ربما كان الحديث عن الواقع الإتصالي العربي الآن حديثاً يكتنفه ما يكتنف الواقع العربي نفسه من مشكلات وتعقيدات حادة ما انفكّت تلقي بظلالها الحادة على شتى الفعاليات الثقافية والإبداعية وغيرها. لكنّ النظرة العقلانية المتأمّلة للخارطة الإتصالية الآن، تقود إلى تدبّر ما تشهده وما تخفي وراءها من مفاجآت ربما ستترك وراءها الجهود الفردية اللاهثة على الصعيد العربي، ستتركها وراءها بفاصلة كبيرة. ولهذا فإن تعاملنا مع هذا الأفق الإتصالي الضاج لن ينسينا (الكيفية) التي جئنا بها لندخل (نادي الفضائيات)، فلم يكن ذلك الدخول إلا موقفاً اراد به الداخلون اللحاق بالركب ولذا لم يقوموا إلا بشراء الأجهزة واستئجار القناة القمرية والشروع بالإرسال، ولربما كانت هذه الصيغة حالها حال الصيغ الأخرى التي تعاملنا بموجبها طويلاً مع شتّى المستحدثات التكنولوجية عن طريق الشراء من الأسواق العالمية! بينما بقيت ظاهرة التحوّل في تداول المعلومات والتعاطي مع الثقافة غير مطروحة، عملياً، تلك الظاهرة التصاعدية من الشفاهية وحتى الإنترنيت، وكل المحطات بينهما رافقها تحوّل انساني هائل شهدته العديد من المجتمعات وشهدته الأمة العربية حتى عصور الإنحطاط في ظل الإجتياحات والغزوات وأشكال الإستعمار.
لهذا حفل الواقع العربي بالجاهزية غالباً في التعامل مع المستحدثات ولذا كان مروره بأطوار المعرفة والتكنولوجيا منها وخلال القرن الحالي تحديداً مروراً خطياً لاتصاعدياً بيانياً يقسم فيه الإنجاز والفعل على وحدة الزمن، بمعنى أنه عندما يحال بينه وبين التكنولوجيا فإنه يتوقف عند حدود ما عنده من ممكنات ولهذا احتفظ العقل العربي بتلك الجاهزية فيما يخص التكنولوجيا المتقدمة خاصة وطيلة هذا القرن وذلك لعوامل موضوعية قاهرة وأخرى ذاتية لاتقل (قهراً) تتعلق في كيفية التعاطي مع الواقع مع الماضي والحاضر والمستقبل والآخر والعلم وقيمه الثقافة وفحواها الآن، وربما كانت هذه مداخلة يطول الغوص في تفصيلاتها، من هنا ولأنّ عمر أقدم قناة تلفازية عربية لايتعدّى عدد أصابع اليدين إذ ظهرت أول قناة فضائية عربية (وهي القناة المصرية) قبل سبع سنين من الآن! لهذا فإنّ حمل هذه القناة العربية أو تلك إلى مصاف المنجز الذي حققته قنوات أورو ـ أمريكية عملاقة هو أمر فيه تجنٍّ كبير..
