شعار الموقع

نظرات حول الوحدة والتعدد في الفكر الإسلامي المعاصر

محمد محفوظ 2004-10-15
عدد القراءات « 635 »

لا يختلف أحد من الناس حول ضرورة الوحدة والتوحد بين أبناء المجتمع الواحد والأمة الواحدة. لما لها من فوائد عديدة وآثار حسنة لصالح المجتمع والأمة. وتشترك في هذا الإجماع حول ضرورة الوحدة وفوائدها، جميع المدارس الفكرية والسياسية في الوطن العربي والإسلامي. بحيث انك ترى في جميع أدبيات وخطب هذه المدارس، تأكيد على مسألة الوحدة واعتبارها عملاً استراتيجياً، ينقل عالمنا العربي والإسلامي من وضع مأزوم، إلى آخر مليء بالإمكانات والقدرات والتطلعات. هذه المدارس والنظريات تفترق في منهجية تحقيق الوحدة، والطريق الموصل إليها في الواقع الخارجي. فالوطن العربي والإسلامي تاريخياً وحاضراً، يعيش حالات التنوع والتعدد بمختلف أشكالها اللغوية والجغرافية والعقدية والمذهبية، بحيث نستطيع القول بأن هذه الحالات ليست مسائل طارئة على خريطة العالم العربي والإسلامي، بل هي جزء من كيانه وبنيته الأصلية. فهل تعني الوحدة إقصاء كل حالات التنوع والتعدد الطبيعية والتاريخية المتوفرة في عالمنا العربي والإسلامي، لصالح صيغة وحدوية قائمة على نمط رتيب من التوحد السياسي والثقافي والاجتماعي، لا ترى من الضروري أو من مصلحة الوحدة العناية بتلك التنوعات الطبيعية والتاريخية في مجتمعنا العربي والإسلامي. وهل طريق الوحدة، يمر عبر القفز على تلك الحالات والحقائق التاريخية، وتجاهلها في استراتيجية العمل الوحدوي، واعتبار أن هذه الحقائق التاريخية والثقافية هي وليدة عصور التخلف والانحطاط والتأخر الحضاري والمخططات الأجنبية في بلادنا. وبالتالي تتحقق مشروعية محاربة وإقصاء هذه الحقائق والأنماط التاريخية والثقافية، تحت عنوان أنها جزء لا يتجزأ من آليات التخلف ومخططات الاستعمار والأعداء الخارجيين.

إن تاريخنا الحديث، يؤكد لنا أن بعض المدارس الفكرية والسياسية في محيطنا العربي والإسلامي، نظرت إلى تلك الحقائق والأنماط، وفق منظور أن الوحدة تعني التوحد القسري القائم على نفي كل أشكال التعدد والتنوع الطبيعية والتاريخية المتوفرة في مجتمعنا، لذلك فقد استخدموا ما في ترسانتهم النظرية والعملية من وسائل في محاربة حقائق التنوع والتعدد المتوفرة في المجتمع العربي والإسلامي. ومن الطبيعي، وباعتبار أن هذه الحقائق ليست طارئة على خريطتنا الحضارية، لذلك فإن محاربتها والعمل على إقصائها من ميدان التأثير الثقافي والاجتماعي، أوجد حالة من التشبث بعوامل التميز وأسباب التنوع، والعمل على تقوية الوجود الذاتي في إطار الدائرة الخاصة. وبعد حقبة زمنية طويلة استخدمت خلالها كل وسائل تذويب هذه الحقائق والأنماط، لا نجد أن هذه المدارس قد استطاعت أن تحقق مفهومها للوحدة القائم على القسر ونفي كل حقائق التنوع والتعدد، واعتبارها المعادل الطبيعي والموضوعي للتفتت والتمزق والتشرذم. لهذا نرى أن الوحدة المطلوبة، باعتبارها أصلاً وخياراً حضارياً، لنا نحن العرب والمسلمين، لا تمر أو تتحقق عبر التوحد القسري وإقصاء حقائق التعدد في خريطة وجودنا التاريخي والحضاري. فالوحدة لا تعني التطابق التام في وجهات النظر، وطرق التفكير بين أبناء المجتمع الواحد، وإنما تعني احترام تحقائق التعدد والتنوع والعمل بشكل وحدوي على ضوء تلك الحقائق. وتاريخنا لم تكن الوحدة التي تصنعها العرب والمسلمون، تعني التوحيد القسري ونبذ أشكال التنوع الطبيعية في الوجود العربي والإسلامي، وإنما صنع المسلمون وحدة قامت على احترام التنوع وخصائص التعدد الطبيعية، لأنها حالات وحقائق تاريخية مركوزة في التكوين النفسي والاجتماعي، ومتناغمة مع نواميس الوجود الإنساني، لأن الباري عز وجل خلق البشر مختلفين من نواع عديدة: لتكونهم من ذكر وأنثى: {وانه خلق الزوجين الذكر والأنثرى} (1) .
وهم مختلفون لاختلاف ألسنتهم وألوانهم: {ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم} (2) . كما هم مختلفون لاختلاف عقائدهم: {هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن} (3) . وعلى ضوء هذا الاختلاف والتنوع، تنشأ الوحدات الاجتماعية المستقلة، لكن لا لكي تتباعد عن بعضها، وإنما لكي تتعارف. فالتعارف هو المنظور القرآني، لتجاوز الآثار السيئة والسلبية لحالة الاختلاف والتعدد: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} (4) . فطريق الوحدة في التجربة الإسلامية، يأتي عن طريق احترام حقائق التنوع، لأن التعدد والتنوع ليسا حالات أو وقائع مضادة للمنظور الوحدوي، بل عناصر تثري مفهوم الوحدة، وتزيد مضمونه حيوية وفاعلية، وفي المقابل فإن إقصاء هذه الحقائق لا يوصلنا إلى الوحدة، بل بالعكس يفرغها من مضمونها الحضاري، ويجعلها وبالاً على الكيان المجتمعي بأسره.

إن مجتمعنا العربي والإسلامي يمتلك ثروات فكرية وعقلية هائلة، من جراء تعدد الأفكار وتنوع القناعات، وفي إطار الأفق الواحد. لذلك فالحكمة تقتضي أن تحترم هذه الأفكار والقناعات، حتى تمارس دورها الطبيعي في البناء والتطور. فالوحدة لا تتحقق على أنقاض منجزات المجتمع أو الأمة التاريخية والحضارية، بل عن طريق احترامها وفسح المجال وتفعيلها بما يثري حاضر المجتمع ومستقبله. لهذا فإن طريق الوحدة، يمر عبر احترام التنوع والتعدد. أما الضوابط المنهجية التي تجعل التعدد والتنوع، طريقاً موصلاً إلى وحدة قوية وصلبة بتأكيد ان الاختلاف بين البشر، على مستوى الأفكار والتصورات، ليس حالة سلبية، بل هو جزء من الناموس الكوني العام، فمادام الإنسان يحمل عقلاً وقدرة على التفكير، فإنه قابل لانتاج فكرة أو تصور مغاير للفكرة أو التصور الذي أنتجه الإنسان الآخر، وبالتالي فإن الاختلاف بين البشر في التصورات والفكار مسألة طبيعية وبديهية، إلا أن اللاطبيعي هو أن تتحول اختلافات البشر الطبيعية، إلى خلافات وصراعات وأزمات يصنعها الإنسان تجاه أخيه الإنسان. لهذا فإن المنهجية السليمة لاعتبار التنوع واحترامه، هو سبيل الوحدة الطبيعي، لذلك لابد أن ننظم اختلافاتنا وتنوعنا، ونوجد لأنفسنا أفراداً ومجتمعات، الأطر والقنوات الصالحة لإدارة اختلافاتنا وتغاير وجهات نظرنا، وبالتالي فإن العمل على قسر الناس على قالب فكري واحد، لا يؤدي إلا إلى المزيد من تمسكهم بخصائصهم ونقاط تنوعهم، مع ضياع البناء القوي للمجتمع الواحد، بينما احترام قناعات الآخرين ونظراتهم الثقافية، يجعل هذه القناعات والنظرات رافداً من روافد البناء الوحدوي السليم.

