شعار الموقع

التغيير والتجديد في الحياة الإنسانية ـ مدخل لنظرية التغيير الاجتماعي‏ـ

ذاكر آل حبيل 2004-10-15
عدد القراءات « 758 »


ـ تمهيد ـ
يتكئ الإنسان في حركة وجوده في هذا العالم, على حقيقة عقله ومعقوليته, المميزة له على بقية المخلوقات, وهي محض المسؤولية اللازمة لإرادته الفاعلة, ولخياراته المتعددة, والمستجيبة بالضرورة لفعل الوجود الممكن, والذي يستطيع الإنسان بفعل ذلك العقل وتلك الإرادة, أن ينقل الأشياء من صورتها الخام, وتراكمها الجامد, إلى فعلها وتطورها الحيوي, ونظامها المتجلي بجماليات إبداع هذا الإنسان لحضارته على وجه المعمورة.
إن الإنسان مفطور على حب البقاء, وحفظ النوع, وهو ما يجعل هذا الكائن ينزعýإلى أن يصون هذا الوجود وما يكسبه فيه من انجاز وتحضر, بل ويسعى جاهداً‏لمقارعة وتكييف ذاته مع كل قوى الطبيعة الفاعلة, وهو بذلك يتجاوز حالة الضرورة والبقاء الطبيعي والبيولوجي, فبينما يبقى الحيوان أسير ضرورته مستجيباً لها, يتعالى الإنسان عليها, ويكدح في سبيل رسم معالم تكامله الحضاري, وخلوده الإنساني, وذلك بسعيه الدائم نحو الكلي والمطلق.. {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه} [الانشقاق/6].
وبهذا يكون الإنسان هو الشاهد الوحيد بمعقولية لهذا الوجود المتحرك, وأشيائه المتغيرة, فكان ومازال يتأمل وينفعل بذلك الوجود المتحرك في ماديته وماوراء ماديته, فأمعن النظر منذ بدء وجوده في هذا العالم في حقيقة التغير والتبدل والحركة, فمن تغير ظواهر الطبيعة في شكلها البسيط والمتعلق بتعاقب الليل والنهار, واختلاف الفصول المناخية الأربعة,‏ودورة حياته الإنسانية وتبدلها من مرحلة لأخرى, في مركب الجسد والنفس والعقل, فضلاً‏عن دورات حياة الحيوان والنبات, وتبدل تشكيلات الطبيعة الجغرافية نتيجة لعوامل الطبيعة, من رياح وأمطار وتآكل وغير ذلك من أوجه التغيرات الحاصلة في هذا العالم, لاحظ الإنسان كل هذا, وأيقن بأن الحركة والتغير هما القانون الذي يجب أن يستند إليه في أصل فعله وانجازه, وهما السمة البارزة التي يجب على التفكير الإنساني أن يسلكه لكي يضمن السلامة في تعامله مع ذاته ومع العالم الذي يعيش فيه, وما لم يواكب الإنسان بتفكيره المتأمل وبحركته المنفعلة وبفعله المنجز, فإن ذلك سيجعل الإنسان في حالة قلق وخوفٍ بالغ, من أي تبدل أو تغير غير محسوب أو متوقع, لأن الثبات هو ما يضفي الأمان, أما التغيير فعكس ذلك.
من هنا يتسنى للإنسان تقدير ما لأهمية التغيير والتجديد من قيمة اعتبارية, نمت بضرورتها فرصة التشكل الطبيعي والمكتسب, لعدم الركون للثبات, والبقاء داخل النمطي والمعتاد, فأخذ الإنسان يراكم في تصوراته, لما ينبغي أن تكون عليه حياته ووسائلها المفضلة لديه, بل وراح إمعاناً في إحساسه بضرورة إضافة الجديد, إلى التغيير حتى في شكل تلك الوسائل, فأخذ يزودها بفعل جمالي متقن, ينبئ عن فعل الإضافة, بالتالي يشعر الإنسان بالرضى عن إضافته التي تغير من حقيقة الأشياء وهدفها, أو من شكلها وصورتها, وهو بكل ذلك يكون راضياً‏منسجماً‏فيما يبذله من جهدٍ يتساوق وطبيعة التبدل والتغيير الذي يجري حوله.
