شعار الموقع

الفكر الإسلامي وقضايا المرأة

زكي الميلاد 2004-10-15
عدد القراءات « 1526 »

[1]
بواعث

الحديث عن قضايا المرأة في الفكر الإسلامي، لم ينقطع أو يتوقف خلال القرن الأخير. فقد كان لهذه القضايا في حقل الدراسات الفكرية والثقافية ضمن الإطار الإسلامي، اهتماماً واسعاً يفوق من الناحية الكمية قضايا أخرى عديدة لاتقل أهمية وخطورة عن تلك القضايا. مما يؤكد حضور هذه القضايا في الذهنيات الإسلامية والإلتفات إليها بصور وبواعث مختلفة حرضت على أن تحتل هذه المكانة البارزة في كتابات الإسلاميين. فلا نكاد نجد كاتباً أو مفكراً أو فقيهاً أو مصلحاً إلا وكتب في هذا الموضوع أو أعطى رأياً أو فكرة حوله.
ولعل أبرز ما يفسر هذا الإهتمام النشط بقضايا المرأة في الأدبيات الإسلامية هو ما فتحته هذه القضايا من معارك فكرية ساخنة شكلت واحدة من أشدّ أنواع الإصطدام بين المنظومات الفكرية في العالم العربي والإسلامي، المتنازعة في رؤيتها الإجتماعية والثقافية والسياسية، وفي مقدمتها تأتي قضايا المرأة لارتباطها الوثيق بالحياة الإجتماعية العامة والخاصة، بحيث يرتبط بها كل إنسان ـ رجل أو امرأة ـ من جهاتها العديدة، ويتداخل معها في أنماط من العلاقات المتشابكة النسبية والسببية، الإرتباط الذي يفرض على الجميع أن يواجه بأشكال مختلفة ما تفرزه قضايا المرأة من تساؤلات أو إشكاليات أو هواجس أو وجهات نظر. هذا الوضع بهذا التداخل والإتساع كان يلح بشدّة على أن تفرض قضايا المرأة نفسها على المجتمع برمته، والتعاطي معها كقضايا حرجة وحساسة للغاية.
ومع الإصطدام الحاد الذي حصل بين المنظومات الإسلامية والمنظومات الفكرية الأخرى المغايرة، برزت قضايا المرأة في السجالات الإحتجاجية الساخنة، واصطبغت بهذا اللون. فقد حاولت المنظومات المغايرة أن تقدم نفسها للعالم العربي والإسلامي بشعارات تحرير المرأة، والنهوض بأوضاعها، والدفاع عن حقوقها. مستفيدة من أوضاع شديدة التخلف كانت تحيط بالمرأة التي تعرضت منذ وقت مبكر لإهمال في التعليم وفي تنمية مواهبها وتطوير كفاءاتها، وكان من نصيبها النسب الأكبر من معدلات الأمية المرتفعة في هذه الأقطار، في الوقت الذي يزداد قطاع النساء من إجمالي السكان العام.
وقد أتقنت هذه المنظومات الفكرية توظيف قضية المرأة في خطابها الفكري والإجتماعي، الذي كانت تعطيه صفة الحداثة والتنوير، في حين أظهرت المنظومات الإسلامية ضعفاً ملحوظاً في تصوير رؤيتها وبلورة أطروحتها تجاه المرأة.
ومنذ أن برز الغرب كقوة متقدمة في العصر الحديث حاول أن يظهر للعالم بأنه صاحب النموذج الأفضل في الإرتقاء بوضع المرأة وتحريرها، وإشراكها في الوظائف العامة ومساواتها مع الرجل في القانون والتشريع، وكان يتبجح بهذا النموذج الذي أحرج به العالم، وسعى إلى فرضه على الأمم والحضارات الأخرى، التي كانت لها رؤية تجاه المرأة مختلفة ومتعارضة، لكنها فقدت سبل النهوض بها نتيجة التراجع الحضاري الذي أصاب هذه الحضارات.
فالنموذج الغربي للمرأة هو الذي أخذ يزحف على الأمم والحضارات غير الغربية بدفع وتحريض نشط وواسع من الغرب ومؤسساته الإعلامية الضخمة، التي جعلت منه الأكثر تأثيراً على العالم، إلى أن أصبح نموذجه للمرأة هو الأوسع انتشاراً وتقبلاً بين الكثير من الأمم، إلا في العام العربي والإسلامي مع ما تعرض إليه من اختراقات خطيرة إلا أنه ظل معارضاً وبشدة لرؤية الغرب ونموذجه للمرأة.
فالمنظومة الإسلامية من بين المنظومات الفكرية في العالم التي لم تخضع للمنظومة الغربية ولم تنهزم فكرياً وثقافياً أمامها، بل أظهرت تحدياً قاسياً تجاهها. وهذا ما ندركه من الغرب نفسه بالسلوك الذي يتعامل به مع العالم الإسلامي، وما يشكله الإسلام في عيه في الماضي والحاضر والمستقبل، كالذي عبرت عنه بوضوح مقولات مثل «البحث عن عدو جديد» و «صدام الحضارات» و التعمد في ترويج شعارات أو مصطلحات من قبيل «الأصولية الإسلامية» و«الإرهاب الإسلامي» و«التطرف الإسلامي» لتخويف العالم من الإسلام وخلق حاجز نفسي وفكري أمام توسعه وانتشاره، وهو الدين الذي لازال يظهر حيوية ونمواً وصعوداً يلفت أنظار واهتمام العالم إليه.
ولعل أوسع نقد وليس بالضرورة هو الأعمق، تعرض إليه النموذج الغربي للمرأة جاء من العالم الإسلامي الذي أبرز هذه النقد في أدبياته الثقافية، وكان حاضراً في كل ما كتبه الإسلاميون في حقل قضايا المرأة، وباعثاً‏أساسياً على الكثير منها.
ومع تزايد وتيرة الحديث حول الإسلام والغرب منذ بداية الثمانينات وتصاعده المكثف في التسعينات، أضاف بواعث أخرى في معركة السجال الإحتجاجي حول قضايا المرأة، وهي القضايا التي تبرز عادة مع ما يحصل من تباينات بين الحضارات، وتشتد بصورة أكبر في التباين الحاد بين الحضارتين الإسلامية والغربية كالذي أظهرته معركة الحجاب في فرنسا سنة 1989م، والتي تكررت أكثر من مرة في التسعينات في عدد من الدول الأوروبية. وكشفت عن تحسس الفرنسيين والغربيين عموماً من ظاهرة الحجاب، وما تعبر عنه هذه الظاهرة من دلائل ورموز ومضامين ترتبط بالهوية وبالنموذج الإسلامي للمرأة، الذي قد يفهم منه بأنه اختراق للقوانين والهوية والمجتمع في فرنسا والغرب، خصوصاً‏وأن الفرنسيين يظهرون تحسساً تجاه هويتهم نتيجة ارتباطهم الشديد بالثقافة وبثقافتهم بوجه خاص.
