ان عالم اليوم قائم على ظلم مقنن يتمظهر سياسياً في حق النقض الذي يمكّن دولة واحدة في العالم من تحدي الإرادة الدولية قاطبة، ويتمظهر اقتصادياً في الإستغلال الممنهج واستنزاف ثروات الدول الضعيفة الذي يتم من خلال برامج البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، وغيرها من المؤسسات المالية التي تمتص دماء الدول المدينة، حيث انتقلت ما بين 1984 و1990 من دول الجنوب الفقيرة إلى دول الشمال الغنية مبالغ مالية تقدر بـ 178 مليار دولار لتسديد خدمة الدين فقط، دون أن تنخفض قيمة الدين الأصلية، بل ارتفعت بين سنتي 1980 و1993 من 658 مليار دولار إلى 1770 مليار (1) . «لقد أدت دول الجنوب إلى دائنيها في الشمال أضعاف قيمة القروض الأصلية دون أن تتخلص من الدين، وهكذا تستمر دول الجنوب في تمويل الدول الغنية(...) فلماذا سيتخلى الشمال عن مبالغ تقدر بـ 25 إلى 30 مليار دولار تأتيه كل سنة من الجنوب» (2) .
يجد هذا الظلم المقنن خلفيته الثقافية في فكر ما يسمى «بالحداثة»: «وترتبط فكرة الحداثة ـ كما يقول آلان توران (3) Alain Touraine ـ بشكل وثيق بالعقلانية بصفتها المبدأ الوحيد لتنظيم الحياة الشخصية والجماعية بربطها بموضوع العلمانية La secularisation ، أي فصلها عن الغايات النهائية (..) فالحداثة تستبعد كل غائية وتعني القطع الضروري مع الفكر الديني ».
بمعنى أن الحداثة تعني فصل النشاط الإنساني عن أية قيم علوية.
ويشير آلان توران «إلى أن العقلانية الآلية تستبعد أن يتم تنظيم أي عمل انساني من الخارج، بدمجه ضمن رؤية شاملة». بمعنى أن الحكم على أي عمل إنساني، سياسي كان أم اجتماعي أم اقتصادي لايتم انطلاقاً من قيم دينية أو خلقية من خارج ذلك العمل، أو انطلاقاً مما يمكن أن يحدثه ذلك العمل من أضرار في مجالات أخرى، بل يتم تقييم أي عمل من خلال آلياته الداخلية ومن خلال الأهداف المراد تحقيقها، فتحقيق الهدف يبرر استعمال أية وسيلة، ولايعبأ بما يمكن أن يترتب عن ذلك من أضرار في المجالات الأخرى.
فالشركات التي تنتج وتبيع السجائر، مثلاً لايهمها في نهاية المطاف إلا تنمية أرباحها، وقد تسلك لذلك كل السبل الممكنة، بدءاً بالتوزيع المجاني للسجائر على الأطفال وانتهاء بزيادة نسبة النيكوتين في السجائر، حتى يصير المبتدئون مدمنين في أسرع وقت، فلا يهم هذه الشركات إلا تنمية عدد المستهلكين، أما كون التدخين يقتل سنوياً 3 مليون شخص (4) ، فهذا من اختصاص الطب، ووصل الأمر بالسلطات في الولايات المتحدة، وهي أكبر منتج ومصدر للتبغ، إلى وصف بعض الإجراءات الوقائية التي اعتمدتها بعض الدول ضد أضرار التبع بأنها إجراءات حمائية، وهددت تلك الدول بعقوبات اقتصادية (5) .
وتتصرف البنوك بنفس العقلية النفعية الفجّة، فلا تهتم إلا باسترجاع فوائد قروضها، ولايهمها إن كانت الدول المدينة، تسدد فوائد ديونها من تجارة المخدرات، أو تضطر إلى بيع أشجار غاباتها محدثة أضرار بيئية بليغة، كما تفعل غانا التي استحقت على ذلك اللقب الفخري لـ «التلميذ النجيب لصندوق النقد الدولي».
ولقد امتدت آثام هذه العقلية الإستغلالية إلى اغتصاب براءة الطفولة حيث تأخذ اليوم المتاجرة الجنسية بالأطفال في الدول التي تتبجح بحقوق الطفل والمرأة وغيرها، أبعاداً مفجعة. تطالعنا الأخبار منذ مدة مأساة بلجيكا، عن اتساع مطرد لهذه التجارة الرهيبة لتشمل دول متعددة من أوروبا. والأدهى في هذا الموضوع أن يكون المسؤولون عن هذه الآثام من أهل التربية أو القضاء أو الشرطة.
وقد تأخذ هذه العقلية إجراءات رهيبة عندما لايتردد رئيس دولة أو حكومة في شن عدوان عسكري على أبرياء ومستضعفين من دولة أخرى كما فعل شمعون بيريز ضد الأبرياء العزل في قانا بجنوب لبنان، إذ توقع أن هذا العدوان سيربحه بعض الأصوات في الإنتخابات، والغريب أن الإعلام أصبح يتكلم عن مثل هذه الإجراءات الإجرامية وكأن الإعتبارات الإنتخابية سبب كاف لتبرير أي عدوان على المستضعفين، وقد يلام الضحية بشكل ضمني، لأن محنته صادفت ـ «لسوء حظه؟!»ـ الحملة الإنتخابية لرئيس دولة فوق القانون الدولي.
وكم دفعت الشركات الكبرى حكوماتها لتحريك جنودها لإسقاط أنظمة وطنية عزمت على وقف استغلال بلادها من طرف هذه الشركات.
يقول إدوارد كولد سميث Edouard Gold Smith [مؤسس مجلة The Ecologist ، ومؤلف «التقرير حول كوكب الأرض»، Stock ، باريس 1970]: «ليست الشركات العابرة للقارات مسؤولة إلا أمام مساهميها، فليست إلا آلة لتنمية ارباحهم الآنية، غير أنها تستطيع إجبار كل حكومة، إذا اقتضى الحال على الدفاع عن مصالحها، ولو كان ذلك ضد مصالح الشعب الذي انتخب تلك الحكومة. إن هذا الإستعمار الجديد يعد الأكثر قساوة وتهوراً من أي استعمار عرفه التاريخ» (6) .
وأورد الكاتب أمثلة عن التدخل العسكري للولايات المتحدة في غواتيمالا وكوبا وجمهورية الدومنيك والشيلي ونيكاراكوا وكرينادا، لما وصلت إلى السلطة حكومات غير مناسبة لمصالح الشركات الأمريكية.
والأزمة التي يعاني منها العالم الإسلامي اليوم استبداداً وتخلفاً وفقراً وعجزاً وتبعية ليست إلا نتيجة لهذه العقلية النفعية التي يتعامل بها أقوياء عالم اليوم، وهي عقلية تنعكس آثامها على معظم بلاد الجنوب، ضمن التوزيع العالمي للشغل والنفوذ، بل وعلى أعداد متزايدة من أبناء الشمال أنفسهم. فبقدر ما يزداد الأغنياء ثروة، بقدر ما تتقلص الإمتيازات الإجتماعية لدى الطبقات الدنيا من المجتمع الغربي، التي أصبحت تعاني من البطالة والتهميش والفقر، لترتمي في نهاية المطاف في أحضان المخدرات والعهارة وكل الموبقات.
لاشك أن تراجع العالم الإسلامي تاريخياً على مستوى مختلف مقومات النهوض العقيدية والعلمية والخلقية والعملية هو الذي نزع منه المهابة وشجع الغرب على احتلاله. وبعد صراع مرير ومفاوضات مجحفة وتسويات مغرضة تم الإستقلال، غيرýأن «نظرة خاطفة لحالة الجنوب تبرز بشكل مثير، استمرارية لامراء فيها، منذ عهد الإستعمار إلى يومنا هذا: فلا توجد أية مراجعة للحدود من طرف الدول التي استقلت مؤخراً، ولا أية محاولة لإعادة النماذج الثقافية التي كانت قبل الإستعمار، ولايوجد أي تعديل للممارسات الإستعمارية بخصوص استغلال الأراضي» (7) .
وكان حظ البلاد الإسلامية من هذه الممارسات الإستعمارية أشد فلا يدع الغرب، بمساندة الصهيونية العالمية وبإيحاء منها، سبب منýاسباب التطويق والتقويض إلا ومارسه ضد هذه البلاد.
لاشك أن موقعه الإستراتيجي عسكرياً وتجارياً، وما تختزنه أراضيه من ثروات وما تمثله ساكنته العريضة من اسواق، تجعل من العالم الإسلامي محل الأطماع والعدوان، غير أنه يملك ما هو أشد على الغرب والصهيونية من ذلك، ويتمثل في منظومة القيم العلوية الثابتة التي يقوم عليها الإسلام، مما يرقى بالصراع ضد الإسلام إلى مستوى الصراع الحضاري الثقافي، فالإسلام هو الوحيد الذي يملك اليوم رؤية متكاملة للكون والإنسان والحياة تمكنه من أن يكون بديلاً للحضارة الغربية المتداعية. وهذا ما يستشرفه الدكتور «مراد هوفمان» وهو ألماني مسلم حيث يقول: «لايخفى على المتأمل البعيد الرؤية أن يرى الزحف الإسلامي في القرن الحادي والعشرين مسيطراً، ممكناً لإنتشاره ديناً لأغلبية البشر، أما كون هذا الزعم الذي تؤكده مجريات الأمور حقيقة واقعة إن شاء الله، فذلك ما يشيرýإليه عنوان هذا الكتاب (8) إن الإسلام لايطرح نفسه بديلاً (خياراً) للمجتمعات الغربية بعد الصناعية، إنه بالفعل هو البديل الوحيد».
