يتناول هذا البحث مسألتين: أولاهما، مفهوم التهافت للوقوف على المدلولات التي يمكن أن يحيل إليها، وثانيهما، الحكم على كتاب أبو الوليد بن رشد الموسوم بتهافت التهافت بأنه متهافت، ولا أقصد أن كل ما جاء فيه متساقط بل بعض ما جاء فيه. ذلك أنني أفهم من لفظ التهافت، أن جزءاً، أو بعض أجزاء من الشيء الموصوف بالتهافت، هو في وضع غير سليم أو متساقط، لا كله، ولايمنع هذا أن يستمر الشيء في التهافت أو التساقط ليؤول جملة إلى السقوط. لكنه في هذه الحالة، أي حين يتساقط كله لايسمى متهافتاً، إذ من شرط الشيء الذي يتهافت، أن يفحص للوقوف على ما إذا كان كله متهافتاً أم لا. وفي هذه الحالة، فإن الشيء، إذا كان متساقطاً كله، لايسمى متهافتاً، وإنما يسمى متهدماً أو منهاراً أو متحطماً، وفقاً لواقع الحال، يؤيد ذلك ما جاء في لسان العرب بأن التهافت هو التساقط قطعة قطعة.
الفرضية التي أقترحها هنا، تعتمد على أن مفهوم التهافت يفيد التبعيض، وعدم الاستغراق، وإن كان يفيد الإستمرارية، الأمر الذي يقود إلى فهم مختلف للمسألة، وبالتالي يقود إلى وجهة نظر جديدة في الحكم على كتابي أبي حامد وأبي الوليد، وعلى فكريهما، والخصومة التي أثارها ابن رشد ومازالت قائمة عند أنصاره وخصومه.
ما تفضي إليه هذه الفرضية هو أن عنوان كتاب أبي حامد الغزالي الشهير الموسوم بتهافت الفلاسفة، إنما يعني بشكل أوبآخر، أن بعض الأقوال التي يقول بها الفلاسفة، هي غير سوية أو ساقطة، لا كلها. كما يقود أيضاً إلى القول بأن القصد من تسمية كتاب أبي الوليد بن رشد تهافت التهافت، إنما يعني، من وجه أو آخر، أن بعض الآراء التي انتقد الغزالي بها الفلاسفة غير سوية أو ساقطة. لا كلها. وتبعاً لهذا، فإن عبارة تهافت التهافت تنزل ـ في تقديري ـ منزلة عبارة «تلخيص التلخيص» أو «تهذيب التهذيب»، وقس على هذا. لا اعتبارها ـ كما قد يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى ـ تشمل الفلاسفة جميعاً، أو إنهم متناقضون في كافة الآراء التي يقولون بها. أو أن القصد من تهافت التهافت، أن كل ما قاله أبو حامد في كتابه متناقض. إذا كانت هذه الفرضية صحيحة، فما هي المسوغات التي تجعلها كذلك؟! وما هو الفهم المختلف الذي سيبرز جراء ذلك، ويؤدي إلى وجهة نظر جديدة في الحكم علىالكتابين والرجلين؟! كي تنجلي هذه المسائل، وغيرها، أمامنا، لابد لنا من مراجعة بعض القضايا التي عالجها الكتابان، والإطار الذي انطلق منه كلا المفكرين ـ لاسيما في الموضوعات ذات الصلة بالإتفاق أو الإختلاف بينهما ـ وتحقيق بعض المسائل الشائكة التي ـ في تقديري ـ سببت القلق في المواقف والخصومات. وذلك من خلال طرح بعض التساؤلات والإجابة عليها.
والأسئلة المقترحة هي:
ـ ما هو إطار انتقادات الغزالي للفلاسفة، والقصد من تسمية كتابه «تهافت الفلاسفة»؟!
ـ ما هي المرجعية التي اعتمد عليها الغزالي في بناء انتقاداته، وما هي المآخذ التي يأخذها عليهم؟!
ـ ما هو إطار انتقادات ابن رشد للغزالي، والقصد من تسمية كتابه «تهافت التهافت»؟!
ـ ما هي المرجعية التي اعتمد عليها ابن رشد في بناء انتقاداته للغزالي، وما هي المآخذ التي يأخذها عليه؟!
ـ ماهو المنظار العام الذي ينظر به ابن رشد لفكر الغزالي، وهل استفاد من فكر الغزالي، وأسس بعض توجهاته على ما استفاد؟!
ـ ما هي أبرز القضايا التي يحاول ابن رشد البرهنة على أن الغزالي، مخطئ فيها وأنه متهافت؟! لاسيما قضية السببية؟!
إنها أسئلة مناسبة وستمكن من جلاء الموضوع بما يمهد للتحقيق من فرضيتنا.
ـ أما عن إطار نقد الغزالي للفلاسفة وتسمية كتابه، فإن الغزالي ينتقد الفلاسفة جملة، على ما بينهم من تفاوت، في نقاط محددة، يعرضها في تهافت الفلاسفة. ويتعلق هذا النقدـ كما قرر الغزالي ـ بتوصلهم إلى نتائج فاسدة بنوها على مقدمات صحيحة، أو بنتائج صحيحة بنوها على مقدمات فاسدة، أو ما كان فساده ناشئاً عن صورة الإستدلال ويتركز ذلك في الإلهيات. وبهذا فإن الغزالي يرمي الفلاسفة بعدم التدقيق في البرهان على الوجه الصحيح.. يقول الغزالي بأن الفلاسفة «وإن فهموه فهماً صحيحاًـ أي البرهان ـ فإنهم لم يحسنوا تطبيقه فأنتجوا معتقدات على خلاف ما ادعوه واشترطوه ويتركز ذلك في الإلهيات» (1) ، مثل توصلهم إلى القول بقدم العالم، وعدم قولهم بحشر الأجساد، وإن الله يعلم الكليات دون الجزئيات (2) ، كما يقول: «فهذا الفن ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه» (3) ولنلاحظ هنا عبارة «دون ما عداه» إذ معنى هذا أن نقد الغزالي للفلاسفة محصور وليس على إطلاقه، وفي مجال الإلهيات تحديداً، وليس في سائر الموضوعات.
أما من هم الفلاسفة ـ بحسب تقسيمه ومصطلحه ـ فهم: «الدهريين»، و«الطبيعيين»، و«الإلهيين»، ومن بين هؤلاء، سقراط، وافلاطون، وأرسطو.. ومن اتبعهم من فلاسفة الإسلام كالفارابي، وابن سينا (4) . وعلى الجملة فإن لهم من العلوم والمعارف ما هو جدير بالثناء، كالرياضيات، والمنطق، والفلك، والأخلاق التي لهم فيها باع لاينكر، وغير ذلك (5) . قد أشغل الغزالي نفسه بالوقوف على مراميهم في بعض الموضوعات من خلال «مقاصد الفلاسفة» ومن ثم تبيين ما رآه زائفاً من خلال «تهافت الفلاسفة»، ومن ثم تبيين ما هو حق من خلال «معيار العلم»، وكتبه ورسائله الأخرى، الموظفة للتنوير في الأوساط الإجتماعية المختلفة، مثل كتبه المنطقية، والكلامية، والعلمية، والأخلاقية..
ينتهي الغزالي إلى تلخيص موقفه من بعض آراء الفلاسفة في الإلهيات بقوله، «انهم يجمعون شروطاً يعلم أنها تورث اليقين لامحالة، لكنهم عند الإنتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل» (6) .
إذن فلا توجد براهين حقيقية في مجال الإلهيات عند الفلاسفة في عرف الغزالي.. الأمر الذي دعاه إلى انتقادهم، وكشف خطل المنطق في الإلهيات، بحسب ما يقدمون في أبنيتهم الميتافزيقية. ومن بين ذلك قولهم بالعقول العشرة.. فكل ذلك في حد الإمكان في عرفه، لا ضرورياً كما يزعمون، والغزالي لاينتقد الفلاسفة في غير هذا المجال، وغير عدم عملهم بعلمهم..
ومن هنا فلا نرى وجهاً للقول بأن الغزالي يعادي الفلسفة والفلاسفة، أو أنه قصد من تسمية كتابه «تهافت الفلاسفة»، أن الفلاسفة متناقضون جميعاً بإطلاق..
