شعار الموقع

النص الشرعي: مفهومه وفهمه

عبدالهادي الفضلي 2004-10-15
عدد القراءات « 5184 »

يستقي البحث مادته العلمية من دراسات أصول الفقه, ومحتويات تاريخ التشريع الإسلامي وتطبيقات الفقه الإستدلالي ومواد الفقه الفتوائي.
وقد اعتمدت في الرجوع إلى ذلك على مؤلفاتي الثلاثة في أصول الفقه, وهي:
«مبادئ أصول الفقه», و«دروس في أصول فقه الإمامية», و«الوسيط في الاجتهاد وقواعد دراسة النصوص الشرعية».
يحاول الباحث قدر الإمكان أن يلتزم المنهج العلمي العام, والمنهج الأصولي الخاص, مبتعداً ما وسعه الابتعاد عن تأثيرات المنهج الكلامي المألوف والمتبع في الدرس الأصولي, وذلك بغية أن يأتي البحث من حيث الإعداد والتعبير والعرض بمستوى متطلبات المعاصرة مع المحافظة على أصالة الفكر الأصولي ومعطياته.

مفهوم النص الشرعي:
تستعمل كلمة «نص» في لغتنا العربية العلمية المعاصرة في المعنيين التاليين مما يلتقي وموضوع بحثنا هذا:
1ـ‏اللفظ الذي لايحتمل إلا معنى واحداً. بمعنى أنه لايدل إلا على معنى واحد, ومن حيث الدلالة مقصور على هذا المعنى المعين,‏وان يكون اقتصاره على هذا المعنى المعين نافياً لاحتمال إرادة معنىýآخر منه.
وسمي مثل هذا اللفظ الدال على معنى واحد نصاً لأن النص في إحدى دلالاته الموروثة من قديم لغتنا هو التعيين والتحديد, يقال: (نص على الشيء نصاً: عيّنه وحدّده).
وهذا المعنى لكلمة (نص)‏ـ وأعني به الدلالة على معنى واحد ـ معنى مولد أفادته اللغة العربية في العصر العباسي إبّان إزدهار الحركة العلمية عن طريق ترجمة علم المنطق.
2ـ اللفظ مطلقاً, أي بما يحمل من معنى, واحداً‏أو أكثر من واحد, كلمة أو كلاماً.
وهو من الجديد المعاصر الذي أفادته لغتنا العربية نتيجة تقارضها مع اللغة الانجليزية, ففي الانجليزية يقال enunciation , وهي تعني المعنى المذكور, وترجمت إلى العربية بـ (اللفظ) و(النطق) و(البيان) و(التعبير), وكلها تعطي المعنى المذكور.
وقد شاع استعمال كلمة (النص) في (اللفظ) شيوعاً ملحوظاً, لاسيما في الأدبيات, فأصبحنا نقول: (نص أدبي) ونعني به كلاماً ‏أدبياً ‏كجملة أو بيت شعر أو قطعة من نثر والخ, ونقول (نص علمي) ونريد به كلاماً علمياً, و(نص فلسفي) وهكذا. ومنه أن أصبحنا نقول أيضاً: (نص شرعي) و(نصوص شرعية) فنطلق كلمة «نص» على الآية وعلى الرواية.
ونلمس كثرة هذا الاطلاق والاستعمال في كتبنا الفقهية المعاصرة في أمثال كتاب (مستمسك العروة الوثقى) لأستاذنا الفقيه السيد محسن الحكيم, انظر على سبيل المثال: الجزء الأول من الطبعة الرابعة ـ سنة 1391هـ: الصفحات التالية: 111 ففيها يقول بياناً لطهارة ومطهرية الماء المطلق:‏«ثم أنه لاتخلو النصوص الشريفة من الدلالة على طهارته ومطهريته», و163 و354 ففيها يقول مستدلاً على طهارة الدم المتخلف في الذبيحة: «كأنه لاطلاق بعض النصوص الواردة في بعض الموارد الخاصة» و375, وغيرها. فالمراد من النص ـ هنا ـ الألفاظ الشرعية, كلمة كانت أو كلاماً.
ووصفت بـ (الشرعية) لتختص بما تلقيناه عن المشروع الإسلامي, ويتمثل هذا في أيات القرآن الكريم وروايات السنة الشريفة, ولايتعدى منها إلى سواهما من أقوال وفتاوى الفقهاء إلا بشيء من التسامح في التعبير أو الإتساع في الكلام, ذلك أن ما عدا الآيات والروايات ما هو موجود في لغة وكتابة الفقهاء يوصف بالفقهي أو الفقهية, فيقال (نص فقهي) و(نصوص فقهية).
ونخلص من هذا إلى أن المراد بالنص الشرعي: الكلام الصادر من المشرع الإسلامي لبيان التشريع. وينحصر هذا في المصدرين الأساسيين للتشريع الإسلامي وهما: الكتاب والسنة.
ومما تقدم تبينا‏ـ‏وبوضوح ـ أن مواد النص الشرعي, هي:
ـ آيات الأحكام من القرآن الكريم.