وخلال عقد التسعينات من القرن الأخير برزت بعض الأحداث الفكرية والسياسية التي حرضت على الإهتمام بقضايا المرأة على نطاق عالمي، وجددت الحديث عن قضايا المرأة في المنظور الإسلامي باتجاهات مختلفة لم تخرج عن طابعها الجدلي الإحتجاجي.
الحدث الفكري الأبرز هو انعقاد المؤتمر العالمي الرابع للمرأة في بكين، أيلول/ سبتمبر 1995م، الذي فتح أوسع حديث عالمي حول المرأة في وقته، ولعله أرخ لأبرز حدث فكري حول المرأة مع نهاية القرن العشرين، واصطدمت في هذا المؤتمر أطروحات الحضارات في رؤيتها للمرأة، وبرز واضحاً الإصطدام بين الرؤيتين الإسلامية والغربية، قبل المؤتمر وأثناءه وبعده. وسوف يبقى مؤتمر بكين في ذاكرة المرأة، وحاضراً في كل حديث يرتبط بقضايا المرأة من أي منظور كان، فكري أو اجتماعي أو اقتصادي أو سياسي أو حقوقي أو غير ذلك. وهناك من النساء من وصفن هذا المؤتمر بأنه بمثابة ثورة ثقافية ثالثة بعد الثورة الفرنسية لحقوق الإنسان، والثورة ضد التمييز العنصري، وها هي الثورة الثقافية لإلغاء التمييز ضد المرأة.
وفي السياق السياسي جاء حدث وصول حركة طالبان إلى السلطة في أفغانستان سنة 1996م، التي قدمت تفسيراً متحجراً للشريعة عكست فيه رؤيتها للمرأة التي فرضت عليها واقعاً متشدداً ومتعسفاً للغاية، فحجبت عنها التعليم وفصلتها من دوائر العمل وأجبرتها على الإلتزام بسلوك خاص يقيد حرياتها وينتهك حقوقها المشروعة وقد قوبلت هذه الرؤية بنقد شديد في العالم العربي والإسلامي، اعتبرها الإسلاميون تشويهاً للإسلام وتحجراً في الفكر، واعتبرها الغربيون انتهاكاً لحقوق المرأة الأساسية التي كفلتها شرائع حقوق الإنسان.
هذه الرؤية لاتنتمي إلى العصر ولاتعبر عن جوهر الدين الحضاري التي تمسكت بها حركة طالبان، أعادت من جديد صور ونمط المعارك الفكرية التقليدية حول قضايا المرأة في العالم العربي والإسلامي، كما مثلت ارتداداً على الرؤية التي جاهد الإسلاميون الإصلاحيون على بلورتها وتقديمها عن المرأة.
ومع هذا الحدث وجد الخصوم فرصتهم في إحراج الإسلاميين وتوجيه النقد إليهم وإعادة طرح الإشكاليات التقليدية حول رؤيتهم للمرأة، مع أن الإسلاميين أعلنوا رفضهم ونقدهم لرؤية طالبان، إلا بعض الإسلاميين الذي يصنفون على نمط التفكير السلفي، حيث كان في تقديرهم عدم توجيه النقد علناً لحركة طالبان وخطابها حول المرأة حتى لايستفاد من ذلك في تشويه الإسلام وإضعاف حركته. وهو موقف لايصح أن يقبل ولايجوز أن يبرر له.
والمتغير المهم هو ما أظهرته المرأة في العالم العربي والإسلامي خلال العشر سنوات الماضية من نشاط جماعي كان معبراً عن وعيها المتزايد تجاه ذاتها، وتجاه الظروف والأوضاع المحيطة بها التي كانت تبعث على الإحباط والجمود، كما تعبر‎أيضاً عن إحساسها بضرورة حضورها في قضايا المجتمع والأمّة، وتدارك الغياب الذي يقلق النخبة من النساء.
وهذه عينة من النشاطات الجماعية في الإطار الفكري والثقافي خلال عقد التسعينات، ندوة «وضع المراة في العالم الإسلامي» القاهرة (1991م)، المؤتمر «العالمي للمرأة المسلمة المهاجرة» الشارقة (1994م)، ندوة «موقع المرأة في الفكر الإسلامي المعاصر» الكويت (1995م)، ورشة «المرأة في السياسة الإسلامية بين الظهور في المجال العام وأخلاقيات الجماعة» اسطنبول (1996م)، الملتقى «العالمي النسائي الرابع» الخرطوم (1996م) الذي صدر عنه «اعلان الخرطوم بشأن المرأة» والذي يحدد الموقف من جملة المواثيق الدولية التي صدرت عن المؤتمرات الدولية ذات العلاقة بالمرأة مثل مؤتمرات الطفل والبيئة، وحقوق الإنسان، والسكان والتنمية الإجتماعية، وكذلك مؤتمرات المرأة العالمية التي عقدت منذ عام 1975م في نيروبي حتى عام 1995م في بكين، المؤتمر الثاني «للإتحاد الدولي للمنظمات غير الحكومية للنساء المسلمات» طهران (1997م)، المؤتمر «العالمي للمرأة المسلمة» صنعاء (1997م).
إلى جانب نشاطات المرأة العربية التي أعلت من صوتها خلال تلك الفترة، ونظمت نفسها في عدد من الهيئات والمنظمات غير الحكومية.
هذه النشاطات أكدت اهتمام المرأة بقضاياها وبعيداً عن هيمنة تصورات وتفسيرات الرجل التي كانت حاكمة على الرؤية التي تحددت حول المرأة في المجتمعات العربية والإسلامية والتي ضاقت المرأة منها ذرعاً، وبالذات تلك التي تأسست معها التقاليد والأعراف واصطبغت بالموروث الديني والإجتماعي.
هذه لعلها أبرز الأحداث والنشاطات والتطورات التي أحدثت معها تغيراً على الصعيد الكمي والكيفي في الإهتمام بقضايا المرأة في الفكر الإسلامي.


[2]
توصيف


تعددت وتنوعت كتابات الإسلاميين في شؤون المرأة إلى‎أكثر القضايا المرتبطة بها، وتأثرت هذه الكتابات في معظمها من حيث الباعث عليها بالعوامل الخارجية، وما يستجد من مواقف وقضايا وظواهر تتعارض وتستفز الرؤية الإسلامية خصوصاً تلك التي تنطلق من النسق الغربي أو متأثرة به، التي تصاحبها بعض المخاوف والمحاذير الشديدة الحساسية في الوسط الإسلامي. وقد تركت هذه المخاوف والمحاذير أثرها البارز والكبير على بنية الأدبيات الإسلامية، وعلى طريقة صياغة الأفكار ولغة الكتابة، في هذا الموضوع. والذي يفسر لنا التشدد الواضح الذي يلحظ عند الإسلاميين والفقهاء منهم بالذات في كل ما يرتبط بقضايا المرأة، خوفاً‏وتحرزاً من الوقوع في الفتنة والريبة، وكل ما يؤدي إلى الحرام والخروج على الشرع في ضوابطه وقيوده وحدوده، الترجيحات والعناوين التي يتكرر ذكرها في قضايا مثل الحجاب والنظر والإختلاط والخروج إلى العمل ومزاولة النشاطات الإجتماعية بأقسامها. وفي الوقت الذي يرى الدكتور «مصطفى السباعي» في كتابه «المرأة بين الفقه والقانون» أن الإسلام لايرفض حق الإنتخاب وحق النيابة بالنسبة إلى المرأة، لكنه يطالب بعدم تطبيق حق النيابة لأن الظروف الحالية لاتتوافق مع وظيفة المرأة في الإسلام، بل إنها تخرج بها إلى عدد من المحظورات (1) .