والصحيح أن الغزالي ينتقد بعض توجهات الفلاسفة، لكنه ليس استثناءاً في هذا، فما من فيلسوف إلا وينكر على بعض الفلاسفة بعض آرائهم.. بل أنه لا يستطيع أن يشيد موقفاً لنفسه دون هذا النقد.. لأن العملية الفلسفية برمتها معنية بمراجعة المعطى المعرفي من كافة الوجوه، وابتكار المصطلح الفلسفي الجديد..
والنقد الذي وجهه الغزالي إلى الفلاسفة هو يسير إذا ما قيس بمنجز الفكر الفلسفي عبر العصور قبل الغزالي.. يضاف إلى ذلك، أن هذا النقد ليس شاملاً كل الموضوعات في الإلهيات، لأن الغزالي يوافق على بعض النتائج التي يعتقد بها الفلاسفة، أو بعض المقدمات التي يوردونها.. لكنه لايرى أنها تلزم عن بعضها.. ومن هنا جاءت تسمية التهافت.. فهفوت الشيء يعني تساقط بعض أجزائه، نتيجة انهيار بعض الدعامات الحاملة له، لاتساقطه كله، أو انهياره، أو تهدمه.
يثبت هذا تثبيته لبعض العناوين الفرعية في التهافت، مثل قوله، «في بيان عجزهم عن إقامة الدليل على أن الله واحد وأنه لايجوز فرض اثنين» (7) ، وقوله: «في تعجيزهم عن إقامة البرهان على أن النفس الإنسانية جوهر روحاني، قائم بنفسه لايتحيز» (8) .
إن الغزالي يتبنى هاتي النتيجتين، ولكن لا عن طريق المقدمات التي أوردوها.. بل عن طريق آخر هو طريق الشرع وتطابق الحدوس مع ماجاء به.. يؤكد الغزالي هذا بقوله، «لسنا نعترض على دعاواهم كون النفس جوهراً قائماً بنفسه ببداهة العقل، ولسنا نعترض على دعواهم اعتراض من يبعد ذلك من قدرة الله تعالى، أو يرى أن الشرع جاء بنقيضه، ولكنا ننكر دعواهم دلاله مجرد العقل عليه والإستغناء عن الشرع فيه» (9) وإذا ما عدنا إلى عبارته التي تقول، فهذا الفن ونظائره هو الذي ينبغي أن يظهر فساد مذهبهم فيه دون ما عداه، وأكرر «دون ما عداه»، لوضح الأمر بأن المقصود من تسمية التهافت هو أن بعض ما جاء به الفلاسفة في نطاق الإلهيات متهافت، أي متناقض، وليس ما جاء به الفلاسفة جميعاً..
وهذا الإنكار للغزالي على الفلاسفة ليس بجديد، فابن حزم من قبله أنكر عليهم براهينهم التي يدعونها في الإلهيات، وينكر عليهم ذلك أيضاً معظم الفلاسفة المعاصرين، الذين يرفضون البراهين الميتافيزيقة جملة وتفصيلاً، فضلاً على الدهريين أو الماديين.. الأمر الذي لايجعل الغزالي منفرداً في هذه الآراء..
<f2>مرجعية الغزالي في نقد الفلاسفة
أما عن المرجعية التي اعتمد عليها الغزالي في بناء نقوده للفلاسفة، فهو يعتمد على أسس عديدة أبرزها.. الإعتماد على ما اعتمده هو في بناء فكره أي على معطى الشريعة وتطابق الحدوس معها.. وعدم مخالفة البرهان بأي حال.. وعدم انفصال النظر عن العمل.. وقد أوضحنا ذلك في كتابنا عن الغزالي (10) .. وهذه الأسس هي التي بنى الغزالي فكره جميعاً وفقها، كذلك اعتمد الغزالي على برهنته بأن العالم محدث وأنه ممكن، وليس ضروري.. وإن كان أبدع العوالم الممكنة (11) ، وعلى استدلالاته على وجود الله والنبوة.. بما يفضي إلى الإيمان بالشريعة..
إضافة إلى ذلك، فإن الغزالي يحصر نقوده للفلاسفة في ما نقله الفاراقي وابن سينا ونسبوه إلى الفلاسفة الآخرين، لاسيما أرسطو، يقول الغزالي: «المترجمون لكلام أرسطو لم ينفك كلامهم عن تحريف وتبديل محوج إلى تفسير وتأويل.. وأقومهم بالنقل والتحقيق من المتفلسفة في الإسلام الفارابي وأبو نصر وابن سينا، فتقتصر على إبطال ما اختاراه ورأياه الصحيح. فليعلم أننا مقتصرون على رد مذاهبهم بحسب نقل هذين الرجلين» (12) .
يؤكد لنا هذا النص مسائل عدة، منها، أن الغزالي يعي أن هناك تبديلاً وتحريفاً لأرسطو، الأمر الذي يوجب التفسير والتأويل.. لكنه يختصر القول لينتقد التحقيق الأقوم من غيره على الأقل، وهو ما اختاره الفارابي وابن سينا.. وهذا لايجعل ما اختاراه صحيحاً، وإن كان في نظرهما كذلك.. ونحن الآن نعلم أن هذه التحقيقات ليست صحيحة، والغزالي يدرك هذه المسألة لذلك قصر انتقاداته ضمنها.. وقد فطن إلى ذلك ابن رشد، الأمر الذي دعاه إلى تحقيق موقف أرسطو والرد به على الغزالي، فضلاً على الفارابي وابن سينا.. فلفت النظر إلى أنه كان يتوجب على الغزالي أن يحقق الأقوال، دون أن يعتمد على ما اختاره الفارابي وابنسينا.. ولكن هذا زائد على ما أوجب الغزالي على نفسه، من تبيين فساد الذي اختاراه والإقتصار على ذلك.. فلو لم يصرح الغزالي بهذا لكان ابن رشد محقاً، ولكن وهو يصرح به فلا يؤاخذ الغزالي بما لم يفعل.. وهذا يتناسب مع خطة الغزالي العامة في النقد، والقائمة على اعتمد أكثر من اسلوب فيه، فهو لايدخل على عملية النقد، «دخول مدع مثبت، وإنما دخول مطالب منكر.. ولايدافع عن مذهب مخصوص، بل يجعل اعتراضات جميع الفرق عليهم الباً واحداً» (13) وبهذا فإن الغزالي كان معنياً بالهدم لا البناء في ذات المقام، بعكس ابن رشد.. وهذا لايعني أن الغزالي لم يكن معنياً بالبناء، ولكن في مقام آخر لاحق.. أما في هذا المقام فهو مكتف بتبين فساد ما يعتقد الفلاسفة بحسب ما اختاره الفارابي وابن سينا، أنه معتقدات صحيحة، ناشئة عن براهين صحيحة، فلا يوجد في نظره أكثر من جدل، أو ظن، أو اقناع.. وقد سوغ الغزالي لنفسه، طالما أن الأمر كذلك، أن يرد بالجدل على الجدل، والإقناع على الإقناع، بل والرد الفاسد على الفاسد..
ونحن نعلم أن الفترة التي ألف فيها الغزالي «تهافت الفلاسفة»، هي الفترة الجدلية في حياته، لا الفترة البرهانية، أو الصوفية، التي لحقت بها.. والجدل كما هو معروف أسلوب مناسب في الرد على دعاوي الخصم، حين يبدأ من التسليم بأقوال الخصم، دون الإعتقاد بها، لتبيين فساد ما يترتب عليها، وليس يعني هذا أن الغزالي لم يستعمل البرهان، لكنه يعني أنه استعمل غير البرهان، وإلى جوار البرهان، ولو لم يصرح الغزالي بهذا، لكان ابن رشد محقاً في مأخذه على الغزالي في هذه النقطة.. ولكن وهو يصرح بهذا فهذا يسجل له لا عليه..
إذن فنحن أمام مرجعية متعددة الجوانب، نقد الغزالي على أساس منها بعض آراء الفلاسفة في الإلهيات، لا أمام مرجعية واحدة هي التي يعتقدها الغزالي، أو أسلوب قطعي واحد لم يقر غيره لاحقاً وهو البرهان.. وقد فعل تماماً كما قرر في بداية الكتاب ولا شيء غير ذلك..