ـ روايات الأحكام من السنة الشريفة.
فهي التي يتناولها الفقيه بالدراسة لاستفادة الحكم الشرعي منها.

مدونات النص الشرعي:
وقد ألف الفقهاء المسلمون في آيات الأحكام وروايات الأحكام جمعاً‏ودراسة الكثير من الكتب والرسائل.
ومنها في آيات الأحكام:
1ـ أحكام القرآن, الإمام الشافعي (ت 204هـ), جمع الحافظ أحمد بن الحسين البيهقي النيسابوري الشافعي (ت 458هـ).
2ـ أحكام القرآن, أحمد بن علي الرازي الجصاص (ت370هـ).
3ـ أحكام القرآن, ابن العربي (ت 453هـ).
4ـ أحكام القرآن,‏الكياالهراسي (ت 504هـ).
5ـ فقه القرآن, سعيد بن عبد الله الراوندي (ت 573هـ).
6ـ كنز العرفان في فقه القرآن, المقداد بن عبد الله السيوري (ت 826هـ).
7ـ زبدة البيان في شرح آيات أحكام القرآن, أحمد بن محمد الأردبيلي (ت 993هـ).
8ـ آيات الأحكام, محمد بن علي الاستر آبادي (ت 1028هـ).
9ـ قلائد الدرر في بيان أيات الأحكام بالأثر, أحمد بن اسماعيل الجزائري (ت حدود 1150هـ).
وفي روايات الأحكام:
1ـ‏الكافي (الفروع), محمد بن يعقوب الكليني (ت 329هـ).
2ـ من لايحضره الفقيه, محمد بن علي بن بابويه الصدوق (ت 381هـ).
3ـ السنن الكبرى, أحمد بن الحسين البيهقي (ت 458هـ).
4ـ تهذيب الأحكام, محمد بن الحسن الطوسي (ت 460هـ).
5ـ عمدة الأحكام, عبد الغني المقدسي (ت 600هـ).
6ـ منتقى الأخبار في الأحكام,‏عبد السلام الحراني (ت 652هـ).
7ـ الإلمام في أحاديث الأحكام, ابن دقيق العيد (ت 702هـ).
8ـ بلوغ المرام من أدلة الأحكام, ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ).
9ـ الوافي, محمد محسن الفيض الكاشاني (ت 1091هـ).
10ـ وسائل الشيعة في أحكام الشريعة, محمد بن الحسن الحر العاملي (ت 1104هـ).
11ـ مستدرك الوسائل, حسين بن محمد تقي النوري (ت 1320هـ).
12ـ جامع أحاديث الشيعة,‏لجنة من العلماء المعاصرين.

عوامل الاجتهاد في دراسةالنص الشرعي:
اصطلح العلماء المسلمون على تسمية دراسة النصوص الشرعية بغية استنباط الأحكام الشرعية منها باسم (الاجتهاد), وهو أن يبذل الفقيه قصارى طاقته الفكرية في دراسة النص الشرعي بحثاً‏عن الحكم الذي يحمله النص في طياته وفق القواعد العلمية المشروعة وما يمتلكه من خلفيات ثقافية تساعده على ذلك. وطبيعة النصوص الشرعية هو الذي فرض الاجتهاد, وأهم العوامل التي دفعت لذلك هي:
1ـ إن القرآن الكريم انتهج في أسلوب بيانه ظاهرة الكتاب الإلهي المقدس,‏تلك الظاهرة التي امتدت مع الإنسان منذ صحف إبراهيم (ع) حتى قرآن محمد (ص), والتي تمثلت في الأسلوب الخطابي المتوافر على عناصر الدعوة إلى الله تعالى.
وذلك لأن الهدف الأساسي للكتب الإلهية المقدسة هو الدعوة إلى الله تعالى, والأسلوب المناسب للدعوة هو الأسلوب الخطابي لأنه الأسلوب الذي يقتدر بما يمتلك من إثارة مؤثرة وشحن عاطفي مثير على مخاطبة العقل عن طريق القلب. وجميع ما يذكر من شؤون أخرى إنما تذكر لأن لها علاقة بالدعوة إلى الله تعالى. ومن هنا لم تذكر الأحكام الشرعية إلا في سياق السور أو سياق الآيات, أي أنها لم تجمع في سورة واحدة أو موضع واحد.
وأكثر من هذا: لم تجمع الآيات للموضوع الواحد في موضع واحد, وذلك التزاماً بظاهرة الكتاب الإلهي المقدس. فقد تنزل الآية لبيان الحكم بشكل مباشر كما في آية الصوم: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون}, وقد تنزل إنكاراً‏لمنكر قائم, فيفهم منها الحكم بمعونة القرينة كما في آية الربا المضاعف‏{يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا اضعافاً مضاعفة}, وآية المؤودة {وإذا المؤودة سئلت بأي ذنب قتلت}, وقد يأتي الحكم متدرجاً‏ولايفهم تدرجهýإلا بعد تجميع ما نزل فيه من آيات ودراستها دراسة مقارنة في هدي ما أحاط بها من قرائن أفادت التدرج كما في عقوبة الزنا فقد كانت في البدء الإيذاء عن طريق التوبيخ والتحقير {واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فان تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان تواباً رحيماً}‏ثم صارت ـ‏بعد هذا‏ـ الإمساك في البيوت {واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلاً}, وأخيراً‏استقرت العقوبة على الجلد أو الرجم {الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة}.