إننا في العالم العربي والإسلامي، نرفض الوحدة عن طريق القوة، ونرى أن طريق الوحدة يمر عبر احترام التنوع وحقائق التعدد في المجتمع الواحد، ودون ذلك تبقى الوحدة شعاراً زائفاً، يخفي حقائق سياسية وثقافية مضادة لمفهوم الوحدة ومقتضياتها. وقد أكدت حقائق العصر أن فرض الوحدة بالقوة، لا يؤدي إلى تحقيقها بل يصنع ويؤسس كل عوامل التفتيت في المجتمع الواحد. وهكذا يبقى خيار الوطن العربي والإسلامي أن يكون متنوعاً في الوحدة ومتوحداً في التنوع.

التنوع الثقافي.. رؤية مغايرة

تشكل الثقافة أحد المكونات الأساسية للبناء الاجتماعي، لأنها هي التي تصيغ المحتوى الفكري والحضاري والفني لمجتمع ما، إذ أن الوجودات البشرية تتمايز في ثقافاتها الذاتية بتمايز منابع الثقافة والوعي الجمعي. من هنا فإن للثقافة التأثير المباشر على النسق الاجتماعي والنفسي، وجميع الأطر والأوعية التي يبدعها المجتمع لتسيير شؤونه أو تطوير وضعه المادي والمعنوي، لأن الثقافة كائن حي يتطور باستمرار ويتكيف بشكل إيجابي مع التطورات والمتغيرات الجديدة. وعلى هذا الأساس تعتبر الثقافة أسلوباً من أساليب التهذيب الاجتماعي ونمطاً من أنماط صياغة المجتمع مع ما يتناسب والقيم والمبادىء التي تنادي بها تلك الثقافة. وهذا الاعتبار ينسجم ومعنى الثقافة في اللغة العربية، إذ أن الأصل اللغوي «ثَقِفَ» يحمل معنى التهذيب والصقل والإعداد، وهنا تكون الثقافة عملية رعاية وإعداد مستمر للعقل والروح البشرية، وهذا ما أطلق عليه في القرن السادس عشر في أوروبا بتدريب العقل، ووصفه «فولتير» بتكوين الروح، وتأسيساً على هذا فإن الثقافة تضم العناصر الأساسية الثلاثة:
1 ـ العنصر الإدراكي: ويضم مجموعة القيم والأفكار والمبادىء التي تساعدنا في الإدراك الموضوعي للعالم المحيط بنا وما يتضمن من مكونات.
2 ـ العنصر العفوي: وهو الذي يضم مجموعة القيم والأفكار التي تساعدنا في التفضيل بين الأشياء.
3 ـ العنصر الوجداني: وهو الذي يساعدنا في تشكيل الاتجاهات السلبية أو الإيجابية نحو العالم المحيط بنا أو مكوناته.
لهذا فالثقافة في المحصلة النهائية، تشكل نظرية متكاملة في المعرفة والسلوط، لأنها التي تقوم بإحياء الهوية الجماعية وتعبئتها وإعادة تنشيط وتوحيد عناصرها ورموزها، وتحديث مقومات الشخصية الوطنية وفق منظومات ونظم تنسجم وحاضر المجتمع وراهنه. لهذا فإن الثقافة هي التي تعبر عن المجتمع، تطلعاته، قوانينه، نماذجه، مسلماته، وبديهياته. وعندما تتعرض ثقافة ما إلى دفق متواصل من مفاهيم وأفكار جديدة، لا تستطيع أن تقاومها ولا أن تستوعبها في أطرها النظرية يحصل أحد أمرين: إما أن تتفكك وتنحل كثقافة مستقلة متكاملة وذات انسجام ذاتي، أو أن تعدل من آلياتها وتكيّف نفسها مع المفاهيم والأفكار الجديدة، حتى لو جاء على حساب إلتحامها بالواقع والتصاقها به. لأن لكل ثقافة بيئة محلية وتاريخية ومجتمعية، ولها توازناتها الذاتية المستمدة من معطى المنابع والمصادر الأصلية لهذه الثقافة، ومعطى الواقع وتفاعلاته. لذلك فإن لكل ثقافة شخصية متميزة عن الثقافات الأخرى. ولذلك فإن السؤال المطروح هو كيف ننظر إلى التنوع تبين الثقافات (5) .
تعددت النظريات والآراء في الإجابة على هذا السؤال، لكن يمكننا تحديد الإجابة في النظريات الثلاث:
1 ـ المركزية الثقافية: بما أن الثقافة جزء من النتاج الأيديولوجي لأي مجتمع، فقد تجسدت نزعة الاستعلاء والمركزية الشديدة في الثقافة الغربية، إذ تنظر الثقافة الغربية إلى التنوع الثقافي نظرة احتقال وتسعى نحو تذويب الثقافات الأخرى وإحلال الثقافة الغربية محلها. وقد قسمت العالم إلى قسمين: أثينا مركز الإشعاع الحضاري وبربر، أطراف ومستودع لتلقي ذلك الأشعاع. وهذه النفسية الإغريقية الإستعلائية انتقلت بحذافيرها إلى التفكير الغربي المعاصر، لتكرار ظاهرة التقسيم الثنائي، وتأخذ أشكالاً أخرى وتوظف التطور العلمي الهائل في الغرب المعاصر لتأخذ عملية التقسيم صبغة جديدة، هي امتداد وانعكاس لما ورثه الفكر الغربي من نزوعات نفسية عنصرية للجنس الآري، الذي امتزج بالفكر الغربي بشكل دقيق. وانطلاقاً من هذه المركزية الفلسفية والثقافية الغربية، اصيغت نظريات التبرير للحركة الاستعمارية لتغطي استمرارها. فظهر ما يسمى بالنظرية البيولوجية السياسية التي تقول بأن للدول الكبرى الحق في إلتهام الدول الصغرى، وأن الشعوب الصغيرة يجب أن تموت وتفنى أمام الدول الكبيرة. يقول «ارنست رينان»: « إن الأوروبي خلق للقيادة كما خلق الصيني للعمل في ورشة العبيد، وكل مسير لما خلق له». وصبحت هذه النظرية نظرية الملك المباح التي تعني إباحة استعمار الأقاليم التي تسكنها شعوب متخلفة عن ركب الحضارة. ومتخلفة لأنها خارج القارة الأوروبية!. وقد كتب بعض المستشرقين كتباً يوضحون فيها هذه النظريات الاستعلائية التي تنم عن مركزية شديدة تقصي أي تنوع ثقافي من أجل هيمنة ثقافية غربية واحدة في العالم. فكتب «كوفييه» «مملكة الحيوان»، و«غوبينو» «مقالة في التفاوت بين العروق الإنسانية»، و«ربوت نوكس» «عروق الإنسان السوداء»، و«غوستاف لوبون» «القوانين الفنفسية لتطور الشعوب». وتهدف هذه الكتب وغيرها إلى القول بأن الشرق ينتمي بيولوجياً إلى عرق محكوم، وينبغي له أن يحكم وهذا قدره ومصيره. ويرى زعيم المدرسة الوضعية الحديثة «أوجيست كونت» [1798ـ1857م] إن التفكير الإنساني في مرحلته الصبيانية وهمي يعتمد الأساطير والأديان، ثم جاء اليونان فولد العقل المجرد، تثم تطور إلى التجربة مع عصر النهضة الأوروبية ليبلغ المرحلة الوضعية في هذا العصر وهي المرحلة النهائية. وخلاصة الأمر أن هذه النظرية قائمة على نزعة النفي والإقصاء لكل الثقافات. لذلك فإن نظرتها إلى التنوع الثقافي نظرة احتقار وسعي متواصل لإنهائه من أجل غلبة الثقافة المركزية الغربية التي تطمح أن تكون كونية.
2 ـ نظرية النسبية الثقافية: وهي تقوم على المسلمات التالية: لكل شعب ثقافة تميزه عن غيره وتعبر عن روحه وتلخص تجاربه ومنجزاته التاريخية. لكل ثقافة خصوصيات وإسهامات في الثقافة العالمية كما قال «كلود ليفي شتراوس». قد تكون حضارة ما في عصر من العصور مركز الحضارات وأرقاها وأفضلها لما تميزت به من عوامل النهضة وعناصر الإرتقاء، ولكنها لا تكون كذلك دائماً في كل العصور. والتطور لا يسير وفق خط مستقيم ذات اتجاه واحد، من هنا فإن هذه النظرية تنفي مقولة «أنجلز» بأن كل ما تقدم في الحضارة هو خطوة نحو الحرية. وتصل هذه النظرية إلى نتيجة هي ضرورة تحرير الأفراد من الولاء الأعمى لثقافتهم ومساعدتهم على التسامح في المعاملة مع الآخر، والتعامل الإيجابي مع الآخر وإمكانية الاستفادة منه وإفادته، وعدم أقصائه ونفيه، يقول «ليفي شتراوس»: «المتوحش هو قبل كل شيء ذلك الذي يؤمن بالتوحش». ومن أقطاب هذه النظرية «روجيه غارودي» النزعة المركزية الغربية في كتابه الشهير «في سبيل حوار بين الحضارات».
