماط القديمة، لصالح مزيد من الإنفتاح على المنظمات الغير حكومية ومزيد من تحجيم‏ـ وربما شلّ‏ـ كيان الدولة القومية، لصالح هذه المنظمات. فسوف، بالتالي تنهار أسس النظام العالمي القديم، بانهيار إحدى أهم وحداته الرئيسية; ألا وهي الدولة القطرية.
إن سيادة الدولة، شهدت ـ وستشهد أكثر ـ تقلصاً ملفتاً، في مجال حق التدخل، فـ «مما لاشك فيه أن التوسع في استخدام حق التدخل وبغض النظر عن أنه لم يتم تقنينه حتى الآن من شأنه أن يفرض قيوداً عديدة على حرية الدولة في ممارسة سيادتها»(أ. سيد يسين). هذا التحجيم في حق الدولة والذي سوف يلتهم حتى القطاعات الأكثر اتصالاً وارتباطاً بالدولة، مثل الأمن ولعلنا في العالم العربي، كنّا من يقيم مشروع النهضة على قاعدة الدولة القطرية بما هي التعبير النموذجي عن الدولة ـ الأمة، هذا الأخير الذي بدأ يتلاشى كمفهوم، بعد الإخفاقات الكثيرة أمام تدفق الأقليات واختراقها لكافة المجتمعات المعاصرة، واليوم ونحن نستقبل القرن الحادي والعشرين، نجدنا أمام مفهوم آخر للدولة، تغدو فيه هذه الأخيرة مجردة عن أهم خصائص سيادتها. وهذا ما سيميز النظام الدولي عن النظام العالمي. فإذا كان الأول هو نظام ما بين الدول، بوصفها التقليدي (أي الدولة ـ الأمة) فإن النظام العالمي هو نظام عبر الأمم وفوقها، حيث «تشكل الوحدة الجيو ـ سياسية المتعددة الدول والمعولمة، وحدته الأساسية» (محمد جمال باروت).
وأيّاً كان حجم هذا التحول في واقع الدولة‏ـ الأمة، فإن العالم لم يتوقف عن استقبال تكون دول ـ أمم جديدة، بل إن هذه الحركة الكونية، تؤثر على صورتها وطبيعتها. فالأمر بالنتيجة، هو تفكيك يعيد صياغة الدول في نمط جديد للسيطرة، يتلبس بمظاهر الكونية فيما هو يؤسس لإمبريالية عليا. إن غياب الدولة شبه المحتوم في مستقبل المجتمعات، سوف يجعل المهمة سهلة أمام أطماع الإستقطاب الأمريكي. فالمنظمات الغير حكومية، سوف تنتهي إلى تعويض انتصارها على الدول بعلاقاتها الإستراتيجية مع وكالة التنمية الأمريكية. فهذه المنظمات وفي «إطار الإيديولوجية الليبرالية الجديدة للعولمة، تتحول وغالباً ما تتحول إلى رأس جسر للمنظمات العالمية غير الحكومية، التي تحول وكالة التنمية الأمريكية مساعداتها إليها، وتقوم بتقديم المنح التي كانت تقدم سابقاً للحكومات إلى المنظمات القطرية غير الحكومية. فالإيديولوجيا الليبرالية الجديدة [حسب جمال باروت] هي بكل امتياز ايديولوجيا الدولة الأمريكية».
وأمام هذا الوضع فإن الوطن العربي سوف يواجه تحديات صعبة، قد يبقى الرهان معها صعباً. في ضوء هذا التفكك القطري حيث يفوت فرصاً وإمكانات كثيرة على مشروع النهضة العربية فـ «بدون تحول الدولة القطرية الراهنة إلى طرف في فيدرالية عربية يمنحها وظائف سيادية، فإنها ستبقى إسفيناً في جسم التكامل العربي الممكن، وستتحول نخبها إلى مجرد رأس جسر للطبقة الدولية المسيطرة في المجال الوطني أو القطري». (محمد جمال باروت)
فإذاً، لاشك في أن العالم يتطور باتجاه تفكيك المركبات والأنساق القديمة، لكن هذا التطور يعكس مظهراً من مظاهر إمبريالية جديدة تسعى لتكييف نفسها مع المتغيرات. فلا مفر إذن أمام مشروع النهضة العربية الثالثة من أن تعي هذه الحقيقة، كي لاتدفعها مظاهر العولمة الخادعة، لإطراح مطالب التضامن والوحدة كعنصر قوة في رهانها. فالعالم يتفكك من جانب، لكنه يتحد من جوانب أخرى. إن العولمة الكاسحة في مظهرها المتأمرك، كان قد دفع أوروبا إلى مزيد من التكتل والتضامن، كما أوجد تكتلات أخرى على مستويات وأحجام متفاوتة.