وقد يحرّم الفعل بأسلوب الجملة ذات الدلالتين المنطوقية والمفهومية كما في قوله تعالى {ولا تقل لهما أف} المستفاد منها حرمة التأفيف منطوقاً‏وحرمة ما هو أشد منه مفهوماً.
وقد تختلف القراءة فيختلف الحكم باختلافها كما في قوله تعالى {يسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن} حيث قرئت عبارة (يطهرن) بالتخفيف الذي يعطي ظهورها في معنى النقاء من دم الحيض, وبالتشديد الذي يعطي ظهورها في معنى الاغتسال من الحيض.
وهذا الاختلاف بين القراءتين يكون مدعاة بطبيعة الاختلاف بين الظهورين المذكورين إلى الإختلاف في استفادة حكم وطئ المرأة بعد النقاء من دم الحيض وقبل اغتسالها.
فعلى قراءة التخفيف يستفاد جواز الوطئ قبل الغسل. وعلى قراءة التشديد يستفاد المنع من الوطئ قبل الغسل.
كل هذا يجعل الاجتهاد أمراً لابد منه, لأن استخلاص الحكم في ضوء ما ذكرت من أسلوب وملابساته لايتأتى ولا يتحقق إلا عن طريق الاجتهاد.
والشأن في السنة الشريفة لايختلف عما هو في القرآن من حيث الاختلاف والحاجة بسببه إلى الاجتهاد.
ومن أمثلة ذلك في السنة القولية: (من جدّد قبراً‏أو مثّل مثالاً فقد خرج عن الإسلام).
فقد روي (جدد) بالجيم المعجمة, ويعني: تجديد بناء القبر بعد اندراسه.
وروي (حدد) بالحاء المهملة, ويعني: تسنيم القبر.
وروي (خدد) بالخاء المعجمة, ويعني: شق القبر.
وروي (جدث) بالجيم المعجمة من أوله, والثاء الثلاثية من آخره, ويعني: جعل القبر المدفون فيه ميت قبراً لميت آخر.
فإن كل واحد من هذه المعاني المذكورة يتدخل في تحديد معنى الحكم.
وكما في الحديث التالي: (قلت: ويسيل عليّ ماء المطر أرى فيه التغير وأرى فيه آثار القذر فتقطر القطرات عليّ وينتضح عليّ منه والبيت يتوضأ على سطحه فكيف على ثيابنا؟ قال (ع): ما بذا بأس, لاتغسله, كل شيء يراه ماء المطر فقد طهر).
هكذا نقل هذا الحديث الشريف في بعض نسخ‏(الكافي) ونقل في نسخ كتاب (الكافي) الأخرى وكتاب (الحدائق) وكتاب (الوسائل) هكذا (قلت: ويسيل عليّ من ماء المطر...) فإن ما يعطيه الحديث حسب النقل الأول هو أن ماء المطر أخذ يقطر على الرجل, وما يعطيه الحديث حسب النقل الثاني هو أن ماء المطر أخذ يسيل على الرجل ويجري من الميزاب عليه.
وهما معنيتان مختلفان نشأ من ذكر (من) في الحديث وعدم ذكرها ومن الأمثلة في السنة الفعلية: الاختلاف بين المسلمين في كيفية الوضوء وكيفية التيمم, وهكذا.
كما أن فهم معاني التشريع ودلالات ألفاظ النصوص الشرعية,‏سواء كان ذلك في الآيات أو الروايات يتطلب فهم لغة عصر التشريع تراكيب ومفرادات وأسلوب بيان.
وكذلك لأن أكثر الروايات التي وصلت إلينا كانت أجوبة لأسئلة من أناس يختلفون في بيئاتهم من حيث الشؤون الاجتماعية والثقافية مما يستلزم فهمها وفهم شخصية السائل من حيث المستوى الثقافي.
كل ذلك وأمثاله كان مدعاة للزوم الإجتهاد, وفي الوقت نفسه هو مدعاة لأن تقوم وظيفة الاجتهاد وممارسته على أساس من العمل المعمّق في البحث والتدقيق وبذل أقصى الطاقة في الاستقصاء والتحقيق.