ويعترف فرنسيس فوكوياما بالتحدي الذي يمثله الإسلام بالنسبة للحضارة الغربية حيث يقول: «والإسلام هو الوحيد الذي يطرح الدولة الثيوقراطية كبديل سياسي لكل من الليبرالية والشيوعية» (9) .
والبديل الذي يقدمه الإسلام يعتبر في جوهره نقيضاً اساسياً لفكر الحداثة المفرط في المادية الذي أقصى القيم العلوية من قاموسه وحول عالم اليوم إلى غاب يدين بـ «الداروينية» ويفترس فيه القوي الضعيف يقوم الإسلام على قيم مصدرها رباني وجوهرها إنساني، تتمثل أولاً في مركزية الإيمان بالدار الأخرى في حياة الناس، وفي العدل المجرد عن الهوى وفي الحق العلوي المطلق وفي تكريم حقيقي لكل إنسان، وهي قيم يخشاها المنتفعون في الغرب والصهاينة لأنها تبشر بعالم ينبذ الإستغلال واستعباد الإنسان، إضافة إلى كونها تفتح أمام الناس آفاقاً إيمانية وفلسفية تمكنهم من الإنفلات من دوامة المجتمع الإستهلاكي التي قتلت في الإنسان انسانيته وحولته إلى مجرد رقم في مصنع الإنتاج أو بطن في سوق الإستهلاك.
فإذا أضفنا إلى التحدي الحضاري الذي يطرحه الإسلام نزعة القوة والعنف تجاه الآخر التي تستنبطها الرؤية الغربية، فلا نستغرب حينئذ النزوع الغربي للصدام مع العالم الإسلامي.
يقول محمد شومان: «إن الرؤية الغربية القائمة على ممارسة القوة والقهر تجاه الآخرين تفترض دائماً وجود عدو يوجه له هذا العنف، وحتى إذا لم يوجد هذا العدو الآخر واقعياً لإختراعه «العقل الجماعي» الغربي من خلال هذا الخلق الأسطوري لتلك «الصورة النمطية» المشوهة لذلك الآخر الشيطاني» وإلا لمن توجه طاقة العنف الأصلية في الرؤية الغربية للوجود، ولمن توجه هذه الترسانة الرهيبة من السلاح التي تجني الشركات العملاقة من ورائها أموالاً طائلة.. لقد تجسدت عملية الخلق الجماعي الأسطوري أخيراً في استبدال «الخطر الإسلامي» بالخطر الشيوعي الذي زال (10) . ومعلوم أن الذين يدفعون في اتجاه الصدام مع العالم الإسلامي يحتاجون في ذلك إلى تأليب الرأي العام الغربي ضد الإسلام والمسلمين، حتى يحصلوا على الإعتمادات المالية والتضحيات البشرية والتهيئة النفسية التي يتطلبها ذلك.
يقول إدوارد سعيد: «إن الغرب الإستعماري المسيحي كان هو الطرف البادئ بالصدام والإستعمار، والحريص دائماً على تشويه صورة العرب والمسلمين والتشكيك في الإسلام، والحط من قيمته الثقافية الإسلامية بغية فرض إرادته وإملاء شروطه والسيطرة اقتصادياً وسياسياً وثقافياً على الشعوب العربية والإسلامية، ومنع وحدتها ونهضتها. ولقد اتسمت الهجمات الغربية بالعنف والتركيز على العالم الإسلامي لأنه كان الإستثناء الذي واجه السيطرة الغربية الإستعمارية على الشرق (11) ». نشير إلى أن الإستعمار كان يقترن في الماضي بإحتلال الأرض أما اليوم «فكل بلد مقترض يتحول إلى مستعمرة غير رسمية» (12) .
ويعد التعليم أخطر وأهم مجال ركز عليه المنتقدون في الغرب لتشويه صورة العرب والمسلمين، وذلك بغية تنشئة أبنائهم على كراهية كل ما يمت إلى الإسلام بصلة، وبالتالي قطع الطريق أمام أي تقارب وحوار مع المسلمين، وبالتالي صد أبناء الغرب عن سبيل الإسلام.
ولقد أجرت الدكتورة مارلين نصر بحثاً حول صورة الإسلام والعرب في الكتب المدرسية الفرنسية (13) ، خلصت إلى أن «هذه الصورة تبدو سيئة وخاملة ومختلفة، يتميز دورها بالعداء للآخر على مختلف المستويات، هذا الى جانب أن هؤلاء العرب بدو الصحراء، أما عرب اليوم فغائبون أو على الأصح مغيبون». وخلص إياد القزاز من تحليل 36 كتاباً مدرسياً للعلوم الإجتماعية، مقررة على طلبة المدارس الإبتدائية والمتوسطة في ولاية كاليفورنيا في العام الدراسي 74-1975، إلى وجود صورة مشوهة للإسلام تفرط في تأكيد عدوانيته، فضلاً عن صورة الرق ومركز المرأة المتدني، كما خلط مؤلفوا الكتب المدرسية عمداً بين القرآن والأحاديث النبوية الشريفة وجرى تصوير العرب كشعب بدوي (14) .
ويبرز بحث قيّم (15) صدر مؤخراً بمدريد واشرفت على إنجازه الأستاذة خيما مرتين مونيوس Gema Martin Munuz ، كيف تركز المقررات المدرسية في إسبانيا على نزع الصفة الإلهية عن الدين الإسلامي واعتباره مجرد انحراف عن المسيحية، كما تختزل ثمانية قرون من الحضور الإسلامي في الأندلس في مجرد صراع بين الملوك الكاثوليك والمسلمين، مع تغيب شبه تام لكل ما أنجزه المسلمون هناك من علوم وفنون وتقاليد وأعراف عم إشعاعها أوروبا قاطبة. نشير هنا إلى أن الكتاب المذكور يحتوي على تصحيح مسهب لكل ما ورد من تحريف وتشويه في هذه المقررات.
وأورد الدكتور مراد هوفمان في كتابه «الإسلام عام 2000»: «أن البروفيسور الإيراني عبد الجواد الفلاتوري من الأكاديمية الإسلامية للعلوم في كولن، قد قام مع زميله الألماني أودوتورشكا بعمل هام، حيث قاما بتحليل ما جاء عن الإسلام في مئات الكتب الدراسية الألمانية، في الكاثوليكية والبروتستانتية، في التاريخ والجغرافية، وحددا التشويهات الكبرى مع اقتراح التصحيحات اللازمة. وقاما في نفس الوقت بفحص مماثل للكتب المدرسية في كل من الدانمارك وفنلندا وهولندا وإيطاليا».
أما المجال الثاني الذي يعتمد لتكريس تلك الصورة السلبية لدى الغربيين والإمعان في تشويهها هو حقل «الرواية الشعبية»، ولقد قام الدكتور أنس الشيخ علي مدير مكتب لندن للمعهد العالمي للفكر الإسلامي بدراسة 300 رواية شعبية. ولاحظ أن التوجه المعادي للإسلام في هذه الروايات بدأ بالتزايد بشكل كبير كماً ونوعاً منذ مطلع السبعينات. ويحتل «الإسلاميون» في هذه الروايات، موقع المجرمين والأشرار الذين يحاول أبطال مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي، أو غيرهم من الأبطال الآخرين أن ينقذوا العالم من «مؤامراتهم الشيطانية» وفي هذه الروايات يختلط أيضاً العنف بالرومانسية والإسلام بالنصرانية ويتصارعان فتكون الغلبة في أكثر الأحيان للأبطال الغربيون الذين تقع على كواهلهم العريضة مسؤولية احتواء التهديد الإسلامي ريثما يأتي جيل آخر يستطيع أن يقضي بشكل نهائي على هذه الطفيليات العنيدة.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى نمطين آخرين من الرواية الشعبية: وهما الرواية الرومانسية (التي تستهدف النساء من القراء) وروايات الأدب الجنسي المكشوف، والتي تستغل المرأة وتصورها بشكل رخيص. ويشكل الإسلام والمسلمين كذلك مادة لهذه الروايات ويساء إليهم، حيث يوظف الشرق الإسلامي كمادة وكمسرح للخيال الجنسي والفجور.
ثم يأتي دور السينما والتلفزيون: «ففي الولايات المتحدة يحتل العربي المسلم مكانة بارزة في الإعلام، غير أنها تحمل قيمة سلبية، فهو مخرب يقاوم وجود إسرائيل والغرب في الشرق الأوسط، أو يقدم كعقبة أمكن تجاوزها لخلق إسرائيل سنة 1948، والتي تعتبر امتداداً حضارياً للغرب، ويرتبط العربي في الأفلام والتلفاز إما بالفسق أو بالغدر والخديعة المتعطشة للدم. ويظهر منحلاً، ذا طاقة جنسية مفرطة، قديراً دون شك على المكيدة البارعة المراوغة لكنه ـ جوهرياًـ سادي، خؤون، منحط، تاجر رقيق، راكب جمال، صداف، وغد، متعدد الظلال» (16) .