إن المشكلة الكبرى في تاريخ النهضة العربية‏ـ إن جاز هذا الوصف حقيقة ـ هي أنها منذ انبعاثها الأول على إثر تدهور الخلافة العثمانية، لم تسع إلى توطيد أسسها على أرضية التكيف مع المتغيرات كما ظلت تعوز إلى الإستيعاب الحقيقي لنموذجها النهضوي، أي «النهضة الأوروبية». لقد نظرت إلى نموذجها ذاك، بعقلية انتقائية تفتقر إلى الحس التاريخي، حيث كان حرياً بأن يحدد لها مسارها الطبيعي. هذا الحس الذي يستوعب النهضة، لا كمعطى يحدده عدد من الشعارات (إصلاح ديني، علمانية، ديمقراطية..) بل كتراكم تاريخي، تتداخل معه جملة من المعطيات التاريخية، لتنتهي إلى واقعýافضل، يجعل من هذه الشعارات انعكاسات ومظاهر، لإرادة حقيقية للتقدم، وحصيلة تراكم تاريخي، وليست أصلاً للتطور. وقد نجد هذه الحقيقة بارزة في الورقة التي تقدم بها د. أحمد برقاوي تحت عنوان: (خبرات النهضة العربية الأولى نهاية القرن 19 بداية القرن 20) إذ يقول: «لم يجد المفكر النهضوي نفسه للبحث عن تاريخية التقدم الغربي، بل اهتدى مباشرة إلى ما في الغرب من تقدم». إن الرؤية التاريخية هنا تجعلنا قادرين على استيعاب أسباب الإخفاق في النهضة العربية. ولكنها تصادر على حقيقة غالية في نزعتها التاريخية، بحيث تتجاهل ما يمكن أن تحققه هذه المظاهر من إمكانيات للتقدم فالحرية والديمقراطية والعلم وما إليها، كلها عناصر، تتناغم مع شرط النمو، وسبل النهضة، فهي وإن ظلت مظهراً للتطور حينما ننظر إليها في النسق النهضوي العام، لكنها في الوقت ذاته، عنصر اساسي من عناصر توفير شروط النهضة ذاتها.
صحيح أن النهضة الأوروبية التي تحملتها طبقة اجتماعية أجادت استثمار الحرية والعلم في سبيل توطيد خيارها التقدمي. لكن الحرية والعلم، هما أيضاً من جانب آخر، ثمرة لإرادة نهضوية شديدة، دفع ثمنها باهظاً، كافة الطبقات الإجتماعية. فماذا يضيرنا لو بدأنا بالحرية والعلم والديمقراطية.. التي أصبحت اليوم قابلة لكي تنتزع من ملابساتها الإيديولوجية.
فالعلم والحرية والديمقراطية.. هي عناصر قوة للداخل، وليس للخارج فقط، إننا نوجد شروط القوة الداخلية. بهذه العناصر، دون أن يعني ذلك وقوعاً في نموذج ما أجنبي صحيح، أن مشكلة النهضة العربية منذ علق العرب آمالهم على رهان خاسر، حيث استندوا في مطالبهم الإنفصالية والقومية على غرب جاء لكي يكتسح الجميع، أتراكاً وعرباً.. فالأوروبي الذي أسند مطالب العرب ضد الأتراك هو نفسه الذي تحالف مع الأستانة للقضاء على حركة علي باشا، وايضاً طموحات الشريف حسين وهو بالنتيجة من أوجد هذا التفكك المهول في الوطن العربي، كما زرع كياناً غريباً في قلب هذا الوطن، وهو ما يعني أن التحالف مع الغرب، لم يثمر «إلاّ استعماراً مباشراً، ودولة غربية وتقسيماً تعسفياً» (برقاوي). وهو درس يجب أن يعيه العرب في راهنهم، بعد أن أصبحت الآمال كلها معلقة على الولايات المتحدة الأمريكية في حل أزماتها السياسية والإقتصادية، والتي على رأسها مشكلة التسوية مع الكيان الصهيوني. فلا شك أن «التعويل على الولايات المتحدة، من أجل إيجاد تسوية للصراع العربي الصهيوني لاينتج إلاّ حلاً أمريكياً‏ـ اسرائيلياً، يحقق مصالح الولايات المتحدة أولاً وأخيراً».