يقول أستاذنا السيد محمد باقر الصدر في بيان (كيف نشأت الحاجة إلى الاجتهاد) من مقدمة كتابه (الفتاوى الواضحة)‏بما يلقي الضوء على أهمية الاجتهاد: «والمصدر الاساس للشريعة هو الكتاب الكريم والسنة الشريفة, ولو كانت أحكام الشريعة قد أعطيت كلها من خلال الكتاب والسنة ضمن صيغ وعبائر واضحة صريحة لايشوبها أي شك أو غموض لكانت عملية استخراج الحكم الشرعي من الكتاب والسنة ميسورة لكثير من الناس, ولكنها في الحقيقة لم تعط بهذه الصورة المحددة المتميزة الصريحة, وإنما أعطيت منثورة في المجموع الكلي للكتاب والسنة وبصورة تفرض الحاجة إلى جهد علمي في دراستها والمقارنة بينها, واستخراج النتائج النهائية منها, ويزداد هذا الجهد العلمي ضرورة,‏وتتنوع وتتعمق أكثر فأكثر متطلباته وحاجاته كلما ابتعدالشخص عن زمن صدورالنص وامتد الفاصل الزمني بينه وبين عصر الكتاب والسنة بكل ما يحمله هذا الإمتداد من مضاعفات, كضياع جملة من الأحاديث ولزوم تمحيص الأسانيد وتغير كثير من أساليب التعبير وقرائن التفهيم والملابسات التي تكتنف الكلام ودخول شيء كثير من الدس والإفتراء في مجاميع الروايات, الأمر الذي يتطلب عناية بالغة في التمحيص والتدقيق, هذا إضافة إلى أن تطور الحياة يفرض عدداً‏كثيراً من الوقائع والحوادث الجديدة التي لم يرد فيها نص خاص فلابد من استنباط حكمها على ضوء القواعد العامة, ومجموعة ما أعطي من أصول وتشريعات. كل ذلك وغير ذلك مما لايمكن استيعابه في هذا الحديث الموجز جعل التعرف على الحكم الشرعي في كثير من الحالات عملاً علمياً‏معقداً وبحاجة إلى جهد وبحث وعناء وإن لم يكن كذلك في جملة من الحالات الأخرى التي يكون الحكم الشرعي فيها واضحاً كل الوضوح».
فالاجتهاد الفقهي هو الوسيلة التي يتوصل إلى الحكم الشرعي بواسطتها وعن طريقها حيث تنصب على دراسة النص الشرعي بحثاً‏عن الحكم.

أهداف دراسة النص الشرعي:
يتمثل الغرض من الاجتهاد الفقهي ودراسة النص الشرعي بالتالي:
1ـ معرفة الأحكام الشرعية التي كلّف الله تعالى عباده بها بمالها من شمولية تعم جميع مجالات حياتهم فردية واجتماعية.
2ـ إن الدين الإسلامي يختلف عن الأديان الأخرى بما يتمتع به من استمرارية مع هذه الحياة حتى نهايتها. والحياة ـ كما هو معلوم بالبداهة ـ في تطور مستمر, تستجد فيها أمور وتنتهي أخرى, وتتغير فيها شؤون من حال لأخرى.
وكل هذا تحتاج إلى الوسيلة التي تلتمس لها الأحكام الشرعية المناسبة عن طريقها, وليست هي إلا الاجتهاد.

محاور دراسة النص الشرعي:
ومحاور البحث في النصوص الشرعية, أو قل: الموضوعات التي يتناولها الفقيه والباحث الفقهي بالدراسة توخياً ‏للوصول إلى الحكم الشرعي تتمثل بالتالي:
1ـ اسناد النص.
2ـ دلالة النص
أـ في القرآن الكريم: في اسناد القرآن الكريم لايحتاج الفقيه إلى دراسة لاثبات أنه صادر عن الله تعالى, لثبوت ذلك بالضرورة الدينية عند المسلمين.
وعليه: تقتصر دراسة الآية باعتبارها نصاً شرعياً‏على محاولة فهم دلالتها.
ب ـ وفي السنة الشريفة: يقسم علماء الفقه وكذلك علماء الحديث سند الرواية إلى قسمين: ما هو مقطوع بصدروره عن المعصوم وما هو مظنون الصدور. ويعبرون عن الأول ـ غالباً‏ـ‏بقطعي الصدور, وعن الثاني بظني الصدور.
ويقسمون القطعي منهما إلى قسمين:
1ـ الحديث المتواتر.
2ـ الحديث المقترن بما يفيد القطع بصدوره.
وكلا القسمين لايحتاج الباحث الفقهي معهما لاثبات مشروعية العمل بهما عن طريق إثبات صدروهما عن المعصوم, لأن القطع (اليقين) حجة بذاته, وثبوت حجيته بديهي وبالوجدان, ومع الوجدان لانفتقر إلى البرهان.
ويقسمون الظني إلى قسمين أيضاً:
1ـ الخبر المعتبر: وهو الخبر الظني الذي قام الدليل على اعتباره شرعاً, وصحة العمل به. ويصطلح عليه أصولياً بـ (خبر الثقة).
2ـ الخبر غير المعتبر: وهو الذي لم يقم الدليل على اعتباره. ويصطلح عليه أصولياً‏بـ(الضعيف) بمختلف أنماطه.