«ولاتختلف كثيراً مكونات الصورة الذهنية للعرب والمسلمين والإسلام في الولايات المتحدة عن مثيلاتها في أوروبا» (17) .
وفي النهاية يأتي دور رجال السياسة والفكر الذي لايقتصر فقط على تشويه الإسلام والمسلمين بل يتعداه إلى التخويف منهم. يقول محمد شومان: «لم يكن اختيار العرب المسلمين والعروبة والإسلام كأعداء ووصفهم بالإرهاب مجرد اختيار عشوائي أو امتداد لعداء قديم ولمصالح وصراع قائم، لكنه اختيار له ما يبرره في هذه المرحلة التاريخية، فما يخشاه الغرب هو أن يصبح عدواً لنفسه، كما استنتج ذلك إرفين كريستول Irving Kristol ، في غياب منافس من نده، ومشكلة اندثار الطوبي التعبوية والأنموذج الحضاري المنافس هو الإشكال الوحيد الذي يواجه الغرب اليوم.. وفي غياب طوبي جديدة قد يبتدع الغرب خطراً وشراً جديداً وداء عضالاً إسمه الإسلام الراديكالي » (18) .
وفي الحقيقة فإن الغرب لايقصر عداءه على ما يسمونه «الإسلام الراديكالي»، إنما المشكلة بالنسبة للغربيين، كما صرح بذلك صامويل هنتنغتون (19) ، ليست الإسلاميين المتطرفين وإنما الإسلام كله.
واستعداء المسلمين منحى غاية في الخطورة إذا ما اعتبرنا الحركة المسيحية الأصولية باتجاهاتها الصهيونية في الولايات المتحدة التي ترى من هذا المنطلق دعم إسرائيل وانتصاراتها على العرب تحقيقاً للنبوءة التوراتية، التي تجعل من ذلك النصر شرطاً لمجيء المسيح المنتظر.
تكشف الكاتبة الأمريكية «غريس هالسل» عن الإرتباط المشوه بين الفكرة الصهيونية والمسيحية البروتستانتية في الولايات المتحدة وتوظيفها لصالح دعم إسرائيل، ونفوذ اليمين الأمريكي حيث تعتقد بعض الفرق ضرورة قيام حرب نووية في هرمجدون ـ وهو مكان في فلسطينـ بين قوى الشر (العرب والإتحاد السوفيتي) وقوى الخير (الولايات المتحدة وحلفائها) كشرط لعودة المسيح وتحقيق السلام على الأرض (20) .
واليوم، وبعد أن تفكك الإتحاد السوفيتي وانحازت روسيا كلية إلى المعسكر الغربي، سمعنا وزير الخارجية السابق أندريه كوزريف يصرح: «أن بلاده ترغب في تحويل تاجاكستان إلى حاجز دون امتداد التطرف الإسلامي والإقليمي العشائري إلى روسيا وسائر الجمهوريات القائمة على أنقاض الإتحاد السوفيتي السابق، وقال بصراحة أن الهدف الثاني في استراتيجية الحكومة الروسية هو ضمان الأمن في غرب آسيا وجنوبها في مواجهة الصراع مع قوة التطرف العاملة في أفغانستان وإيران وباكستان والتي تريد توسيع نطاق الإضطراب في اتجاه الشمال وتشجيع الإرهاب الدولي».
أما جاك بوميل Jack Baumel نائب رئيس اللجنة الأوروبية، فقد كان واضحاً في إشارته إلى البعد الحضاري للصراع مع الإسلام، حيث قال في تصريح له لأسبوعية الإكونوميست سنة 1990: «بعد انهيار النظام السوفيتي، وبانتهاء حلف وارسو أصبح من الواضح أن حلف الشمال الأطلسي، في غياب أعداء يواجههم، لم يعد له مبرر وجوده السابق، فلنحذر من هذا القوس الجنوبي الواقع بين الجزائر والباكستان والذي تنشط فيه الإيديولوجيات المعادية للغرب.. من الآن لم تعد المشكلة مطروحة على المستوى العسكري، بل ولا حتى على المستوى السياسي، إنما أصبحت مطروحة أكثر فأكثر على المستوى التاريخي» (21) .
وقال هلموت كول أمام المجلس النيابي في بون، مدافعاًعن يلتسن في غزوه للشيشان: «لاينبغي إغفال خطر احتمال استقرار الأصولية في الشيشان وانتقالها إلى سواها كتركيا ومن ثم تهديد أوروبا الغربية». وبعيداً عن كل لباقة دبلوماسية قال جون ميجور رئيس الوزراء البريطاني السابق: «لقد انتهينا من الشيوعية وجاء دور الإسلام» (22) .
ويتضح الكيد الصهيوني الواضح من تصريح لشمعون بيرز بمناسبة زيارته الرسمية الأولى لقبرص التي تعيش حالة انقسام بين المسلمين والمسيحيين حيث قال يوم 29/7/95: «إن إيران هي مركز لكل الأعمال الإرهابية وتشكل خطراً ليس على إسرائيل والشعب اليهودي فحسب، وإنما على الشعب العربي والعالم الإسلامي».
وورد نفس الإشفاق المخادع على المسلمين على لسان أنطوني ليك، مستشار الأمن القومي للرئيس بيل كلينتون في صيف 1993، حيث قال: «إن واشنطن تحترم كل ما قدمه الإسلام والمسلمين الذي يلتزمون بالسلام والتسامح»... ثم أضاف، «لكننا سنوفر كل مقاومة لمواجهة المتطرفين الذي يشوهون العقائد الإسلامية».
ونشير بهذه المناسبة إلى أنه بالرغم مما يتعرض له الإسلام من تشويه وافتراء فإنه لايزداد انتشاراً فحسب، ولايقتصر انتشاره المتزايد على العالم الإسلامي بل امتد إلى ديار الغرب نفسها، حيث يعتبر الإسلام الدين الأسرع انتشاراً في الولايات المتحدة، وأصبح يحتل المرتبة الثانية بعد الكاثوليكية في كثير من دول أوروبا.
ومعلوم أن عدوان الغرب لم يقف عن حد تشويه الإسلام والترهيب منه بل تجاوزه إلى ضرب كل مقومات النهوض الإسلامي، وعلى رأسها القوة المالية، والوحدة السياسية والجغرافية، والنهضة العلمية.
فعلى المستوى الأول تتبادر إلى الذهن فضيحة بنك الإعتماد والتجارة الإماراتي، الذي تم الإيقاع به سنة 1991 في بريطانيا. ولايمثل هذا الحدث إلا صورة صارخة من الإجهاز المباشر على القوة المالية للمسلمين، غير أن الوجه الخفي والأكثر خطورة هو إغراق العالم الإسلامي بالديون بشكل لم تسلم منه حتى أغنى الدول الإسلامية.
هذه الديون تشكل مضخة لإمتصاص ثروة البلاد الإسلامية لفائدة المؤسسات المالية الغربية، حيث أن أداء خدمة الدين يمتص حوالي 30% من ميزانية الدول الإسلامية ـ وكلها مدينة ـ وهي أموال تخصم من ميزانية التعليم والصحة والتجهيز وغيرها. ومعلوم أن المديونية اصبحت تشكل اليوم الوجه الجديد للإستعمار المعاصر.
وبخصوص الوحدة يلاحظ أنه في الوقت الذي تتقارب فيه دول العالم المصنع لمواجهة المنافسة الإقتصادية التي ازدادت ضراوة بسبب عولمة الإقتصاد والحركة المالية، وللتغلب على المصاريف الباهظة التي يتطلبها البحث العلمي، تمارس على البلاد العربية ضغوط شديدة حتى لاتنخرط في أية وحدة حقيقية، مثمرة ودائمة، مثل ما حاولته إيران وتركيا وباكستان مع بعض الدول الإسلامية المجاورة. ونشير فقط إلى مثالين صريحين في هذا المجال: فبخصوص قضية فلسطين لم يستطع العرب أن يتكلموا بصوت واحد مع الغاصب الإسرائيلي، وليس ذلك للحصول على مكاسب، بل فقط لإسترجاع حقوقهم. نفس الشيء نجده في الغرب الإسلامي حيث أوروبا القوية اقتصادياً تتكلم بصوت واحد في حين تفاوض دول المغرب العربي بخمسة اصوات في إطار مشروع الشراكة المتوسطية.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل هنا سعي متواصل لمزيد من تفكيك العالم الإسلامي، مع تركيز خاص على العالم العربي بسبب ما يمكن أن يكون له من دور ريادي بالنسبة للصحوة الإسلامية من جهة وبسبب صلته المباشرة بالقضية الفلسطينية، وأخيراً بسبب موقعه الجغرافي عموماً في مواجهة أوروبا جنوباً وأمريكا شرقاً.
فما يحصل مع العراق من تقسيم إلى ثلاثة أجزاء وما يجري في السودان من محاولة لفصل الجنوب، وما يمكن أن يحصل في دول أخرى، كما ينذر بذلك تحريك ملف «العرقية» أو ماýأصبح يصطلح عليه اليوم بقضية «الشعوب الأصيلة» يدخل ضمن مخطط واسع النطاق يشمل البلاد العربية برمتها.