<f2>مرجعية ابن رشد في نقد الغزالي
ننتقل الآن إلى إطار انتقادات ابن رشد للغزالي، والقصد من تسمية كتاب «تهافت التهافت».. أما عن الإطار، فإن ابن رشد يقصر نقده للغزالي على ما أورده في كتاب تهافت الفلاسفة.. وليس في كل الآراء التي أوردها، بل في بعضها.. ومعظمها مسائل منهجية.. والذي نختاره، أن ابن رشد، يعي تسمية التهافت التي أوردها الغزالي.. ويعي أنها ربما تفيد التبعيض، أو التسمية تنزل على الوزن الذي ذهبنا إليه، «تلخيص التلخيص»، أو «تهذيب التهذيب»، الأمر الذي يعني أن بعض ما انتقد الغزالي به الفلاسفة متهافت، وليس كله.. وذلك على الرغم من أن ابن رشد يقترح أحياناًوسم الكتاب كله بالتهافت..
يتطرق ابن رشد لهذه المسألة بقوله، «الغرض في هذا القول أن نبين مراتب الأقاويل المثبتة في كتاب التهافت لأبي حامد في التصديق والإقناع، وقصور أكثرها عن رتبة اليقين والبرهان» (14) ولنلاحظ هنا كلمة أكثرها.. أي ليست كلها..
كما يقول «كان أحق الأسماء بهذا الكتاب، التفريق بين الحق والتهافت من الأقاويل» (15) ، وهذا يعني أن بعض ما جاء في الكتاب حق وبعض متهافت.. كما يقول«الغرض أن نبين أن ما يحتوي عليه هذا الكتاب من الأقاويل هي أقاويل غير برهانية، وأكثرها سوفسطائية، وأعلى مراتبها الجدل، فإن الأقاويل البرهانية قليلة جداً» (16) ، وهذا ـ بشكل عام ـ لايختلف معه فيه أبو حامد بحسب ما صرح وقرر..
لكن ابن رشد يحاول أن يحسم تردده حين يقول: «هذا الكتاب أليق لفظ به «تهافت التهافت» بإطلاق، لاتهافت الفلاسفة، لأن الذي يفيد الناظر هو أنه يتهافت» (17) .
لنلاحظ أن التسمية هنا مقترحة لكتاب أبي حامد لا كتابه هو نفسه.. الأمر الذي يدعنا في تساؤل عن سبب تسمية كتابه هو بهذا الإسم.. فإذا كان ابن رشد يقصد من لفظ تهافت التهافت أن الكتاب الذي يسمى بهذا الإسم فاسد كله، فإن هذا قد ينصرف أيضاً إلى كتابه هو.. لا كتاب أبي حامد فقط.. لأنه اختار هذه التسمية لكتابه الأخير.. إذن فثمة اضطراب وتردد في التسمية، يمكن لنا أن نعزوه إلى محاولة استيعاب لفظ التهافت.. ولو افترضنا أن هذه التسمية لاتفيد التبعيض، أو عدم الإستغراق، فإن هذا لايستقيم لأسباب عدة منها:
1ـ التردد الذي لمسناه في فهم التسمية، واقتراح أن يفهم منها التبعيض مرة، والإطلاق مرة أخرى..
2ـ تأكيد ابن رشد بأن الغزالي يورد آراء برهانية صحيحة في بعض اعتراضاته، وإن كان يطالبه بإيراد البرهان، ولاشيء غير البرهان.. وهذا من تحصيل الحاصل لأنه يتفق ودعوا الغزالي، بأنه يورد آراء غير برهانية..
3ـ ثم لنتفحص هذا الحكم، حول بعض الآراء المنسوبة للفلاسفة في الإلهياتن من التي ركز عليها الغزالي في تهافت الفلاسفة، يقول ابن رشد عنها، «وهذه كلها خرافات أضعف من اقاويل المتكلمين، وهي كلها دخيلة في الفلسفة، ليست جارية على أصولهم، وكلها أقاويل لم تبلغ مرتبة الإقناع الخطبي، فضلاً عن الجدلي، ولذلك يحق ما يقول أبي حامد في غير ما موضع من كتبه، إن علومهم الإلهية هي ظنية» (18) ، أكان الغزالي يطمع في أكثر من هذا التأييد والتأمين على كلامه بأن كلام الفلاسفة في الإلهيات غير برهاني..
كذلك يقول ابن رشد: «فأبو حامد لما ظفر بوضع فاسد ها هنا منسوب إلى الفلاسفة، ولم يجد مجاوباً يجاوبه بجواب صحيح، سر بذلك، وكثر المحاولات اللازمة لهم» (19) ، ويقول أيضاً «بحق صارت العلوم الإلهي لما حشيت بهذه الأقاويل أكثرها ظنية من صناعة الفقه» (20) .
إن ابن رشد في ضوء هذه الآراء يوافق، ولو بشكل عام، على أن ما أورده الغزالي من اعتراضات على ما ينسب للفلاسفة في الإلهيات هو حق، ولم يقصد الغزالي أكث رمن هذا بل أقل منه..
من هنا نرى ابن رشد، حين يفطن إلى هذا، يحاول أن يتغلغل في نية الغزالي ومقاصده غير المعلنة.. يقول ابن رشد: «فإذا كان الرجل قصد قول الحق في هذه الأشياء فغلط، فهو معذور وإن كان علم التمويه فيها فقصده، فإنه لم يكن هناك ضرورة داعية، فهو غير معذور، وإن كان إنما قصد بهذا ليعرف، أنه ليس عنده قول برهاني يعتمد عليه في هذه المسألة.. فهو صادق في ذلك. وهذا هو الظاهر من حالة فيمابعد، وسبب ذلك أنه لم ينظر الرجل إلا في كتب ابن سينا، فلحقه القصور في الحكمة من هذه الجهة» (21) .
إذن فثمة شكوك وتأويلات يعيها ابن رشد، وتقود إلى التساؤل، فالتردد، فالتبرير، لاسيما حين يذكر: «الرجل يجل عندنا من هذين الوصفين، (إما الفهم والتغاضي، وإما عدم الفهم والغفلة) ولكن لابد للجواد م كبوة، فكبوة أبي حامد وضعه لهذا الكتاب، ولعله اضطر إلى ذلك من أجل أهل زمانه» (22) إلى أن ينتهي ابن رشد إلى القول: «كان واجباً عليه أن يبتدئ بتقرير الحق قبل أن يبتديء بما يوجب حيرة الناظرين وتشككهم.. والظاهر من كتبه المنسوبة إليه أنه رجع في العلوم الإلهية إلى مذهب الفلاسفة، ومن أبينها في ذلك، وأصحها ثبوتاً له، كتابه المسمى بمشكاة الأنوار» (23) .
ونحن نوافق على هذا بتحفظ، وندعي أن الغزالي لم يلتزم الترتيب الذي اقترحه ابن رشد فقط.. من حيث أنه لم يبدأ بتقرير الحق وإنما ابتدأ بالتنبيه على الباطل، أي أنه أورد الشكوك وأبطل بعض الحجج أولاً، وأثناء الفترة الجدلية في حياته، أي قبل الفترة الشكية وقبل وصوله إلى اليقين، لأنه قد أخذ بالبناء فيما بعد وقرر معتقداته تماماً إذا فأين هي المشكلة الرشدية، لاسيّما وهو يقرر، أن الغزالي قد رجع في العلوم الإلهية إلى مذاهب الفلاسفة!.. وهذا ما لانقره على إطلاقه لأه الغزالي قدأخذ ببناء آرائه في ضوء ما انتهى إليه من اعتماد البرهان والشريعة، وعد انفكاك العلم عن العمل. لا أنه أخذ باقوال الفلاسفة أو رجع إليها دون تمحيص..
كذلك فإن الأسلوب الذي اتبعه الغزالي في رأينا هو أسلوب فلسفي صحيح، في ضوء انتشار المعتقدات الزائفة لاسيّما وإنه لم يبق عند هذا الحد، وإنما أعطى البدائل.. فلو وقف عند الحد الأول، دون ما عداه، لكان شكاكاً.. لكنه استعمل الشك مقدمة لليقين، وهذا ما قرره حين يقول «من لم يشك لم ينظر، ومن لم ينظر لم يبصر، ومن لم يبصر بقي في العمى والضلال» (24) .