فالمسألة الإتصالية لم تعد مقتصرة على استعدادات للجهاز الإعلامي لهذا البلد العربي أو ذاك لبث نشاطاته المحلية ومواكبة نشاطات بعض المسؤولين ليشاهدها العالم سواء وهم يحضرون احتفالاً أو يقصّون شريطاً أو يلقون خطاباً، كلا بل إنّ التعامل مع القنوات والتوابع الأرضية هو تعامل يندرج في إطاره فهم الحضارة الآن والموقف إزاء مستجداتها وآفاقها المستقبلية وتدبّر (الخطاب) الكوني الذي يتدفّق طوفاناً عبر تقنيات الإتصال الحديثة. ولذا صار فهم هذا الواقع مرتبطاًبفهم التفاعلات الإقتصادية والسياسية السائدة في هذه الكرة الأرضية. فإن كانت قناتنا الإتصالية مكرّسة لمشاهدنا المحلي فإنّ هذا المشاهد قد تكوّنت لديه سلسلة من الأسبقيات المفروضة واقعياً وعملياً وتراجعت قناته القهقرى في العديد من مواقع المنافسة البرامجية. إن هذا الواقع القائم على المهارة والقدرة على الإستقطاب صار يتطلب يوماً بعد يوم حلولاً عملية سريعة وبدائل واقعية فاعلة ذلك أن التسليم بتفوّق تلك القناة الأورو ـ امريكية أو غيرها لايمكن أن يكون بديلاً عن رسم حدود الهوية والتقاليد الإتصالية التي تمنح القناة قوتها ومصداقيتها بالنتيجة، وبمقدار تجاوز (كليشيهات) المحطات التلفزيونية الأرضية والنظر الجاد والعملي في مستحدثات التقديم والعرض المرئي، كل ذلك يشكّل خطوة على الطريق الصحيح، ولعل الظن بأن مجاراة هذه القناة الغربية أو تلك في برامج المنوعات والحوار السياسي والفكري والإقتصادي وتقنية الإعلان وفلسفة الدعاية المعلنة وغير المعلنة هو الحل، إن هذه المجاراة لايمكن إلا ان تقود إلى تعميق الشعور القديم الجديد بأننا لاقبل لنا بما قطعه الآخر وإنّ الفاصلة معه تزيد وتتعمّق.
إن المشكل القائم الآن هو في كيفية التعامل مع (الهوية) أي هوية القناة الإتصالية نفسها، كيفية تصريف فقرات هذه الهوية إلى مفردات برامجية وفيلمية، وستطرح مسألة الذات والثقافة العربية الإسلامية والموروث والعادات والتقاليد والقيم في المقدّمة، وعندما تطرح بهذا الشكل فإنها ستؤول إلى ماضويات ما انفكت الصلة بها محجوزة فالماضي بشخصياته وأدبه وتراثه إنما أُخذ في بعض الأحيان كما هو بكليشيهاته ولذا قدمت عشرات المسلسلات والبرامج غير الناجحة جماهيرياً التي لم تلق استجابة من المشاهد بسبب لغة التخاطب المتكلفة من جهة وعدم الإقناع في الأداء والحذلقة الزائدة من جهات أخرى بينما نحجت أفلام ومسلسلات أخرى تجاوزت هذه المطبات، ومن هنا فإن السعي لطرح هذه المقوّمات الراسخة في الشخصية العربية على طاولة الإقناع لجيل جديد لم يتتلمذ على ما تتلمذ عليه الجيل السابق بل وجد نفسه إزاء موجة عارمة من «الروك أندرول» و«الهارد روك» وسلسلة الفاني والجندي الكوني والديناصورات التي تفتك بالأرض وغيرها، هذا الإفتراق خلق وسيخلق انماطاًأخرى غير معتادة في التلقي، فالشخصية الآن خاضعة لقوى مؤثرة وفاعلة فيها، قوى واقعية معاشة ممثلة في البيئة والمحيط وقوى أخرى أشد تأثيراً في تشكيل السلوك الإنساني ممثلة في وسائل الإتصال الحديثة التي تكسب لنفسها في كل يوم مزيداًمن الأصدقاء بينما تخسر القناة المحلية ربما نفس أولئك الأصدقاء من المشاهدين.