نشرت مجلة كفمونيم الإسرائيلية مقالاً للمنظمة الصهيونية العالمية بالقدس ـ عدد 14 فبراير 1982 ـ (23) جاء فيه عرض لإستراتيجية إسرائيل في الثمانينيات. وهذه أهم الفقرات التي تكشف عن آفاق المستقبل بالنسبة للحلم الصهيوني القديم «حلم إسرائيل الكبرى».
«إستعادة سيناء بثرواتها هدف ذو أولوية، ولكن اتفاقات كامب ديفيد تحول الآن بيننا وبين ذلك.. لقد حرمنا من البترول وعائداته واضطررنا للتضحية بأموال كثيرة في هذا المجال، ويحتم علينا استرجاع الوضع الذي كان سائداً في سيناء قبل زيارة السادات وقبل الإتفاقية التي كانت معه في 1979».
فإذا تمت تجزئة مصر، وإذا فقدت سلطاتها المركزية فلن تلبث بلدان مثل ليبيا والسودان وبلدان أخرى ابعد من ذلك أن يصيبها التحلل. وتشكيل حكومة قبطية في مصر العليا، وإقامة كيانات صغيرة اقليمية هو مفتاح تطور تاريخي يؤخره حالياً اتفاق السلام، ولكنه تطورýآتٍ لامحالة على الأجل الطويل.
ومشكلات الجبهة الشرقية أكثر وأشد تعقيداً من مشكلات الجبهة الغربية، وهذا على عكس ما يبدو في الظاهر، وتقسيم لبنان إلى خمسةýاقاليم..يوضح ما يجب أن ينفذ في البلدان العربية. وتفتيت العراق وسوريا إلى مناطق تحدد علىýأساس عنصري أو ديني، يجب أن يكون هدفاً ذا أولوية بالنسبة إلينا على الأجل الطويل وأول خطوة لتحقيق ذلك هو تدمير القوة العسكرية لتلك الدول.
هكذا يعامل العالم الإسلامي، وليست هذه المعاملة الظالمة إلا نتيجة لمنظومة القيم المادية النفعية الفجة التي أصبحت اليوم تؤسس لعلاقة الدول والناس بصفة عامة. ولم تقتصر العواقب الوخيمة لهذه العقلية النفعية على الشعوب المستضعفة إنما اصبحت تشمل أبناء الشمال أنفسهم، بل صارت تهدد أصل الوجود الإنساني على الأرض لما ألحقته من أضرار بليغة بالبيئة.
يقول الكاتب خوان كواطيسولو: «لقد اقصينا حقيقة الموت ومفهوم التعالي من أفقنا ومن حديثنا اليومي، لقد سلبنا الإنسانية جمعاء من رمزيتها ومن عالمها الغيبي الطبيعي. باسم تقدم وأوطوبيا بشريين خالصين، أفضينا إلى مستعمرة الإعتقال التي أنبأنا بها كافكا Kafka ، وإلى نظام عالمي غير مقبول، يقصي من امتيازاته المادية، طبقات اجتماعية كاملة ودولاً وقارات بكاملها دون أن يمنحهم بالمقابل إلا الدمار».
لقد انتصر تشاؤم هوبز Hobbes على تفاؤل فلاسفة الأنوار. وصدق التاريخ نيكولا بيرداياييف Nicolas Berdiaev وصدق أيضاً تحذيراته بخصوص شبح التقدم المستمر. لقد عدنا إلى العالم الطبيعي للظلم والأنانية والقسوة وانتصار القوة (...). ماذا يستطيع عذاب الكثرة الكاثرة وشفقة بعض الناس أمام الإمبراطورية الحاضرة دائماً لـ «السوق العالمي الكبير» وأمام التقنية العلمية.
لاتوجد أصولية دينية اسلامية، أو هندوسية، أو يهودية، أو مسيحية أكثر سحقاً وتدميراًمن تحالف «حرية إجراء التجارب العلمية» والمركب التقني الصناعي والقوة المالية.
إنها أصولية قادرة على أن تجرب بكل برودة اسلحتها القاتلة على عينات إنسانية، ولايتعلق الأمر فقط بما حصل في مجزرة الخليجي، ولكن كذلك، كما اكتشفنا ذلك اليوم بذهول، على المواطنين الأمريكيين الأكثر فقراً والأكثر هلعاً، خلال التجارب النووية والكيميائية في الأربعينات والخمسينات والستينات (24) .
وهذه الممارسات الرهيبة التي يؤدي ثمنها الضعيف ـ وقد يكون من الجنوب كما يكون من الشمال ـ تقوم على فلسفة الحياة لم يعد أصحابها يتحرجون في الإفصاح عنها. وهذا ما جعل ألبيرت جاكار Albert Jaquard يصف هذه العقلية التي يحكمها المنطق الإقتصادي الصرف «بالداروينية الإقتصادية» (25) . وشجب بشدة بعض التأكيدات التي أنتجها هذا المنطق الدارويني مثل: «يجب على المجتمع البشري أن يتطور، وحتى يستمر في الحياة، يجب عليه أن يقضي بدون شفقة على الذين يقللون من قدرة التكييف الجماعية، ويجب محاربة كل من يقف في وجه القضاء عليهم، مثل القوانين التي تعمل على مساعدة الفقراء، إن الرأفة ضد قوانين الطبيعة».
«إن الناس الذين يعانون من الفقر لم يفلحوا لأنهم يفتقرون للخاصيات الضرورية للفلاح، ومن الأفضل ألا يورثوا للجيل الذي سيليهم تلك الخاصيات غير المناسبة، فمن حسن السياسة أن نثنيهم عن التوالد، لذا يجب تقليص التعويضات العائلية المخصصة للفقراء وإضافة هذه المبالغ للتعويضات الممنوحة للأغنياء القليلي التوالد».
ثم يقول ألبيرت جاكار: «إن الذين يبشرون بهذه «الأصولية الإقتصادية» لايمثلون إلا نسبة قليلة بالنسبة لسكان العالم غيرýأنهم يملكون وسائل فرض وجهة نظرهم».
وأوردت صحيفة لوموند ديبلوماتيك (26) تصريحاً لـ د. هنري كسنجر يعبر بشكل بليغ عن هذه العقلية الداروينية حيث قال: «يجب أن لانكون طموحين أكثر من اللازم، وأن نكون واقعيين، وأن نعتبر أن القانون الدولي يمكن ويجب أن ينتصر في كل مكان من كوكبنا، وإنما أولاً في المناطق التي يقترن فيها بمصلحة القوى الرئيسية».
تعكس هذه الأقوال إلى أي حضيض انحدرت القيم عند أصحاب المصالح في الغرب، مما حوله إلى آلة صماء تنتج يوماً بعد يوم في أحضان الغرب نفسه مزيداً من التفقير، [53 مليون فقير فيýأوروبا (27) و 80% من الشعب الأمريكي يتقاسمون 6% فقط من ثروة البلاد] (28) ومزيداًمن التهميش ومزيداً من المخدرات [ التي أصبحت اليوم تروج ما يربو عن 400 مليار دولار سنوياً، حسب آخر تقرير في هذا الشأن] ومزيداً من الجرائم التي أصبحت تنتشر بين صفوف القاصرين والقاصرات، ومزيداً من الطوائف الدينية الخرافية وما تنتهي إليه من انتحارات جماعية، ومزيداً من التلوث البيئي الذي وضع الحياة البشرية اليوم على حافة الهاوية.
وهكذا يتضح أن ما يعانيه المسلمون اليوم من تخلف وعجز وتبعية واستبداد ومصادرة لحقهم في تقرير مصيرهم ليس إلا نتيجة لأزمة قيم تنعكس عواقبها على الإنسانية جمعاء. ولا مخرج للمسلمين بل ولا خلاص للإنسانية برمتها إلا بما دعا له رجاء جارودي عندما نادى بالعمل على «إقامة نظام عالمي ثقافي جديد» يقيم حياة الناس وعلاقة الشعوب على اسس من العدل والحق والإنصاف وتكريم حقيقي لكل إنسان. ولن يتم ذلك إلا بإرجاع القيم العلوية إلى حياة الناس. وهي قيم لايمكن أن تستمد إلا من الإيمان بالله سبحانه وتعالى. وما لم يتحول الإسلام إلى مرجعية للبشرية جمعاء، فيسظل هذا السباق المحموم نحو الكسب المادي الجامح، ليتحول في نهاية المطاف إلى سباق نحو الهاوية، والتي قد تكون كارثة نووية أو بيئية أو وبائية تعصف بالجميع.
وانطلاقاً مما سبق نسجل الملاحظات الآتية:
أولا: إن أزمة البشرية اليوم هي أزمة إنسان قبل أن تكون أزمة نظام (اقتصادي أو سياسي أو غيره)، فالإنسان الذي أنشأته العلمانية بشكل عقلاني مادي صرف بعيداً عن القيم العلوية، أفسد كل النظم وكل المعاني مثل الحرية والديمقراطية، التي كان من شأنها أن تقوم حياته وتقيمها على العدل والإنصاف والحق والخير.