ومع ذلك فإن ابن رشد يقرر أن بعضاً مما جاء في تهافت الفلاسفة هو صحيح، أو جيد، أو لااختلاف فيه، جنباً إلى جنب مع الآراء المضادة، حين يعقف على رأي الغزالي مسألة مسألة، كما سنورد في ملحق هذه الدراسة (25) .. الأمر الذي يجعله موافقاً له في كثير مما يقول.. وبالتالي لايكون الغزالي متهافتاً في جميع ما يقول.. وهذا يقود في المحصلة، إلى أن بعض ما جاء في تهافت الفلاسفة ساقط، لا كله. الأمر الذي يعزز ما ذهبنا إليه.. ويعزز أن القصد من تسمية كتاب تهافت التهافت، أن بعض ما جاء في التهافت فاسداً لا كله، وإلا فإن ابن رشد يكون متناقضاً مع نفسه..
ننتقل الآن إلى المرجعية التي يعتمد عليها ابن رشد في بناء نقوده الأساسية للغزالي، فما هي هذه المرجعية؟!
أولاًـ يعتمد ابن رشد أولاً على رأي أرسطو باعتباره المحقق لأعماله وشارحها.. ولعل قيام ابن رشد بهذا التحقيق، قد تم بإيحاء من الغزالي حين ذكر، بأن رأي أرسطو يحتاج إلى تفسير وتأويل، كما مر معنا، أو بإيحاء من ابن حزم الذي تنبه إلى ذلك أيضاً (26) .. كذلك يعتمد على أرسطو باعتباره الفيلسوف الحقيقي الذي يجب أن تعتمد آراءه دون غيره.. وهذا في مجمله دفاع عن أطروحة المعلم الأول بإزاء من شوهوا آرائه.. او تأولوها أو فسروها أو أضافوا إليها بحسب أهوائهم..
ثانياًـ كما يعتمد ابن رشد على نظرية قدم العالم، وأنه ضروري ووحيد وخير، استناداً إلى التلازم الضروري بين الأسباب والمسببات من كافة الوجوه..
ثالثاًـ كذلك يعتمد ابن رشد على تحييد وإخراج آراء الدهريين والسوفسطائية، ومن ثم آراء الفارابي وابن سينا، باعتبار أنهم ليسوا فلاسفة حقيقيين.. وبالتالي فإن نقدهم لايعتبر نقداً للفلاسفة.. ويؤكد في أكثر من موضع أنه لاقيمة للآراء التي يقولون بها والتي وردت في التهافت.. لأن القائلين بها إما دهريين، أي ملاحدة، او منكرين للحقائق، أي سوفسطائيين.. أما آراء الفارابي وابن سينا فينسبها إلى الهجنة، لأنها لاتعبر عن آراء الفلاسفة الحقيقيين، وإنها مخلوطة بغير ذلك.. وهذا صحيح، وهذا مما أراد الغزالي إثباته..
إن هذا يقود إلى أن ابن رشد يشاطر الغزالي آرائه بإزاء هؤلاء على الأقل، وإن كان يأخذ عليه الرد عليهم بأسلوب غير الأسلوب البرهاني.. وعدم تحقيق أرسطو أو الإعتماد عليه..
رابعاًـ ويعتمد ابن رشد أخيراً علىأن الشرائع لاتؤخذ بالبرهان، وإنما يؤخذ بها مصلحة بل وبالتقليد يقول ابن رشد: «يجب على كل إنسان أن يسلم مبادئ الشريعة وأن يقلده فيها مبطل لوجود الإنسان ولذلك وجب قتل الزنادقة حتماً» (27) .
يستفاد في ضوء ما سلف أن الرجلين يعملان في حقلين مختلفين.. فالفلاسفة عند الغزالي هم غير الفلاسفة عند ابن رشد.. واسلوب المعالجة عند الغزالي هو غيره عند ابن رشد.. والمعتقدات الأساسية لكلا الرجلين في النظرة إلى الدين، والعالم، والنظر إلى السببية، على الأقل، مختلفة.. فالعالم عند الغزالي ممكن ومحدث، وعند ابن رشد ضروري وقديم، والسببية عند الغزالي غير ضرورية على المستوى المنطقي، وإن كانت ضرورية على المستوى الواقعي، وعند ابن رشد تكون ضرورية على المستوى المنطقي والمستوا الواقعي معاً.. والحقيقة فإنالنقد الرشدي للغزالي تتركز محاوره حول هذا الخلاف، وكل ما خلا ذلك فهو تفاريع ناشئة عن هذا الخلاف.. والخلاف يعود، بهذا الشكل، في مجمله، إلى الإستناد إلى عقلانيتين مختلفتين الأمر الذي لايسوغ كل ما انتقد به ابن رشد الغزالي ويجعل من بعض هذا النقد نقداً في غير محله.. أو متهافتاً. وتهافت «تهافت التهافت» ـ على الأقل ـ واضح في المسائل التالية:
1ـ في مؤاخذة الغزالي على نقده لآراء الفلاسفة التي اختارها الفارابي وابن سينا.
2ـ في مؤاخذة الغزالي على عدم تنحية آراء الدهريين والطبيعيين والسوفسطائيين، ومطالبته بالإقتصار على آراء أرسطو.
3ـ في مؤاخذة الغزالي على استعماله الأساليب غير البرهانية في مقارعة الأساليب غير البرهانية.. لاسيّما الجدل، والهوين على شأنه..
4ـ تردده في أحكامه على شخصية الغزالي، وقيمة كتابه.
5ـ معارضة الغزالي في كثير من المواضع، وانتهائه إلى النتائج التي وصل إليها الغزالي، والتأمين على ما جاء فيها..
6ـ اعتقاده أن الغزالي ينكر السببية، وسنعالج هذه المسألة بالتفصيل لاحقاً.
وغير هذا كثير!.. لكننا نكتفي بهذا القدر هنا..
أما عن المنظار العام الذي ينظر به ابن رشد إلى فكر الغزالي فهو إيجابي في جملته.. وفي تقديري أنه استفاد منه وأسس عليه بعض توجهاته، على الرغم من الخلاف المحصور أساساً في بعض ما جاء بكتاب تهافت الفلاسفة من آراء.. فكثيراً ما يستفيد ابن رشد من آراء الغزالي لاسيما، في تقسيم مراتب الناس، ومراتب المعرفة، والأخذ بسياسة العلم، والبدء بتقرير الظاهر قبل الباطن، وعدم إقرار التأويل المخالف للظاهر، وأن الأقيسة الفقهية ظنية دون البرهانية، والتسليم بأن الطريق الصوفي حق وغير قابل للتعميم.. إلخ.. ولاننسى أن اهتمام ابن رشد بفكر الغزالي هو الذي دفعه إلى نقده، وحتى إلى اختصار بعض مؤلفاته كالمستصفى..
إن بيان هذا الأمر لجدير بدراسة شاملة تبين مقدار ما ترك فكر الغزالي في فكر ابن رشد.. غير أننا نكتفي هنا بإيراد ما يختلفان فيه. آملين أن يتم التصدي لهذا الموضوع بدراسة خاصة.
<f2>قضية السببية عند الغزالي:
أما عن أبرز القضايا التي يخالف فيها ابن رشد الغزالي فيكفي أن نعالج في هذا المبحث قضية السببية، وهي قضية إشكالية مركبة ومعقدة، وذات اتصال بقضايا خلافية أخرى منها، القول بقدم العالم أو حدوثه، ضرورته أو إمكانه، وما يتفرع عنها من تفريعات..
ولما كنت قد عالجت مسألة السببية عند الغزالي من خلال كتابي، «مسألة المعرفة والمنهج عند الغزالي»، موضوع أطروحتي للدكتوراه، وبينت موقف الغزالي منها، ونقده الشهير لها، فكم كانت دهشتي كبيرة عندما توصلت من خلال فحص نصوص الغزالي حولها، أن الغزالي على عكس ما أشيع، وأسهم فيه ابن رشد، لاينكر السببية.. الأمر الذي دفع بي إلى تقصي آراء الغزالي في السببية، ومقابلتها ببعض تعلقيات ابن رشد، الأمر الذي أدى إلى بلورة نظرية الغزالي في السببية، على أساس من الإقرار بها، ولكن على نحو مختلف عن إقرار ابن رشد لها..