إن مجمل ما يمكن أن يتحدث به المعنيون بشؤون البث الفضائي في اي من الأقطار العربية التي دخلت نادي الفضاء لاشك أنه سيجد صداه في تجربة فضائية لقطر آخر فالمشكلات التي تكتنف هذه المعيرة الجديدة في حقل الإتصال والإعلام العربي وعلى المواطن العربي هي مشكلات تتعلق بمتطلبات هذا التحوّل الجديد واشتراطاته سواء من ناحية كثرة القنوات الفضائية والأقمار والتوابع الأجنبية وتطورها وتنوع مواردها وتراكم خبراتها أو من ناحية المحتوى الذي ينبغي أن تعنى به القناة العربية أشد العناية. لقد كانت ولادة القنوات العربية ودخول المحطات العربية المدار الفضائي، كانت ولادة عسيرة تمتد لما يقرب من ثلاثين عاماً تخللتها العديد من الاجتماعات والمؤتمرات سواء لوزراء الثقافة أو وزراء الإعلام العرب أو للخبراء والتنفيذيين العرب ولقد كان منطلق هذه الرحلة هو قرار اتخذه وزراء الثقافة والإعلام العرب عام 1967 بإنشاء شبكة اتصالات فضائية عربية وحتى مطلع السبعينيات لم تكن هنالك إلا القليل من المحطات والتوابع الأرضية العربية التي تستقبل بعض الرسائل المتلفزة من الأقمار الأجنبية. وبقي الحال على ما هو عليه حتى عام 1976 عندما أنشئت المؤسسة العربية للإتصالات الفضائية التي تابعت ولادة الجيل الأول من القمر العربي (عربسات) حيث أطلق في العام 1985 وتبعه القمر الثاني في نفس العام فيما أطلق القمر الثالث سنة 1992 أما الجيل الثاني فقد أطلق القمر الأول منه سنة 1996 وتم التوقيع على تصنيع الجيل الثالث المتوقع إطلاقه سنة 1999. إن هذه المسيرة كان يُواكبها تقديم العديد من أوراق العمل والبحوث لإستثمار هذا التطور الإتصالي التكنولوجي الحديث في خدمة قضايا الثقافة العربية الإسلامية. وفي ظل ذلك ومع توفّر الفرصة لدخول الأقطار العربية ميدان البث الفضائي عبر القمر الصناعي عربسات لهذا تتابع ظهور القنوات العربية على نحو متسارع متتابع ملفت للنظر يمتدّ بين أواخر العام 1990 والعام 1996. ومع إنطلاق أول قناة فضائية عربية طرحت المشكلات على طاولة البحث تباعاً وكانت البداية في (ندوة الإعلام العربي والبث المباشر) التي عقدت في القاهرة للمدة من 10 ولغاية 13 يونيو/ حزيران 1990 التي افتتحت عملها بالقول أنه (إدراكاً لما تواجهه الأمة العربية من تحدٍ ثقافي وإعلامي وعلمي وحضاري وانطلاقاً من حق الشعوب في التنمية الشاملة واستخدام العلم والتكنولوجيا في خدمة الإنسان وحرصاً على المصالح العربية وتمسكاً بالأهداف القومية وحفاظاً على القيم والمثل الأصيلة لمجتمعاتنا العربية) (1) وتبدأ التوصيات.
وقبل التوصيات لابد من التوقف عند مسألتين هامتين تشير إليهما وقائع هذه الندوة وهما (2) :
1ـ ان جانباً من القنوات الوافدة يبث بواسطة هيئات تجارية تستهدف الربح في المقام الأول وتقدم لذلك برامج تتسم أحياناً بالإثارة والعنف كما أن البعض منها يتضمن برامج تتنافى مع ثقافة الوطن وتقاليده وان دولاً مجاورة (!؟) تخطط لإطلاق أقمار صناعية سوف تتضمن برامجها دعاية معادية.
2ـ ان التشويش على الإرسال الوافد يكاد يكون مستحيلاً، كما أنه في الوقت ذاته مكلف وبأن منع استيراد الهوائيات الفضائية سوف يزداد صعوبة مع تضاؤل حجم هذه الهوائيات وتضاؤل ثمنها. إن هاتين النقطتين الحساستين والهامتين واللتين تم تأشيرهما ضمن نقاط أخرى لم تكونا تحتاجان إلى توصيات هامشية لاتستطيع التصدي لقوة وخطورة ما ورد آنفاً إذ أن السؤال بصدد هاتين النقطتين هو ما الحل..؟ وما هي البدائل؟ هل أن الحل والبدائل هي محلية بالكامل بمعنى أن تعمد كل محطة عربية لوحدها بتقديم مواد برامجية تعمق الإنتماء القومي والثوابت التربوية والأخلاقية التي تقف بقوة في وجه البث المسيء للثوابت الوطنية والأخلاقية؟ وهذا ما وقع فعلاً بتقديم قائمة طويلة مقترحة من المواد البرامجية التي ينبغي انتاجها وبثها عبر (القنوات العربية) ومن ذلك نقرأ الآتي على سبيل المثال (3) :
1ـ الإستفادة من القناة غزيرة الإشعاع في بث البرامج التنموية وبشكل خاص برامج محو الأمية وتعليم الكبار.