وفي ضوء ما تقدم يتمثل محور البحث في إسناد النص في ما اصطلح عليه بـ‏(خبر الثقة). وذلك لأن اقصى ما تفيده وثاقة الخبر, الظن بصدوره عن المعصوم, والظن بالصدور يقابله احتمال عدم الصدور, وهذا الاحتمال يتطلب إثبات اعتبار الظن المقابل له شرعاً, وصحة الركون إليه. من هنا لابد من التماس الدليل على ذلك. استدلوا لذلك بدليلين, هما:
1ـ القرآن الكريم: وذلك في مثل الآية الكريمة {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً‏بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين} ـ سورة الحجرات 6ـ. ببيان أن الله تعالى أوجب التبين (التثبت) في قبول خبر الفاسق, ولازم هذا قبول خبر الثقة, لأن التبين الذي أمر الله به جاء بسبب فسق المخبر, وهذا يعني أنه إذا لم يكن المخبر فاسقاً‏لايجب التبين في قبول خبره. ونتيجة هذا: جواز الاعتماد على خبر الثقة, والعمل على وفقه.
2ـ سيرة المتشرعة: والمرادبها سيرة المسلمين القائمة على سيرة الناس, المعبّر عنها في لغة أصول الفقه بـ (سيرة العقلاء) و(بناء العقلاء) الموثقة من قبل المشرع الإسلامي. وقد رأينا ـ فيما تقدمه ـ أن المشروع الاسلامي قد أقر هذه السيرة (سيرة الاعتماد على خبر الواحد) ولكن بعد تهذيبها باشتراط ان يكون الراوي ثقة, فولّد بهذا الشرط من سيرة العقلاء‏سيرة خاصة بالمسلمين وهي المصطلح عليها بسيرة المتشرعة.
والطريق إلى معرفة وثاقة الرواة هو الرجوع إلى كتب وموسوعات علم الرجال والجرح والتعديل, أمثال:
1ـ التاريخ في رجال الحديث, محمد بن اسماعيل البخاري (ت 256هـ).
2ـ الضعفاء, له أيضاً.
3ـ الضعفاء والمتروكين, أحمد بن شعيب النسائي (ت 303هـ).
4ـ الكنى والأسماء, محمد بن أحمد الدولابي (ت 320هـ).
5ـ الجرح والتعديل, ابن أبي حاتم الرازي (ت 327هـ).
6ـ الثقات من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين, محمد بن حبان البستي (ت 354هـ).
7ـ اختيار معرفة الرجال, رجال الكشي: محمد بن عمر بن عبد العزيز (ق4).
8ـ رجال النجاشي: أحمد بن علي بن العباس (ت 450هـ).
9ـ رجال الطوسي: محمد بن الحسن (ت 460هـ).
10ـ الضعفاء, ابن الغضائري: أحمد بن الحسين بن عبيد الله (ق5).
11ـ معالم العلماء, ابن شهراشوب: محمد بن علي السروي (ت 588هـ).
12ـ الفهرست, منتجب الدين بن بابويه‏(ق6).
13ـ الرجال, ابن داود الحلي: الحسن بن علي (ت 707هـ).
14ـ خلاصة الأقوال, العلامة الحلي: الحسن بن يوسف (ت 726هـ).
15ـ تهذيب الكمال, يوسف المزي (ت 742هـ).
16ـ الكاشف في أسماء الرجال, محمد بن أحمد الذهبي (ت 748هـ).
17ـ ميزان الإعتدال في نقد الرجال, له أيضاً.
18ـ‏المشتبه في أسماء الرجال, له أيضاً.
19ـ التكميل في معرفة الثقات والضعفاء والمجاهيل, ابن كثير: اسماعيل بن عمر (ت 774هـ).
20ـ لسان الميزان,‏ابن حجر العسقلاني: أحمد بن علي (ت 852هـ).
21ـ التحرير الطاووسي, الحسن بن زين الدين العاملي (ت 1011هـ).
22ـ منهج المقال, محمد بن علي الاسترابادي (ت 1028هـ).
23ـ جامع المقال, فخر الدين الطريحي (ت 1085هـ).
24ـ مجمع الرجال, عناية الله القهبائي (ق11).
25ـ نقد الرجال, الأمير محمد التفريشي (ق11).
26ـ جامع الرواة, محمد بن علي الأردبيلي (ق12).
27ـ اتقان المقال, محمد طه نجف (ت 1323هـ).
28ـ تنقيح المقال, عبد الله المامقاني (ت 1351هـ).
29ـ معجم رجال الحديث, أبو القاسم الخوئي (ت 1413هـ).
30ـ قاموس الرجال, محمد تقي التستري (ت 1415هـ).
والخلاصة: إن المطلوب من الفقيه والباحث الفقهي التأكد من وثاقة سند الحديث, ويتمثل هذا بالخطوات التالية:
أـ التأكد من تواتر الحديث وفق ما يتبناه الفقيه في تحديد مبدأ التواتر.
ب ـ‏التأكد من أن القرائن التي تحيط بالحديث تفيد القطع بصدوره.