من هنا فإن الفكر الإسلامي يعطي أولويته لعفة المرأة وصيانتها وطهارتها وكل ما يجنبها الفتنة والشبهات والإنحرافات، وهي القاعدة الأساسية التي تتقدم على كل الأولويات الأخرى مهما كان نوعها ونفعها وقيمتها.
فالفقه الإسلامي يجيز أو يمنع أو يفرض بعض القيود الثابتة أو الطارئة في كل ما يرتبط بعلاقة المرأة بالمجتمع من جهة وظائفها وعملها ونشاطاتها على قاعدة عفة المرأة وصيانتها. وهذا التأكيد من الإسلام لاينفصل عن رؤيته للمجتمع والحياة الإجتماعية التي ينبغي أن تتصف بالأجواء النظيفة والعلاقات النزيهة، وأن يجنبها ما يؤثر على أخلاقيات المجتمع وما يكون سبباً في الإنحرافات السلوكية التي تهدر طاقات الإنسان وتشل قدراته المادية والمعنوية وتحجب عنه النظر للمستقبل بطموح وحيوية، وتحول الفرد إلى أن يتعامل بسلوك ضار إلى جانب ما تتركه هذه الإنحرافات من تصدعات اجتماعية.
والملاحظ أن الأدبيات الإسلامية ربطت كرامة المرأة بالعفة والطهارة بعيداً عن الحقوق، بينما ربطت الأدبيات المغايرة كرامة المرأة بحقوقها بعيداً عن العفة والطهارة.
هذا على مستوى المرأة بصورة عامة، أما على مستوى الأسرة فهناك إجماع واتفاق في الفكر الإسلامي على أولوية وظائف ومسؤوليات المرأة داخل الأسرة، على كل ما لها من علائق وارتباطات خارج الأسرة. هذا من حيث الأولوية والتراتب في القيم والمسؤوليات، ولايعني المنع والحضر على المرأة في أن تجمع إلى جانب وظائفها داخل الأسرة من غير إخلال أو تقصير، وظائف ترتبط بعلاقاتها بالمجتمع، لا أقل في نظر الإصلاحيين في الفكر الإسلامي. هذه الرؤية على علاقة بخلفيات حماية الأسرة والمحافظة على كيانها، والذي هو من أكثر العوامل أهمية وفاعلية في تماسك المجتمع ومناعته وحصانته.
القضايا المرتبطة بهذا الشأن هي التي استحوذت على الإهتمام الأكبر في أدبيات الفكر الإسلامي، أما الجوانب والإتجاهات الأخرى فقد ارتبط الإهتمام بها بنوعية الظروف والظواهر التي تبعث على الخوف أو القلق أو التحدي، باختلاف المصدر وتعدده، فقد يكون اجتماعياً في صورة مواقف سلوكية، أو فكرياً في صورة كتابات تنشر وآراء تطرح وتروج، أو قانونياً في صورة تشريع بعض القوانين، أو حقوقياً في صورة انتهاكات وتعسفات إلى غير ذلك.
لهذا فإن من الصعوبة أن نؤرخ لأدبيات وكتابات الفكر الإسلامي في موضوع المرأة في اتجاهات ومسارات محددة زمنياً، أو في إطار التحقيب التاريخي. إلا أننا نستطيع وبسهولة أن نحدد الإتجاهات العامة والأساسية في هذه الأدبيات من غير تراتب بينها لا من ناحية زمنية، ولا من ناحية كيفية، وإنما كتوصيف عام. فهناك الأدبيات التي تحدثت عن مسألة الحجاب وانتقدت ظاهر السفور والتبرج، وهناك الأدبيات التي عالجت قضايا المرأة داخل الأسرة، والأدبيات التي بحثت شؤون المرأة في التشريع الإسلامي من خلال النص الديني ـ القرآن والسنة ـ، والأدبيات التي توجهت بالنقد والرفض لرؤية ونموذج الغرب للمرأة بالتركيز على شعار «تحرير المرأة»، والأدبيات التي حاولت أن تشرح بعض النصوص الدينية التي شرّعت لأحكام خاصة بالمرأة، وهي التي دار حولها أوسع السجالات الإحتجاجية في قضايا المرأة، مثل أحكام الميراث والقيومة والشهادة والطلاق. وهناك الأدبيات التي أخذت المنحى المقارن بين المنظورين الإسلامي والغربي في النظر لقضايا المرأة.
هذه ابرز الإتجاهات العامة إلى ما قبل حقبة الثمانينات التي لانستطيع أن نقيس عليها تطورات محدودة، ولا أن تعكس تحولات وتغيرات معينة، وليس هناك تدرج أو تعاقب أو انتقال بين هذه الإتجاهات التي تتداخل وتتشابك فيما بينها بصورة يصعب معها التصنيف المرتكز على التحقيب الزمني والتاريخي. في حقبة الثمانينات تأثرت أدبيات الفكر الإسلامي في قضية المرأة بطبيعة الظروف والتطورات والتحولات التي مرت بها المنطقة العربية والإسلامية على الصعيد المرتبط نظرياً بتطورات الأفكار، والصعيد المرتبط عملياً بتطورات الواقع. فقد كان واضحاً تأثر الكتابات التي ركزت على قضايا جهاد المرأة وتحريضها على المقاومة والتأكيد على مسؤولياتها الدعوية والإصلاحية، بظاهرة الإحياء الإسلامي الذي شهد انبعاثاً شديد الظهور مع بداية حقبة الثمانينات، فأعطيت لبعض القضايا المرتبطة بالمرأة مضامين سياسية إلى جانب مضامينها الدينية الأصلية، مثل قضية الحجاب (2) . الذي قصد أن يكون من دلائله معبراً عن حضور وبروز الحالة الإسلامية الإحيائية.
وقد ذهبت السيدة «هبة رؤوف عزت» في خاتمة بحثها حول المرأة والعمل السياسي إلى «اعتبار العمل السياسي للمرأة واجباً شرعياً يدخل إما في فروض العين أو فروض الكفاية، فلا تنفك عنه المرأة بحال، فشأنها في ذلك شأن الرجل لإشتراكهما في التوحيد والعبودية والإستخلاف وخضوعهما للسنن» (3) .