إن مبدأ الإستفاضة في التأملات وتصوراتها, وفي الركائز العقلية الناتجة عنها, وبالمقدرة الإنسانية على تحويلها إلى وسائل يستخدمها في حياته, وطبيعة العلاقات الإنسانية المتبادلة في ضوئها, وجراء فعل ذلك التراكم في تلك التصورات ومعقوليتها واستخداماتها العملية وعلاقة الإنسان التبادلية فيها, كان لابد لمفهوم ما أن ينشأ لينظم فهم الإنسان لكل ذلك التراكم, فنشأ ما اصطلح عليه بـ (الثقافة), والتي يمكن تعريفها باتجاهين يتفق حولهما دارسو نظرية الثقافة, أولهما.. (على أنها ـ أي الثقافة‏ـ تتكون من القيم والمعتقدات والمعايير والتفسيرات العقلية والرموز والايديولوجيات, وما شاكلها من المنتجات العقلية,.. أما الإتجاه الآخر فيرى الثقافة على أنها تشير إلى النمط الكلي لحياة شعب ما, والعلاقات الشخصية بين أفراده وكذلك توجهاتهم) (1) .
ومن حقيقة تلك التبادلية القائمة بين الوجود الإجتماعي وثقافته, تتضح لنا أنماط حياة مجتمع ما, فإذا صاحب هذه التبادلية التلقائية أو المقصودة, نمو وتغير دائم ولو بالشكل النسبي والمحدود, في طريقة إدراك الفرد لطبيعة علاقاته المادية والإنسانية والوجودية, حكم على تلك العلاقة بالحركة والتجدد والتغيير, ويرجع ذلك إلى طبيعة المعتقدات والقيم والتصورات والإنتاجية المادية للوسائل والأدوات, فكلما كان هناك إعادة لقراءة تلك الحقائق علىضوء تقدم وتطور عقل الإنسان ومفهوماته وغاياته, كلما كان ذلك منعكساً بالضرورة على واقعه الذي يعيش, أما إذا حافظ بشكل مبالغ فيه على تصوراته المتعددة ومفهوماته وقناعاته المادية والجمالية وغيرها, وذلك بأن تستمر كما هي, فإنه بذلك يحافظ على جموده الاجتماعي الذي ربما يكون سبباً في عدم فاعليته وتآكله ولربما إلغائه من معادلة الوجود الاجتماعي الكلي, أو بدمجه قسراً‏تحت سيطرة مجتمعات أقوى أو أكثر حركة وانتاجاً منه.

ـ التغير, والتغيير الاجتماعي ـ
يفيد المعنى اللغوي (لتغير الشيء عن حاله): تحول. وغيره: حوله وبدله كأنه جعله غير ما كان, وهو من الأصل اللغوي (الغير): من تغير الحال.. (2) , كما تفيد كلمة (تغير) على معنى التحول والتبدل. فتغير الشيء هو تحول وتبدل هذا الشيء بغيره, كما أنها تعني الأشياء واختلافها (3) .
ويفسر مفهوم التغير من وجهة النظر الفلسفية بأنه «إرادة معينة تعني بدورها فعلاً, وسواء أكان هذا الفعل ضئيلاً أو جسيماً‏فهو تغير» فكل إرادة إذن في معناها الفلسفي فعل, وكل فعل حركة. ولذا فإن القول «بإرادة التغير» يوضح الإرادة, إذ يكفي أن نقول عن الإنسان أنه إنسان, لنفهم من ذلك أنه وحدة عضوية هادفة, وأنه في سيره نحو أهدافه كائن عاقل, وأنه فيýإرادته فاعل, وإنه متحرك ومحرك ومتغير ومغير (4) .
ولكن على نحو أكثر دقة من الناحية العلمية والمنهجية والفكرية.., كيف يمكننا تحديد تلك الماهية لمفهوم التغيير الاجتماعي? وكيف يمكننا وضع محددات موضوعية للحكم على هذا المجتمع بحركية وتسارع التغيير فيه, وببطئها في مجتمع آخر, ولربما عدمها أيضاً..?