3 ـ نظرية التعارف والانفتاح: تعتمد هذه النظرية على المسلّمات التالية:
*إن الخطاب القرآني جاء بمفهوم الإنسانية، وأن هذا الخطاب موجه إلى الناس كافة.
*إن وحدة الإنسانية في القرآن الحكيم لا تنفي اختلاف الأجناس والأعراق واللغات، فالناس أمم وقبائل وشعوب. ويقول العلامة «ابن خلدون» في مستهل تاريخه الشهير: إن الله سبحانه اعتمر هذا العالم بخلقه وكرم بني آدام باستخلافهم في أرضه وبثهم في نواحيها لتمام حكمته وخالف بين أممهم وأجيالهم إظهاراً لآياته فيتعارفون بالأنساب، ويختلفون باللغات والألوان، ويتمايزون بالسير والمذاهب والأخرق، ويفترقون بالنحل والأديان والأقاليم والجهات ليتم أمر الله في اعمار أرضه بما يتوزعونه من وظائف الرزق وحاجات المعاش، بحسب خصوصياتهم ونحلهم فتظهر آثار القدرة وعجائب الصنعة وآيات الوحدانية.
*ليس الاختلاف عامة إمتعاض وسلب، بل هو أصيل في الخلق، وهو آية من آيات الله، وليس الغاية من ذلك، التقاتل والهيمنة والإقصاء والنفي، وإنما التعارف: {يا أيها الناس إنا قلناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عن الله أتقاكم} (6) . فالتصور القرآني يدعو للتثاقف والحوار والانفتاح والتفاعل الإيجابي مع بقية الثقافات. وفي عملية التعارف والحوار على المستوى لاثقافي ينبغي التذكير بالأمور التالية:
1 ـ إن الدين الإسلامي أراد للإنسان أن ينطلق من مواقع التفكير للوصول إلى الآيات، وأطلق له الحرية ليتحرك من نقطة الشك إلى موقع اليقين، لذلك فإن التعارف والحوار لابد أن ينطلق من موقع العالم بالفكرة لا الجاهل بها، {ها أنتم هؤلاء حاججتهم فيما لكم به علم فلما تحاجون فيما ليس لكم به علم والله يعلم وانتم لا تعلمون} (7) ، لأن التعارف والحوار من موقع الجهل، يحول المسألة إلى مزيد من المهاترات والمزايدات.
2ـ الموضوعية أثناء الحوار والتعارف، لأن الكثير من مسائل الالتباس والاضطراب التي تصيب عمليات الحوار والتعارف ناتجة من إدخال الذات كطرف أساسي في عملية التعارف. إن المطلوب بالدرجة الأولى أن تتعارف الثقافات وتتحاور الأفكار، وإقحام الذات ينبغي أن يكون بما يناسب الثقافة والفكر. وعلى هذا فإننا نرى أن تنوع الثقافات على مستوى المجموعة البشرية قاطبة، لا يعني المزيد من التشتت والتدهور، وإنما نعتبر هذا التنور ثروة حقيقية تغني البشرية بالمزيد من الخيارات واتجاهات المستقبل، ومن الخطأ القاتل التعامل مع تنوع الثقافات انطلاقاً من منطق الإلغاء والنفي، كما عملت الثقافة الغربية مع بقية ثقافات العالم. إن المطلوب هو المزيد من التعارف والانفتاح والحوار على مستوى الثقافات والأفكار، حتى تشارك جميعاً في بناء مستقبل أفضل للبشرية جمعاء.

لماذا التقدم إلى الإسلام

إن التطورات والتغيرات السريعة التي تجري في بقاع العالم قاطبة، تؤكد لنا جميعاً ضرورة القيام بمراجعة فكرية وحضارية، نقرأ من خلالها أصولنا الفكرية ومفاهيمنا الأصيلة قراءة جديدة، كخطوة أولى في سبيل اعادة تأسيس لمقولاتنا الفكرية والثقافية، لكي نشارك بفكر فاعل وثقافة نهاضة، في تطورات العالم ومنعطفاته الحضارية. وبما أن المسألة الثقافية، تلخص تجربة الأمة ووعيها بذاتها ومحيطها، فهي تشكل نافذة أساسية يطل من خلالها الإنسان على العالم وأحداثه وتطوراته. وعن طريق القراءة الجديدة واعادة تأسيس فهمنا وإدراكنا لمفاهيمنا وأصول ثقافتنا، تتحول الثقافة في محيطنا العام إلى ثقافة إيجابية تنقل الكتل البشرية المختلفة، من موقع الصمت السبي أو الاستهلاك الدائم، إلى موقع المشاركة الإيجابية في مسيرة المجتمع والوطن. وتأسيساً على هذه الحقائق، من الأهمية بمكان اعادة النظر في موقف الإسلام من هذه التحولات والتطورات وحتى نكتشف هذه الموقعية، لابد من القول اننا كعرب ومسلمين نعيش في هذا العصر، لا نعود إلى الإسلام بل نتقدم إليه، ولعل من الأخطاء الشائعة في هذا الصدد مقولة العودة إلى الإسلام وكأن الإسلام يعيش في حيز ماضوي، يتقضي الالتزام بمبادئه، العودة إلى ذلك الحيز، بينما الأصح القول بأننا كبشر نعيش في عالم نسبي متغير باستمرار، والإسلام بمثابة العالم المطلق، الذي يتجاوز حدود المكان والزمان، لذلك فهو دين خالد، أي قابل للتطبيق في كل زمان ومكان. ومن خلال هذا المنظور، من الضروري القول بأن عالم النسبية والتغير الدائم، هو الذي يتقدم للالتحام بعالم الكمال والإطلاق. وبتعبير آخر: ان الوحي وهو المعطى الأساسي في الدين الإسلامي، يبقى متعالياً على الزمن، بمعنى أن الوحي أوجد جملة من المبادىء والقيم المطلقة والخالدة، والتي لا تتأطر بزمان أو مكان محدد. وفي مقابل ذلك فإن مقولة (العودة إلى افسلام) تحمل في طياتها بعداً زمنياً غير مقصود، بمعنى أنها مقولة تجعلنا حبيسين للزمن والنص الإسلامي الخالد فوق الزمن. لهذا فإن التقدم في رحاب المستقبل، واختيارات الإسلام الكبرى يعتبر المضمون المناسب لمعطى الوحي وحركة الإسلام الخالدة. وفي هذا الإطار نتسائل: (لماذا التقدم إلى الإسلام؟) هي المقولة المناسبة والمنسجمة مع تمختلف المعطيات التي ينادي بها الدين الإسلامي:
1) إن التطور والتقدم ناموس كوني وحقيقة إنسانية ثابتة. إذ أن جميع الكائنات الحية الموجودة على هذه البسيطة، لا تتوقف عن التطور والانتقال من حالة إلى أخرى. ومجموع القيم والمنظومات العقدية والفكرية، هي التي تحدد تجاه سير التطور والتقدم. فإذا كانت المنظومات صالحة ومنسجمة مع طبيعة الإنسان، فإن هذا التطور يعني الانتقال إلى الأحسن والتطور إلى الأرقى. وإذا كانت سيئة ومتعسفة بحق الإنسان وطبيعته، فإن الانتقال يتم من الأحسن إلى الأحسن، وهكذا حتى يصل إلى الدرك الأسفل في مدارك التقهقر الإنساني. ولهذا نجد القرآن الحكيم، يتحدث عن الكائنات الحية باعتبارها كيانات متطورة متغيرة غير ثابتة على حال، يقول عز من قائل {هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا ثم لتبلغوا أشدكم ثم لتكونوا شيوخاً ومنكم من يتوفى من قبل ولتبلغوا أجلا مسمى ولعلكم تعقلون} (8) .