هذا الكلام لم يكن مألوفاً ولايطرح بهذا الوضوح قبل هذه الفترة، وهو مؤشر على ذلك التأثر، فقبل الثمانينات لم يكن هناك واقع له دوافعه وحوافزه للحديث عن المرأة والعمل السياسي، وهي التي لم يسجل لها حضوراً وفاعلية حيوية ومهمة على الصعيدين الثقافي والإجتماعي قبل تلك الفترة، الوضع الذي أفقد أي مبرر للحديث عن المشاركة في العمل السياسي.
ومع توسع الحديث عن قضايا حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي، الإشتغال الذي اتسع الإهتمام به مع النصف الثاني من حقبة الثمانينات، وتواصل باهتمام أكبر مع عقد التسعينات، نتيجة معطيات كثيرة، سياسية وقانونية، وتشريعية، وفكرية، وعلى الصعيدين الدولي والإسلامي. في هذا السياق دخل موضوع المرأة من هذه الزاوية، فبرزت بعض الكتابات التي تحدثت عن حقوق المرأة وهي القضايا التي ظلت حاضرة مع كل ما كان يطرح من حديث عن حقوق الإنسان في الإسلام (4) .
والتغير المهم الذي حصل في أدبيات الفكر الإسلامي في هذه الموضوع، ظهور بعض الكتابات الإسلامية التي توجهت بالنقد إلى الداخل الإسلامي، بعد أن كان النقد الإسلامي لايكاد يقترب من هذ المنحى إلا على تردد وحرج وبقدر محدود. ولعل هناك أكثر من عامل يفسر هذا التغير، في مقدمة هذه العوامل أن موضوع المرأة من المواضيع التي اشتد حولها النزاع والإحتجاج وبرز حولها الإنقسام الحضاري الواضح بين المنظور الإسلامي والمنظور الآخر الذي يستند في مرجعيته للفكر الأوروبي. فكل اتجاه كان يحتمي بمنظوره ورؤيته، خصوصاً المنظور الإسلامي الذي كان يضع نفسه في الفترات السابقة إلى ما قبل حقبة الثمانينات في موقع الدفاع والإحتماء، وهذا الموقع من الناحية السيكيولوجية يدفع بأصحابه نحو التستر على العيوب وعدم إعطاء الطرف الآخر فرصة الإستفادة من بعض الثغرات، خصوصاً تلك التي يعترف بها أصحابها. ومن العوامل أيضاً أن الفكر الإسلامي بصورة عامة لم يكن يتناول قضاياه وظواهره وحالاته بمنطق نقدي له آلياته وطرائقه وأدواته وحتى مناهجه. إلى جانب عوامل أخرى لسنا في صدد التوسع حولها.
في حقبة الثمانينات اختلفت حالة الفكر الإسلامي كلياً حيث اكتسب زخماً حيوياً واندفاعاً ملهماً أخرجه من حالة الدفاع عن الذات إلى وضع مغاير تماماً.
وقد جرب الفكر الإسلامي نفسه بهذا الزخم والإندفاع إلى أواخر حقبة الثمانينات، التي استجدت بعدها معطيات من نوع آخر، حرضت على أن يمارس الفكر الإسلامي النقد على ذاته بعد زمن من التجريب، شمل قضايا عديدة منها قضايا المراة التي دخلت عليها تغيرات وشهدت حضوراً نسبياً، لعلها ساهمت في أن يتوجه النقد إليها. ومن الذي فتحوا مجال النقد في هذا الموضوع في أواخر حقبة الثمانينات الشيخ «محمد الغزالي» في كتابه الذي أثار سجالاً في وقته بين الإسلاميين، وهو كتاب «السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث». الذي صدرت منه ستة طبعات في سنة صدوره 1989م. وقد خصص فصلاً في الكتاب حول عالم النساء، بحث فيه ناقداً ومعترضاً لمفاهيم ومواقف وظواهر من الوسط الديني مثل قضايا: الحجاب والنقاب، المرأة والأسرة، والوظائف العامة، علاقة المرأة بالمسجد، وشهادة المرأة في الحدود والقصاص. وهكذا ذهب الشيخ «الغزالي» في كتابه «قضايا المرأة بين التقاليد الراكدة والوافدة» (5) .
وفي التسعينات أعلت المرأة من صوتها الذي كان خافتاً لزمن طويل، وأعلنت عن نقدها الذي كان يصعب عليها الإشهار به سابقاً. فقد ظهرت بعض الكتابات النسائية من الوسط الإعلامي التي اتصفت بالنقد للواقع المحيط بالمرأة ولبعض الأفكار والذهنيات الإسلامية.
وبصورة عامة فإن أدبيات الفكر الإسلامي في موضوع المرأة مقبلة على تغيرات ومراجعات وتأملات ونقد.


[3]
تقويم


إن التزايد الكمي في كتابات الإسلاميين في قضية المرأة، لايعكس على الإطلاق تراكماً كيفياً يمثل تطوراً وتقدماً على مستوى الأفكار والمفاهيم، أو أدوات البحث وتقنياته المنهجية، أو مستوى الخبرات والتطبيقات والتجارب.
فإذا حاولنا أن نرجع إلى أحد أقدم الكتابات الإسلامية باللغة العربية خلال القرن العشرين، وأكثرها جدية وأهمية مثل كتاب «حقوق النساء في الإسلام» للشيخ «محمد رشيد رضا» [1282-1354هـ/1865-1935م] الذي صدر في سنة 1930م، فإن هذا الكتاب يعد أكثر تطوراً وتقدماً من عشرات الكتابات التي صدرت بعده والتي لازالت تصدر إلى هذا الوقت، وهو من أكثر ما يكشف عن غياب التراكم المعرفي الكيفي في أدبيات الفكر الإسلامي في هذا الحقل. فقد قدم رؤية إسلامية على قدر كبير من النضج والتطور والوضوح، كان من الممكن لهذه الرؤية أن تساهم في تفكيك بعض الإشكاليات الذهنية والإجتماعية، وتدفع بتأسيسات فكرية وفقهية على نسق متقدم في أكثر المجالات حساسية، وهي المجالات التي تتصل بمشاركة المراة في الوظائف العامة، الإجتماعية والسياسية، التي تحدث عنها «رشيد رضا» في الصفحات الأولى من كتابه بعيداً عن ذهنية السجال النقدي والإحتجاجي. فتحت عنوان «مشاركة النساء للرجال في الشعائر الدينية والأعمال الإجتماعية والسياسية» وبعد أن يتحدث «رشيد رضا» عن مشاركة النساء للرجال في العبادات الإجتماعية كصلاة الجماعة والجمعة والعيدين وعبادة الحج، يقول: «وقد شرع لهن من الأمور الإجتماعية والسياسية ما هو أكثر من ذلك» ويستشهد بالآية الكريمة «والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم» (6) . يعلق «رشيد رضا» على هذه الآية بقوله: «فأثبت الله للمؤمنات الولاية المطلقة مع المؤمنين فيدخل فيها ولاية الأخوة والمودّة والتعاون المالي والإجتماعي، وولاية النصرة الحربية والسياسية» (7) . وتحت عنوان «أمر المرأة بالمعروف ونهيها عن المنكر» يقول «رضا»: «وما في الآية من فرض الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على النساء كالرجال، يدخل فيه ما كان بالقول وما كان بالكتابة، ويدخل فيه الإنتقاد على الحكام من الخلفاء والملوك والأمراء ومن دونهم، وكانت النساء يعلمن هذا ويعملن به» (8) .