ج ـ وبالنسبة للحديث الذي لم يقطع بصدوره عليه:
1ـ أن يدرس أحوال رواته وفق متبنياته التي يفيدها من بحثه في تقييمات وتقويمات علماء الرجال.
2ـ أن يتأكد من أن القرائن المحيطة بالنص تفيد الوثوق بصدوره عن المعصوم في إطار ما يمتلكه الفقيه من خلفيات ثقافية تساعد على ذلك.

دلالة النص:
تقدم أن دراسة سند النص الشرعي يقتصر فيها على سند الحديث فلا تشمل سند القرآن الكريم لأن صدوره عن الله تعالى ثابت بالضرورة الدينية عند المسلمين. أما هنا فالدراسة تعمم دلالة الآية ودلالة الرواية. والدلالة هنا:
ـ قد تكون نصاً‏في المعنى الذي تدل عليه.
ـ وقد تكون ظاهرة فيه.
والفرق بين الدلالة النصية والدلالة الظهورية هو:
ـ إن الدلالة النصية هي دلالة تعيين,‏بمعنى أن اللفظ لايدل إلا على معنى واحد, ولاتحتمل دلالته على غيره. فالمعنى المدلول عليه متعين. وهكذا دلالة, لايحتاج الفقيه معها إلى أكثر من التأكد من أن اللفظ نص في معناه لايدل على سواه. وهذا كما في دلالة كلمة (أبداً) على معنى التأبيد من الآية الكريمة: {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة ولاتقبلوا لهم شهادة أبداً‏وأولئك هم الفاسقون} ـ سورة النور 4 ـ ففي هذه الآية الكريمة يستفاد من كلمة (أبداً) حرمة قبول شهادة الذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء حرمة مؤبدة, وذلك لانحصار كلمة (أبداً) في الدلالة على التأبيد والاستمرار, لأنها نص في معنى التأبيد.
ـ أما الدلالة الظهورية فتعني أن اللفظ يدل على أكثر من معنى إلاّ أن دلالته على أحدها أظهر وأبين. ولهذا : على الفقيه وهو يلتمس الحكم من ظواهر الالفاظ أن يقوم بالخطوتين التاليتين:
أـ أن يتأكد من أن الدلالة ظهورية وليست نصية ولا احتمالية.
ب ـ‏أن يثبت أن الظواهر اللفظية يصح الاحتجاج بها شرعاً, بمعنى أنه يسوغ للفقيه الاعتماد عليها والاستناد إليها في محاولة استفادة الحكم الشرعي.
وقد عنون علماء أصول الفقه هذا الموضوع بـ (حجية الظهور) لأنهم يبحثون فيه عن مشروعية الأخذ بظواهر الألفاظ والركون إليها في استفادة الحكم الشرعي منها.
واستدلوا على أن ظهورات الألفاظ حجة من ناحية شرعية بـ (سيرة العقلاء) الموثقة من قبل المشرع الإسلامي. بتقريب أن الاستقراء قد أفادنا بأن الأخذ بظواهر الألفاظ ظاهرة لغوية ـ اجتماعية, عامة, أي انها موجودة في كل لغات العالم وفي جميع مجتمعات البشر, ولم يعهد من المشرع الإسلامي عدم توثيقها بل المعهود منه السير بسيرة الناس في الاعتماد على هذه الظاهرة. وهنا ليس على الفقيه بعد تبنيه لهذه القاعدة (قاعدة الظهور) عن طريق اجتهاده في المسألة إلا التأكد من النص الذي يريد أن يستدل به أو يستنبط الحكم منه من أنه من مصدايق هذه القاعدة وواحد من جزئياتها.
وإلى هنا لابد من التساؤل: ما هو المعنى الظاهر الذي هو محور البحث في الدلالة الظهورية؟
إن الإجابة عن هذا السؤال توقفنا على أهم سبب للاختلاف في اجتهادات الفقهاء. والاجابة أن للمعنى ثلاثة وجودات, هي:
1ـ وجوده في الواقع الموضوعي, المصطلح عليه ـ فلسفياً‏ـ بـ (الواقع الخارجي) لأنه خارج الذهن. وهذا الوجود هو حقيقة الشيء وواقعه.
2ـ وجوده في الذهن, المصطلح عليه ـ فلسفياً‏ـ‏بـ (الوجود الذهني). وهذا الوجود هو الصورة التي ترسم في الذهن للمعنى الموجود في الواقع الخارجي. وهذه الصورة قد تطابق المعنى الموجود في الواقع للخارجي مطابقة كاملة وقد تطابقه من بعض الوجوه وتخالفه من وجوه أخرى, وقد تخالفه مخالفة كاملة.
3ـ وجوده في اللفظ, المصطلح عليه بـ‏(الوجود اللفظي). وهذا الوجود هو انعكاس للمعنى الموجودة في الذهن. وإلى هنا: أمامنا معنيان: المعنى الخارجي والمعنى الذهني, فأيهما الذي يدل عليه اللفظ, ليكون محور البحث في مسألتنا هذه. وبتعبير آخر: أي المعنيين هو المعنى الظاهر للفظ والذي يبحث الفقيه عنه وفيه?