وكم كنت أتمنى أن أنطلق في بحث هذا الموضوع مجدداً، من خلال الوقوف على نص لابن رشد يتحدث فيه صراحة عن أن الغزالي شخصياً ينكر السببية، كي أنطلق منه في إعادة بناء المسائل المتصلة بالسببية، عند كليهمان إلا أنني لم أعثر على هذا النص الصريح، على الأقل، لا في التهافت، ولا فصل المقال، ولا في مناهج الأدلة.. الأمر الذي جعلني أعتمد على نصوص وردت في هذه الكتب تتهم الأشعرية بإنكار السببية!.. وهذه النصوص تشمل الغزالي باعتباره أشعرياً.. مع أن الغزالي يخالف الأشعرية في كثير من مواقفهم، وهو يصرح بهذه المخالفة لحساب مواقف أخرى.. يقول ابن رشد «كثير من الأصول التي بنت عليها الأشعرية معارفها هي سوفسطائية، فإنها تجحد كثيراً من الضروريات مثل ثبوت الإعراض، وإنكار تأثير الأشياء بعضها ببعض، ووجود الأسباب الضرورية للمسببات» (28) .
ويقول أيضاً: «وقولهم أن الله تعالى أجرى العادة بهذه الأسباب، أنه ليس لها تأثير في المسببات بإذنه، قول بعيد جداً عن مقتضى الحكمة بل هو مبطل لها» (29) ومن هنا فإنني سأعتمد على أن ابن رشد يصنف الغزالي باعتباره أشعرياً، منكراً للسببية، ولما كان الغزالي هو صاحب تهافت الفلاسفة، الكتاب الذي أسس ابن رشد نقوده عليه في حقل السببية، فهو المعني أساساً لنقد ابن رشد..
أما عن موقف ابن رشد من السببية فهو معروف وواضح حين يقول: «إذا لم يكن ها هنا نظام ولا ترتيب لم يكن هنا دلالة على أن لهذه الموجودات فاعلاً مريداً عالماً، لأن الترتيب والنظام، وبناء المسببات على الأسباب، هو الذي يدل على أنها صدعت عن علم وحكمة» (30) .
وكما يقول: «أن الله تبارك وتعالى أوجد موجودات بأسباب سخرها لها من خارج، وهي الأجسام السماوية، وبأسباب أوجدها في ذوات تلك الموجودات وهي النفوس والقوى الطبيعية، حتى انخفض بذلك وجود الموجودات وتمت الحكمة» (31) .
كما يقول: «وأما نحن فنقول أنه واجب أن يكون هنا ترتيب ونظام ولايمكن أن يوجد أتقن منه ولا أتم» (32) كما يقول: «الحكمة ليست شيئاً أكثر من معرفة أسباب الشيء».
تفيدنا هذه النصوص، إضافة إلى إفادتها أن ابن رشد يعتقد بالسببية، ما يلي:
1ـ أن ابن رشد يعتمد على فكرة السببية في استنتاج أن للعالم فاعلاً مريداً عالماً.. وهي ضرورية لإثبات وجود الله..
2ـ أن الله تعالى قد سخر اسباب من خارج وأخرى من داخل الموجودات انحفظ بها وجود الموجودات وتمت بها الحكمة.
3ـ أن هذا الترتيب في العالم لايوجد أتقن منه ولا أتم، وهو الضروري الوحيد، ولايمكن أن توجد عوالم أخرى غيره.
4ـ فإذا ما أضفنا إلى هذا اعتقاد ابن رشد بأن العالم القديم، وأنه ليس محدثاً، على مقتضى الحدوث الذي يقول به المتكلمون أوالظاهرية أو الأشاعرة، فإننا نكون قد خلصنا إلى لب المسائل الخلافية بين الموقفين..
قبل أن نورد رأي الغزالي في ههذه المسائل، يهمنا أن نبين أن مسألة السببية عند الغزالي تعود في اصلها إلى معالجة مشكلة الإستقراء العلمي، الأمر الذي يجعل المسألة في سياقها الصحيح، ويجعل من معالجة الغزالي لها معالجة ذات أصول علمية صحيحة، يقول الغزالي عن المجربات.
«هي أمور وقع التصديق بها من الحس بمعاونة قياس خفي.. وتكرر ذلك على الذكر، فتأكد منه عقد قوي لايشك فيه.. وإذا اجتمع هذا الإحساس متكرراً، مرة بعد أخرى، ولا ينضبط عدد المرات، كما لا ينضبط عدد المخبرين في التواتر، فإن كل واقعة ههنا مثل شاهد مخبر، وانضم إليه القياس الذي ذكرنا، أذعنت النفس للتصديق» (33) .
ويعرف الغزالي الاستقراء التجريبي بقوله: «الاستقراء هو أن تتصفح جزئيات كثيرة داخلة تحت معنى كلي، حتى إذا وجدت حكماً في تلك الجزئيات حكمت على ذلك الكلي به» (34) .
من هنا فإن الاقتران المشاهد إذا تكرر فهو يثير الظن، حتى ينقلب يقيناً بالتدريج من خلال كثرة شواهد، ويتأدى الأمر إلى قياس خفي، هو الحدث عند الغزالي، الذي بوجبه يتم تعميم الحكم. ومن خلال هذا التعميم يتم الاعتقاد بالنسببية. لكنه لا يوجد ضرورة منطقية في هذا الأمر تلزم بأن لا يكون الأمر على غير هذا النحو.
ومع أن الغزالي لم يفرد للسببية بحثاً خاصاً، إلا أنه تناولها في العديد من مؤلفاته ليسلّط الضوء عليها من زوايا عديدة، كي لا يساء فهم موقفه منها، لاسيما في التهافت، ليردّ على الدعوى القائلة بأن السببية ضرورة منطقية وليست في حد الإمكان، وأنه، «ليس في المقدور ولا في الإمكان إيجاد السبب دون المسبب ولا وجود المسبب دون السبب» (35) ، ومع ذلك فإن سوء الفهم قد حصل، مما اثار لبساً في موقف الغزالي بإزائها، ودفع بكثير من الدارسين لانتقاد الغزالي حيالها. وأساس هذه الانتقادات هو انتقاد ابن رشد المشهور في «تهافت التهافت».
وحتى نجلو هذه المسألة لابد لنا من التنبيه على أن أصل معالجة السببية عند الغزالي يعودإلى عاملين: الأول: أن القطع بها ينشأ عن الاستقراء العلمي ذاته، أي حين ينعقد القياس الخفيّ بتكرر التجربة دوراً بعد دور. وفي هذه الحالة، وعلى مستوى معين. فإن السببية نظام مطرد في العالم لا يسعنا سوى الإقرار به، على مستوى العادة الواقعية.
ويوضح الغزالي ذلك بقوله:
«إن العقل قد ناله بعد التكرر على الحس بواسطة «قياس خفي» ارتسم فيه ولم يشعر بذلك القياس لأنه لم يلتفت إليه. ولم يشغله بلفظ، وكأن العقل يقول لو لم يكن هذا السبب يقتضيه لما اطرد في الأكثر، ولو كان بالاتفاق لاختلف، وهذا الآن يحرك قطباً عظيماً في معنى تلازم الأسباب والمسببات التي يعبر عنها باطراد العادات، وقد نبهنا على غوره في كتاب تهافت الفلاسفة» (36) .
إذن فعلى هذا المستوى العلمي التجريبي فالسببية قائمة ويعقدها «القياس الخفي»: لذا يؤمن الغزالي على قول القائل بأن «كل منفعل فعن فاعل وكل متسخن ومتبرد فعن مسخن ومبرد، بحكم العادة المطردة عند أهل الحق» (37) بل وان يقرر أن «الشك في موت من جزت رقبته وسواس مجرد، وأن اعتقاد موته يقين لا يستراب فيه» (38) ، يطرد ذلك على كل ما أوجبته القدرة الإلهية من تمكين الطبائع من مطبعاتها، يقول الغزالي: «كتب الله تعالى في كتابه السابق، وقضى بقضائه المحتم، بأن يمكن الطبائع من مطبعاتها، فالنار متى تمكنت من القطن أحرقته ضرورة» (39) ، ومن هنا يجب الاعتقاد بأن «العالم على نظام وترتيب، يترتب بعض على بعض، وهذا نعلمه ضرورة، ولا يُنكر» (40) ، إذن فالغزالي لا ينكر السببية كما يدعي ابن رشد، أو على الأقل ما يفهم من انتقاداته.