تقويم نماذج الديمقراطية

إذن، نحن أمام مفارقة حقيقية. حيث تارة تنهض الدعوة إلى نهضة عربية علىýاسس هي في النتيجة، لاتعدو أن تكون مجرد مظهر من مظاهر التراكم التقدمي الغربي، وسوف تتحول في منظور محلل آخر إلىýإحدى أقوى المداميك التي ينهض عليها رهان العرب، هكذا تحيلنا الورقة القيمة لعبد الإله بلقزيز، حيث جاءت تحت عنوان (تقييم نموذج الديمقراطية، الغربية، ومدى انطباقها على المجتمع العربي) وهي ورقة تطفح برؤية تاريخية متينة، تكاد تنظر للديمقراطية الغربية علىýأساس، أنهاالخيار الحتمي للمجتمع الغربي الآخذ في التطور، نحو مجتمع مدني تسوده القوانين، وتتداول فيه السلط، من هنا فإن الملازمة التاريخية بين ما يمكن نعته بصدمة الديمقراطية، والطبقة الحاملة لهذا المشروع، ملازمة لاتكفي لدحض مشروع الديمقراطية باعتباره بدعة برجوازية. فإن الفكر الأوروبي منذ الأنوار، كان قد شهد نهاية تكون حالة من الوعي تتجه إلى نبذ الإستبداد والتسلط، سرعان ما اتفق أن حملت رسالتها شريحة اجتماعية معينة. ومن هنا نفهم إلى أي حدّ غالى الماركسيون الشيوعيون في نبذهم للديمقراطية وتجاوزهم لها من خلال الملازمة السابقة. مع أن هذا الموقف الأرثوذكسي، هو في حقيقة الأمر بدعة لينينية لها مبرراتها التاريخية، فلم «يكن موقف الماركسية على عهد مؤسسيها، ماركس وانجلز سيئاً للغاية من النظام الديمقراطي ومن منظمومة الحقوق السياسية التي يقررها. كانت لديهما ملاحظات اعتراضية على التفاصيل دون الأسس [...] الموقف السيء كان موقف لينين والبلاشفة في ظروف تاريخية قابلة لأن تفهم في ضوئها مواقف الرفض والنكوص تلك، وهو الموقف عينه الذي ورثته ـ للأسف‏ـ سائر الحركات الإشتراكية الخارجة من رحم الأمميتين الثالثة والرابعة..» (بلقزيز).
والعرب في ضوء هذه المعطيات، مدعوون بإلحاح كي ينخرطوا في هذا المخاض الذي يفرضه عليهم انتسابهم لعصر تتقاسم ضمنه كل المجتمعات هذه الحقيقة السياسية. ولايكفي انتسابهم لموروثهم الثقافي وانشدادهم بمرجعياتهم في أن يشذوا عن عصرهم.. وهذا كلام بالنتيجة، سوف يفتح أمامنا إشكالية أخرى، تقدم نفسها كمعطى لفكرة تزاوج بين هذا الموروث المرجعي، وضرورات الإنتماء إلىالعصر. وهو ما عنون له بلقزيز في نهاية المطاف بـ «الإسلام والديمقراطية»، إذ يقول: «يتذرع كثير من دعاة الخصوصية والإستثناء بالإسلام، لمجابهة الفكرة الديمقراطية وتسفيه الدعوة إليها، نظاماً سياسياً ومنظومة للعلاقات الإجتماعية».
ومع أن د. بلقزيز، هو واحد من أكبر دعاة الخصوصية والأمن الثقافي العربي، تراه هذه المرة، يصادر على نزعة كونية في دحض موقف الخصوصية. كما لو أن الرهان على أمن ثقافي عربي، يفترض وجود مرجعيات أمتن مما يمثله الإسلام عند العرب، كدين لهم، ومنظمومة ثقافتهم التاريخية، مع أنني هنا أشاطره الرأي في أن الديمقراطية، هي النظام الأفضل حتى الآن، حيث يصون قدراً ما من الحقوق ويوفر العدالة، ويحول دون إهدار الكرامة... بل واشاطره الرأي أيضاً في أن «لاعذر للديكتاتوريين في عدائهم للديمقراطية» سواء أتعلق الأمر بالديكتاتورية بشكلها العام، أو بالديكتاتورية التي تستند إلى اجتهاد خاص في ظل المرجعية الإسلامية، لكننا نصادف رأياً آخر لبلقزيز، يقول عنه: «لانجد في النصوص المرجعية الإسلامية (القرآن الكريم والسنة) تشريعاً للسياسي والمسألة السياسية، يوازي ـ أو يقارب‏ـ في الأهمية التشريع الإسلامي لسائر المجالات والشؤون المتصلة بمصالح الجماعة الإسلامية. ومعنى ذلك في الواقع، أن المجال السياسي ترك لسلطة الإجتهاد وسلطة العقل».