2ـ انتاج حلقات ودروس تعليمية تلفزيونية موجهة للطلاب في الوطن العربي في مجالات اللغة العربية والتاريخ..
3ـ انتاج برامج فيديو عن التنمية والحرف العربي والصناعات التقليدية في الوطن العربي.
4ـ انتاج برامج تبسيط العلوم والتكنولوجيا.
5ـ انتاج برامج تلفزيونية في الثقافة والتراث العلمي يتعلق بموضوعات علمية كالبيئة والتلوث والتصحر..
إن هذه المقترحات على أهميتها وفائدتها فإنها لاتعدو أن تكون حلقة واحدة من حلقات تشكل المركّب العام البرامجي الإتصالي المتكامل القادر على الثبات والتأثير والمنافسة ذلك أن مسألة الرد على (برامج تتنافى مع ثقافة الوطن وتقاليده) والتصدي (للدعاية المعادية) إنما هو رد تعبوي شامل ركنه وركيزته الأساسية هي (الثقافة) بمعناها الشمولي الكامل.. القائم على تصورات لهدف المادة الإتصالية ومحتواها وتأثيرها المحتمل وقدرتها على إثارة الأفكار والمواقف أما صيغة التوصيات العائمة أو المطلقة مثل (انتاج برامج تبسيط العلوم والتكنولوجيا) فأية علوم وأية تكنولوجيا؟ ولأي عمر وأية مرحلة و.. و.. أسئلة عديدة تُطرح على هذه التوصيات قد لانجد عليها جواباً لانها ـ أي تلك التوصيات ـ قد اصبحت في حكم الماضي والتراث رغم أنها لاتعود إلى زمن بعيد مضى..
فما هو البديل لكل ذلك.؟ إن البديل العملي والعلمي والعاجل والملحّ إزاء التحديات المذكورة في هذه الندوة وفي أكثر من (15) ندوة ومؤتمر حول الفضائيات العربية والمستقبل، هذا البديل هو إنشاء قناة فضائية مشتركة. ولربما مرّ زمن ليس بالقصير لكي تطرح هذه الفكرة الآن على بساط البحث ذلك أن ندوة عام 1990 التي عرضنا لها كان ينبغي أن تضع مسألة إنشاء قناة فضائية عربية مشتركة في صدر توصياتها. لكنّ مؤتمر وزراء الثقافة العرب المنعقد في بيروت في عام 1994 هو الذي أوصى بهذه المسألة ودعا إلى تدارسها وأوكل للمنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (الالكسو) مهمة المتابعة ولذا وقع موضوع إنشاء هذه القناة ضمن خطة المنظمة متوسطة المدى الثالثة وأدرج ضمن توصيات الإجتماع الثالث للجنة العليا للتنسيق بين القنوات الفضائية العربية الذي عقد في بيروت صيف العام 1997 (4) . ولنا أن نتساءل مع هذا التأكيد على إقامة أو إنشاء هذه القناة عن الفلسفة والرؤية التي ستحكمها والتي من المؤكد أنه بوضوح هذه الفلسفة والرؤية ستتضح مجمل مسارات عمل هذه القناة المقترحة. يؤكد أحد الخبراء أن ظاهرة تكاثر القنوات الفضائية على نحو مضطرد وسريع صار ميزة هذا العقد من السنين ولذا لابد وأن يتناسب إنشاء قناة عربية موحّدة مع الأسباب الموجبة والمؤدية إلى ظهور هذه القنوات. حيث يؤكد أن القنوات الفضائية تُنشأ لأحد أسباب ثلاثة (5) :
أولاً: لأسباب وخيارات تكنولوجية أو صناعية مرجعها التقدم التكنولوجي وتضخم التراث التلفزيوني والسينمائي وهذه الأسباب قد يسّرت وجود انتاجية برامجية جديدة انطلاقاً من مخزون التراث السمعي البصري وتطور تكنولوجيا المعلومات وتكنولوجيا النظام الرقمي كما هو الحال مع العديد من القنوات الأمريكية والأوروبية.
ثانياً: لأسباب سياسية وثقافية تنطلق من الأهداف السياسية المخططة والمعمعة والمطلوب تجسيدها عبر المواد البرامجية باتجاه مجتمعات وشرائح محددة (مثال Euro- News).