إلا أن الاعتقاد بالسببية هنا لا يعود إلى شيء في العلّة يوجب المعلول دون سبب آخر، فكل ما نشاهده انهما مخلوقان على التساوق، وأن في المقدور خلق الشبع دون الأكل وخلق الموت دون حز الرقبة (41) . ولو حاولنا تتبع الدليل، الذي يقدمه من يرد الأسباب لطبيعة في العلة تستدعي حصول المعلول، لوجدنا أن لا دليل لهم إلى المشاهدة «والمشاهدة تدل على الحصول عندها، ولا تدل على الحصول بها وأنه لا علة سواها.. إن الوجود عند الشيء لا يدل على أنه موجود به» (42) .
هذا الموقف في مجمله صادر عن الإقرار بالسببية حين ينعقد فيها «القياس الخفي» استناداً إلى المشاهدات والتجارب، ومن هنا فلا وجه للقول بأن الغزالي ينكر السببية على هذا المستوى العلمي الواقعي، يؤكد هذا قوله: «المسبب يتلو السبب لا محالة مهما تمت شروط السبب، وكل ذلك بتدبير مسبب السباب وتسخيره وترتيبه بحكم حكمته وكمال قدرته» (42) .
يؤكد الغزالي هذا، أيضاً، من خلال رده على من يستنكر هذا الموقف منه، المخالف لموقف المتكلمين وربما من بينهم الأشاعرة، حين يقول «فإن قال قائل، فكيف تعتقدون هذا يقيناً والمتكلمون شكوا فيه وقالوا، ليس الجز سبباً للموت، ولا الأكل سبباً للشبع، ولا النار علّة للإحراق، قلنا، قد نبهنا على غور هذا الفصل وحقيقته في كتاب تهافت الفلاسفة، وما النظر في أنه هل هو لزوم ضروري، ليس في الإمكان تغييره، أم هو قائم بجريان سنّة الله تعالى لنفوذ مشيئته الأزلية التي لا تحتمل التبديل والتغيير، فهو نظر في وجه الاقتران لا في نفس الاقتران فليفهم هذا» (43) .
بيد أن الغزالي لم يتوقف عند هذا الجانب، ولم ينفض يده من الموضوع. بل مضى يتعمق المشكلة التي تثيرها المعالجة الشاملة بإدخال اعتبارات أخرى في الموضوع. مما يبرز العامل الثاني:
الثاني: هو عامل مهم في هذه الاعتبارات، وتتداعى منه بدوره سلسلة من الاعتبارات «لاثبات المعجزات، ولأمر آخر هو نصرة ما أطبق المسلمون عليه من أن الله تعالى قادر على كل شيء» (45) .
إذن فالوقوف عند حد إقرار المستوى الأول ورفض ما عداه، له خطورته في الاعتقاد بقدرة الله وصحة الشريعة، ويؤدي إلى القول بقدم العالم... الخ. وهذا ما دعا الفلاسفة الذين وقفوا عند هذا المستوى ـ كما يذكر الغزالي ـ إلى إنكار المعجزات وبالتالي قدرة الله على أي شيء. يقول: «أنكر الفلاسفة إمكانه وادّعوا استحالته» (46) لأن القول بسنن ثابتة مطّردة لا تتبدّل ولا تتحوّل ضرورة، عن طبع (47) ، يصطدم مع إمكان المعجزات ويؤدي إلى «أن تطرد السببية ايضاً وتتكرر إلى غير نهاية، وأن يبقى هذا النظام الموجود في العالم من التولّد والتوالد إلى غير نهاية» (48) .
يقول الغزالي معلقاً على من يقول بالتلازم الضروري المطلق بين الأسباب والمسببات، «إن هذا استمداد من مسألة قدم العالم وأن المشيئة قديمة. وهذه المسألة كيفما دارت تنبني على مسألتين، أحدهمنا حدوث العالم. والثانية خرق العادات بخلق المسببات دون الأسباب، أو إحداث أسباب على منهج آخر غير معتاد» (49) .
من هنا فإن القضية تتعلق بالايمان لديني وما يستند إليه الدين مثل الاعتقاد بحدوث العالم، مما يستدعي الأمر معه أن يعالج الإشكال معالجة أوفى. ولما كان الغزالي قد آمن بالله استناداً إلى فكرة حدوث العالم، والرسل والشريعة، على أسس اعتبرها برهانية، وأخذ بالمعجزات كدليل صدق على ما جاءوا به، فلا مناص له من أن يجد حلاً لما يبدو من تعارض بين القول بالسببية والقول بالمعجزات في آن واحد.
والحل لهذه المسألة في نظر الغزالي، ـ كما هو الشأن لدى كل المؤمنين بالشريعة ـ يكمن في اعادة المسألة على قدرة الله تعالى، فالسببية لا تخرج عن كونها السنّة التي وضعها الله في الطبيعة، «فإن كل ذلك مستمر بجريان سنة الله تعالى» (50) ، لكن السؤال الذي يطرح هنا، هل تقيد هذه السنة الالهية إرادة الله تعالى في أن يفعل أو لا يفعل ما يشاء تحقيقاً لوصفه بالقدرة على كل شيء؟!.
أم أن من شأن سنته أيضاً أن تكون دورية لا قائمة على التكرار والدوام فحسب، «فلا يبعد أن يختلف منهاج الأمور في كل ألف سنة مثلاً، ولكن يكون ذلك التبدل أيضاً دائماً أبداً على سنن واحد، فإن سنة الله تعالى لا تبديل فيها» (51) ويضرب الغزالي مثلاً لهذا التبدل بقوله «فإن جوزتم استمرار التوالد والتناسل بالطريق المشاهد الآن، أو عَوْدَ هذا المنهاج ولو بعد زمان طويل على سبيل التكرار والدوام فقد رفعتهم القيامة والآخرة» (52) . هكذا، إذا فهمت سنّة الله التي لا تبديل فيها على النحو الذي يلزم بأنها ضرورية على النحو المشاهد، فإن ذلك يؤدي إلى القول بقدم العالم وأزليته، وبالتالي لا يعود للمشيئة الالهية من دور تلعبه وبالتالي فإنه لا معاد جسماني، ولا قيامة ولا آخرة، لكن سنة الله لا تعني إلا أن الفعل الإلهي يصدر عن المشيئة، «والمشيئة الإلهياة ليست متعددة الجهة حتى يختلف نظامها باختلاف جهاتها، فيكون الصادر منها كيفما كان منتظماً انتظاماً يجمع الأول والآخر على نسق واحد، كما تراه في سائر السباب والمسببات» (53) . فإن من شأنها أيضاً أن توجد أنظمة أخرى وعوالم أخرى وتبقى مع ذلك متسقة. ومع هذا، ما لم يتبين لنا بالعلم الذي خلقه الله فينا أنه رفع الأسباب والمسببات، تبقى سنة الله تعالى مطردة، «بأن لا يقلب القلم في يده حية، ولا يقلب السنور أسداً، وإن كان قادراً عليه» (54) .
إذن فالغزالي يرى ان الله يفعل ما يشاء، وكيف شاء، ومتى شاء، وعلى الوجه الذي يختار، وليس يلزمه أي فعل. وهو قد اختار أن يجري الطبائع على طبيعتها. لكنه اختار أيضاً أن يؤيد رسله في دعاواهم بما هو معجز، ولا يقدر على المعجزة غيره، مما يلزم حين ترافق المعجزات دعاواهم أن يتمّ تصديقهم ضرورة، وهو قد فعل ذلك، ولكنه لا يفعله إلا حين يخلق لنا علماً بأنه فعله، «فإذا وجدنا من أنفسنا علماً ضرورياً بأنه لم ينقلب العصا ثعباناً ولا الجبل ذهباً. قطعنا بأن الله تعالى لم يخرق العادة وإن كان قادراً عليها». «فإن خرق الله العادة. انسلت هذه العلوم عن القلوب ولم يخلقها» (55) . وبهذا فإنه، «لا خلاف في قدرة الله تعالى على قلب العصا ثعباناً، وخرق العادة لتصديق النبي (ص)، ومع ذلك، إذا أخذنا العصا في زماننا لم نخف معه انقلابها ثعباناً ثقة بالعادات في زماننا» (56) . إن هذا يؤكد السببية في العالم على المستوى العلمي ويؤكد إمكان رفعها على مستوى القدرة الإلهية، فالمعجز، «إنما يكون مخالف للمعهود إذا أتي بالمسبب منفكاً عن سببه العادي الذي لا ينشأ إلا عنه، وإلا لم يكن معجزاً» (57) .