مع أن هذا الرأي، يغفل الجانب التاريخي لهذا اللاتوازي في التعاطي مع الشأن السياسي في الفكر الإسلامي. هذا اللاتوازن يقوم على موقف تاريخي اقتضى أن تنشط حركة التأصيل والتأسيس لكل مجالات الحياة الثقافية والإجتماعية باستثناء مقاربة مشكلة السلطة في الإسلام. ولعلّ علي عبد الرازق، كان ممن تعرض لهذا الموقف المزدوج، حيث اعتبره نوعاً من الغياب المقصود للموروث السياسي الإغريقي ضمن حركة الترجمة والإستيعاب العربية، ولا يعني هذا ان اللاتوازن هنا راجع إلى عجز ما في ضمير هذه المرجعية، بقدر ما هو موقف مخطط له ضمن استراتيجية سياسية، تكفل للوضع الإستبدادي والتسلطي، بأن يمعن في كبحه لجماح أي حركة لاتدعم الأسس العصبوية للحكم، وهذا موضوع يطول الحديث فيه وليس من الموضوعية في شيء، أن نصادر عليه بهذه العجالة، بل كل ما في الأمر، أن ثمة آليات لمباشرة هذا النمط من الإجتهاد، قد لاتتوفر لهذا الطرف أو ذاك، لكنها تبقى هي الضمانة الوحيدة، لممارسة اجتهادية عقلانية، تتمنع أمام سطوة المواقف المزاجية والأهوائية. مع أن بلقزيز يؤكد على أن التعاليم القرآنية «الوحيدة التي نعثر عليها في هذا الباب، تتوزع بين التشديد على قيمة العدالة في الحكم، وبين النص على وجوب العمل بالشورى في إدارة شؤون الولاية المدنية».. وهو كلام من شأنه أن يزج بنا في مدى العلاقة الممكنة، التي تربط بين مقولتين سياسيتين مختلفتين ومتفقتين من وجهة، ألا وهي العلاقة ما بين الشورى والديمقراطية. وهذا بدوره يحيلنا على ورقة د. فارس السقاف (رئيس مركز دراسات المستقبل ـ صنعاء) عنون لها بـ «الشورى الإسلامية: وهل تحل محل الديمقراطية الغربية؟ إسلامية الشورى وديمقراطية الإسلام».
يحاول صاحب هذه الورقة إيجاد صيغة ما توفيقية، تنتهي بجعل الشورى وعلى طريقة د. عمارة، ديمقراطية الإسلام، ويعزوا ذلك إلى التصادم بين أنصار الشورى وأنصار الديمقراطية إلى رواسب تاريخية، يقول: «إننا حينما نرصد معطيات الديمقراطية على المستوى النظري والممارسة في إطار الحركة الإسلامية السياسية المعاصرة، يجب أن نعترف بأن فهمها للديمقراطية يتأثر إلى حد كبير بكونها ترتبط بالنموذج الغربي الليبرالي، مما يجعل هذه الحركة تتخذ مواقف معادية لمضمون الديمقراطية، وإن التفاوت وارد بين فصائل الحركة انطلاقاً من هذا الفهم للديمقراطية».