إن المعنى المقصود لنا هنا‏(في دلالة الألفاظ) هو المعنى الذهني, وهو الذي يتعامل معه الفقيه في استفادة الحكم منه وفي ترتيب الآثار العلمية والشرعية عليه. يقول ابن سينا في كتابه (الشفاء): «ومعنى دلالة اللفظ: أن يكون إذا ارتسم في الخيال مسموع اسم ارتسم في النفس (يعني في الذهن) فتعرف النفس أن هذا المسموع لهذا المفهومن فكلما أورده الحس على النفس التفتت إلى معناه».
فمعنى المعنى: هو المفهوم المرتسم في الذهن كصورة للمعنى الموجود في الواقع خارج الذهن. ويعبّر عنه بـ‏(المفهوم) و(الفكرة) و(المعنى).
وبسبب أن صورة المعنى الخارجي المرتسمة في الذهن قد تطابق المعنى الخارجي وقد تشابهه من بعض الوجوه وقد تخالفه ينشأ الاختلاف في فهم المعنى الظاهر بين الفقهاء, ويكون مدعاة للاختلاف في الحكم المستفاد منه. ولنأخذ مثالاً ميسوراً‏للجميع هو فيما إذا قيل: يكره الاشتراك في المنديل الواحد. فقد يستظهر بعضهم من كلمة (الاشتراك) في المنديل الواحد أن يمسك كل من الشخصين المتمندلين بطرف من المنديل وينشف يديه من غسلهما بعد الأكل. ويستظهر آخر أن الإشتراك يتحقق في الصورة المذكورة ويتحقق أيضاً حتى بتمندل كل منهما الواحد بعد الآخر. ومثله ما لو قلت (اتخذ من هذاالرغيف عشاءك) فقد يُستظهر منه أن للمخاطب أن يأكل الرغيف كله, وله أن يتناول منه كفايته, أي بعضه.

طريقة فهم الظهور:
ان المستفاد من أبحاث الفقهاء وتجاربهم العلمية النابعة من تعاملهم مع النصوص الشرعية بغية استنباط الحكم الشرعي منها هو أن لديهم طريقتين لفهم ظهورات الألفاظ,‏أو قل لفهم المعنى الظاهر من النص الشرعي, وهما:
ـ الفهم العلمي.
ـ الفهم العرفي.
وقبل محاولة إيضاح فحوى كل من الطريقتين نمهد ببيان ما تتوقف عليه الدلالة اللغوية لنعيّن معناها المتوخى من استخدامها فنقول: إن الإنسان عندما يستخدم الكلام لابراز ما في نفسه من معاني يروم إيصالها للمتلقي سامعاً أو قارئاً عبر الألفاظ وبواسطة العلاقة القائمة بينها وبين المعاني, تلك العلاقة المصطلح عليها بالدلالة يتوقف تبيين وتعيين المعنى الذي يهدف إليه المتكلم على شيئين,‏هما:
1ـ الوضع أو الإستعمال:
ويراد به أن يكون اللفظ موضوعاً‏من قبل أهل اللغة للمعنى أو مستعملاً فيه من قبلهم. وأن يكون كل من المتكلم والمتلقي عالمين بذلك الوضع أو الإستعمال, وعارفين به.
2ـ القصد: ويراد به أن يكون المتكلم قاصداً‏للمعنى. والذي يدلنا على الوضع (أي أن هذا المعنى هو الذي وضع اللفظ له). وبتعبير آخر: على أن هذا اللفظ هو اللفظ الذي قامت علاقة الدلالة بينه وبين المعنى.
إن الذي يدلنا على هذا هو قاعدة الظهور. والذي يدلنا على تحديد وتعيين قصد المتكلم هو قواعد تشخيص مرادات المتكلمين.
والطريق الذي سلكه الفقهاء إلى معرفة الظهور, أي إلى معرفة أن هذا اللفظ ظاهر في هذا المعنى دون غيره من المعاني تمثل فيما ذكرناه مما أسميناه بالفهم العلمي والفهم العرفي.

الفهم العلمي: ونعني به استخدام القواعد العلمية لمعرفة الظهور, تلكم القواعد المرتبطة بفهم معطيات تركيب الألفاظ, كلمة وكلاماً, وهي:
ـ قواعد علم الأصوات.
ـ قواعد علم الصرف.
ـ قواعد علم النحو.
ـ قواعد علم البلاغة.
ـ قواعد علم الأسلوب.
ـ قواعد علم اللغة العام.
ـ قواعد الدلالة والمعجم.
ويضيف إليها الفقهاء نظريات الفلسفة القديمة والإسلامية ومبادئ علم الكلام وضوابط علم المنطق اليوناني وما إليها من عقليات.
أي إن النص الشرعي يُدرس في ضوء. أو هدي هذه القواعد العلمية, وعن طريقها يتوصل الفقيه والباحث الفقهي إلى دلالة ومدلول النص الشرعي ومن ثم يستخلص الحكم منه.