وهذا ماýادى إلى ظهور حركة سياسية في المملكة المتحدة، خلال الإنتخابات الأخيرة باسم القانون الطبيعي. وترى هذه الحركة أن العلة للأزمة الإقتصادية والإجتماعية في بريطانيا تكمن في الإنسان قبل أن تكون في النظام الموضوعي، وتعزو ذلك إلى تبني أنماط الحياة المخالفة للسنن الطبيعية والوقوع في أسر الأنماط الإستهلاكية للمجتمعات الصناعية الحديثة. وناقش أعضاء هذا الحزب في اللقاءات العامة جملة من الأعراض الأساسية مثل التدخين والخمر والإفراط في الطعام والإستهلاك فوق الحاجة ودعوا إلى إحياء الجانب المعنوي والروحي والقيمي في التربية (29) .
ونفس الظاهرة برزت في ألمانيا حيث توجد حركة اجتماعية ضد النمط الإستهلاكي الذي يتجاوز الحاجة الطبيعية للناس. وتضم الحركة العديد من الأسر التي تعجز عن تلبية النزعات الإستهلاكية غير الأساسية عند أبنائها.
ولاشك أن الإنسان إذا افتقد التطلع إلى الآخرة، فإن الدنيا وملذاتها ستتحول إلى أكبر همه، وسيقع بالتالي في دوامة المجتمع الإستهلاكي مستهلِكاً أو مستهلَكاً. وعندما يتحول الإستهلاك إلى هدف في حد ذاته، فلن يتوقف عند أي حد ولن يجلب معه إلا الدمار.
ثانياً: لاحل لمشكلة الإسلام والمسلمين من دون حل لمشكلة القيم على مستوى الإنسانية بمعنى أنه لن يسمح للإسلام بالتمكين على المستوى السياسي والإقتصادي والإجتماعي وغيره إلا إذا قام في العالم نظام ثقافي جديد يقيم حياة الناس وعلاقات الشعوب على أسس من العدل والإنصاف واحترام الإختلاف والتنوع وحق الشعب في تقرير مصيرها.
يقول في هذا الصدد خوان كواطيسولو Juan Goytisilo : «يجب أن نعيد من الأساس، إقامة بناء التعايش، لبنة لبنة، مع احترام الإختلاف والتنوع، ومع استحضار التاريخ والذاكرة الجماعية والفردية» (30) .
ثالثاً: الإسلام مؤهل أكثر من أي بديل آخر لإقتراح حل مناسب ومخرج للإنسانية من المخاطر التي تتهددها.
لقد أضحت مصالح الدول ومشاكلها متداخلة لدرجة جعلت حسم القضايا الكبرى على مستوى محلي أمراً مستحيلاً بالنسبة للدول القوية. وإذا كانت القضايا الكبرى التي تستدعي اليوم حلولاً دولية، مثل قضايا البيئة والبطالة والمخدرات والهجرة، ومختلف أنواع الإجرام، لايشكل في حقيقة الأمر إلا قضايا فرعية فإن الإسلام يطرح اليوم قضية كلية. لأنه يقترح بديلاً حضارياً وبالتالي لايمكن لقضية الإسلام أن تحسم إلا على مستوى إنساني شامل، بمعنى أنه ما لم يتحول الإسلام إلى مطلب إنساني فلن يسمح له بالتمكين في بلاد المسلمين.
وقد يتبادر إلى الذهن، اعتباراً لحالة الإستعضاف التي يعيشها العالم الإسلامي اليوم، أن تحويل الإسلام إلى مطلب إنساني ضرب من الخيال.
مؤيدات هذه الأطروحة:
أول هذه المؤيدات هو الوعد الرباني الذي يجب أن يتخذ كمحفز للمضي في هذا الإتجاه، حيث يقول الله تعالى، وقوله الحق: {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله، ولو كره المشركون} (31) . ويقول: {وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات، ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم، وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئاً} (32) .
غير أن الوعد الرباني لن يتم طبعاً إلا من خلال العمل الإنساني، وسنّة التدافع بين الحق والباطل، ولعل هذا التدافع هو الذي جعل من الإسلام الدين الأكثر والأسرع انتشاراً في العالم اليوم، في سنة 1985، نشر الفاتيكان إحصاءات تبين أن عدد المسلمين (865 مليون) قد تجاوز عدد الكاثوليك (850 مليون) (33) .
وسيمثل المسلمون عند حلول سنة 2025 ثلث البشرية (34) . في حين تسجل مجلة (35) Futuribles تراجع كل علامات ومعايير الإرتباط بالمسيحية فيýأوروبا.
وهذا ما أكده «جيل كيبيل» Gilles Kipel في كتابه «ثأر الإله» (36) حين قال: «بخلاف حركات الدعوة للإسلام التي لاتواجه في المجتمعات الإسلامية خصماً حقيقياً، تجد حركات الدعوة للمسيحية تأثيراً محدوداً بسبب الثقافة الديمقراطية للمجتمعات الكلاسيكية التي خرجت من الشيوعية، مما يبقى داخل الكاثوليكية الأوروبية نفسها تياراً حياً، لايرى في الدعوة المسيحية الجديدة سواء منها التي تعمل على مستوى القمة أو على مستوى القاعدة، إجابة مناسبة لتحديات عصرنا».
ويقول: «Roland Thyman» مؤلف كتاب «الدين والحياة العامة في الولايات المتحدة»، «إن الإسلام هو الدين الذي ينتشر بسرعة في الولايات المتحدة(...) وإذا استمر هذا النمو الديمو غرافي لدى المسلمين الأمريكيين على وتيرته الحالية، فإن عدد المسلمين سيتجاوز عدد اليهود سنة 2000».
ويشير الدكتور «أحمد يوسف» إلىýأن «المسلمين في الولايات المتحدة يقفون اليوم أمام مرحلة تاريخية هامة، حيث أصبح لأول مرة في التاريخ بإمكانهم التأثير الثقافي والديني في المجتمع الأمريكي، بسبب عددهم الذي يتجاوز العديد من الأقليات هناك، وبسبب انتشاره السريع في الولايات المتحدة».
ونفس الأمر يمكن أن يقال بالنسبة لأوروبا حيث أصبح الإسلام يشكل الديانة الثانية في كثير من دول أوروبا الغربية، واصبح المسلمون يتطلعون إلى القيام بدور فاعل في الميدان السياسي. وتجدر الإشارةýإلى عودة الإسلام بشكل واضح إلى دول أوروبا الشرقية التي كانت خاضعة للهيمنة السوفياتية والشيوعية.
ولقد بدأ الإسلام إضافة إلى هذا ـ أو بسبب هذاـ يستقطب اهتمام المفكرين والباحثين الغربيين بغية التعرف الموضوعي عليه في نفس الوقت الذي يتراجع فيه الإستشراق الكلاسيكي العدائي الذي كرس جهده للنيل من الإسلام.
يضيف الدكتور أحمد يوسف: «ومن دلائل تراجع الفكر الغربي الذي يقول بالصدام بين الإسلام والغرب، ظهور جيل جديد من العلماء الذين يفهمون المجتمعات الإسلامية بشكل أفضل، بالإضافةýإلى أن معظم الجامعات الغربيةýأصبح بها مساقات علمية وأقسام مخصصة في الدراسات الإسلامية والمجتمع الإسلامي والحركات الإسلامية. ولعل ما يعزز التفاؤل حول العلاقة بين الإسلام والغرب، أن التيار الغربي الواعي الذي ينفي الصدام وينفي مزاعم «الخطر الإسلامي» يكسب على مر الزمن أرضية جديدة داخل المجتمع الغربي، ويكسب المزيد من الوعي والإستجابة في فهم الظاهرة الإسلامية وتتعزز قدراته في إمكانية مقاومة تيار الحملة الصهيونية» (37) .
ولعل هذا الإهتمام الإيجابي بالإسلام راجع إلى اهتزاز ثقة الكثير من المفكرين والمثقفين في الغرب. وكذلك الناس العاديينـ بالنموذج الحضاري الغربي الذي قتل فعلاً في الإنسان انسانيته وجعله يشعر بتفاهة حياته. وهذا ماأشار إليه فيلوبيز حين قال: «لم يستطع أي مبدأ من المبادئ ولا عقيدة من العقائد أن تملؤه، وتحقق السعادة للإنسان هناك. فرغم الثراء المادي وما يسمى بالرخاء الإقتصادي. وتحقيق الحاجيات المادية للشعوب فإن الإنسان الغربي لايزال يحس بتفاهة حياته ويتساءل: لماذا أعيش؟وأين أسير؟ ولماذا؟ ولا أحد يقدم له الإجابة عن هذه الأسئلة. وما درى المسكين أن دواءه في الدين القويم الذي لايعرف عنه إلا الشبهات. ولكن بداية النور قد بدأت تشقشق والصبح بدأýيسفر بدخول جماعات ولو قليلة من الغربيين في الإسلام. وبدأ الإنسان الغربي يرى بأم عينه رجالاً ونساء يطبقون الإسلام ويعيشون به، وفي كل يوم يدخل بعضهم في الدين الحق، إنها البداية» (38) .