لاننكر أن ثمة رواسب ـ حقاً‏ـ ظلت تتحكم بعلاقة تيار الشورى الإسلامي، بالديمقراطية كما تكاملت وتوطدت في التجربة السياسية الغربية وضمن المناخ الثقافي والإجتماعي للغرب. فيعود الخلاف بالتالي إلى أصل الصدام الثقافي والحضاري، بين غرب يراهن في كل مشاريعه ونهضاته علىýأرضية علمانية تناقض مبدأ تدخل الدين في شؤون الحياة السياسية. فالديمقراطية، لا أقل وكما تقدم الآن، هي وليد هذا المناخ الغربي العام، الذي يتشكل ضمن رؤية ثقافية شاملة، فلسفية وأخلاقية واجتماعية.. إن الديمقراطية اليوم تقدم بوصفها نظاماً متطوراً يتلخص في جملة من الشروط والمحددات تستحضر في طياتها هذا التصور العام لموقع الفرد داخل الجماعة وفلسفة الإنسان، وغايته..‏فالديمقراطية تشترط اليوم على العالم العربي أن يعيد ترتيب أوضاعه وعلائقه بما يعني إحداث ترتيب جديد لمواقع الثابت والمتحرك في الفكر والحياة الإجتماعية والسياسية، وأول ما يواجه الديمقراطية، هو طبيعة المقدس وحجمه في البناء الإجتماعي والثقافي العربي. من هنا فإن الديمقراطية‏ـ حقيقة ـ من حيث هي نظام متقدم على صعيد تحصين حرية الفرد وحقوقه، تحمل في طياتها بذور التحطيم الثقافي للآخر، لا من حيث هي، ولكن من حيث أنها تلبست بتصور معين وطرحت ضمن مناخ خاص وتعبئة ايديولوجية مؤطرة.
والحال، أننا في العالم العربي، وفي ظل تجذر ذهنية الإستبداد في اللاوعي السياسي العربي، وفي ظل غياب رؤية دقيقة، ومفصلة ومجدية للشورى في شكلها النموذجي التراثي، نحن في حاجة إلىýأن ننفتح على الديمقراطية كنظام مجرد عن شحنته الثقافية، لا أقل لحفظ ما يمكن حفظه من حقوق وحريات، قد تكون مدخلاً حيوياً لتخلق بوادر النهضة العربية الجادة، ووجود الإنسان العربي الفعّال، فالديمقراطية بما تملكه من مرونة وقدرة على التكيف، من الممكن أن تكون خياراً عالمياً في اكثر من لباس، وتتأقلم مع كافة الشروط والمناخات، لا لأنها فارضة نفسها ـ فقط‏ـ من حيث هي خيار غربي، بل لأنها تنطوي على أعظم انجاز سياسي في عالمنا المعاصر، ألا وهو حماية حقوق الافراد وحرياتهم من بطش الإستبداد الفردي، وجعل ذلك رهيناً بقيام نظام المؤسسات ودولة القانون. وهذا مكسب أياً كانت السلبيات التي تكتنفه، فهو مكسب حضاري، وغاية لكل الدعوات الإنسانية وأيضاً الرسالات السماوية، فالديمقراطية ليست هي المسؤولة عن أوضاع الغرب القيمية، لأن هذا محل اتفاق بين الجميع، لأنها تقوم عندهم على أساس خيار ثقافي شامل. فمن شأن الديمقراطية، حينما تنوجد في بيئة أخرى، أن تكون طريقاً إلى مزيد من القوة والبناء الإيجابي للإنسان، كفرد أو للكيان الإجتماعي.
والشورى في مفهومها العام، وبغض النظر عما يلحق بها من إشكالات وشروط مبنية على نظرات ظنية، تقوم هي الأخرى على استخلاصات سريعة من التاريخ السياسي العربي والإسلامي. وبغض النظر عن هذا نستطيع أن نقول، أنها تقف على المبعث الغائي ذاته، ألا وهو حماية حق الفرد من سطوة الإستبداد الفردي أو ديكتاتورية الجماعة، فلا مانع ـ إذن‏ـ من أن تكون الديمقراطية في معناها الجوهري هي هذه الشورى في وضع أرقى واضبط.
ولايقتصر الأمر على الواقع السياسي فحسب، بلýإننا نواجه وضعاً عربياً يمانع في توفير مناخ تعددية ثقافية، تتوزع لديها تصوراتها ورؤاها المختلفة للواقع العربي وآليات النهوض به إلى ما يطمح إليها من تقدم.