لهذا فإن المصطلح الأجدى بالاستخدام، هو التقدم إلى الإسلام، باختياراته الكبرى ومثله العليا التي تمازال الإنسان يكدح من أجل التوصل إليها وتمثلها في واقعه المعاش، لا العودة إليه وكأنه حبيس حقبة تاريخية معينة.
2) إن التقدم إلى قيم الإسلام ومحاولة تجسيدها في واقع الإنسان والمجتمع، يعني غلبة بُعد البناء على بُعد الهدم. فلكي نتقدم إلى الأمام نحن بحاجة إلى تذليل الصعاب وتسوية العقبات النفسية والاجتماعية والحضارية، وتوفير كل الأسباب التي تقرّبنا من اختيارات الإسلام الكبرى. وكل هذه المفردات تنتمي إلى حقل البناء والتعمير، لهذا فإن المزيد من العناية بالبناء والتعمير في كل المجالات ووفق المقاييس الموضوعية، يعني أننا اقتربنا خطوة نحو الإسلام وقيمه. وهذا يدفعنا إلى القول، بأن الإسلام دين البناء والعمران، دين تذليل الصعاب التي تحول دون رقي الإنسان المادي والمعنوي. ولهذا نجد الدين الإسلامي يحث على الاخوة والتعاون والتسامح والإيثار باعتبارها مدارج التقدم الإنساني، ويحذر من الشقاق والنفاق والفرقة والغلظة والأنانية. من هنا فإن الدين الإسلامي يعني بإزالة كل الأغلال والعوامل التي تمنع من الانتعاق والتحرر من كل رواسب الانحطاط والتخلف، ويغرس الروح في النفوس للانطلاق نحو البناء والفاعلية والتقدم.
3) إن الإنسان على وجه هذه البسيطة، سيبقى أبداً في حاجة إلى افسلام بقيمه ونظمه وسلوكه لكي يفقه وجوده ويكون له معنى. وعلى هذا فإن الإسلام كقيم ومبادىء متقدم على واقع الإنسان وحركة حياته، لذا فإن مهمة الإنسان في هذا الوجود، هي السعي والكدح للوصول إلى ذلك المثال وتجسيد تلك القيم في الواقع: {إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه} (9) وعلى هذا فالإنسان الفرد والمجتمع، هو الذي يتقدم إلى الإسلام.
4) إن بناء عالم الإنسان وفق اختيارات الإسلام وقيمه ونظمه ومعارفه، تتطلبان تطور الإنسان وتقدمه، حتى يصل إلى مستوى يؤهله لتطبيق اختيارات الإسلام على واقعه الخاص والعام. من هنا فإن التقدم نحو الأعلى بحاجة إلى الفعل الإنساني القائم على التفكير والارادة والابداع وتجسيد مثل الإسلام في الواقع. فالإسلام هو الذي نقل واقع الإنسان السيء إلى واقع أحسن، وهو الذي تمكن من توفير المعالجات الناجعة للكثير من المشكلات التي كان الإنسان يعاني منها آنذاك. ويشير إلى هذه المسألة المؤرخ الألماني «شبنجلر» بقوله: لم يستطع هذا العالم أن يشعر بوحدته إلا على يد الإسلام وهذا هو سر نجاحه الهائل السريع.
إن الإسلام وحده الذي استطاع أن يجعل هذه البيئة الشاسعة الموزعة، تشعر بأنها تكوّن وحدة هي وحدة الحضارة. وعن الإسلام نشأت الحضارة العربية، وبلغت أوج نضوجها الروحي، فالمدنية الإسلامية حتى الحروب الصليبية، كانت تمثل الصورة العليا لهذه الحضارة التي سماها «شبنجلر» الحضارة العربية. فمن الأجدى والأجدر، أن نقول أن مهمة الإنسان، هي التقدم بوضعه الخاص والعام حتى تتشكل الظروف الذاتية ةوالموضوعية، لتجسيد قيم الإسلام واختياراته الكبرى في الواقع الخارجي. من هنا فإن التعارف الثقافي، والتواصل والحوار الإنساني المتعدد والمتنوع، هو طريق إجلاء الحقائق، والوصول إلى صيغ لتفعيل المشترك الإنساني.
فتقدمنا إلى الإسلام، باختياراته الكبرى وقيمه العليا، مرهون بقدرتنا على الحوار واستمرار التواصل الإنساني. فالوحدة وهي قيمة عليا في المنمطومة الإسلامية لا تنجز إلا بالتعدد والحوار والتواصل. فهي العناوين التي تثري مضمون الوحدة، وتجعلها خياراً أصيلاً في مسيرة المجتمعات والأمم.
حوار الثقافات
في هذا الكون ثمة حقائق طبيعية واجتماعية، ينبغي إدراكها واستيعاب مدلولاتها حتى يتسنى للجميع الانسجام مع الناموس الكوني والاجتماعي العام. ولعل من أهم الحقائق التي تحتاج إلى استيعاب وإدراك تامين، هي حقيقة التعدد والتنوع في هذا الوجود. فهي قاعدة تكوينية شاملة وناموس كوني ثابت، وأي سعي إلى إلغائها بدعوى المطابقة وضروراتها وفوائدها هو سعي عقيم لأنه يخالف الناموس، ويريد تبديل حقائق الوجود، وهذا ليس بمقدور الإنسان فعله. ولكن هذا التنوع في الحقائق لا يؤدي إلى المفاصلة الشعورية والعملية والاجتماعية، وإنما في الإنسان نزوع أصيل وحاجة حيوية إلى اعتماد مشتركات مع بني جنسه ولا تنهض بدونها حياة اجتماعية. من هنا فإن مشكلة الإنسان الدائمة لا تنشأ من وجود الاختلاف أو التنوع، وأنما تنشأ من العجز عن إقامة نسق مشترك يجمع الناس ضمن دوائر ارتضوها. والحوار بين الإنسان وأخيه الإنسان، من النوافذ الأساسية لصناعة المشتركات التي لا تنهض حياة اجتماعية سوية بدونها. وعليه فإن الحوار لا يدعو الآخر إلى مغادرة موقعه الطبيعي، وإنما هو لاكتشاف المساحة المشتركة وبلورتها والانطلاق منها مجدداً ومعاً في النظر إلى الأمور. وكما يقول أحد المفكرين العربي «إن الحوار بحاجة إلى ثقافة وفكر يحترم الفروق والتنوع ويرى الحقائق المجتمعية ماهيات مركبة ذات وجوه وأبعاد لا جواهر بسيطة مطلقة ذات بعد واحد. إنه فكر يجيد التبادل والتأليف انطلاقاً من وسط مشرف من غير أن ينجح إلى دمجية كلانية تلغي المسافات والتخوف أو يقع في تفريعية انقسامية تقطع العلائق وتعدم الواصل» (10) . ولقد أظهرت وقائع الحروب والمنازعات أن التصادم داخل الجماعة البشرية الواحدة، كان أشد فتكاً من تصادم الجماعات البشرية المختلفة، ويقول في هذا الصدد الدكتور «عبد المنعم سعيد» رئيس مركز الدراسات الاستراتيجية في الأهرام أن الصراع مع اسرائيل كلف في العقود الخمسة الماضية حوالي (200) ألف من الضحايا، ولكن الصراعات الأهلية والحروب الداخلية في الإطار العربي والإسلامي كلفت 2.5 مليون ضحية، ومن حيث التكلفة المالية فإن الصراع الأول كلف تالعرب حوالي 300 بليون دولار، أما باقي الصراعات فبلغت تكاليفها حوالي 1.2 تريليون دولار.