هذه الأراء ليس فقط لم يؤسس عليها أو يبنى عليها تراكماً معرفياً بل حصل نقضها والإرتداد عليها في التعليق الذي قدمه الشيخ «محمد ناصر الدين الألباني» على هذا الكتاب، حيث اعترض على أن هذا الإطلاق باطل لمنافاته لعموم آية «وقرن في بيوتكن» وما كان عليه نساء السلف من عدم التدخل في السياسة (9) .
الفكر الإسلامي المعاصر لازال يعاني بصورة عامة من صعوبات في التقدم بقضية المراة على مستوى الفكر والواقع، هذه الصعوبات أساسها هوجس مقلقة منشؤها الواقع الإجتماعي والأخلاقي الذي يحيط بالمرأة في العالم العربي والإسلامي، ومن تأثيرات النموذج الغربي وطغيانه في العالم، فقد دفعت هذه الهواجس الإهتمام الأكبر نحو حماية المرأة وصيانتها حتى لو كان ذلك على حساب تكملة تعليمها، وتداخل مع هذه الهواجس الموروث الإجتماعي والموروث الديني في مجال الحديث حيث أخذت بعض الروايات بظاهرها من غير اجتهاد في توثيق سندها والتعمق في فهم دلائلها وموافقتها للقرآن الكريم. وقد انتقد هذه الحالة الشيخ «محمد الغزالي» بقوله: «إن المسلمين انحرفوا عن تعاليم دينهم في معاملة النساء، وشاعت بينهم روايات مظلمة، وأحاديث إما موضوعة أو قريبة من الوضع، انتهت بالمرأة المسلمة إلى الجهل الطامس والغفلة البعيدة عن الدين والدنيا معاً» (10) .
وفي تقويم الدكتور «طه جابر العلواني» للكتابات الإسلامية في تجاذبها بالطروحات الغربية يقول: «منذ ما يزيد على قرن من الزمان والمفكرون المسلمون يقفون مواقف متذبذبة تجاه مختلف المسائل التي يقذفهم الفكر الغربي بها، ومنها هذه المسألة، مسألة المرأة. وقد ظل الكتاب الإسلاميون يعالجون هذه القضية من منطلقات المقاربات والمقارنات والدفاع والتأويل والتفسير فلم يجد ذلك عنهم شيئاً، ولم يقف سيل الأسئلة المثارة في هذه القضية وغيرها، إلى‎أن استطاع العقل الغربي أن يجعل من هذه المسألة مؤخراً مسألة المسائل وعقدة العقد» (11) .
ويصور الدكتور «محمد فاتحي» الرئيس المنتخب في إيران سنة 1997م ضمور التجديد في النظر لقضايا المرأة عند الإسلاميين وما يعترضها من معوقات، إذ يقول: «منذ انتصار الثورة وحتى الآن، وبعدما تحررت الطاقات الفكرية الضخمة ووضعت الإمكانات الواسعة تحت اختيارها، لم ينشر كتاب ولا كراس بمستوى ما كتبه الشهيد مطهري عن المرأة وحقوقها» (12) .
وما نشره الشيخ «مرتضى مطهري» [1338-1399هـ/ 1918-1979م] في قضايا المرأة كتابان هما اللذان قصدهما الدكتور «خاتمي» كتاب «نظام حقوق المرأة في الإسلام» وكتاب «مسألة الحجاب» ويتمم السيد «خاتمي» كلامه: «إنه رغم مرور ما يقارب الربع قرن على نشر هذين الكتابين، وحوالي أربعة عشر عاماً على انتصار الثورة، مازلنا نرى من ينكر على المرأة باسم الإسلام، شخصيتها وقيمتها، ويعارض تقدمها وتكاملها ومنحها حقوقها الإجتماعية. ألم يقل بعضهم لايحق للمرأة ممارسة النشاط الإجتماعي، بل وحتى التدخل فيه؟» (13) . ويضيف في مكان آخر وهو ينتقد الرؤية التي ظلت باقية مع كل التطورات الجوهرية التي حصلت هناك إذ يقول: «وجد من يقول بضرورة إبقاء المرأة حبيسة البيت لأن حضور المرأة في الحياة العامة يقود إلى الفساد. وكان هذا البعض يرفض السماح للمرأة بمواصلة دراساتها العليا، ويعارض مشاركتها في النشاطات الإجتماعية. هؤلاء أيضاً كانوا يطرحون آراءهم تلك باسم الإسلام. لقد حاولت فئة من «المحترمين» بعد انتهاء الدورة الأولى لمجلس الشورى الإسلامي، إقناع الإمام ـ الخميني‏ـ بعدم السماح بمشاركة المرأة في انتخاب الدورة الثانية للمجلس، وحرمانها من هذا الحق، إلا أن الإمام واجه هذا التيار بعزم، ودافع عن حق مشاركة المرأة في عضوية مجلس الشورى بقوة» (14) .
هذه الكتابات النقدية والإصلاحية في أدبيات الفكر الإسلامي، لاتقارن بما تدفع به دور النشر من كتابات تصور المرأة بذهنية كما لو كانت في القرون الوسطى. وقد قدم الشيخ «يوسف القرضاوي» تصويراً لذهنية هؤلاء حين قال: «فهناك المقصرون في حق المرأة، الذين ينظرون إليها نظرة استهانة واستعلاء، فهي عندهم أحبولة الشيطان، وشبكة إبليس في الإغواء والإحتلال، وناقصة العقل والدين! وهم يعتبرونها مخلوقاً ناقص الأهلية، وهي عند الرجل أمَة أو كأمَة [...] لقد حبسوها في البيت، فلا تخرج لعلم ولا عمل، ولاتساهم في أي نشاط نافع يخدم مجتمعها مهما يكن نوعها» (15) .
الكتابات الصادرة عن هذه الذهنيات أو الأقل تطرفاً منها نسبياً هي الأكثر رواجاً وتقبلاً نوعاً ما في المجتمعات الإسلامية لأنها أقرب للتوافق مع الواقع الذي تعيشه هذه المجتمعات، الواقع الذي هو اشد وطأة من تلك الكتابات الإسلامية النقدية والإصلاحية..
يبقى أن قضايا المرأة لاتتجزء ولاتنفك من المشكلة الثقافية العميقة الجذور، ومستوى التطور الإجتماعي العام. فالمجتمع يفرض نظرته على المرأة، وهذه النظر هي تعبير عن ذهنيته الثقافية ونظام تفكيره، وانعكاس للحالة العامة للمجتمع. وهي الحالة التي لانختلف على ما أصابها من تخلف وتراجع، وأنها لاتمثل حقيقة وأصالة النظرة الإسلامية، ولايمكن القياس عليها.