ثالثاً: لأسباب اقتصادية وتجارية كما هو الحال في قنوات الخدمات البرامجية حسب الطلب وقنوات البيع والشراء بالمراسلة والقنوات المجمعة وقد ساعد على ازدهار هذه القنوات استثمارات القطاعين العام والخاص.
وربما وجدنا من خلال هذا الرأي أن ظهور أو انشاء قناة عربية موحّدة إنما ينطلق من تكامل السببين الأول والثاني بالدرجة الأولى فثم مستجدات في تكنولوجيا الإتصال تستوجب الوعي والمواكبة الواعية واعتماد آلية عمل نشيطة وعلمية في هذا المجال فضلاً عن وجود خزين من القضايا والموضوعات والمشكلات والأفكار المتراكمة على صعيد المجتمع العربي عموماً ولكل دولة على حدة يستدعي الأمر معالجتها والإحاطة بها.
وفي هذا الصدد انعقدت في عمّان ندوة دعت إليها (الالكسو) مؤخراً لمناقشة إنشاء القناة العربية المشتركة تحت شعار (الإستفادة من القنوات الفضائية العربية في نشر الثقافة العربية الإسلامية) وطرحت مسألة انشاء هذه القناة مجدداً على طاولة البحث والنقاش وقدمت في سياقها أوراق عمل وأفكار جادة وعملية وطموحة للنهوض بهذه المهمة.. ولربما كان المدخل الأساس لتقريب هذه القناة من (الحلم) ودائرة التمنّي إلى أرض الواقع.. واقعنا العربي المعاش.. واقع المواطن الذي تحيط به أفكاره وشؤونه وتحيط به فوق ذلك الشاشات، نقول أن المدخل الأساس هو إجابة عن سؤال يتعلق بهوية هذه القناة التي تميزها عن باقي القنوات والتي تمنحها قوة التأثير ثم ماذا نريد منها بشكل أساس؟ وهنا يذهب أحد الباحثين في ورقة القاها في ندوة عمّان إلى أن تحديد الجمهور المستهدف يساعد على تشكيل الخطاب الإتصالي الثقافي العربي بشرط عدم إقصاء بقية أصناف الجمهور... ولهذا يجب أن تكون هنالك قناة ثقافية عربية جامعة (الثقافة ـ الإعلام ـ الترفيه) وتكون (نخبوية للجميع) (6) . وإذا كنا بصدد البحث عن سبل استخدام الفضائيات العربية لنشر الثقافة العربية الإسلامية ومن ثم البحث في سبيل استخدام القناة الموحّدة المقترحة لنفس هذا الهدف فإننا وخلال هذا نجد أحد المسؤولين عن المحطات الفضائية العربية، يطرح خطوة مهمة وعاجلة وملحة تسبق أي توجه لتجسيد الفكرة وهذه الخطوة هي الدراسة المتأنية والمعمقة لما تفهمه الثقافة العربية الإسلامية من قيم ومبادئ ومفاهيم، لاتقل عن أية ثقافة عالمية كونية، بل إنها تتميّز على الكثير من الثقافات بغناها وتنوعها ومضامينها الإنسانية ومن هنا فالتصدي للثقافة العربية الإسلامية ينطلق من فهم واعٍ ومدرك لأبعاد هذه الثقافة ومضامينها وما لم نعِ ذلك سيظل هذا الجانب معوقاً لإنطلاق الثقافة تلفزيونياً) (7) ويذهب إلى أن خطوة تعريف الثقافة التي نحن بصددها تسبق (تلفزة هذه الثقافة) (8) . والحق أن هذه المسألة ربما كان فيها خروجعن أُطر التوصيات العائمة والفضفاضة مثل/ (الحرص على نشر الثقافة الإسلامية المستنيرة المنطلقة من جوهر الدين الحنيف كفكر وقيم وحضارة) أو (علاقة العرب بالثقافات الأخرى والقيم الحضارية للمشروع النهضوي الثقافي العربي)، ذلك أن كثيراًمن التوصيات العامة والشاملة إنما تحتاج إلى تفاصيل تحقق إمكانية تنفيذها بشكل دقيق، فنحن في عصر لايُسمح فيه للإرتجال والتأويل الشخصي واشد ما يحتاج إليه هو الدقة والمنهجية والموضوعية والوضوح لاسيما وأن التعامل يتم مع تكنولوجيا بالغة الدقة والحساسية هي تكنولوجيا الفضاء.