لهذا فإن حوار الثقافات ينبغي أن لا يتوقف عند الأحكام القاطعة أو الكاسحة، والتي هي صدى أو انعكاس لحقبة التصنيفات الأيديولوجية وبذور الحوار والتلاقي الذي يُقمع بالإدانات والتهويش. فالحوار في الحقل الثقافي يقتضي العمل على مستويين في آن واحد، مستوى الذات، والعمل على التخلص من رواسب لغة النفي والإقصاء والتخوين وكل المفردات التي تلغي الآخر، ولا تسمح بأي شكل من الأشكال بأي مستوى من الحوار معه. لذلك فإن تنظيف النفس والعقل من كل المفردات والمنطق السائد في تلك الحقبة التاريخية يعد من الأعمال الجوهرية التي ينبغي أن نتوجه إليها، وتكون لدينا الشجاعة الكافية، لإعلان نهايتها ودخولنا في حقبة تاريخية جديدة تشجع الحوار وتؤسس للتسامح وتؤصل لحرية الرأي الآخر. ومستوى الواقع الذي ينبغي أن يسوده الحوار ونتدرب فيه على احترام التنوع وكما يقول «سعد الله ونوس» تجاوز المنولوغ إلى الحوار، لأن تبادل الإدانات لا يفضي إلى شيء، أما تبادل الأفكار فإنه يفضي إلى المستقبل. ولابد في هذا الإطار أن نصغي بشكل دينامي إلى أسئلة الواقع وننهي منه حالات تغييب الواقع في إشكاليات ثقافية زائفة وبلورة موقف نقدي من تيارات الفكر الغربية، ومحاولة استدراك الانقطاعات التي منعتنا من المراكمة الثقافية فكثيرت لدينا البدايات وتكررت الأسئلة، دون أن يتشكل لدينا سياق تاريخي من التفاعل والنمو، ويضيف «سعد الله ونوس» (11) في حواره مع المفكر السوري «أنطون مقدسي» بأن المحاولة هي تعميق التلاحم بين الواقع وأسئلة الثقافة واستكشاف أفق تاريخي لمراكمة ثقافية دينامية فعالة.
والحوار الثقافي الذي يخرج عن هذا السياق أو النطاق، يتحول إلى حوار طرشان، ولا يفضي إلا إلى المزيد من التعصب للرأي وسيادة عقلية الخصم والإفحام. فالضرورة الحضارية تفرض علينا وعياً مزدوجاً لعملية الحوار الثقافي، وعي مستوى الحوار الثقافي والحضاري الذي وصلت إليه المجتمعات المتقدمة بين تياراتها ومدارسها الفلسفية والفكرية والسياسية. ووعي واقعنا العربي والإسلامي، وتلمس الممكنات المتوفرة لانطلاق هذه العملية الحضارية وتجاوز العقبات التي تحول دون ذلك. ومن خلال هذا الوعي المزدوج لعملية الحوار الثقافي تتأسس الظروف الموضوعية والذاتية لانطلاق مبادرات نوعية في هذا المجال. ودون هذا الوعي تبقى الكثير من المبادرات شكلية ولا تخرج في كثير من مفرداتها عن موضعة الاستهلاك ورمي الكرة في مرمى الطرف الآخر. وفي هذا الوضع تتجلى في الحياة الثقافية كل الشكال الخادعة والمستعارة لعملية الحوار الثقافي. ومادام المثقف متفاعلاً مع عصره ومنفتحاً على العالم فإنه سيجد الموضوعات الجديدة والمعالجات الجادة بالحوار والتفاعل. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن الحوار الثقافي الذي يأتي في سياق وعي اللحظة التاريخية لواقعنا العربي والإسلامي، ومتطلباته الحضارية، ووعي اللحظة التاريخية التي يعيشها الآخر، هذا الحوار يعد نواة صلبة للعمل الثقافي الجاد الذي يتراكم ويتواصل لخلق حالة ثقافية بصفات جديدة وعقلية حضارية تمارس القطيعة المعرفية مع تلك العقلية الضيقة التي لا ترى في الوجود إلا لونين إما أسود أو أبيض. وليس ما اقوله هنا إسقاطاً لمفهومات غريبة عن تطلعاتت حياتنا الثقافية، وإنما هي من تطلعاتها الجوهرية ومطامحها الأولى. وبالتالي فإن الحوار الثقافي ليس تصدعاً في الذات الثقافية، بل هو إثراء لها وإضافة نوعية إلى بنائها وسياقها المعرفي وأن أهم ما تمارسه عملية الحوار هذه أنها ترفع الأوابد عن الابداع وآفاق الثقافة الجديدة.
الإسلام والوطنية.. وجهة نظر
لا يمكننا بأي حال من الأحوال أن نفصل مسألة الوطن والوطنية، عما تشكله هذه المسألة من عمق وجداني وشعور عاطفي، يتصل بالجوانب الحميمة لدى كل إنسان، ويأتي المضمون القانوني للأرض ليضيف إلى هذه الصلة أبعاداً وآفاقاً أخرى. وبهذا تتكامل المسألة العاطفية مع المسألة القانونية، وتتناغم العاطفة مع العقل لتشكل حالة سامية من الحب والعلاقة الخالصة. لذلك فإن حب الوطن والدفاع عنه والحنين إليه جزء طبيعي في حياة الإنسان السوي، ولقد جاء في الأحاديث الشريفة ما يؤكد هذه الحقيقة مثل «عمرت البلدان بحب الأوطان» (12) و«من كرم المرء بكاؤه على ما مضى من زمانه وحنينه إلى أوطانه» (13) . إن الوطنية لاصادقة تفتح الطريق إلى تجربة اجتماعية حية، تتواصل فيها التنوعات وتتفاعل فيها الاختلافات بشكل بناء. لذلك نرى أن من أخطر الدعوات التي تقصي حالات التعدد وتحارب التنوع، هي تلك التي توجد مناقضة بين الوطنية والإسلام. بحيث أن الروافد الثقافية والسياسية التي ترفد الوطنية لا تكون مستمدة من الإسلام كوعاء أيديولوجي وقيمي، وإنما من أطر أيديولوجية مناقضة بشكل صريح للإسلام. إننا نرى في هذه الدعوات الخطر الشديد على مسيرة وآفاق الوطنية، كما هي على مسيرة الإسلام. لأنها تمنع الروافد الوطنية من الاغتناء بقيم الإسلام ومثله ومضمونه الحضاري، كما أنها تطرد الإسلام من الحياة الاجتماعية والعامة لمجموعة من البشر. فالإسلام لا ينكر الشعور الوطني أو القومي، وإنما ينكر في هذا الشعور حالة الشوفينية والإنغلاق الحاد، لدرجة معاداة كل ما هو خارج الدائرة الوطنية أو القومية. وفي العصر الحديث تعتبر الوحدة الوطنية الصلبة والحقيقية لكل شعب عربي أو مسلم هي الشرط المسبق والضروري لكل مشروع وحدوي على المستوى القومي أو الإسلامي. فالإنتماء إلى الإسلام لا يخرج الإنسان من دائرة الإنتماء إلى الوطن، لأن الدين الإسلامي يغذي ويثير بكل قيمه ومفاهيمه مفهوم الوطنة والوطنية. كما أن الانتماء إلى الوطن، لا يعني بأي شكل من الأشكال الإنغلاق عن الأمة الكبية ومفاهيمها العالمية، أو جعل حدود الفكرة الإسلامية تخوم الأرض والجغرافيا. وإنما هي فضاء اجتماعي ـ جغرافي يحمل بعض الخصوصيات، يتفاعل الإنسان المسلم مع هذا الفضاء بحكم انتمائه إليه، ويمارس كل الأدوار ويقوم بتأدية كل المسؤوليات المنوطة به على أكمل وجه بدافعين:
الأول ـ بدافع العقيدة والانتماء إلى الإسلام والالتزام بنظامه ومفاهيمه، والتي تدفع إلى الانتاج والعمل الصالح في كل بقعة تواجد فيها الإنسان.
الثاني ـ وبدافع الانتماء الوطني وكل القيم الإنسانية، التي تدعو إلى حب الأوطان والعمل الجاد من أجل تطويرها وعمرانها.