واستثناء المعجزات من جريان العادة له أكثر من مبرر عند الغزالي، من ذلك غثبات نفي العجز على القدرة الإلهية حيث يقول: «دليل صدقه [أي الرسول صلى الله عليه وسلم] دلالة المعجزة على صدقه مع استحالة إظهار المعجزة على أيدي الكاذبين، لأن ذلك لو كان ممكناً لعجز الباري عن تصديق رسله، والعجز عليه محال» (58) . نخلص من هذا إلى أنه لابد من إقرار المعجزات وإلا انهار الاعتقاد الديني بجملته لاسيما حين تكون المعجزة دليلاً يؤكد به الله تعالى صدق رسله (59) .
من هنا تعمق الغزالي في مشكلة السببية لبحثها في ذاتها، متلمساً فيما إذا كان الاعتقاد بها يشكل مخالفة منطقية، أو أن هذه المخالفة تبقى على مستوى الواقع العملي فحسب. إن كل ما نعهده عن السببية أنها ليست في حد الواجب أو المحال، «بل هي ممكنة، يجوز أن تقع ويجوز أن لا تقع، واستمرار العادة بها مرة بعد أخرى يرسخ في أذهاننا جريانها وفق العادة الماضية ترسيخاً لا تنفك عنه» (60) ان هذا يعيد مسألة العادة إلى قدرتنا في الحكم على السببية، لا كما فعل ابن رشد.
ومعنى هذا أننا أمام موقف الاستقراء والاحتمال الذي ترسخ عبر التجربة بأن تكون الأشياء على وفق ما جربناه منها.
وبهذا فإن منشأ السببية في اعتقادنا يعود إلى استمرار العادة بها، لا لأنها ضرورية مطلقة (61) ، ولا يترتب على خلاف هذه العادة قيام مخالفة منطقية، وإن كان يترتب على ذلك قيام مخالفة معرفية على مستوى ما.
ولو أننا أخذنا بأن جريان العادة يشكل موقفاً ضرورياً. لبدا لنا أن هذه العادة من خلال شواهد عديدة من الممكن أن تنفك، حتى من غير معجزة، ولا يعتبر خرق ذلك مضاداً لتصورنا المنطقي. ويضرب الغزالي مثلاً لذلك بأن كثيراً من الحيوانات تحرك فكها الأسفل عند المضع، في حين أن التمساح يشذ عن هذا حين يحرك فكه الأعلى. وبذلك فما من ضرورة منطقية تلزمنا بأن نسحب على الحالات التي اطرد فيها تحريك الفك الأسفل على الحالات التي لم نشاهدها، ومن بينها حالة التمساح، وأن نسحب على ما لم نشاهد من حالات ما سحبناه على ما شاهدناه منها. بل إن علينا أن نقر بما نشاهده. والمعجزة في هذه الحالة ـ قياساً على تحكيم المشاهدة ـ مما شود وبلغنا تواتراً وعليه فلا يترتب على الاعتقاد بها إنكار السببية على المستوى الواقعي أيضاً.
ومع ذلك فإن الاقتران الذي نشاهده في الأشياء، وإن بقي «اقتراناً في نفسه»، فإننا حين نبحث في الوجه الذي ينشىء هذا الاقتران فإننا نبحث في مستوى آخر. نبحث في تكييف المسألة وليس في وصفها، ومن هنا استعمل الغزالي عبتارتي «نفس الاقتران» و«وجه الاقتران»، فالبحث في الاقتران نفسه يقود إلى الاعتقاد بتلازم الأسباب والمسببات بحكم جريان العادة بذلك.
أما البحث في وجه الاقتران فإنه ينقلنا إلى مستوى آخر من البحث نتقصى فيه الوجه الذي نكيّف به المسألة. وعلى هذا المستوى، فإن السبببية ليست قائمة بنفسها، وإن كانت ضرورية في نفسها، وإنما تقوم بموجب إرادة تقيمها، وإذا لم نكن قد وقفنا على هذه الإرادة مباشرة إلا أنه بالوسع استنتاجها على الرغم من وضوحها وملازمتها للسببية (62) .
ويضرب الغزالي مثلاً على هذا النوع من الاستنتاج الواضح فيرى أن هذا الحال يشبه رؤية الأشياء أمامنا، حيث نعتقد مباشرة بأن فتح العينين ووجود الأشياء قبالتها هو السبب الوحيد في رؤيتنا لها. غافلين عن دور أي شيء آخر. في حين، عندما يتلاشى الضوء بسبب غياب الشمس، لا نعود نرى الأشياء كما كنا نراها، مما يجعل من غياب الضوء سبباً ـ لم يكن لشدة ظهوره متفطناً أو مستوعباً كفاية ـ اساساً في جعل الرؤية ممكنة على وجهها الصحيح. وهكذا هو دور الإرادة الإلهية، فالإرادة هي التي تجري تلازم الأسباب والمسببات ولشدة ظهورها لا يتم التفطن لها، فإذا ما ارتفعت الإرادة لا يعود من ضرورة لتلازم الأسباب بالمسببات، تماماً مثلما يعني غياب الضوء غياب الرؤية، وفي هذه الحالة، أي حين ارتفاع الإرادة، من الممكن أن يلاقي القطن ناراً ولا يحترق، «فهذه عندنا مقترنات، وليست مؤثرات، ولكن اقتران بعضها يتكرر بالعادة» (63) . ولذا يقول الغزالي: «سبحان من اختفى عن الخلق لشدة ظهوره». إن هذا يشبه علاقة النفس بالجسم، فإذا ارتفعت النفس لا يتمكن الجسد من القيام بنفسه. لذا يقرر العزالي «أن مسبب الأسباب أجرى سنته بربط المسببات بالأسباب إظهاراً للحكمة» (64) .
إن هذا لا يمنع من الاعتقاد بالسببية كجريان عادة، على الرغم من حصول بعض الوقائع الطبيعية التي تدفع هذا الاعتقاد أحياناً.. فأحياناً «جوز أن يعرض في المحل أمر يدفع السبب، ولا يدل ذلك على بطلان السببية، فرب دواء لا ينفع، ورب ضرب لا يدرك المضروب ألمه لكونه مشغول النفس بشيء آخر. فكذلك قد يكون في سريرة شخص وباطنه أخلاق رضية وخصال محمودة عند الله تعالى مرضية توجب العفو عن جريمته، ولا يوجب ذلك خروج الجريمة عن كونها سبب العقاب» (65) . فهذا ـ كما نقدر ـ مما يكيف على أنه «اقتران في نفسه».
إذن فالسببية في ذاتها أو «الاقتران في نفسه» موضوعي، ويجب الاعتقاد به. بيد أن ذلك لا يمنع من الاعتقاد بأن عاملاً له الفاعلية في هذا الاقتران وهو هنا إرادة الله التي شاءت أن تخرق هذا النظام بالكيفية التي شاءت. وفي هذه الحالة فنحن نعالج «وجه الاقتران» لا الاقتران ذاته. وبذلك ننتقل إلى مستوى التكييف للمسألة. وهذا ما يوضحه الغزالي بقوله: «إن النظر في أنه هل هو لزوم تضروري ليس في الإمكان تغييره، أو هو بحكم جريان سنة الله تعالى لنفوذ مشيئته الأزلية التي لا تحمل التبديل والتغيير، فهو نظر في «وجه الاقتران» لا في «نفس الاقتران» فليفهم هذا» (66) . وحقاً فليفهم هذا!.
إذن فنحن هنا بإزاء تنبيه على وجوب فصل مستويين للنظر، الأول: في «الاقتران في نفسه» والثاني «وجه الاقتران»، وعلى هذا المستوى، أي وجه الاقتران، فالسببية غير ضرورية بالنسبة لوجودها، أما النظر في نفس الاقتران فيقود للاعتقاد بالسببية (67) .