قد لايتفق كل الفلاسفة ودارسو العلوم الاجتماعية وغيرهم, على تعريف جامع مانع في تحديد مصطلح التغيير الاجتماعي, لكنهم يتفقون من الناحية الاصطلاحية على ما يمكن تعريفه بـ (كل تحول يقع في التنظيم الاجتماعي سواء في بنائه أو وظائفه خلال فترة زمنية معينة, والتغير الاجتماعي على هذا النحو ينصب على كل تغيير يقع في التركيب السكاني للمجتع, أو في بنائه الطبقي, أو في نظمه الاجتماعية, أو في أنماط العلاقات الاجتماعية أو في القيم والمعايير التي تؤثر في سلوك الأفراد والتي تحدد مكانتهم وأدوارهم في مختلف التنظيمات الاجتماعية التي ينتمون إليها) (5) .
والتغيير الاجتماعي كمفهوم متعارف عليه في علم الاجتماع, يعد من السمات التي لازمت الإنسانية منذ فجر نشأتها حتى عصرنا الحاضر, لدرجة أصبح معها إحدى السنن المسلم بها, بل واللازمة لبقاء الجنس البشري, والدالة على تفاعل أنماط الحياة على اختلاف أشكالها لتحقق لدينا باستمرار أنماطاً‏وقيماً‏اجتماعية جديدة يشعر في ظلها الأفراد أن حياتهم متجددة (6) .
وفيما انصب جهد علماء الاجتماع والأنثروبولوجية, في جهد مكثف في بداية القرن العشرين, على تحديد معنى التغيير الاجتماعي, وتحديد ماهية حركة المجتمعات تجاه عمليات التغيير التي تمر بها, توصلوا إلى حقيقة: عدم غياب التغيير الاجتماعي, حتى عن تلك المجتمعات التي تسمى بدائية, والتي كانت تبدو من خلال دراسة تاريخها على أنها ساكنة, ولم تتمكن من تغيير ذاتها ووجودها الاجتماعي والإنساني, لكن الأنثروبولوجيين أكدوا على وجود تغيير بطيء جداً‏هو أقرب إلى الثبات منه إلى الحركة, ويحدث في مدى زمني طويل.
كما أن عمليةالتغيير, لايمكن أن تقاس في زمن محدد بذاته, وعلى المدى المنظور فقط, بل هي تراكم سلسلة من الإضافات والتعديلات المتعاقبة على طول تاريخ هذا المجتمع أو ذاك, وهو تعديل كيفي ايضاً في منظومة القيم والمعايير والثقافة, التي تتسم بتضامنها التعاقبي بين ما تم تغييره في الماضي, وما يتم تغييره في الحاضر, بل وما يأمل المجتمع تحقيقه من تغيير في المستقبل, الأمر الذي يشي بوجود ديناميكية (حركة) اجتماعية ملحوظة, يمكن تسميتها [تطوراً‏اجتماعياً] والذي يعني نمواً في الثقافة وأشكال العلاقات الاجتماعية, والتفاعل الاجتماعي وغير ذلك من مظاهر النمو.., هذا التطور الذي ربما يحدث في مسيرته [تحولات اجتماعية] عديدة يكون عمادها أي تغير مفاجئ أو إعادة تشكيل نمط البناء الاجتماعي ويحدث عادة كمظهر من مظاهر أزمات التطور,.. الأمر الذي يستوجب رصد تلك التحولات الاجتماعية على مستوى الدراسة والتخطيط لتوجيهها لأهداف وغايات مرسومة ومقررة لكي تصل إلى معطيات المرحلة القصوى لمهمات التغيير الاجتماعي, ونعني بها مرحلة [التقدم الاجتماعي] (7) .

منهجية التغيير الاجتماعي
التغيير الاجتماعي كمهمة جمعية اتفاقية بين أفراد المجتمع, فبقدر فاعلية دافعية الانجاز العقلي والعملي, ومقاومة الجمود والاتكالية والاكتفاء بما هو قائم من إنجاز, والنظر إلى النظم الاجتماعية القائمة بحالة من التقييم غير المبالغ فيه أو تقديسه, وإن كانت القوة الإلزامية للنظم الإجتماعية من القوة بمكان بحيث لايشعر الانسان بتبعيتهِ إليها وانضباطه فيها, فإذا تم الوعي بتركيبة تلك النظم وخصوصيتها القابلة للإستمرار أو تلك التي يجب أن تتغير, يؤدي كل ذلك إلى غرض مهمات التغيير الاجتماعي الذي يساهم فيه جميع أفراد المجتمع الناشطين في وظائفهم الاجتماعية المتعددة.