فالإسلام لا يُخرج الإنسان من ولائه السليم لوطنه، كما أن الانتماء إلى الوطن لا يعارض الانتماء إلى الدائرة الالامية. فكل دائرة من الانتماء تؤكد الأخرى وتثريها، وعلاقة الإنسان السوية مع كل دائرة قائمة على الإخاء والتعاون والوحدة. ومن خلال هذا المنظور، لا معنى لوجود تناقض بين الوطنية والإسلام، لذلك فمهمتنا المعاصرة تقتضي الاختيار بينهما. فالمطلوب ليس الجمود على صيغة معينة، وإنما إثارة المعاني السياسية والمعنوية المستمدة كعقيدة وإنتماء حضاري، وذلك لاحتواء كل المشكلات التي قد تبرز من جراء تباين المفاهيم أو إرتباكها. لذلك لم يثير العرب إبان الدعوة الإسلامية الأولى مسألة أن الدعوة الجديدة تقف في مواجهة خصوصيتهم، وذلك لأن الوطنية والقومية حالة إنسانية كبقية الحالات الإنسانية التي تأخذ لإنسانيتها خصوصية من العقيدة والأرض واللغة، وكل العناصر تشترك بشكل أو بآخر في التأثير على الإنسان الفرد أو الجماعة. فالوطنية كشعور وقيم هي التي تنظم لكل جماعة بشرية دائرة فضاء تتحرك فيها أو فيه، لتعبر بذلك عن خصائصها وتطوير آفاقها الوطنية والإنسانية وتحرك تطلعاتها في الحياة. لذلك من الصعب في هذه الحالة أن نجعل الوطنية دائرة وانتماء تناقض دائرة الإسلام والإنتماء إليه والالتزام بهديه. وإنما هي دائرة تتكامل معها وتشكل حالة إنسانية وحضارية، فالإسلام هو الجانب العقدي والفكري الذي تتمظهر فيه وتلتزم بمناهجه، وهو القاعدة العميقة التي تتجذر فيها. كما أن دائرة الونية هي التي توفر للمواطن الأفق أو الآفاق التي ينفتح عليها أو من خلالها مع الآخرين. لذلك لم نعرف في حقبنا التاريخية المزدهرة أي جدل بين الوطنية كعنوان إنساني وشعور وجداني، وبين الإسلام كعنوان عقدي وفكري، إنما أغلب الجدل والحساسيات المختلفة كانت تتعلق بطبيعة الحلول التي يقدمها أي مشروع ومدى مصادمة أفكاره وتصوراته مع الموروث الشعبي والعرف الاجتماعي. فالوطنية في جوهرها تعبير عن حالة إنسانية طبيعية تبحث عن مضمون فلسفي وفكري. وفي التاريخ العربي الإسلامي، كان الإسلام بقيمه ومبادئه هو مضمون الوطنية والانتماء الوطني. لذلك نتحدث عن الوطنية، لا نتحدث عنها باعتبارها عنواناً مضاداً لعنوان الإسلام والانتماء إليه، وإنما باعتبارها دائرة من دوائر الانتماء الطبيعي، والإطار الذي يبحث له عن صورة، والإسلام في هذا الصدد هو الصورة لذلك الإطار. لذلك ينبغي في هذا المجال أن نؤكد على النقاط التالية:
1) إن الدين الإسلامي ينفتح على العالم كله بمختلف ألوانه وأطيافه، لكنه في الوقت ذاته لا يتعقد أو يتخذ موقفاً سلبياً من مسألة الونية والانتماء الوطني، لأنها في مفهومه هي حاجة بطيعية وجبلة إنسانية. وبهذا نجد أن في الإطار العربي ـ الإسلامي، كان مفهوم الوطنية يحمل خصوصية الإسلام. أي أن المضمون الفعلي لمفهوم الوطنية في الدائرة العربية والإسلامية كان هو الإسلام. والإسلام اتخذ موقفاً سلبياً في هذا الإطار من بعض المعاني الأيديولوجية التي دخلت على هذا المفهوم. لذلك فإن المطلوب هو اعادة الاعتبار في دائرة التفكير الإسلامي إلى مسألة الوطنية والانتماء الوطني باعتباره دائرة طبيعية من دوائر الانتماء لدى الإنسان.
2) إن تمن الأهمية بمكان ولدواع عديدة حضور البعد الإنساني حين الحديث عن الوطنية والإسلام. وذلك لأن الكثير من الالتباسات والتناقشات على المستوى العلمي، لا يمكن معالجتها إلا بمنظور إنساني ـ أخلاقي، يعطي لفكر الإنسان الحرية في البحث عن معالجات في هذه الدائرة لالتباسات المفاهيم أو تباينها. وبهذا يتم تجاوز الكثير من سوء الفهم بين جميع الأطراف أو القوى التي تعبر عن أفكارها المركزية تحت يافطة وطنية أو إسلامية. وبهذا نبلور في أجوائنا وفضائنا المعرفي والاجتماعي، معنى الالتزام دون تعصب ومجافاة لأحد.
في طبيعة المعرفة الدينية
لعل من الأهمية بمكان، أن نقرر في بداية الأمر، أن المعارف الدينية، التي يستنبطها الإنسان المسلم من النصوص الخالدة، لا تمتلك كمضمون بعيداً عن ظروف الزمان والمكان،‎وإنما لهذه الظروف الزمكانية، المدخلية الكبرى في تحديد مضمون المعارف الدينية لدى الإنسان المسلم. وعتبر التاريخ الإسلامي الطويل، كان التفاعل الخلاق بين النص والواقع، هو السبب في ديمومة الحياة الإسلامية وخلود قيم الدين في الوسط الاجتماعي. وغياب هذا التفاعل، يعني الانفصال التام بين النص الإسلامي وواقع الإنسان، وهذا ما يؤدي إلى موت الحياة الإسلامية.
أما أداة التفاعل، فتمثلت في عملية الاجتهاد، باعتباره المشروع الذي أوجده الإسلامي وفق ضوابط ومحددات معينة لتجديد حياة المسلمين، انطلاقاً من قيمهم، وخصائصهم العقدية. فالحقيقة كما يعبر عن ذلك «برهان غليون» (14) ليست مفهوماً مجرداً، ولكنها واقع مشخص، يعبر في تشخيصه عن التنوع اللامحدود والتعدد الهائل للصور التي يمكن أن يأخذها تحقيق المفهوم. وليس هناك علم حقيقي، إلا في الكشف داخل هذا المفهوم عن أشكال تحققاته المختلفة، وهذا الاختلاف هو الذي يستحق في نظر الموقف العلمي، أن يكون موضوع النظر والبحث لما يقدمه من مادة للمقارنة التاريخية تسمح لنا بالوصول إلى نظرية علمية حقيقية، أي تأخذ بالاعتبار جميع التجارب البشرية. وينبغي أن نؤكد في هذا المجال أيضاً أننا في ميدان ثقافي ـ اجتماعي سوسيولوجي وليس في ميدان الحلال والحرام، بمعنى أننا نبحث في الثقافة والمعرفة التي ينتجها الإنسان المسلم، وهو الانتاج الذي خضع بشكل أو بآخر لمؤثرات الواقع ومتطلبات الحال. لهذا فإننا لسنا في ميدان التزكية الدينية أو وصف هذا الإنسان بأنه مسلم أم لا، وإنما نحن نتحرك هنا في ميدان المعرفة المنتجة إنسانياً، من خلال الانتماء الموضوعي لجملة من قيم الدين ومعتقداته. ولعل من الأخطاء الجسيمة التي تواجه العرب والمسلمين اليوم، هي تلك الأجواء المحمومة من التكفير والتكفير المضاد، ولعل انتشار هذا الخطر يرجع بالدرجة الأولى إلى غلبة نمط التفكير الكلامي، الذي يجعل مجرد الاختلاف في العقيدة سبباً كافياً لإطلاق تهمة التكفير. ويقابل هذا النهج التهكفيري نهج الخطأ، الذي يتبعه جل الفقهاء الذين لا يكفرون بعضهم بعضاً، بمجرد الاختلاف في الرأي أو الفتوى، وإنمنا يخطئون بعضهم بعضاً. وقد قال «المزني» سألت الإمام «الشافعي» عن مسألة من الكلام فقال سلني عن شيء إذا أخطأ فيه قلت أخطأت، ولا تسألني عن شيء إذا أخطأت قلت كفرت. وشتان بين التكفير والتخطيء، إذ يقوم الأولى على المراء في الدين، فيقسي القلب ويورث الضغائن، أن مراء ناتج عن ادعاء امتلاك الحقيقية المطلقة في أمور الدين، وهذا ما كان سائداً بين أهل الكلام خلال القرن الثاني للهجرة. بينما يقوم التعاطي بين أهل الفقه على الاجتهاد المعترف بإمكان الخطأ، فإن اختلفوا قالوا بالاجتهاد والخطأ ولم يقولوا بالتكفير. فصاحب النهج التكفيري يمتطي حصان الحرب الضروس ويمتشق سيف التكفير، ويقوم بتسليطه على رقاب خصومه من العباد، فإما معنا وإما علينا، ولا حل وسط ولا دعوة للحوار أو النقاش للمعطيات الموضوعية، بل تقريع وتقريع مضاد. يقول «شيلر» في وصف المنطق القديم: إن الحقيقة في ضوء المنطق المطلق واحدة والآراء يجب أن تكون متفقة فأنت إما أن تكون مع الحقيقة أو ضدها فأنت هالك. أما إذا كنت مع الحقيقة فليس لأحد أن يجرؤ على مناقضتك، إنك محق إذا غضبت على أولئك الذين يجادلون في الحقيقة، الحقيقة حقيقتك، أو هي بالأحرا أنت إذا جردت نفسك من مشاعرك البشرية.
ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا بأن الكثير من مشكلات العالم العربي والإسلامي الداخلية، ناتجة عن الانقطاع بين نهج الفقه ونهج الكلام في بحث المسائل العلمية والاجتماعية المختلفة. وفي محنة آلاف الفقهاء مع الدولة العباسية تأكيد لهذا الانقطاع بين نهج الفقه ونهج الكلام، فقد ظهر بوضوح في تلك المحنة تخلف العباسيين على مواكبة مبدأ الاختلاف الفقهي الذي أقر به كل من الإمام جعفر بن محمد الصادق (ت 148هـ) والامام أبو حنيفة (ت 150هـ) والامام مالك (ت 179هـ) والامام الشافعي (ت 204هـ) وقد سجل التاريخ وقفة الامام ابن حنبل (ت 241هـ) الشهيرة رافضاً عقيدة الدولة فيما عرف بمسألة خلق القرآن التي حاول المأمون العباسي فرضها على جمهور الفقهاء والمحدثين، وقديماً قيل «من لا يعرف الاختلاف لم يشتم الفقه أنفه» فطبيعة المعرفة الدينية نسبية ـ غير مطلقة. وهذا هو السبب الذي جعل الامام أحمد بن حنبل، يرفض مشروع المأمون عندما أراد أن يحمل الناس على فهم خاص به للإسلام في قضية خلق القرآن. ووفق هذا المنظور رفض الامام مالك ابن أنس رغبة الخليفة العباسي «المنصور» اعتماد موطئه تفسيراً رسمياً للإسلام، لذلك نجد أن في القرن الثالث الهجري كانت هناك في العالم الإسلامي (19) مدرسة فقهية تساهم وتشارك في إثراء الحياة العلمية والفكرية للمسلمين. ولقد ارتبط العلم ونتاج العلماء في الدائرة العربية والإسلامية، بالاحتياجات المباشرة للمجتمع وهكذا استجاب البحث العلمي لأغراض التعبئة العسكرية وفي الطب والفلك والكيمياء والصيدلة. وفي المقابل تحينما تتلاشى الحاجة المباشرة للمجتمع، تتندثر الكثير من الصناعات والابتكارات، وهذا ما حدث بالنسبة لاختراعات «ابن الرزاز الجذري» الذي صنع وطور آلات ميكانيكية للري والزرع ورفع المياه. وإننا نرى أن البداية الفعلية لعلاج الكثير من المشكلات الذاتية التي يعاني منها العالم العربي والإسلامي اليوم، هي العمل على إشاعة وسيادة نهج الفقهاء القائم على الحوار والتسامح والمجادلة بالتي هي أحسن والاختلاف والقبول بمقتضياته، والابتعاد عن نهج التكفير والإقصاء والتخوين والنفي، الذي لا يؤدي إلا إلى المزيد من الأحقاد والضغائن وإشعال الحروب الأهلية، وفي هذا الإطار نؤكد على النقاط التالية:
1) إن العالم العربي والإسلامي، وأمام التحديات العديدة والأخطار المحدقة التي تواجهه، هو أحوج ما يكون إلى الوحدة الداخلية القائمة على الإعلاء من شأن ودور القواسم المشتركة والابتعاد عن سلوك القطيعة وتجزئة الأمة الواحدة إلى شيع تمختلفة. فبديهيات الدين الإسلامي تلحظ التنوع في داخل الوحدة، ولا تعتبر التنوعات انشقاقاً وتفرقاً بل تعتبر الانشقاق والتفرق جريمة في حق الأمة وجريمة في حق الدين. فالإنسان المسلم ينبغي أن يتجرد عن أهوائه ونزعاته الذاتية والمصلحية مستوفياً في بحثه عن الحقيقة جميع شروط البحث العلمي الموضوعي، غير متهاون في شيء منها. وبهذا يكون منسجماً مع الحديث النبوي الذي أكد على أن من اجتهد فأصاب فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد.
2) كما يبدو ومن مختلف التجارب الإنسانية الحضارية، هناك ارتباط دائم بين التقدم والتطور والعمران الحضاري، ووحدة الأمة، وارتباط الانحطاط والتخلف الحضاري، بالتفرق والاختلاف المذموم. لذلك ينبغي أن نرى في وحدة الأمة ذلك المقدس الذي يرقى إلى مرتبة الأصول، ولا يجوز بأي شكل من الأشكال أن يؤثر على وحدتها وتنوعاتها الفكرية والثقافية والاجتماعية، بل تتسع لها جميعاً وتحتضنها في نطاق الاجتهاد الذي يقود فكر الجميع، والذي هو حوار مفتوح بين كل مجتهد وبين الأدلة التي بين يديه، وحوار مفتوح بين المجتهد والمجتهد الآخر، وحوار مفتوح بين المدارس الإسلامية كلها. والكل معذور بقدر إخلاقه لله في النية، وتحريه الحقيقة، واعتصامه من تأثير الهوى، وإتقانه للبحث العلمي.
العدالة من منظور ثقافي
لعل من البديهي القول أن العدالة بآفاقها المختلفة،‎وأطرها المتعددة، وعناوينها المتكاملة، تشكل روح الإسلام وجوهره. وأن جميع مفاهيم الإسلام وقيمه، قد ركزت أهدافها وغاياتها على ضوئها، ومن أجلها، وذلك في جميع أنظمة الإسلام وتشريعاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والحضارية. انطلاقاً من هذه الحقيقة، نجد أن الإسلام يحارب العنصرية، ويعتبرها مخالفة لأسس وبديهيات الإسلام. فالناس سواسية في كل شيء. وجعل معيار التفاضل أمراً كسبياً، يتمثل ويتجسد في عنوانه العام في كلمة (التقوى) إذ قال تعالى: {يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منها رجالاً كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا} (15) . ومن هنا نجد الإسلام يحذر من اتباع الهوى والشهوات، باعتبارهما نافذتين من نوافذ الابتعاد عن العدالة وتعطيلاً لحركة التفكير السليم في حياة الاسنان. وقد عبر الشاطبي في موافقاته عن ذلك بقوله: «ما جاءت الشريعة إلا لتخرج الناس عن دواعي أهوائهم». فالعدالة هي روح الإسلام وجوهره، وحينما تنتشر في أرجاء أي مجتمع، فإنها تزيل كل عوامل التأخر، وأسباب التنافر والتعصب، وتؤكد التعاون بين أبناء المجتمع الواحد في مختلف المجالات، وتعمق روح الإخاء والمواطنة الصادقة بين أبناء الوطن الواحد. والعدالة ليست دعوة أخلاقية، تتجه فقط إلى تهذيب النفوس ونقاء القلب والسيرية، بل هي خريطة عمل تمتكاملة تستوعب جميع جوانب حياة الإنسان. ففي علاقة الإنسان مع نفسه، ينبغي أن يكون عادلاً، كما علاقة الإنسان بنظيره الإنسان بحاجة إلى العدالة القائمة على المشترك الإنساني وأخلاقية التسامح وحسن الظن. فالعدالة ليست محصورة في جانب واحد، بل هي تشمل جميع الجوانب في العلاقات السرية والاجتماعية والتجارية والاقتصادية والثقافية ولاسياسية... والمجتمع الذي تسوده العدالة، هو المؤهل ذاتياً وموضوعياً، لاجتياز عقبات التخلف وتذليل صعاب الانحطاط، لأن عين أبنائه دائماً على هدف التقدم وتتطلع للبناء الحضاري. وفي إطار الحركة الثقافية بمنابرها المختلفة وأطرها المتعددة والمتوعة نفهم قيمة العدالة متجسدة في النقاط التالية:
1) إن العدالة في بُعدها الثقافي، تقتضي تكوين العلاقات وفتح الجسور وتحقيق مفهوم التعارف مع الثقافات الإنسانية المختلفة. لأنها لا تشكل الشر المطلق، أو الخطأ المحض. بل هي ثقافات إنسانية، تشكلت عبر تجربة طويلة، لذلك فإن الانغلاق عنها، يعد ظلماً لتلك الثقافة، لأنها إنجاز إنساني عام، بإمكاننا الاستفادة من عناصرها بما يخدم وضعنا وراهننا. وتكوين العلاقات والتعارف مع المدارس الفكرية والثقافية الموجودة في الساحة. ليس من أجل الدخول في حوار لاهوتي يتجه إلى الإفحام وتسجيل النقاط، وإنما من أجل تحقيق مفهوم التعارف الثقافي المتبادل، الذي هو التجسيد العملي لمفهوم العدالة في الدائرة الثقافية. فالتعارف الثقافي، لا يتحقق بمعرفة القشور والفروع والنتائج لتلك المدارس فقط. وإنما نحققه عن طريق التعمق المعرفي في أصول الثقافات الإنسانية، وفهم بنيتها الأصيلة من مصادرها المباشرة.. حتى لا نقع أسرى الاسقاطات الأيديولوجية. وينبغي أن نتذكر في هذا الإطار، أن آفة العدالة في إطار التقويم الثقافي والحضاري، هي القيام بعملية تعميم أفكارنا وإسقاط منظوماتنا العقدية على واقع ثقافي غير واقعنا، وعلى ساحة غير الساحة المتأثرة بشكل مباشر بتلك المنظومة العقدية.. لأن المجتمعات الإنسانية تتفاوت في متطلباتها وأولوياتها.. وعملية الاسقاط الأيديولوجي، تعني عدم الاعتبار بهذه الأمور، وتغييباً للبعد التاريخي ودوره في إنضاج الأفكار وبلورة الثقافات، فالعدالة الثقافية تقتضي مراعاة هذه الأمور والقضايا في تحديد المواقف، وتقويم الأفكار والثقافات.. فتتجاوز هذه الأمور يعد ظلماً‏صريحاً لمسيرة ثقافية ضخمة نختزلها في مواقف سريعة، أو كلمة غامضة، أو تصور مطلق لا يخرجنا من دائرة الفهم الضباب أو الفهم المنقوص الذي لا يصح اتخاذ موقف أو اعتباره معياراً للتقويم.