ولابد من الإشارةýفي هذا المجال إلى ما فتحته شبكة الإنترنت من إمكانات لتبليغ رسالة الإسلام إلى كل بقاع الأرض، وما أتاحته من فرص لمشاركة المفكرين المسلمين في الندوات المتعددة التي تنظمها مختلف المؤسسات العلمية والإعلامية حول المواضع الحساسة التي تؤرق البشرية اليوم، والتي قد لا يكون لها حل إلا من خلال الرؤية والقيم الإسلامية.
ولقد بدأ فعلاً إستعمال هذه الشبكة حيث «لوحظ أن كلمة الإسلام تتكرر 105-230 مرة في الـ World Wide Wed ، ويعالج الإسلام بشكل مستفيض على شبكة الشبكات، ويلاحظ أن اللغة المستعملة هي غالباً الإنجليزية، كما أن معظم مواقع البث توجد في الولايات المتحدة، وفي الغالب تتولى الأوساط الجامعية بث هذه المعلومات.
ويتم كذلك تقديم الكثير من الخدمات من خلال هذه الشبكة من كتب ومجلات وأشرطة وأقراص مدمجة CD ROM ومواقيت الصلاة، ويتوفر مثلاً القرآن الكريم ـ مترجم إلى عدة لغات، ويمكن الحصول على الترجمة الفرنسية على العنوان الآتي: WWW - edu.gel.usherb.ca/elmn01/-amus/coran
ومعظم صفحات الـ Web تقدم بصفة عامة معلومات حول الفلسفة والحضارة الإسلامية ». (39)
نشيرýأولاً إلى أن البديل الحضاري مشروع متعدد الأبعاد، فهو رؤية فلسفية، ونهضة تجديدية وإنجاز ميداني وأجواء حركية، ودعوة وتربية للناس كافة. فالعمل الحضاري مشروع لايمكن أن ينهض به إلا المجتمع بمختلف جماعاته، ومؤسساته، وبمشاركة علمائه ومفكريه ومربيه، والناس أجمعين.
مادام المشروع الحضاري بهذه الأبعاد، فالوحدة المناسبة له، يجب أن تكون وحدة تنسيق وتكامل، توفر الجو المناسب للإختلاف والتنوع، وتعدد الإجتهادات، وهي عوامل حيوية بالنسبة للإبداع والتجديد اللذين يمثلان أساس أية نهضة. لذا يجب على الجماعات الإسلامية أن تركز على التخصص أكثر من نزوعها نحو الشمولية، حتى تساهم كل جماعة من زاويتها، وبتعاون وتنسيق مع كل مكونات الساحة الإسلامية من مؤسسات وعلماء ومفكرين ومتخصصين وتقنيين وغيرهم، في بناء الأرضية الحضارية التي ستحتضن في المستقبل، حينما تتهيأ وتنضج الظروف المحلية والدولية، قيام مؤسسة الدولة الإسلامية التي لن تكون إلا أداة لحماية المشروع الإسلامي وتطويره وتفعيل أدائه.
وإذا أدرك الجميع بأن التحدي الذي يواجه الأمة اليوم حضاري/ ثقافي، وعقد العزم على مواجهته من زاوية تخصصية معينة، فستغيب دواعي الخلاف والصراع، بل سيشعر كل طرف بأن الأطراف الأخرى تكمله وتسانده، وسيحل التعاون محل الصراع، وإن كان من تنافس فسيكون على الخير وليس على احتلال موقع الزعامة كما يدفع إلى ذلك المنطق السياسي الضيق.
ونشير بالمناسبة إلىýأن هذا العمل التخصصي سيمكن من إيجاد كثير من نقط التقاطع والإلتقاء بل والتعاون مع فعاليات ومؤسسات محلية ودولية لاتنطلق بالضرورة من المنهج الإسلامي، مثل مختلف المنظمات غير الحكومية والعديد من المثقفين الذين يؤمنون بقيمة الإنسان.
كل متمعن في التحدي الحضاري يدرك كثرة الواجبات وتنوعها، وهي من الضخامة والعمق بحيث لن تقوى حركة بمفردها على إنجاز ولو قسم منها.
ويهدف إلى تنشئة جيل جديد صادق الإيمان والتجرد، يتجاوز عجز ونفسية من أفسدهم الإستعمار ثم الإستبداد فأحالهم إلى أناس ناقمين يتصرفون برد الفعل وضيق الأفق، في حين يحتاج المستقبل إلى الشخصية الحضارية المدركة لدورها الرسالي في هذه الحياة، دور إقامة الشهادة على الناس، والعاملة له من خلال المبادرة الواعية وليس المنفعلة، والمتخلقة بالسجايا الذي يتطلبها القيام بهذا الدور من رحمة بالناس كافة وخفض الجناح للمؤمنين وشدة وشجاعة وتضحية عندما يتطلب الموقف ذلك.
ونشير في هذا الصدد إلى ضرروة إعادة النظر في الرؤية التي كانت تقسم العالم، بالنسبة للمسلم، إلى دار حرب ودار سلم، أو إسلام، والتي كان على إثرها يقيم علاقاته مع الآخر، وخاصةýإذا علمنا أن العمل الإسلامي يجد اليوم من الحرية في ديار الغرب ما لايجده في العديد من بلاد المسلمين. ويمكن القول، بعدما انفتح العالم على بعضه البعض واصبح لأعداد غفيرة من المسلمين وجود واضح ودائم في ديار الغرب أن أرض الله كلها أصبحت بالنسبة للمسلم أرض دعوة، ويجب أن ينشأ أبناء المسلمين على هذه الرؤية وعلى هذه المسؤولية، مسؤولية إقامة الشهادة على الناس جميعاً، ومسؤولية اقتراح على الناس كافة مخرجاً يخلصهم من هاوية العلمانية.
ويعتبر المجتمع برمته الميدان الأساسي لهذه العملية التربوية. أما وسائلها فهي رياض الأطفال والمدارس في المجال الخاص، وخطب الجمعة والمواعظ المختلفة في المجال العام، وهو عمل لو تخصصت فيه جماعةýأو حتى عدة جماعات لكفاها ولأسدت بذلك للأمة وللمستقبل الإسلامي خدمة استراتيجية أساسية.
نشير أولاً إلى ضرورة إسهام مختلف المؤسسات والفعاليات الإسلامية في التقليص من مساحة الأمية التي تشمل في كثير من البلاد الإسلاميةýأكثر من 50% من المواطنين، علماً بأن النهضة والأمية لايقترنان.
ثم لابد من بلورة منهج تعليمي متميز، يجمع بين الأصالة والمعاصرة يهدف إلى إخراج مسلم، بقدر ما هو مستوعب لأسس الشريعة، وبقدر ما هو متشبع بعقيدة التوحيد ومتمسك بمقتضياتها، بقدر ما هو مستوعب لعلوم العصر ومتفاعل مع مستجداته. ومن أدوات هذا العمل المدارس والمعاهد والجامعاتـ وتجدر الإشارة في هذا الصدد إلى تجربة الجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا والتي قد تكون نموذجاً يحتذى به في هذا المجال. يقول عنها رئيسها الدكتور عبد الحميد أبو سليمان: «إنها مدرسة إسلامية إجتهادية في الفكر الحضاري الإستخلافي الرفيع (...) ولتحقيق هذه الرسالة يقوم نظام الجامعة في مجال العلوم والدراسات الإسلامية على مفهوم التخصص المزدوج الذي يجمع بين دراسة معارف الوحي الإسلامي وبين العلوم الإنسانية والإجتماعية، بمنهجية علمية شمولية تحليلية منضبطة (..) أما في العلوم الفيزيائية فإن الجامعة تهتم في مناهجها بفلسفة العلوم وتاريخها وقضايا الثقافة من منطلقات إسلامية إلى جانب ما يتخصص فيه الطالب من فروع العلوم الفيزيائية الحديثة (..) والجامعة تعلم شبابها اللغتين العربية والإنجليزية لكي تسلحهم بوسائل الإتصال الاصلية بمصادر معارف الوحي من جهة وعلوم العصر ومعارفه من جهة أخرى، ولتنشئ منهم مثقفين قادرين، شهوداًعلى أحوال الأمم وحضاراتها من حولهم(..)
بهذا المنهج وبهذا الأسلوب توفر الجامعة الإسلامية للمجتمعات المسلمة، مثقفين وعلماء وتقنيين يتسمون باتساع الأفق الثقافي والحضاري، والقدرة العلمية والتقنية الفنية، وهذا هو منهج التوحيد الكوني والسلام النفسي والتكامل المعرفي الذي يحمل في طياته الإجابة على أوجه القصور ودواعي المعاناة والقلق الذي يسري في حنايا الحضارة المعاصرة» (40) .
يعتبر العمل الإعلامي من أكبر التحديات التي تواجه الصحوة الإسلامية،وأعقدها لأن يشمل التربية والتوعية والتوجيه ودفع الشبهات عن الإسلام وتبليغ رسالته للناس كافة بوسائل متنوعة.
تشكل «المعلومات» في العصر الحالي المصدر الأساسي للقوة والنفوذ والهيمنة، فبقدر ما تتمكن الدول من جمع المعلومات ومعالجتها وإخراجها وبثها بقدر ما تتمكن من استشراف المستقبل واستباق الأحداث وخلق واقع اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي معين، يفرض نفسه على باقي الدول.