وحينما ينفتح المجتمع العربي على الآخر المختلف داخل تكوينه الثقافي ذاته، أي القبول بإمكاناته الأخرى المحتملة داخل نسيجه الحضاري، فإن ذلك سوف يكون له تأثير إيجابي على وضعه المستقبلي. إن قيمة التعددية السياسية وأيضاً الثقافية، باتت من دون اعتبار طيلة هذه الفترة من النشاط العربي، بل لقد كان الخيار الإقصاء واسلوب القمع ولغة التهميش،‏هي الرهان المشترك لدى التيارات السياسية والإيديولوجية العربية. وفي اللحظة التي كان من المفترض أن تتنامى أواصر الوحدة داخل الأقطار العربية، كان التنافس قائماً على قدم وساق، بين الأطراف المتصارعة حول من يملك الإستحقاق الأفضل لتمثيل المشروع العربي، لنا سياسياً أو ثقافياً.‏فلا يمكن إذن «للتعددية الثقافية أو السياسية أن تنمو إلا من خلال الوعي بضرورة احترام الرأي والرأي الآخر في ظل أنظمة منفتحة على ذاتها، القرار فيها جماعي ومن خلال مؤسسة من أهم شروطها ضرورة افساح المجال للحوار كي تتوصل الجماعة إلى رأي يمثل الأغلبية مع احترام رأي الأقلية في الوقت ذاته».
وهذا ما نلمحه في الورقة التي تقدم بها د. كامل صالح أبو جابر رئيس المعهد الدبلوماسي الأردني.. وقد قدم رؤية مشروعة كما ينبغي أن تكون عليه وضع التعددية الثقافية في الوطن العربي، لولا أن أرجع بوادر المشروع إلى أحضان الدولة العثمانية من حيث إفساحها المجال أمام نظام سياسي يتسع لمختلف الملل والنحل، يقول: «ولاشك أن هذه السياسة أفسحت المجال لإستمرار الثقافات المتنوعة داخل الإمبراطورية، مما جعل الدولة العثمانية. بحق رمزاً للتعددية [...] إن الدولة العربية الحديثة وبسبب من قلة خبرتها وانعدام السوابق لديها، لم تتمكن من تحديث نظام الملة ليحافظ على التعددية داخل حدودها الجغرافية». وهذا حسب اعتقادنا، رجوع بالإشكالية إلى حالة من التأسيس، تناقض معطيات التاريخ والجغرافيا العربية، أيام سيطرة العثمانيين. هؤلاء الذين بسطوا سيطرتهم على العالم العربي لإعتبارات سياسية واقتصادية. ومن هنا كان تركيزهم بالدرجة الأولى على الجانب الأمني، الأمر الذي شغلهم عن أي مشروع وحدوي مركزي.
مع أن التعددية وليس بالمعنى المللي أو العشائري ـ هي إنجاز واعي في مجتمع مستوعب لثقافة الإختلاف في ظل دولة تحكمها مؤسسات تحمي التعددية من السطو، الذي عادة ما تؤدي إليه علاقات القوة بين الأطراف المختلفة. والمجتمع العربي ككل مجتمع آخر، إذا لم تتوطد ذهنية التعددية في مشروعه النهضوي، وأيضاً في عقله الجمعي تحت تأثير أنظمة تؤسس لهذا العقل وتوفر الإمكانات والمناخات لتشكله، فإنها سوف تكون عاجزة إن لم نقل فاقدة للمصداقية، حينما تنادي بحوار الثقافات والحضارات على الصعيد العالمي. ذلك بأن المجتمع الذي يكفر بقيم الحوار مع ذاته، وينكر على الآخر حق الإختلاف لايحق له بعدها أن يحاسب الغرب على نزعاته الجامحة إلى السيطرة والإلغاء».
وتنقلنا الورقة التي أعدها د. حامد خليل، عن الثقافة العربية وحوار الحضارات، إلى تلك المشكلة المزدوجة بين عولمة غير متكافئة من حيث تلاقح الحضارات، وبين ضرورات التواصل، حيث العالم مطالب بالإنفتاح بصورة أقوى في راهننا، من هنا الحاجة الملحة الآن «لإقامة حوار حضاري عربي ـ عربي، قبل التوجه إلى الخارج لإقتراح مبادرات إنسانية في حوار الحضارات»(د. حامد خليل).