على أننا إذا كنا قد أغدقنا مزيداً من الوقت بانتظار الولادة المرتقبة لقناة عربية إسلامية ثقافية موحَّدة طال انتظارها، وإذا كانت هنالك من العقبات ما لاحصر له ربما، فإن مسألة التبادل الثقافي بين القنوات الفضائية والإنتاج المشترك هما مسألتان مهمتان وممكنتا التنفيذ. لذا أوصت ندوة المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (عمان ـ 1997) بالإهتمام بهذين الجانبين فيما بقيت مسألة القناة الموحّدة رهن (الالكسو) لدراسة جدواها ورفعها إلى مؤتمر قادم آخر لوزراء الثقافة ووزراء الإعلام (9) .
إن القناة الثقافية الإبداعية العربية المعنية بنشر الثقافة العربية الإسلامية هي الآن حاجة متوخاة تسهم في الإرتقاء بالذائقة إلى مستوى المنجز الحضاري الإنساني ومستجداته وكما قال أحد الباحثين فيما يخص (نخبوية الثقافة) فإنّ هذه النخبوية تفرض بالحتم نخبويّة قناة كهذه بمعنى أن النخبة هي التي تخطط وتبرمج مسيرتها وترسم أفقها المستقبلي، فهي قناة تحمل اسم وقيم الثقافة العربية الإسلامية التي تحيط بها الأخطار تظهر في أنماط تلقٍّ فجّة وفهم معوج لقضايا الإبداع وتهميش للهم الثقافي وتسطيح للموقف الفكري وهي قضايا تفاقمت واستفحلت، وعلى هذا الأساس فإن اطلاق المزيد من الإستغاثات والأضوية الحمراء بأنّ الثقافة والكيان الثقافي مهدّدان بالغربنة وأنّ الاخر يكيد كيداً وإن أعداء الحضارة وأعداء الإسلام يفعلون ما يفعلون وسوى ذلك لن يجد قوة التأثير على أرض الواقع إلا ببدائل واقعية عملية مبدعة.
إن مسألة نشر (الثقافة العربية الإسلامية) هي من التحديات الإعلامية الخطيرة في هذه الحقبة، حقبة المدّ الإتصالي ـ المعلوماتي المستهدف للعقيدة بأدق مكوّناتها والذي غيّرت فيه المؤسسة الإعلامية الغربية من استراتيجيتها تغييراً كبيراً وتبع ذلك تغير وسائلها وتوجهاتها فبعد ما كان الهدف (الإعلامي) يتّجه نحو الجموع والحشود الحاشدة في فترة من الفترات، ها قد أصبح (الفرد) هو محور ودائرة الإهتمام وصارت عملية تشكيل الوعي الفردي وصوغ القناعات الفردية هي الشغل الشاغل الذي تتبارى من أجله ترسانات الإعلام الغربي. وسط هذا نجد أن هناك ضرورات أكثر إلحاحاً تتطلب اتخاذ تدابير تحصن الفرد وتوفّر للأجيال مساحة موضوعية رصينة وقاعدة معلومات وافية تفصح عن انتمائه وتاريخه ومعطيات عقيدته، تلك هي الضرورة التي يستوجبها الإضطلاع بإنشاء قناة عربية مشتركة قوامها وركيزتها ترسيخ العقيدة الإسلامية الواعية المتنورة والخوض في محصلات التراث الإسلامي الهائل وخلاصاته. إن هذا الأمر لايندرج في إطار الشعارات التي تتخذ في غالب الأحيان صيغة وشكل المزايدات بل يتطلب وعياًلفداحة الموضوع وخطورته مع تكاثر القنوات الفضائية وتعددها وتبلور تجارب ضخمة ذات قابلية كبيرة على الجذب والتأثير. وكما يذهب أحد الباحثين بالقول: «إن وسائل الإعلام تؤثر في التكوين المعرفي للأفراد من خلال عملية التعرّض الطويلة المدى لوسائل الإعلام كمصادر المعلومات فتقوم باجتثاث الأصول المعرفية القديمة لقضية أو مجموعة قضايا وإحلال أصول معرفية جديدة بدلاً عنها» (10) وذلك ما يعززه ويؤكده ما يورده أحد الباحثين الأمريكان بقوله: «مع مطلع الثمانينيات تغيّر كل شيء فقد حلت وسائل اتصال جديدة، وهذه الوسائل تتجه نحو تدفق وحرية الأفكار والإحاطة بالفرد.. الإحاطة بقناعاته وبنائه الثقافي» (11) .