وأخطر ما في الهجوم الإعلامي أنه يستهدف العقول والقلوب، وإذا سقطت هذه، فإن الحصون الإقتصادية والسياسية والإجتماعية والثقافية، ستسقط تباعاً دون أدنى مقاومة. ولايجهل أحد السيل الإعلامي العارم الذي يتعرض له العالم الإسلامي مثل ـ باقي دول العالم ـ من خلال القنوات الفضائية، وهو في معظمه علماني المحتوى هدفه الأساسي، إنشاء إنسان بدون هوية ولا ضمير، يسهل استيعابه في مساحات الإنتاج أو الإستهلاك التي تخدم مصلحة من يتحكمون في عالم اليوم.
وإذا أضفنا إلى هذا ماسبق وأن ذكرناه بخصوص تشويه صورة الإسلام عبر وسائل الإعلام المختلفة، يتبين لنا حجم التحدي الذي يواجه الصحوة الإسلامية في هذا المجال الخطير.
ويمكن إجمال الواجبات التي يجب القيام بها في هذا المجال كما يلي:
ـ إنشاء مراكز للدراسات والبحوث، تمكن من جمع المعلومات ومعالجتها، بهدف توعية الساحة الإسلامية بالمستجدات والمتغيرات، حتى يتمكن المسلمون من التعامل مع واقع موضوعي وليس وهمي يحجمون حيث يجب أن يقدموا، أو يسرعون حيث يجب أن يتريثوا. فما أحوج الصحوة الإسلامية إلى أجهزة علمية من هذا النوع حتى تخرج من الحماسة إلى الإتزان، ومن الإرتجالية والعشوائية إلى المنهجية والتخطيط.
وعمل من هذا النوع يحتاج إلى تضافر جهود المختصين عبر العالم، ولاشك أن الثورة المعلوماتية والتكنولوجية المعاصرة قد تسهل إلى حد كبير التنسيق والتعاون في هذا المجال.
إنشاء اعلام متعدد الأبعاد قصة، رواية، مسرح، شعر، محاضرة الخـ ومتنوع الأدوات ـ صحف ومجلات وكتب وإذاعة وتلفزيون ـ يقوى على مواجهة الإعلام العلماني من جهة، ويصحح صورة الإسلام من جهة ثانية، ويربط المسلمين حيثما وجدوا على سطح المعمورة، بالأجواء الثقافية الإسلامية ويسهم في إعادة تشكيل عقولهم ووجدانهم.
لقد شرعت الأوساط الجامعية في الولايات المتحدة خاصة في استعمال شبكة الإنترنيت لتقديم العديد من الخدمات والمعلومات حول الإسلام. والمطلوب إضافة إلى هذا، أن يبادر المتخصصون بالمساهمة في الندوات المختلفة التي تنظمها مختلف المؤسسات العلمية والإعلامية عبر الشبكة. وهذا عمل نوعي يحتاج إلى فرق عمل يتخصص كل منها في مجال من المجالات. في الماضي لم يكن بإمكان الرأي الإسلامي أن يسمع حول قضية معينة إلا إذا استدعي من طرف منظمي الندوات، أما الآن فلم يعد الأمر يتوقف إلا على قدرة المفكرين المسلمين على المساهمة باللغة والعمق المطلوبين. ولانحسب هذه القدرة غائبة بل نحسبها ستضيف بعداً نوعياً لما يتداول من آراء بخصوص القضايا التي تؤرق الإنسانية والتي قد لايكون لها من حل إلا الهدي الإسلامي، والمطلوب فقط هو تنظيم الجهود في هذا الإتجاه.
يفهم من حديث رسول الله (ص): «إن الله ليبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لهذه الأمة دينها»، أن التجديد عملية دائمة ومستمرة إلى قيام الساعة. وهذا امر طبيعي لأن الإجتهاد البشري نسبي لإرتباطه الوثيق بالظروف الزمانية والمكانية والمعرفية التي يتم فيها. فما كان صالحاً لزمن ومكان وأناس معينيين وظروف محددة لن يصلح بالضرورة لغيرها. ولايجوز بحال من الأحوال أن يصادر جيل سلف حق الأجيال الموالية في الإجتهاد لنفسها ضمن المقاصد العامة للشريعة، لأن التجديد هو أساس كل نهضة غير أن عملية التجديد، تحتاج اليوم إلى جهود كثيرة وتخصصات متنوعة، من علوم شرعية وإنسانية خاصة، بسبب الوضع المعقد والمتشابك الذي أصبح عليه عالم اليوم.
يعيش المسلمون اليوم في معظم مواقعهم وضعاًمزدوجاً، بين الشأن الخاص والشأن العام، فإذا كان بإمكانهم أن يلتزموا بالشرع فيما يتعلق بالفروض العينية، فإن ذلك متعذر فيما يتعلق بالمجال الإقتصادي والسياسي وغيرهما غير أن الفقه المتوفر اليوم هو فقه الدولة التي يكون فيها الشأن الخاص والعام منسجماً مع الشريعة. أفلا يحتاج واقع البلاد الإسلامية اليوم إلى فقه يناسب هذا الوضع المزدوج؟
بالنسبة للمقاصد تجدر الإشارة إلى البحوث التي تبذل حالياً لتجاوز ما حدده الشاطبي من مقاصد الشريعة بالنسبة للفرد إلى البحث في المقاصد على مستوى الأمة استكمالاً لما بدأه الطاهار بن عاشور. ولاشك أن البحث في هذا الإتجاه سيستوعب مقاصد الشاطبي ويضيف لها آفاقاً جديدة.
ونقصد به بلورة المشروع الإسلامي العلمي المعاصر في مجالات الإقتصاد والسياسة والإجتماع والتربية والقانون، والفنون وغيرها.
لقد تخلف المسلمون عن الإجتهاد والتجديد والمواكبة في هذه المجالات لمرحلة طويلة منذ أن أزيح العلماء عن منصب الحكم، حيث أدى ذلك إلى انسحاب العالم من الشأن العام مما قصر تركيزه على العبادة الفردية، فكثر الفقه وتضخم في هذه المجالات، وانحصر إلى حدود جد ضيقة في المجال السياسي والإداري والقانوني والإقتصادي. ومن المعلوم أن ما يثير الإجتهاد ويستفز الفكر هي الممارسة الميدانية. ويجد المسلمون اليوم هوة سحيقة بين التطور الهائل الذي عرفته مختلف مجالات الفعل الإنساني والمحطة التي وقف عندها الإجتهاد، مما يجعل استئناف العملية الإجتهادية جد صعبة، لسببين:
أـ سيضطر المجتهد إلى القول برأي سيكون بعيداًجداً عن الصورة التي ألفها الناس، مما يجعل العملية في حد ذاتها مستعصية، وقبولها من طرف الناس أكثر استعصاء.
ب ـ سيتعرض هذا المجتهد لإنتقادات، بل وهجوم قاس من طرف علماء آخرين. مما يشكل بالنسبة إليه ضغطاً نفسياً قد لايشجعه على المضي في نفس النهج. وقد يدفع الكثير من المبدعين الآخرين إلى الإحجام عن الإفصاح عن اجتهاداتهم خشية الزوابع التي يمكن أن تثار ضدهم.
في حين عندما يكون الإجتهاد عملية مستمرة ومواكبة للتحولات، يتم التجديد والتكييف بإحداث تعديلات طفيفة لاتحدث ردة فعل رافضة لدى الناس، مما يجعل التغيير والتجديد يتم من خلال سلسلة متعاقبة ومطردة من التكييفات، ويتحول بالتالي إلى حالة فكرية معتادة لدى الناس.
لاشك أن واقعنا المعاصر يتطلب طفرة فكرية واضحة لردم الهوة الزمنية التي انقطع خلالها الإجتهاد، لذا تتوقف هذه العملية على جملة من الإجراءات نجملها في ما يلي:
أـ مراجعة المناهج التي ابتكرها واعتمدها الأسبقون في اجتهاداتهم بغية الإهتداء بها لإبتكار المنهج المناسب لظروفنا وواقعنا واحتياجاتنا.
بـ استيعاب الواقع في شموليته وجزئياته وديناميكيته وتعقيداته ومآلاته بغية التعامل معه من منظور علمي بعيداًعن الخيال والإنفعال والأماني.
جـ صياغة واقتراح الحلول الإسلامية للأزمات التي تعاني منها بلاد المسلمين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وإخراجها مكتوبة للعموم.
قد يقول قائل: «إذا لم يكن بوسع المسلمين تطبيق هذه الحلول بحكم بعدهم عن موقع السلطة، فما الفائدة من هذا الجهد؟»
لهذا العمل فوائد وأهداف متعددة:
أـ ردم هوة الفراغ التي أحدثها وقف الإجتهاد ـ أو تقلصه ـ في المجال العام باستئناف عملية الإجتهاد من منطلقات ميدانية واقعية، حتى يحدث بذلك التراكم الذي سيشكل الذخيرة التي سينطلق منها في المستقبل من سيجتهد للتنفيذ العملي، مع الإشارةýإلى إمكانية تبني بعض الإجتهادات الإسلامية ولو بشكل جزئي داخل البلاد الإسلامية وحتى خارجها.