إن التصورات الفردية المتجمعة في صيرورة المجتمع هي التي تكون (الضمير الجمعي) والذي هو حصيلة تمتد في المكان الاجتماعي نتيجة حاصل الجهود وتعاونها المكثف عبر الزمن, والتي تساهم بها تلك العقول الجديدة التي تتجمع وتتآلف فيما بينها, ثم يضخها المجتمع بأفراده الذين لهم قابلية التجديد بخبرتهم ومعرفتهم المضافة, والتي تصبح فيما بعد نظماً يقبلها الجميع.
فيما تتحدد طبيعة السلوك الاجتماعي نحو التغيير, على طبيعة مستويات الاتصال البيني بين أفراد المجتمع, فهو ـ أي الاتصال ـ الذي يقوم بتعطيل أو تحريك مهمات التغيير تلك, لأن الاتصال الاجتماعي هو (الإجراء الذي يتم به تبادل الفهم بين الكائنات البشرية أو العمل الذي عن طريقه تنقل المعاني من إنسان لآخر) (8) , فبقدر ما تكون فاعلية الاتصال ووسائلها متعددة وسريعة [كما هو حاصل في عصرنا هذا من انتشار هائل للعامل التقني القائم على بث نظام المعلوماتية المكثفة] التي تم من خلالها تقريب مستوى التخاطب الانساني إلى أقرب حد ممكن, وربما تقفز تلك الاتصالية في تقنياتها إلى أكثر من ذلك, الأمر الذي لو تم توظيفه بشكل حسن من قبل أي مجتمع سيوفر مجالاً خصباً لتحريك عملية التغيير الاجتماعي, بالإضافة إلى عوامل أخرى ترتكز عليها عملية فاعلية الاتصال, (كالعامل النفسي ـ الاجتماعي, ويتلخص بتقريب الفوارق الذاتية والتفاعلية ـ العلائقية ما بين [الأفراد] المرسل والمستقبل) (9) .
وعلى نحو الإجمال يمكننا القول أن عملية التغيير التي تستهدف القيم والمعايير والاتجاهات الاجتماعية وعلاقاتها المفترضة والتبادلية, يتبعها بالضرورة تغير في السلوك الفردي والجمعي, الذي إذا أردنا أن يكون سلوكاً متغيراً‏إلى ناحية مرغوب فيها, فيلزمنا تهيئة الظروف الموضوعية, وبعث الحوافز التي تيسر بروز سلوك اجتماعي محمود, والذي يعززه نموذجية جميع المشاركين الفعليين في البناء الاجتماعي, والتي يجب ضمان وجود جميع أدوار الأفراد بمستوياتهم المختلفة, ذلك السلوك الذي يتم تعريفه بأنماط السلوك المقبول شرعياً‏وقانونياً‏واجتماعياً‏في التقاليد المعتبرة.

هل هناك خصوصية مجتمعية للتغيير الاجتماعي?
ارتبطت مهام العلوم الانسانية والاجتماعية في مجالي النظرية والتطبيق, بإشكال لايزال قائماً, وهو ما مدى تعميم نتائج المكاسب النظرية والتطبيقية في مجال تلك العلوم على بقية المجتمعات, ومنها تعميم القيمة الناتجة بإطلاق في بعض تلك النتائج, الأمر الذي أدى إلى عدم الأخذ بالعامل الداخلي [عامل الخصوصية المجتمعة] لبروز نظريات ومكاسب تطبيقية تستندýإلى حقيقة الاعتقادات والاتجاهات والعلاقات الاجتماعية القائمة في داخل المجتمع, والتي لايمكن تجاوزها لمحاولات اللصق والتلفيق التي يقوم بها بعض الدارسين لتلك العلوم, وخصوصاً حينما يسقطون نتائج وقيمة الأبحاث التي تجري في المجتمعات الغربية على المجتمعات الأخرى, فيحدثون خلخلة بنيوية ليس لها نتيجة, إلا مقاومتها من جانب ذلك العامل الداخلي, القائم على مبدأ (الحفاظ على الهوية), التي ربما استهدفتها تلك المنهجيات الغربية في التأكيد على إلغائها, وخصوصاً ‏حينما يتم إسقاط نتائج تجربة الصراع الحاد الذي تم في ظل تطور ماهية الفكر الغربي وصراعه مع الفكر الديني لتلك المجتمعات, الأمر الذي أدى إلى بروز حقيقة الثقة المطلقة بالعقل والعلوم التجريبية, ونشوء تيارات وأيديولوجيات العلمانية الغربية, والذي أكد ـ فيما يخص موضوع بحثنا هذا ـ بعض رواد علم الاجتماع الغربي مثل كوندرسيه Condorcet على تقديرهم المطلق للعقل بقول كوندرسيه نفسه على أن التغيير الاجتماعي ما هو إلا (محصلة النمو الفكري للإنسان) فيما ذهب آخر وهو أوجست كونت على أن (تطور العقل الإنساني كان هو العامل الحاسم في التطور الاجتماعي).