وهذا اللون من الفهم هو ما يعرف الآن في علم النقد الأدبي الحديث بالدراسة البنيوية structuralisme نسبة إلى البنية (بنية النص) التي تعني هيئته وتركيبه, ومن هنا عبّر عنها بعضهم بالبنائية نسبة إلى بناء النص أي بنيته, وعبّر عنها آخرون بالتركيبية نسبة إلى تركيب النص أي بنيته. وعادةً‏يبحث في النص في إطار هذه الدراسة مجرداً‏من علائقه وقرائنه في الواقع الموضوعي (الخارجي) الذي انبثق فيه ومنه. ومن هنا هي ـ في واقعها ـ دراسة داخلية, أي إن نتائجها تستفاد من داخل النص, من تركيبه عن طريق دلالة المفردات ودلالة نظمها في سلك التركيب.

الفهم العرفي:
ونعني به فهم دلالة النص وتعيين مدلوله من خلال معرفتنا لكيفية تعامل العرف (وهم أبناء المجتمع) معه. أو قل: نفهم معنى النص من القرائن الاجتماعية المحيطة به والملابسات الأخرى التي لها ارتباط به. ويعرف هذا اللون من الدراسة في الدرس الأدبي الحديث بالدراسة البيئية, نسبة إلى البيئة Environment , حيث يدرس النص في إطار معالم بيئته الحضارية, ثقافية واجتماعية. وهي ـ كما هو واضح ـ دراسة خارجية, في هدي ما يفهمه العرف من النص.
والخلاصة: إن الموقف الفقهي من السلوك إلى معرفة معنى النص الشرعي يتمثل في التالي:
1ـ الإعتماد على الدراسة الداخلية للنص بتطبيق القواعد العلمية عليه, والاقتصار على ذلك. أي إن الفقيه يعتمد على الصناعة العلمية فقط, ومن هنا نعتوه ـ في عصرنا هذا ـ بالفقيه الصناعي.
2ـ الاعتماد على الدراستين معاً الداخلية والخارجية.
وفي حالة حصول تنافٍ بين الدلالة البنيوية والدلالة البيئية, أو اختلاف بين الفهم العلمي والفهم العرفي, تقدم نتيجة الفهم العرفي على نتيجة الفهم العلمي, وذلك للسببين التاليين:
1ـ انه قد ثبت من الاستقراء لاستعمالات المشرع الإسلامي في خطاباته وحواراته أنه يسلك طريقة الناس (العرف).
2ـ ان استعمال العرف هو بمثابة القرينة, والقرينة في حالة تعارضها مع صاحبها تقدم عليه لأنها مفسِّرة, والمفسِّر يقدم على المفسَّر, وهذا من القضايا الواضحة.
والذي يتحكم في هذا الفهم العرفي هو ما يمتلكه الفقيه من ذوق أدبي يوقفه على نكات التعبير ودقائق التركيب اللفظي. كما أن الذي يحكّم فيه هو ما يحمله الفقيه من حس اجتماعي يدرك به عرفيات النص التي يضيفها الاستعمال الاجتماعي على مغزاه ومؤداه, التي هي فوق القواعد والتي هي من نتائج الطريقة الاجتماعية (العرفية) في التعامل مع الصياغات الكلامية ودلالاتها. ومن هنا نعت هذا الفقيه بالفقيه الذوقي. وأيضاً‏ـ‏وعلى أساس منه ـ ندرك أهمية وضرورة اطّلاع الفقيه على حضارة عصور التشريع الإسلامي, وبخاصة ما يرتبط منها بفهم دلالات النصوص الشرعية.
كما لابد في دراسة دلالة النص الشرعي من أن نتحرك داخل إطار المبدأ العام للتشريع الإسلامي الذي راعى فيه المشرع الإسلامي أن يلتقي دائماً وأبداً‏مع طبيعة الإنسان في تكوينه الجسدي والروحي والنفسي والعقلي, تلك الطبيعة التي عبّر عنها تعالى وتقدس بالفطرة {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرة الله التي فطر الناس عليها لاتبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لايعلمون} ـ سورة الروم 30‏ـ وداخل دائرة علاقاته الاجتماعية فرداً‏وأسرة ومجتمعاً ودولة,‏وبها يحافظ على مقاصد الشريعة, وهي: حفظ الدين وحفظ النفس وحفظ العقل وحفظ النسل وحفظ المال.
ومن الواضح أن الفقيه الذوقي هو الأقرب إلى طبيعة وواقع فهم النصوص الشرعية. وعلى أساس من هذا ـ ومن غير ريب في ذلك ـ يفضل مثل هذا الفقيه على الفقيه الصناعي. وينبغي أن يحتاط لذلك حتى في مجال التقليد وإناطة منصب الإفتاء العام.

* من الهيئة الاستشارية لمجلة الكلمة,‏كان أستاذاً للتعليم الديني والجامعي, وأعد‏بعض المناهج الدراسية, ومتفرغ حالياً للبحث والتحقيق/ من المملكة العربية السعودية.