2) الرغبة الحقيقية في تطوير الذات وتوسيع آفاقها المعرفية، والاستفاد من معارف الآخرين وإنجازاتهم. والاعتقاد الجازم بأن الإنسان مهماً علا كعبه فهو لا يمتلك المعرفة المطلقة والحقيقة الخالصة. بل معرفته معرفة نسبية تغتني بالحوار والتفاعل وعدم التكبر، والتواضع للعلم والمعرفة، والتعلم تمن الآخرين، وإن كانوا أدنى منه مرتبة وحسباً. فالعلم والمعرفة ليسا صناعة فردية فقط، بل يشترك الجميع بتفاعلهم وتثاقفهم وحوارهم في صنعهما. لهذا فإن الانحباس في إطار الذات، والانغلاق على معارفها، بدعوة التميز أو امتلاك ناصية المعرفة اليقينية، ليس من العدالة في شيء. يشير إلى هذه المسألة الدكتور «الجابري» بقوله «وهذا الاعتقاد بالضلال على جميع المخالفين هو الدوغمائية بعينها، والدوغمائية موقف يغري بأنه سهل يقوم على تبسيط الأمور، والأخر بعدد قليل من المبادىء أو الأصول العامة والنظر من خلالها إلى العالم تماماً كمن يرى الغابة من خلال شجرة واحدة» (16) فليس بمقدورنا أن نجزم بموقف ما أو قناعة فكرية ما، على ضوء معلومات قليلة، لا تكفي لاصدار حكم سليم أو الوصول إلى قناعة فكرية ثابتة.
3) العدالة الثقافية تعني الحوار والثقة بالنفس واحترام الرأي الآخر. والابتعاد عن سلاح التسقيط والتخوين والتكفير. وكما قال الامام «محمد عبده» (1849ـ1905م): إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه ويحتمل الإيمان تمن وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر. «والبداية في الحوار هي احترام كل طرف لنظيره وتسليمه الضمني بأن ما لدى الأنا لا يعلو على ما لدى الآخر والعكس صحيح بالقدر نفسه.. فالحوار لا يعرف العلاقة بين الأعلى والأدنى بل يعرف العلاقة بين الأكفاء. هؤلاء الذين يعرفون أن العقل هو أعدل الأشياء توزعاً بين الناس كما قيل عن «ديكارت» الفيلسوف، وناتج الحوار هو ناتج الفعل الجدلي، تغيير نوعي في الأطراف المتحاورة، المتقابلة، المتعارضة، تغيير يجعل من نقطة النهاية مخالفة لنقطة البداية حتماً، ذلك لأن فعل الحوار نفسه كفعل الجدل، يؤلف بين عناصره المتقابلة الواقعة بين أطرافه المتعارضة ويصوغ منها ما يستوعب الأطراف كلها ويتجاوزها في آن، صانعاً بذلك بداية أخرى لحوار آخر لا يكف عن التحول والتولد» (17) . ومن متطلبات العدالة أيضاً الانفتاح على جميع الاجتهادات الثقافية والفكرية في الأمة لانتخابات أصوبها وأصلحها، والابتعاد عن الاعتبارات السوداء التي تمنع عملية الانفتاح على الاجتهادات المطروحة في الساحة. وفي إطار الانفتاح، لابد من تجاوز المحن النفسية والتاريخية والفكرية حتى نصل إلى مرحلة سامية، من الفهم العميق لمختلف مدارس الاجتهاد الفكري والتعاون البناء. وبالتالي فالعدالة الثقافية تؤدي إلى التراكم المعرفي، وتكثيف الوعي في الوسط الاجتماعي للأجواء الحيوية التي توفرها قيمة العدالة في الحقل الثقافي.
وجماع القول: هذه بعض عناوين التعدد والتنوع المتوفرة في الساحة العربية والإسلامية، وكيف أن مفهوم الوحدة الإسلامية، لا يقصي هذه الحقائق ولا يحاربها في وجودها وآفاقها الطبيعية. وإنما هو يثريها بمضامين حضارية وآفاق عالمية. فلا وحدة فعلية وصلبة بلا تنوع يثريها، ولا تنوع فعال وبناء بلا ناظم الوحدة. فالدين الإسلامي كما طالب بالوحدة واعتبرها من أهدافه العليا، كذلك حافظ على حالات التنوع والتعدد الطبيعية المتوفرة في مجاله العربي والإسلامي.
وأهم ما قام به في هذا الإطار، هو غرس مضامين إسلامية في هذه الحالات، بحيث تكون منسجمة والسياق الحضاري العام للفضاء العربي والإسلامي.
الهوامش
(1) سورة النجم آية 45.
(2) سورة الروم آية 32.
(3) سورة التغابن آية 2.
(4) سورة الحجرات آية 13.
(5) راجع مجلة الإنسان ـ فكرية فصلية ـ فرنسا، العدد الأول، فلقد استفدنا من هذا العدد في الاقتباس والاطلاع على بعض تفاصيل النظريات الثقافية.
(6) المصدر السابق. (مجلة الإنسان ـ العدد الأول).
(7) سورة آل عمران آية 66.
(8) سورة غافر آية 67.
(9) سورة الانشقاق آية 6.
(10) أوراق الحوار عدد (9) 21/12/1995م، في معنى الحوار، ورقة في مشروع الوثيقة التأسيسية للمؤتمر الدائم للحوار اللبناني.
(11) راجع الكتاب الدوري ـ قضايا وشهادات (3) ص5ـ22 شتاء 1991م.
(12) ميزان الحكمة، المحمدي الربشهري، المجلد العاشر ص522.
(13) ميزان الحكمة، المجلد العاشر ص522.
(14) مجلة الاجتهاد، بيروت، العددان العاشر والحادي عشر ـ السنة الثالثة، شتاء وربيع العام 1991م ـ 1411هـ.
(15) سورة النساء آية 1.
(16) المسألة الثقافية، د. محمد عابد الجابري ص121، سلسلة الثقافة القومية (25) مركز دراسات الوحدة العربية ـ لبنان.
(17) هوامش على دفتر التنوير ـ جابر عصفور ـ ص265، المركز الثقافي العربي ـ لبنان.