هذا الأمر الذي يجعلنا ننظر بمراجعة نقدية باتت تشكل قناعة عند دارسي علم الاجتماع, وهو ضرورة أخذ الاعتبار لهذا العامل المهم ـ أي عامل الخصوصية المجتمعية ـ وأنه ليس ما يصلح من مهام التغيير الاجتماعي في مجتمع ما, سوف يصلح بالضرورة لمجتمع آخر حتى لو كان قريباً منه, وهذا الأمر قد أدركه حتى علماء ومنظرو علم الإجتماع الغربي أنفسهم وبشكل مبكر, فهذا الفيلسوف وعالم الاجتماع سبنسر Spencer (قد أدرك بشكل أكمل تعدد وتنوع العوامل الداخلة في إحداث التغير الاجتماعي, وكذلك صعوبات بيان التطور في كل مجتمع على حدة. وقد لاحظ فيما يتعلق بالموضوع الأخير أنه على الرغم أن التطور أمر حتمي لامفر منه إذا أخذنا جميع المجتمعات على الجملة, إلا أنه لا يمكن أن يعتبر حتمياً في كل مجتمع على حدة أو ممكناً فعلاً. وقد اعتبر في مناقشته ـ أي سبنسر ـ للمسار الحقيقي للتطور الاجتماعي أن الملامح الهامة لهذا التطور تزايد التباين الوظيفي داخل المجتمعات).

التصور الإسلامي للتغيير الاجتماعي
يقوم التصور الإسلامي لكائنية الوجود الإنساني في هذا العالم على حقيقة النظرة التوحيدية للعالم, وتقتضي هذه النظرة اخصاب الدور الفاعل للإنسان في تاريخه العام, وحفزه على الإنسجام التام مع النظام الكوني, في مسوغات الوجود الكلي للعالم, وهدف ذلك الوجود الغائي, القائم على خلق وتدبير إلهي مبدع, وفق قوانين وسنن هادفة, جعلها الله تعالى منسجمة ومعطيات هذا الوجود الإنساني في النفس بفطرتها الابتدائية, وبمعقولاتها المتدرجة في الفهم والإدراك والعمل, وفي حركتها العامة في طبيعة الوجود الاجتماعي للإنسان, والذي يقتضي فيه التصور الإسلامي لمنظومة الحركة الاجتماعية السير المتدرج نحو الكمال والمثل الاجتماعية الهادفة, وفق حركة جوهرية نشطة, تسير بهدي عقيدي وتشريعي يلحظ تلك المهام والمسؤوليات المتعددة في علاقة الإنسان مع خالقه ومع نفسه وغيره ومع كل عوالم الوجود.
من هنا يأتي النظر لغايات التصور الإسلامي في تغيير المجتمع, مستدركاً تلك الغايات الكبرى في هدفية خلق العالم والوجود, والقائم على جانبين يستوعبان كينونة الوجود الإنساني, وهما: جانب المضمون وهو الذي يستوعب كلية الأحكام والقوانين والتشريعات والنظريات والمناهج, وهو الشق المتعلق بالتشريع الرباني المقرر من خلال النص القرآني, والنصوص النبوية الشريفة, والجانب الآخر هو الجهد البشري الأكثر تميزاً في حقيقته المعتبرة, والمنسجمة في اعتمادها خط الإستقامة وخطوط السداد, والمبتعدة عن خطوط الخطأ والضلال, وذلك كله لتكون حركة الإنسان الاجتماعية, أكثر تبصراً في الحركة والسعي في النمو المتجدد للمجتمع.