بـ تعويد الناس عامة على التجديد حتى يتعاملوا معه بشكل إيجابي.
جـ تشجيع المجتهدين على الإبداع والنبوغ دون خشية ردود أفعال مناهضة.
وبهذا سيتشكل البديل الإسلامي تدريجياً وعلمياً في هذه المجالات ويصير المشروع الإسلامي قادراً على الإنخراط في المجال العام عملياً بمجرد ما يفسح له المجال للفعل.
لقد أصبح هذا البعد ضروري كما أسلفنا، بغيةýإيجاد تيار مساند للإسلام في وسط الغربيين من جهة، وبغية إسهام المسلمين في إيجاد حلول للمشاكل العامة التي تعاني منها الإنسانية قاطبة، غير أن مبادرة التعارف والحوار والدعوة التي يقتضيها هذا الواجب تحتاج إلى تكوين خاص، غير التكوين المخصص للعمل الدعوي في بلاد المسلمين، ويحق «للعالم الإسلامي اليوم ـ كما قال د. مراد هوفمان ـ أن يخجل من قلة العلماء المؤهلين لإقامة حوار مع الغرب» (41) .
فلا بد لمن سيتولى مخاطبة الغرب أن يكون على دراية بالثقافة الغربية ونقط التقائها وافتراقها مع الثقافة الإسلامية. ويكون على معرفة بعقلية ونفسية الإنسان الغربي حتى يمسك بالمفاتيح الموصلة إلى قلبه.
ويدخل في هذا الجانب المخاطبة السلوكية التي سيقوم بها المسلم المقيم في الغرب، والذي لايملك القدرة على البيان الفكري. فالمطلوب منه أن يستقيم سلوكياً كما أمره الله سبحانه وتعالى. وأن يتعامل بالهدي الإسلامي مع جيرانه وأصدقائه من أبناء هذه البلاد. لقد انحسرت إلى حد بعيد العلاقات الإنسانية والإجتماعية في الغرب من رعاية حق الجار وعيادة المريض ومعايدة المعارف، وتقديم المساعدة والهدية وكل صور الرحمة والإحسان، والدفء الإنساني التي تعتبر رأس مال ثمين في يد المسلم، بحيث لوýأفاض بها على من حوله لكسب قلوبهم وعقولهم.
نشير هناýإلى إشكالية تؤثر بشكل سلبي على تفاعل الإنسان الغربي مع الإسلام، ويتعلق الأمر بوضع المرأة في العالم الإسلامي حيث تكون معاملتها خاضعة في كثير من الأحيان للتقاليد والأعراف أكثر من خضوعها لتعاليم الشرع الإسلامي، مما يؤدي إلى سوء معاملتها من جهة، وتعطيل الإستفادة من قدراتها من جهة ثانية. فلا بد إذن من تطوير وضع المرأة عملياً وميدانياً على وجه الخصوص حتى ينسجم مع التصور الإسلامي، أما على المستوى النظري فلقد أجاد الأستاذ عبد الحليم أبو شقة رحمه الله تعالى في مجموعته القيمة «تحرير المرأة في عصر الرسالة» بشكل مبدع، وما تحتاجه الساحة الإسلامية هو تطوير في العقليات بالدرجة الأولى.
ونقصد به الإنجاز الميداني ـ التدريجي طبعاًـ لكل ما يعبر عن الرؤية الحضارية الإسلامية، سواء تعلق الأمر بالفن المعماري، أوبفلسفة واساليب التطبيب، أو بالمعاملات الإقتصادية، أو بالمحافظة على البيئة، وما إلى ذلك من القضايا التي يمكن إنجازها على ارض الواقع.
خلاصة: يضع التحدي الحضاري جيل الصحوة الإسلامية المعاصرة أمام واجبات متعددة ومتنوعة، ولايمكن القيام بهذه الواجبات إلا من خلال مستوى متقدم من تخصص مختلف مكونات المساحة الإسلامية في مجال من المجالات، وقد تتخصص عدة جهات في مجال واحد، والوحدة المناسبة لهذه الأعمال هي الوحدة التنسيقية والتكاملية. والشرط الأساسي ليتم البناء الحضاري المنشود في جو من الإنسجام والتناغم البديع والتعاون المثمر هو أن تربي الحركات الإسلامية أعضاءها، وكل من تحتك بهم من أبناء المجتمع على روح الإختلاف والتنوع التي تشجع على الإبداع وروح التنافس الشريف.
ونشير بهذه المناسبة إلىýأن عدد المسلمين يفوق اليوم المليار والربع المليار، والعدد في ارتفاع مطرد وسيشمل شعوباًـ منها الغربية ـ لها أعرافها وتاريخها وثقافتها، وبالتالي طريقة فهمها وتعاملها مع النصوص الشرعية، مما قد يفرز اجتهادات ورؤى غير مألوفة لدينا نحن العرب، فإن لم تربي الحركات الإسلامية أبناءها والناس من حولها عن رحابة الصدر وسعة الأفق، فقد يتحولون إلى عناصر تفرقة وانشقاق أكثر من عناصر جمع وتوحيد.
ونشير في النهاية إلى أن الوحدة التكاملية والتنسيقية تشكل مأمناً ضد الإجهاز على بناء العمل الإسلامي برمته بحيث إذا ما تعرض جانب من جوانبه للمحاصرة فلن يؤدي إلى ضرب كل الجوانب الأخرى في حين أن الوحدة المندمجة تؤدي إلى شل العمل برمته إذا ما تعرضت «الجماعة» للتضييق والمحاصرة.
الهوامش:
1ـ Subin l'ajustement structurel.Maniere de voir n 28
2ـ Le monde diplomatique. juillet 1991.
3ـ Critique de la modernite'، Alain Touraine 1992 Fayard
4ـ Conque'te du monde، Le monde diplomatique، Mai 97
5ـ Conque'te du monde، Le monde diplomatique، Mai 97
6ـ Manie're de voir n 32p. 47
7ـ Seconde jeunesse pour les comptoirs colonioux، mane're de voir n 32
8ـ انظر كتاب الإسلام كبديل، د. مراد هوفمان، مؤسسة بافريا للنشر 1993.
9ـ انظر كتاب نهاية التاريخ، فرانسيس فوكوياما.
10ـ انظر كتاب العرب والغرب، مقاربة ثقافية في ضوء الأزمة الليبية الغربية، محمد شومان، مركز دراسات العالم الإسلامي، مالطا، 1992.
11ـ انظر كتاب إدوارد سعيد الإستشراق ترجمة كمال أبو ديب، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية.
12ـ Manie're de voir n32p. 49
13ـ صورة العرب والإسلام في الكتب المدرسية الفرنسية، الدكتورة مارلين نصر، مركز دراسات الوحدة العربية بيروت 1995.
14ـ العرب والغرب مقاربة ثقافية، ص 24.
15ـ صدر هذا البحث تحت عنوان «الإسلام والعالم العربي، الدليل التربوي للمكونين والأساتذة، قام بإعداده خيما مارتين مونيوس وبكونيا بايي سيمون ومارييا أنخليس لويس براثا تحت عنوان: II Islamy el mundo arabe - Guia didactito para profesores y formadoes
16ـ إدوارد سعيد الإستشراق ص 287.
17ـ العرب والغرب مقاربة ثقافية ص 24
18ـ حمادي الرديسي، اللحظة الفلسفية في فهم التحولات العالمية، لوموند ديبلوماتيك الكراس العربي مايو/ يونيو 1990.
19ـ نقلاً عن مجلة «المجلة»، لندن.
20ـ غريس هالسل، النبوءة والسياسة، 1990.
21ـ حوار التواصل المهدي المنجرة.
22ـ جريدة المستقلة من لندن، عدد 129.
23ـ عن كتاب «إسرائيل الصهيونية السياسية» لرجاء غارودي.
24ـ Manie're de voir n 32p. 75
25ـ Albert Jacquard، J'accuse le libe'ralisme triompliant
26ـ عدد مارس 1993.
27ـ Le monde diplomatique 7/92
28ـ The New York Review Of Books 3/10/96
29ـ عن د. ليث كبة، صحيفة المستقلة (اللندنية) العدد 162، 16/6/1997.
30ـ Une strate'gie de re'sistance، Manie're de voir n32p.75
31ـ الآية 33 من سورة التوبة.
32ـ الآية 55 سورة النور.
33ـ La de'colonisation culturelle، El Mehdi El Mandjra، Edition walili 1996 p. 249
34ـ حسب Jean Francois - Pichat، (Les scientifiques parlent) Edition Hachette، Paris 1987
35ـ عدد ماي 95 ص 83.
36ـ La recvanche de dieu، Gilles Kipel، Editions du Seuil 1990p. 94
37ـ عن صحيفة «الراية» (المغربية) ليوم 13/3/1997.
38ـ رجال ونساء أسلموا «دار القلم الكويت».
39ـ L'Islam sur Internet، Jeune Afrique n - 1905-9-7-1997p.61
40ـ مقتطفات من حوار مع الدكتور عبد الحميد أبو سليمان مع جريدة المستقلة العدد 158/19-5-97
41ـ انظر كتاب الإسلام عام 2000 مراد هوفمان.