من هنا وفيما يختص بمسألة (البناء الثقافي) فإن هذا البناء العربي الإسلامي هو مسؤولية الوسائل الإتصالية السمعية البصرية الأقرب إلى المجتمع من اية وسائل اتصال أخرى ولهذا يصبح من الأمور الجوهرية إيلاء الجانب المرتبط بالعقيدة الأهمية التي يستحقها بترجمة تلك المعطيات المرتبطة بالبناء الثقافي العربي الإسلامي إلى مشاريع عمل محملة بالمعلومات ولها القابلية على التاثير وتستند على ركائز علمية رصينة في شكل ومحتوى الرسالة الإعلامية في عصرنا الراهن. وتتخذ هذه المشاريع أوجهاً متعددة سواء من ناحية الأعمال الدرامية التي ينبغي أن يضطلع بها المتخصصون المشهود لهم بالكفاءة والقدرة على صنع رسالة ابداعية جمالية مؤثرة أو من ناحية الأعمال التسجيلية التي تقدم الوثيقة الصادقة والمؤثرة تدعم ذلك مساحة هائلة من المحصلات التي قدمتها الحضارة الإسلامية فمازالت شواخص هذه الحضارة قائمة في شتى أرجاء العالم العربي والإسلامي فضلاً عن درر التاريخ الإسلامي التي مازالت بكراً وتحتمل المزيد والمزيد من الجهود المبدعة المطالبة بتقديم هذا التاريخ بأطر جمالية مقنعة مؤثرة وغيرها من المعطيات التي لايمكن أن ترجأýإلى سلسلة اجتماعات تحفل بالبيانات والتوصيات. إن حساسية هذا الأمر تتطلب الخوض مباشرة في سبل ووسائل العمل البرامجي المشترك وحشد المتخصصين عسى أن يأتي الزمن القريب محملاً (ببشرى) انجاز هذا العمل أو الشروع به في الأقل وهو ما ننتظره ونحضّ عليه.
الهوامش
(1) تقرير وتوصيات ندوة الإعلام العربي والبث المباشر ـ المجلة العربية للثقافة ـ اصدار المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم ـ تونس ـ العدد 19ـ سبتمبر أيلول 1990 ص182.
(2) المصدر السابق نفسه ـ ص 183.
(3) المصدر السابق نفسه ـ ص 184 وما بعدها.
(4) ينظر البيان الختامي والتوصيات لندوة استخدام القنوات الفضائية العربية في نشر الثقافة العربية الإسلامية. (وثائق الندوة). عمّان للمدة من 1 ولغاية 6 أكتوبر/ تشرين أول 1997.
(5) فرج شوشان. نحو قناة عربية موحدة. بحث مقدّم إلى ندوة استخدام القنوات الفضائية العربية. ص3، ص4.
(6) المصدر نفسه ـ ص 4.
(7) خليل إبراهيم الذوادي. تجربة قناة البحرين الثقافية في نشر الثقافة العربية الإسلامية. بحث مقدّم إلى ندوة عمان. ص10.
(8) المصدر نفسه ص9.
(9) ينظر البيان الختامي والتوصيات لندوة استخدام القنوات الفضائية. (مصدر سابق) ص7.
(10) د. محمد بن عبد الرحمن الحضيف: كيف تؤثر وسائل الإعلام. مكتبة العبيكان ـ الرياض ـ ط1/ 1994 ـ ص32.
(11) Everett. m.Rogers: The medea Revolution in America and Western Europe. Ablex Pub. corp. NewJersy. U.S.A، 1985- p.87.
* عضو هيئة التدريس بجامعة الفاتح، كلية الإعلام، طرابلس ليبيا.