ويقوم أساس التغيير الاجتماعي حسب القرآن الكريم, على مهمة تغيير الإنسان نفسه, من خلال النظر للإنسان على أنه المسؤول نفسه عن صنع تاريخه وفق حركة التصاعد والهبوط, الأمر الذي تؤكده آيات القرآن الكريم {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى* وأن سعيه سوف يرى} [النجم/ 39ـ40], فتغيير النفس الذي قصده القرآن الكريم في قوله تعالى {إن الله لايغير مابقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} [الرعد/11], يضمن حركة الذات الإنسانية في خطي الإستقامة والضلال, وتلازم تلك الحركة مع أي منهما, فإذا كانت الذوات (أنفسهم) نشطة في حركتها صوب ومع الفطرة والسنن والقوانين الربانية المودعة في الكون, وملتزمة بالإيمان وبالعمل الصالح, كان نتيجة تلك الحركة تغييراً دائماً‏نحو الأفضل, أما إذا كانت حركة الإنسان هابطة نحو الأسفل في تضادها مع حقيقة الفطرة والإيمان والإلتزام بمبدأ الخير للذات وللمجموع, فإن ذلك يكون سيراً‏نحو هاوية تجلب الشقاء والتعاسة للمجتمع, الأمر الذي يؤكد حقيقة التلازم بين نوايا وأعمال الإنسان وبين النتائج والآثار الخارجية المتحققة بسببها.
كما يجب التذكير الدائم بأن حركة التغيير في التصور الإسلامي تستند في واقعها الفعلي في مسيرة الحياة على حقائق ثابتة وأخرى متغيرة, فأما الثابتة منها فتقوم على ضرورة الإقرار الضمني بالعبودية لله وحده دون سواه, والإلتزام بالدين والتشريع, وبحقيقة الاحتياج الإنساني للغذاء والمسكن والزواج والدفاع عن النفس والحرية وغير ذلك من ثوابت الذات الإنساني وفطرتها اللامتغيرة, أما الجانب المتغير في حركة الواقع الإنساني فهو القائم علىتغير النظرة في ما هو صالح للإنسان أو غير صالح له, وهي أيضاً مرتبطة بشكل دائم بظرفي الزمان والمكان واختلافهما, وطبيعة الاحتياجات القائمة والمقررة ضمناً في إطار الإحكام الثابت للشريعة.

تعاقب الأجيال ودينامية التغيير
يلحظ المرء في بصيرة التأمل ما لحكمة التعاقب الإنساني على مستوى توارث الخبرات والمعارف, والعادات والتقاليد, وطبيعة الولاء لها, الذي بالضرورة يكون ـ ذلك الولاء ـ في حالة تناقص عند الجيل الأحدث سناً, على عكس الجيل السابق الذي يكون ولاؤه أشد بحكم تعايشه لمدة أطول مع تلك التقاليد والقيم وغيرها من موروثات, الأمر الذي يتحتم فيه إحلال قيم تواصلية جديدة,‏وتقاليد مستحدثة تتناسب ونسبية مستجدات العصر, ولكن ما يجب ذكره في ضمن هذه الحقيقة, بأنه قد يوجد حالات متفردة وربما نادرة لأفراد في المجتمع كباراً‏في الأعمار, لكنهم دائمو النظرة المتجددة للحياة وللعالم وتعدده, ذلك التجدد الذي يدعمه الوعي الناجز في حياتهم المديدة, وعلى العكس من ذلك, نرى أفراداً يخالفون حركة الحياة رغم شبابهم وحيويتهم الجسمانية والعقلية, لكنهم ينهجون في حياتهم منهجية التقليد في كل شيء, وبذلك يكرسون حالة الركود وعدم النماء الاجتماعي من خلالهم.