وإن التغيير ينبغي ان يبدأ من المرأة في أن تعيد النظر إلى ذاتها وتثبت جدارتها وتنهض بطاقاتها وتقدم تفسيراتها وتبدل من نظرة المجتمع تجاهها، كل ذلك انطلاقاً من المرجعية الإسلامية..


[4]
تجديد


الملاحظ على معظم الأدبيات الإسلامية في قضايا المرأة أنها تكرر نفسها، وتعيد إنتاج ما تطرحه بمستويات متفاوتة، وليس بتراكم متصاعد، فالتجديد والتطوير في هذه الأدبيات يعد ضئيلاً ومحدوداً، مع أن البدايات المبكرة لهذه الكتابات والتي نؤرخ لها مع كتاب «رشيد رضا» «حقوق النساء في الإسلام» الذي صدر في العقود الأولى من القرن العشرين، حيث كان من الممكن لهذه الكتاب أن يدفع باتجاهات التطوير والتجديد في القضايا والمجالات التي توقفت عندها أدبيات الفكر الإسلامي وهي التي ترتبط بمشاركات المرأة في الوظائف العامة والحياة السياسية. وهذا الذي لم يتحقق، لأن التطور العام في المجتمعات الإسلامية أصيب بنكسات متتالية، أثرت على الحياة العامة بكل مرافقها وأبعادها واتجاهاتها.
من الأعمال الفكرية المهمة التي صدرت في العقد الأخير من القرن العشرين في حقل المرأة، وفي مجالين كان لهما أعظم الأثر في تشكيل الذهنيات الإسلامية ونسق التفكير في قضايا المرأة بالذات، هما مجال الحديث ومجال الفقه. في المجال الأول جاء كتاب «تحرير المرأة في عصر الرسالة» لعبد الحليم أبو شقة الذي صدر في ستة عشر جزءاً خصصها لتنقيح الروايات وانتقائها من كتب الصحاح وبالذات صحيح البخاري ومسلم، وقدم من خلالها صورة مغايرة لواقع المرأة السائد اليوم ومناقضة لما تشكل في الذهنيات الإسلامية من تصورات حول المرأة، ولقد فوجئ كما يقول عن نفسه الكاتب بالصورة التي أطلع عليها في كتب السيرة والسنة النبوية ونص كلامه «فوجئت بأحاديث عملية تطبيقية تتصل بالمرأة وبأسلوب التعامل بين الرجال والنساء في مجالات الحياة المختلفة، وكان سبب المفاجأة أن هذه الأحاديث تغاير تماماً ما كنت أفهمه وأطبقه، بل ما تفهمه وتطبقه جماعات المتدينين الذين اتصلت بهم وهم من اتجاهات مختلفة، ولم يقف الأمر عند المفاجأة، بل شدتني تلك الأحاديث لخطورتها وأهميتها إلى تصحيح تصوراتنا عن شخصية المرأة المسلمة ومدى مشاركتها في مجالات الحياة في عصر الرسالة» (16) .
وفي مجال الفقه يأتي كتاب «مسائل حرجة في فقه المرأة» للشيخ «محمد مهدي شمس الدين» والذي كان يفترض أن يفتح معه حوارات موسعة في تلك القضايا التي اصطلح عليها المؤلف بالمسائل الحرجة والتي دارت حولها أوسع السجالات الإحتجاجية.
لقد جاء هذا الكتاب متحرراً عن حاكمية النسق الفكري والفقهي المهيمن بشدّة على الأدبيات الاسلامية حول المرأة، والذي يصعب على الكثيرين الخروج عليه أو تجاوزه في الاطار الاسلامي. فقد أظهر الشيخ «شمس الدين» في هذا الكتاب استقلالية في التعبير عن رأيه في هذه المسائل الحرجة، ومارس نقده على منهج الاستنباط الفقهي في مجال أحكام المرأة والأسرة، وانفرد باجتهادات خرج بها عن المشهور بين الفقهاء من الشيعة والسنة كرأيه في أهلية تولي المرأة للسلطة العليا في الدولة في إطار نظام الشورى ودولة المؤسسات.
وقد جمع الكتاب بين الفقه والثقافة، وبين النقد والتأسيس. فهو ليس كتاباً فقهياً على النمط التقليدي القديم أو المنحى المدرسي للتعليم، كما انه ليس كتاباً فكرياً متحرراً يعبر فيه مؤلفه عن آرائه كيفما شاء من غير بحث أو اجتهاد أو استدلال. فهو يعرض الآراء بأدلتها ويناقشها نقدياً، ويطرح رأيه ويؤسس له استدلالياً.
المسائل الحرجة التي عالجها الكتاب قسمها المؤلف إلى أربعة قضايا هي:
1 ـ قضية ستر المرأة عن الرجال المشهور باسم الحجاب، ونظر الأجانب إلى المرأة ونظرها إليهم.
2 ـ أهلية المرأة لتولي الحاكمية في الدولة «رئاسة الدولة».
3 ـ الحقوق الزوجية المتبادلة بين الرجل والمرأة.
4 ـ عمل المرأة في المجتمع لكسب المال أو تطوعاً في المجالات الانسانية.
يوضح المؤلف قصده من المسائل الحرجة في تعريف الكتاب بقوله: «المسائل الحرجة في فقه المرأة، هي المسائل المتعلقة بأحكام علاقتها بالمجتمع، وما يلابس ذلك من شؤون وضعها في الأسرة في حالة كونها زوجة، من حيث إشكالات التعارض بين حقوق وواجبات الزوجية عليها وبين عملها في المجتمع» (17) .
أما عن منهجه الفقهي العام الذي ينبغي إتباعه في استنباط أحكام المرأة والأسرة في نظر الشيخ «شمس الدين» فهو يقتضي على «الفقيه أن يلاحظ النصوص الواردة في السنة في شأن المرأة والأسرة على ضوء التوجيه القرآني من جهة، وباعتبارها متلازمة متكاملة من جهة أخرى. أما ملاحظتها بمعزل عن التوجيه القرآني وباعتبار كل نص فيها يعالج حالة مستقلة أو تفصيلاً معزولاً عن سائر التفاصيل في حالات، وتفاصيل وضع المرأة وعلاقتها بالمجتمع والأسرة، ووضع الأسرة في علاقتها الداخلية وعلاقتها بالمجتمع، فهو منهج لا يتناسب مع طبيعة الموضوع، ويؤدي إلى خلل في عملية الاستنباط» (18) .