النهضة العربية والأوهام المختلقة؟

لقد بات مشروع النهضة العربية يؤسس لمشواره، بعاطفة متوثبة منذ صدمة الحداثة الغربية، التي اتصل بها من خلال حركة الإستعمار. ومنذ ذلك الوقت والنهضة تتحرك من ردود الفعل العنيفة، كما لو أنها نهضة مقابل نهضة، وليست النهضة من حيث هي مطلب مشروع لأمة متطلعة أبداً، هكذا لانختلف في أن ثمة أكثر من تجربة للنهضة العربية، أو بالأحرى محاولات ظلت تحمل بذور الإخفاق في طياتها. والمشروع النهضوي حينما يقوم، فإنه لايخفق بحجم الخسائر واليسر ذاته، الذي أخفقت به النهضة العربية. ذلك أنها نهضة افتقدت إلى أهم عنصر فيها، ألا وهو «عقل النهضة» ومنذ ذلك الحين، ومشروع النهضة العربية أسير أوهامه، يعلق تخلفه على عوامل وهمية، أو يراهن في حلوله على خيارات يستنسخها نسخاً، كما لو أن النهضة هي فعل استنساخ، وتنكر للذات ونزوح إلى الخارج.
لقد امتلكت النهضة العربية جرأة نادرة في اغتيال خيارها الثقافي، وغالت إغالا في هذا التحطيم الذاتي دون أن تدرك بأن خيار المصالحة الداخلي، وخيار الإستيعاب لمكونات العقل العربي هي مفتاح السر في مشروعها ذاك، وهكذا راهنت النهضة العربية على تقدمها الحالم على حساب التعددية والحرية وتداول المعرفة والسلطة، سواء في القطر الواحد أو مجمله أقطار الوطن العربي. ومن هنا نستطيع القول، أن الوطن العربي وهو اليوم بعد هذه الخبرة من الإحتكاك بالآخر أدرك أن التقدم هو ثمرة لمجتمع الحريات، وإن العالم لايوفر مناخاً ملائماً لسلطة الأفراد.
قد نحمل أملاً لتجربة جديدة، يتجه فيها العرب إلى مزيد من التحرر من رواسب الطغيان والإستبداد، لأن هذه إحدى شروط النهضة وفي بقاءها، بقاء تخلفنا لعلنا بذلك نحقق ما لم نحققه سابقاً ونلتفت إلى ما أحجمنا على الإلتفات إليه، منذ ربط عبد الرحمن الكواكبي، بين التخلف والإستبداد في بداية النهضة العربية!
إن أوهام النهضة العربية تكمن تحديداً في مطالبها المشروعة، الوحدة، الهوية، الأمن الثقافي، وكلها مطالب ظلت تعوز إلى المشروع التفصيلي، الذي يجعل خطاب الهوية لايناقض ضرورة العالمية.. ويجعل أمن الهوية لايأتي على حساب التواصل الثقافي مع الآخر.
لقد تعامل العرب مع خصوصيتهم بوعي هلامي، جعلهم يعتقدون بأن الخصوصية والهوية هي أن ننطوي على موروثنا بكل ما ينطوي عليه، كما لو أن هذا الموروث معطى يتعالى على التاريخ، والحال أن الخصوصية والهوية، هي امتلاك لقيم حضارية مع تطوير مستمر وتأويل متواصل لهذا الموروث، بما يكيف حركة الأمة مع واقعها المتجدد. فتتحول الخصوصية إلى عائق لتقدم الفكر العربي ذاته، وإحدى أكبر معوقات النهضة العربية. إننا بالتالي في حاجة إلى نقد هذه الخصوصية، مع أننا من مناصري حمايتها، ومن أنصار الأمن الثقافي العربي، لكنها خصوصية منفتحة على ضرورات العصر، ومستجيبة لكافة التحديات التي يواجنا بها الآخر المنافس أو المجاور.
إن المستقبل هو العنصر الأكثر غياباً في المشروع العربي. ذلك ان العرب منذ فترة ظلوا يحلمون بالماضي ويطمحون إلى استرجاعه. إن هذه الإقامة الدائمة في الماضي، جعلت العرب يدفعون الثمن باهظاً أمام كل القوى التي دخلت في صراع معهم. فكيف يتسنى لنا أن ننظر إلى هويتنا وخصوصيتنا بعين المستقبل. دون أن يعني ذلك قطيعة متعسفة مع موروثنا الحضاري. كيف ترتسم أمامنا سبل النهضة، خالية من رواسب الأقانيم المعيقة.. وأخيراً، كيف لنا أن نؤسس «عقل» النهضة، حتى لانخفق مرة أخرى!
والجواب الأساسي هنا، هو حينما نوفر مجالاً حقيقياً لتشكل هذا «العقل» مجال الإرادة الحرة، والفكر الحر، الذي ينشأ ولاينمو إلا في مجتمع حر.. مجتمع تحكمه دولة القانون ونظام الحريات العامة وحقوق الإنسان!