قد لايمكننا إغفال أي دور لأي فرد يقوم بوظيفته المحددة في خدمة ذاته ومجتمعه, من تلك المساهمة النسبية في حركة الواقع الإجتماعي, إلا أن الحياة الاجتماعية تحفل بشكل وظيفي أو بآخر,‏بحضور متفرد ومتميز لبعض أفراده,‏الذين ربما وصلوا إلى قدرات إنسانية رفيعة, نافحت من أجل أن تصل إلى غايات وجودية قصوى, بل هي في سعي دائم لتعي ذاتها وواقعها وظرفها الموضوعي,‏لتغتنم الفرصة لكي تدفع بذلك الواقع إلى الأمام, هذه الذوات الفاعلة في ذاتها ووجودها, تعنى دائماً‏بالتجديد كمحصلة نهائية لرفضها لما هو قائم من أوضاع متردية, ومعارف آسنة, وقيم بالية,‏وتقاليد عفا عليها الزمن يعوضون عن كل ذلك بدفع البصيرة الإنسانية إلى أوجها, ويدعون بشكل لاهوادة فيه إرادة الفعل الإنساني إلى التحدي والإنجاز, وبالقيم الإنسانية إلى أن تحقق حضورها الأمثل.., كل ذلك يأتي بإبداع لاينضب نميره, وباكتشاف لايكل عن كشف الجديد وتحصيل غاياته لصالح المجتمع والإنسانية جمعاء.

معوقات في عملية التغيير
أولاً: التمسك بالتقاليد والموروثات إلى حد عدم القبول في إعادة النظر لها,‏واعتبارها منهاج حياة لا يمكن الخروج عليها,‏كما يقاربها بعض المتمسكين بها بالتشريعات الدينية الثابتة, بل وتنخفض القيمة الاعتبارية للدين وتشريعاتها أمام تلك التقاليد على مستوى الاختيار, الأمر الذي يحافظ على سكونية المجتمع وانخفاض قيمة الولاء للطبيعة البشرية المتحركة, وبذلك تنخفض قيمة الحياة في المجتمع بالضرورة.
ثانياً: عدم التفريق فيما بين الثابت والمتغير في الدين, وتحديد المعالم الجوهرية للدين في كلياته وقوانينه وتشريعاته وأخلاقياته, وعدم اعمال النظر الاجتهادي في تبيان رأي الدين في النظم الإنسانية في الاجتماع والاقتصاد والسياسة وغير ذلك من النظم, التي يجب أن يعاد النظر فيها باستمرار على ضوء متغير الزمان والمكان, الأمر الذي إذا لم يتم, فإنه سيساهم في قطع الصلة فيما بين الدين والحياة وهذا ما نلاحظه في كثير من المجتمعات الإسلامية, وبالتالي سيعرض الإنسان المسلم أما إلى اللجوء إلى الإنكفاء على الذات والإخلاص لماضوية الأحكام, أو سد النقص بجلب واستيراد منظومات نظم ومعارف وقوانين, ليشعر من خلالها بالتجديد والتغيير حتى لو كان ذلك يؤدي إلى فقدان ذاتيته الفردية والاجتماعية والحضارية..!
ثالثاً: غياب أنماط جديدة من الاتصالية الاجتماعية, التي تتناسب ومعطيات العصر, وتستوعب طبيعة الحراك الاجتماعي كماً ‏وكيفاً, إذ لايمكن الاكتفاء بأنماط الاتصالية القديمة التي باتت تقليدية, والتي ربما تتحدد باللقاءات المباشرة والمجالسية وغير ذلك من وسائل الإتصال القديمة, أو بمحدودية استخدام الوسائل الحديثة,‏فإنه لن يكون على مقربة بحقيقة ما يجري, ولا منفعلاً بماهية ما ينتج من معارف وعلوم وغير ذلك.., كما لايمكنه أن يواكب مجريات الأحداث التي تجري هنا وهناك, وبذلك لايمكننا الإستفادة منها لتسريع مهمات التغيير الاجتماعي والثقافي والحضاري.
رابعاً: غياب الوعي والإحساس بحركة الزمن في بعده الثلاثي, الماضي والحاضر والمستقبل, والذي على أساس غياب ذلك الوعي يتم الركون إلى الماضي كأساس زمني معتمد من النواحي المعرفية والتاريخية والحضارية ولسان الحال (ليس بالإمكان أبدع مما كان), إن غياب الإحساس بقيمة الحاضر وانتاجية الانسانية فيه, وغياب الحس المستقبلي في مستوى الآمال والطموح والتخطيطات والاستشرافات المستقبلية الواعدة, يؤدي إلى شيوع حالة الخضوع للأمر الواقع وفق ما حدث في الماضي وما هو قائم من أمر مفروض لايقاوم, وبالتالي تسيد حالات الاحباط واليأس وعدمية أي فعل اجتماعي فضلاً عن التغيير والتجديد.