من هذه الرؤية المنهجية يوجه الشيخ «شمس الدين» نقده لطريقة الاستنباط السائدة في الوسط الفقهي في هذا الحقل في أكثر من جانب، ففي جانب السنّة والحديث يقول: «قد جرى كثير من الفقهاء في فقه المرأة على العمل بما روي من النصوص من دون إحراز عن الأحاديث الضعيفة ومن دون محاكمة لمتون الأحاديث المعتبرة» (19) كما انتقد مرجعية العرف في فهم النص وتحديد مداه سعة وضيقاً وتفسيراً، الذي لا يصلح كما يذهب المؤلف إلى أن يكون مرجعاً في جميع هذه الحالات. وهكذا عن تأثر طريقة ومنهج الفقهاء بالفلسفة اليونانية والمنطق الأرسطي بالذات، بدء من علم الأصول والذي ترتب عليه حسب المؤلف كثرة الاحتياطات عند الفقهاء. وانتقد أيضاً كتمان بعض الأحكام الشرعية الترخيصية الخلافية الذي ثبت حكم ترخيصها بدلالة الدليل، على خلفية أن التساهل والتسامح في السلوك في مثل هذه الموارد يدفع بكثير من الناس، بسبب شيوع الفساد الأخلاقي، وسيطرة الثقافة الغربية المتحللة والمادية، إلى تجاوز حدود الرخصة الشرعية إلى المحرمات، والذريعة إلى ذلك فتاوى الحل والاباحة في هذه الموارد. يعلق الشيخ «شمس الدين» على هذا الرأي الذي منشؤه الورع بلا ريب، كما يقول، ولكنه ورع في غير محله [...] وان كتمان الأحكام الشرعية الترخيصية لا وجه له ولا مبرر، خاصة في الموارد العامة البلوى. كما لا وجه للأمر بالاحتياط مع وضوح الحكم (20) . يتفق مع هذا الرأي الأخير الشيخ «مرتضى مطهري» في كتابه «مسألة الحجاب». وقد اتصفت آراء الشيخ «شمس الدين» الفقهية بمضامين اجتماعية تنطلق من فقه المجتمع كرأيه في مسألة جواز كشف وجه المرأة، إذ يميز بين المرأة التي لا تقتضي أوضاع حياتها مخالطة المجتمع فالأولى لها في نظره أن تستر وجهها، وبين المرأة التي تقتضي حياتها المشاركة في قضايا المجتمع. لأن جواز الكشف حسب الشيخ ناشئ من مقتضى آخر أقوى من مقتضى الستر، وهو أن الستر الكامل «الحجاب الكامل» وعزل المرأة عن المجتمع بصورة شاملة يؤدي إلى عجز المرأة عن القيام بأي نشاط اجتماعي شخصي أو عام. ومفسدة تعطيل المرأة عن العمل في المجتمع وشل نشاطها فيه أشد من مفسدة كشف الوجه مع ستر سائر الجسد ومع جميع القيود الاحترازية الأخرى في النظر والسلوك التي تكاد أن تعدم أية إمكانية لكون كشف الوجه باعثاً على الفتنة والفساد (21) .
يذهب إلى هذا الرأي ـ أيضاً ـ الشيخ «مرتضى مطهري» في كتابه «مسألة الحجاب» إذ يعتبر الوجه والكفين هو ما بين سجن المرأة وحريتها، بين منع المرأة من ممارسة أي عمل اجتماعي إلا في محيط المنزل أو في دائرة التجمعات النسائية، وبين مشاركة المرأة في الفعاليات الاجتماعية (22) .
ونلحظ المضمون الاجتماعي أيضاً حين يحدد الشيخ «شمس الدين» حكمة تشريع الاسلام لعمل المرأة في المجتمع الذي يفصل رأيه في النقاط التالية:
1 ـ لاستثمار طاقتها ووقتها في اغناء المجتمع بالعمل المنتج بدل تبديد الطاقة واهدار الوقت في التراخي والكسل.
2 ـ لتلبية حاجة المجتمع إلى بعض الخدمات في مجالات لا يتوفر لها العدد الكافي من الرجال، أو أنها‎أليق بالنساء، أو أن النساء أقدر عليها (التعليم، التمريض، الطب النسائي، الجراحة النسائية).
3 ـ لتعويض نقص الرجال في مجال العمل في الحروب وحين يقضي الوضع بحشدهم في الجبهات.
4 ـ لتمكين المرأة من المساهمة في نفقات أسرتها ـ إذا احتاجت ـ أو التوسيع عليها من دون أن يكون في ذلك الزام لها.
5 ـ لتمكين المرأة من المساهمة في أعمال الخير ومؤسسات العمل الطوعي لخدمة المجتمع في مجالات الصحة والتعليم والثقافة والتوعية الاجتماعية (23) .
وعن مشروعية عمل المرأة المهني يقول المؤلف: «ان الأدلة العامة من الكتاب والسنة والخاصة من السنة، بين النص الصريح والظاهر في انه يشرع للمرأة مطلقاً، زوجة وخلية، أن تمتهن عملاً وحرفة في مجالات التجارة والصناعة والزراعة والخدمة، لكسب المال أو تطوعاً. وعلى من يدعي عدم مشروعية ذلك ان يثبت دعواه بدليل» (24) .
أما المسألة التي انفرد الشيخ «شمس الدين» برأيي فيها عن بديهيات الفقه الاسلامي، وعن إجماع الفقهاء فهي المسألة التي عنونها بأهلية المرأة لتولي السلطة العليا في الدولة. حيث ينطلق من حقيقة يقول عنها: «فقد ثبت أن بعض البديهيات في مذهب أو أكثر ليس من بديهيات الشريعة، وفي بعض الحالات فإن بعض البديهيات في جميع المذاهب ليس من بديهيات الشريعة بل للنظر فيه مجال. ومن ذلك مسألة أهلية المرأة لتولي السلطة العليا في الدولة. فقد تبين لنا من النظر في الأدلة أن ما تسالم عليه الفقهاء من عدم مشروعية تصديها وتوليتها للسلطة دعوىً ليس عليها دليل معتبر. وهذا ما تكفلت لبيانه أبحاث هذا الكتاب» (25) .
فقد ظهر للشيخ من الأدلة العامة ـ الكتاب والسنة والاجتماع والوجوه الاستحسانية ـ ان لا دليل على اشتراط الذكورة في رئيس الدولة، وكل ما ذكر دليلاً على اشتراط الذكورة، قد ظهر عدم دلالته على هذا المدعى (26) .
وقد توصل الشيخ «شمس الدين» إلى هذا الرأي بعد ان فرق بين شكلين ونمطين من الحكم، بين الشكل القديم الذي يمارس فيه الحاكم ـ رئيس الدولة ـ سلطة مطلقة حيث تجتمع كل السلطات والصلاحيات ومراكز القرار بيد الحاكم أو رئيس الدولة. وبين الشكل الذي يقيد الحكم بالشورى ونظام المؤسسات ويوزع مراكز القرار ويفصل بين السلطات، ولا يكون هناك مجال لأن يمارس الحاكم سلطاته حسب هواه أو فهمه الخاص وبانفراد مطلق، وبعيداً عن الرقابة والمحاسبة. في الشكل الأول لا يكون الحكم شرعياً حتى لو تولاّه رجل، إلى في حالة واحدة ـ حسب المؤلف ـ هي كون الحاكم نبياً، أو إماماً معصوماً. أما في الشكل الثاني فهناك مشروعية وأهلية لتولي المرأة الرئاسة العامة للدولة.
وقد جمع الشيخ «شمس الدين» في كتابه الأدلة على هذا الرأي الذي يذهب إليه، بالنقد والتأسيس، وهو قابل للمناقشة والحوار، في الوقت الذي يحتدم فيه الجدل بصورة متباينة وسجالية منذ زمن طويل في حق المرأة بالإنتخاب والمشاركة في الحياة النيابية، أو توليها بعض المناصب الأقل درجة من ذلك مثل رئاسة البلديات وغيرها من المناصب الادارية. وبهذا الرأي الذي ذهب إليه الشيخ «شمس الدين» يكون قد فتح دائرة أكبر وأوسع للنظر والمناقشة ورفع سقف التفكير حول أهلية المرأة للمناصب العليا والولايات العامة.
وقد حاول هذا الكتاب أن يقدم فهماً اسلامياً فقهياً متجدداً لقضايا المرأة ليس بشكل معزول عن المجتمع ومفصول عن الوظائف العامة والعليا منها بالذات. وقد دعا المؤلف إلى أن الحاجة ماسة إلى قيام حركة اصلاح لوضع المرأة في المجتمعات الاسلامية على أساس الاسلام، بالعودة إلى ما اشتمل عليه الاسلام في فكره وشريعته من مبادىء وأحكام، تعيد إلى المرأة المسلمة كرامتها ودورها الفاعل في بناء المجتمع وازدهار الحياة... ولابد من اعادة الاعتبار إلى دور المرأة في المجال الاجتماعي في الحدود التي تجيزها الشريعة الاسلامية، فإن حرمان المرأة من ممارسة هذا الدور يحرم المجتمع من أنشطة يفتقر إليها، ويعطل مواهب المرأة وامكاناتها الفائضة عن حاجات مهمتها الخاصة في الأسرة والحياة العائلية، وذلك يساهم في ترسيخ حالة التخلف (27) .
كما كشف هذا الكتاب أيضاً بأن التجديد لازال ممكناً في أدبيات الفكر الاسلامي لقضايا المرأة، وان هناك دواعي حقيقية لهذا التجديد، حتى لا تصاب المرأة مرة أخرى بالاحباط، ويحاصرها اليأس. والأخطر من ذلك في أن تنقلب المرأة على الواقع الديني وتندفع باتجاه التحرر على النمط الغربي. وهذا خطر قائم في كل المجتمعات العربية والاسلامية إذا وجدت المرأة التي تسعى لتنمية نفسها علمياً وثقافياً بأن خطاب الاسلاميين لا يعيد لها الثقة والاعتبار ولا يوفر لها الفرص أو يتيح لها المشاركة في الوظائف والمهام العامة في المجتمع. ولم يغيب عن ادراك الشيخ «شمس الدين» ان يدعو الفقهاء إلى اعادة النظر والبحث في بعض المسلمات الفقهية، باعادة النظر والبحث في أدلتها وفي طرائق الاستدلال وعدم الاسترسال في الإتكال على فهم فقهائنا القدماء لهذه الأدلة وخاصة فيما يعود إلى دعاوي الاجماع، حيث نرى أنه ينبغي تقصيها لمعرفة حقيقتها (28) .
وكلمة أخيرة: ان مع كل تقدم ينجزه الفكر الاسلامي والواقع الاسلامي، ستزداد القناعة ويتوسع الادراك بضرورة التجديد والاصلاح لقضايا المرأة.
وهذا ما نحتاجه، المزيد من التقدم من أجل أن يتكشف لنا الواقع على حقيقته، وننظر للمستقبل بثقة أكبر.
هوامش
(1) أنظر كتاب الفكر الاسلامي المعاصر والتحديات. منير شفيق، بيروت: دار الناشر، 1991م، ص114.
(2) أنظر كتاب البعد السياسي للحجاب. شهرزاد العربي، القاهرة: دار الزهراء للاعلام العربي، 1989م.
(3) المرأة والعمل السياسي، رؤية اسلامية. هبة رؤوف عزت، واشنطن: المعهد العالمي للفكر الاسلامي، 1995م، ص247.
(4) أنظر كتاب الحقوق السياسية للمرأة في الاسلام والفكر والتشريع المعاصر. محمد أنس قاسم جعفر، القاهرة: دار النهضة، 1987م. وحقوق المرأة في القانون الدولي العام والشريعة الاسلامية. عبد الغني عبود، القاهرة: دار النهضة، 1990م.
(5) صدر الكتاب في القاهرة: دار الشروق، طـ5، 1994م.
(6) القرآن الكريم. سورة التوبة، آية: 71.
(7) حقوق النساء في الاسلام، محمد رشيد رضا، صححه وضبطه: طارق السعود، بيروت: دار الهجرة، طـ3، 1987م، ص13.
(8) المصدر نفسه. ص14.
(9) أنظر تعليق الشيخ محمد ناصر الدين الألباني على كتاب رشيد رضا، بيروت: المكتب الاسلامي، بلا تاريخ، ص11.. الهامش. نقلاً عن كتاب الفكر الاسلامي المعاصر والتحديات. منير شفيق، ص113.
(10) أنظر تقديم الشيخ محمد الغزالي على كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة. عبد الحليم أبو شقة، الكويت: دار القلم، 1990م، ج1.
(11) تقديم د. طه جابر العلواني على كتاب المرأة والعمل السياسي، رؤية اسلامية، هبة رؤوف عزت، ص7-8.
(12) المشهد الثقافي في ايران: مخاوف وآمال. د. محمد خاتمي، بيروت: دار الجديد، 1997م، ص74.
(13) المصدر نفسه. ص73. هذا الكلام تحدث به الدكتور «خاتمي» في عام 1991م.
(14) المصدر نفسه. ص134.
(15) أنظر تقديم الشيخ يوسف القرضاوي على كتاب تحرير المرأة في عصر الرسالة، ص10.
(16) تحرير المرأة في عصر الرسالة. عبد الحليم أو شقة، ج1، ص28.
(17) الستر والنظر. الشيخ محمد مهدي شمس الدين، بيروت: المؤسسة الدولية للنشر، ج1، 1994م، ص5.
(18) المصدر نفسه. ص23.
(19) المصدر نفسه. ص24.
(20) المصدر نفسه. ص220-221.
(21) المصدر نفسه. ص89-90.
(22) مسألة الحجاب. الشيخ مرتضى مطهري، بيروت: الدار الاسلامية، 1988م، ص108-106.
(23) حق العمل للمرأة. ج4، ص184.
(24) المصدر نفسه. ص212.
(25) أهلية المرأة لتولي السلطة. ج2، ص5.
(26) المصدر نفسه. ص139.
(27) الستر والنظر. ج1، ص50-51.
(28) أهلية المرأة لتولي السلطة. ج2، ص6.