خامساً: عدم كفاية المؤسسة الاجتماعية, الرسمية والأهلية, والتي تستوعب مستجدات الواقع الإجتماعي في طبيعة الزيادة السكانية, ومستوى تعقد العلاقات الإجتماعية وتشابكها, وبروز الحاجة إلى مزيد من الخدمة الاجتماعية لتدبير مستلزماته واحتياجاته, ولتقوم تلك المؤسسات الاجتماعية على تأطير فاعلية النظم الاجتماعية المتعددة, الأمر الذي لايسمح بوجود حالة عدم الضبط الاجتماعي اللازم لحراك المجتمع المتغير.
سادساً: غياب النقد الاجتماعي المسؤول والملتزم بتحفيز أفراد المجتمع على رفض الاستمرارية في الوضع القائم المتردي, والعديم القابلية للحركة بالاتجاه للأفضل, ولمزيد من بذر السلوك الإيجابي, وعدم الركون إلى المساهمة في تعطيل مهمات التغيير التي يطمح ويسعى إليها المجددون في المجتمع.
سابعاً: غياب تعزيز الانتماء للمجتمع,‏إما بعدم المبالاة في ما ينتجه أو يبدعه أبناء المجتمع, أو لعدم إقرار حالة التنافس الإيجابي,‏وكذلك عدم وجود عنصر المكافأة المعنوية أو المادية, لما يقوم به أبناء المجتمع من مهمات تدفع بحركة المجتمع إلى الأمام والتميز, الأمر الذي يدفع إلى تعزيز روح الكسل والدعة وفقدان روح العمل الفردي والجمعي, وبالتالي يفقد المجتمع ديناميته الفاعلة.
وتبقى ديمومة حركة الوجود في العالم مندفعة في تواصلية سننها وقوانينها, ولتعطي الإنسان الإحساس بضرورة الحركة والتغيير والنفاذ إلى مقدرته العقلية والروحية والفعلية, كل ذلك ليحقق من خلال جهده وجهاده, صورة حية للتكامل التوحيدي مع نظام الكون, وللتمكن الواعي لقصدية عهد الاستخلاف الإلهي, ولسبر غور الحياة بالاقتراب من قدرة التغيير والتجديد فيها,‏وبرؤية مبصرة لواقع الإنسان وخصوصيته البشرية, والتي هي غير متأخرة أو متجاوزة عن زمنية الفعل الإنساني الأنسب في السيادة على مصيره وغاياته, وفي مجرى الثابت والمتغير, لما يعتقد ويؤمن به من دين وتشريعات وقيم ومثل..,‏الأمر الذي يؤكد حركة الإنسان والمجتمع بخطى الموثوقية, والذي يصل من خلالها إلى إدراك التصاعد والتسامي نحو الحياة المتجددة, والقادرة على إضفاء روح السعادة عليه.

ـ‏الهوامش‏ـ
(1) نظرية الثقافة مجموعة من الكتاب, ترجمة: د. علي سيد الصاوي, عالم المعرفة, الكويت العدد 223, يوليو عام 1997م, ص 31.
(2) لسان العرب لابن منظور, دار صادر, بيروت,‏المجلد الخامس, ص40.
(3) المنجد في اللغة والإعلام, الطبعة 26, ص563.
(4) إرادة التغيير. د.‏زكي نجيب محمود, الفكر العربي المعاصر, العدد الخامس, يوليو 1965, ص10.
(5) معجم مصطلحات العلوم الإجتماعية. د. أحمد زكي بدوي, مكتبة لبنان, بيروت, ص382.
(6) التغيير الاجتماعي, مدخل النظرية الوظيفية لتحليل التغير, د. فادية عمر الجولاني, دار الإصلاح, السعودية, طبعة عام 1984م, ص
(7) نجد في سياق هذه الفقرة تعريفات متعددة لمعنى التطور‏ـ‏التحول‏ـ‏التقدم الاجتماعي, قد تم الإستعانة بمعجم مصطلحات العلوم الاجتماعية, مصدر سابق.
(8) نفس المصدر ص73.
(9) سيكلوجية السلوك الإنساني, د. عبد الفتاح محمد دويدار, دار النهضة بيروت, لبنان, ط 1995م, ص170.