وبذلك تنجلي المسألة عن الاحتفاظ بالاعتقاد بالسببية على المستوى العلمي، أو الاقتران في نفسه، والاعتقاد بإمكان رفعها على مستوى القدرة الإلهية، أو وجه الاقتران. ولا يؤدي ذلك إلى القول بالتناقض. ولا يخالف ضرورة منطقية; إذ عند النظر في قدرة الله تعالى لا نجد ما يلزم باطراد الحوادث حتماً، وعلى هذا المستوى فلله أن يفعل ما يشاء، وهو قد فعل المعجزات لتصديق رسله. وعلى ذلك فدعاوي الرسل صحيحة بسبب من مرافقة المعجزات ـ وهي مما يختص بقدرة الله وحده ـ لدعاواهم. وعلى هذا المستوى يرتد التصديق أيضاً إلى المساهدة حيث يثبت أمر المعجزات تواتراً. وعلى ذلك فإنه:
«إذا فعل الله تعالى ذلك نزع عن قلوبنا العلم الضروري الحاصل بالعادات» (68) إذن فالأمر يرتد إلى المشاهدة والتجربة، فإن تأكدت لنا بذلك واقعة مخالفة لمجرى العادة، وكانت مرافقة لدعوى الرسول وجب اعتبارها خرقاً للسببية، وفي هذه الحالة تتم نسبتها إلى من يقدر على ذلك. وحيث وردت الأخبار تواتراً بمصاحبة المعجزات للرسل، وتحقق ذلك بالرجوع إلى المشاهدة المعاصرة لها، وأنه قُصد بها تصديق الرسل في دعاواهم، فإن علينا الاعتقاد نتيجة لذلك بأنهم رسل الله; لأنه لا يقدر أحد على خرق العادة سوى الله، خالق العادة والطبيعة ومجرى سننها كما قدر لها. وهذا الأمر لا ينقض ما هو محال، إذ أن هذا العالم يجملته وما أودعنه من سنن يشكل بالنسبة لقدرة الله، ممكناً من الممكنات وان كان خير العوالم تكلها (69) ، لا ضرورياً ليس في الإمكان غيره، وعلى ذلك، فإن «الأسباب والمسببات يتأدّى بعضها إلى بعض بترتيب مسبب الأسباب»، وليس في خرق العادة ما يؤدي إلى جواز ما هو محال في ذاته، «إذ إن المحال غير مقدور عليه والمحال إثبات الشيء مع نفيه».
من هنا فإن خرق العادة يبقى حالة واقعية تخالف المعهود، ولا يترتب على ذلك تصدام منطقي حسب رأي الغزالي. لاسيما أن هذه العادة حين تخرق، فإن ذلك يتم بنزع العلم من القلوب دون أن يتغير شيء في سنن الطبيعة ذاتها، وإنما يحدث تدخل في هذه السنن من واضعها، ويبقى هذا التدخل من سنته أيضاً.
أما عن كرامات الأوليات فإن الغزالي يكيف أمرها على الجواز ويجيب في معرض التساؤل عنها بقوله «فإن قيل فهل تجوزون الكرامات؟ قلنا: اختلف الناس فيه، والحق ان ذلك جائز; فإنه يرجع إلى خرق العادة بدعاء إنسان أو عند حاجته، وذلك مما لا يستحيل في نفسه، ولكنه ممكن» (70) ، وبهذا فالغزالي يعيدها للقدرة الالهية أيضاً، وحيث وردت النصوص بذلك، في مثل مناسبة الدعاء أو الحاجة، فلا مناص من جوازها.
وبهذا فما من جديد في موقف الغزالي، يخالف فيه غيره من المسلمين الذين يعتقدون بقدرة الله على كل شيء. بيد أنه لابد لنا من الوقوف عند قوله إن «من كانت له ولاية تامة تفيض تلك الولاية اشعتها على خيالات الحاضرين، حتى انهم يرون ما يراه ويسمعون ما يسمعه، والتمثيل الخيالي أشهر هذه القسام والإيمان بهذه الأقسام كلها وأجمعها واجب» (71) ، وبهذا يتضح أن موقف الغزالي من السببية له ثلاثة أوجه:
الأول: قوله باطراد الحوادث على مستوى الطبيعة، أو الوجود الذاتي، وتكييفه هذا الأمر على أنه جريان عادة، مما يسمح بالحتمية ضمن النسق الحالي في هذا العالم.
الثاني: قوله بخرق هذا الاطراد على سبيل المعجزة لرسول، حين يتدخل الله في هذا الأمر، فتكون المعجزة بذلك دليلاً على صدق الرسول، ومعها ينسل العلم من القلوب، أو ينزع منها.
الثالث: قوله بمشاهدة ما يشاهده الولي، إذا ما أفاض من له ولاية تامة، ولايته على الحاضرين، فيرون ما يراه، ويسمعون ما يسمعه، (أي أنه منوط بالتأثير الذي يحدثه الوليّ فيمن يجالسه).
من هنا فإن مناقشة السببية عند الغزالي لابد لها أن تتناول كل وجه أو مسألة على حدة. فالمسأة تعود من جهة إلى الإدراك العام، ومن جهة ثانية إلى مدى حرية الإله وقدرته على الاختيار، ومن جهة أخرى إلى مدى منحه الكرامة لأوليائه!
أما عن المسألة الأولى، فلا يختلف موقف الغزالي عن موقف الفلاسفة في هذا الأمر. وبالتالي فإن الطبيعة بحد ذاتها، وبما رتب لها من سنن، مطردة الحوادث على الدوام. ومن هنا، نرى الغزالي يستخدم عبارة «الاقتران في نفسه»، فهذا الاقتران واقعي. ويعني تلازم الأسباب والمسببات بمشيئة الله. لكن هذا الاطراد، هل في الإمكان خرقه، أو رفعه من واضعه متى شاء؟ إن هذا يقود إلى المسألة الثانية، وهي تتعلق بقدرة الله، وفيما إذا استعملها أم لا! والغزالي يؤيد حصول المعجزات على أيدي الرسل بما رتب الله لهم من أمر للدلالة على صدقهم، وبالتالي فهو قانع بهذا الموقف. ومن هنا نرى أن الغزالي يستخدم عبارة «وجه الاقتران» فهذه العبارة تدل على تكييف مسألة السببية، وأنها تتم بقدرة الله، وله أن يرفعها متى شاء، وكيف شاء، إذن فثمة اقتران، ولكن في الإمكان رفعه، ومن هنا جاءت تسمية «جريان العادة» لتوضح أن الله غير مضطر في فعله.
أما المسألة الثالثة: فنعود إلى جهد المبذول من قبل الولي ولاية تامة، والذي يؤكد به الغزالي أن الولاية التامة لها خصائصها، ولها كراماتها. الأمر الذي يدفعنا إلى التساؤل عمن هو الولي ولاية تامة؟ يسعفنا هنا نص للغزالي يفسر هذه المسألة، يقول عن العقل القدسي النبوي أنه العقل الذي «أوتي من الكمال في حدس القوة النظرية حتى استغنى عن المعلم البشري أصلاً، وأوتي القوة المتخيلة استقامة وهمة، لا يلتفت إلى العالم المحسوس بما فيه حتى يشاهد العالم الثاني، بما فيه من أحوال، ويستثبتها في اليقظة، ويصير العالم وما يجري فيه متمثلاً لها ومنتقشاً بها، ويكون بقوته النفسانية أو تؤثر في عالم الطبيعة حتى ينتهي إلى درجة النفوس السماوية» (72) . كما يقول: «قلوب عموم المؤمنين ينالها من بركة الروح البروحانية، بواسطة الأنبياء والأولياء، بمقدار اليقين فافهم هذا» (73) . إذن فالولي ولاية تامة هو الرسول، الذي يخرج الناس من خلال الوحي الذي يتلقاه من الجهل إلى العلم، فيرون ما يراه، ويسمعون ما يسمعه. من خلال تعالميه وما يخبرهم به ما نخلص إليه هنا، إذن، وبعد عرض موقف الغزالي من سببية، هو أن ابرن رشد لم يكن محقاً في انتقاده للغزالي في موضوع السببية، بل إنه لم يفهم هذا الموقف، معتبراً أن الغزالي، بشكل أو بآخر ممن ينكرون السببية. وعلى هذا فإن ابن رشد يكون متهافتاً في هذه المسألة.
ولما كانت المسائل التابعة لها، كالقول بقدم العالم وأزليته، وغيرها، مبنية على هذا الفهم الخاطىء للسببية، فإنها أيضاً متهافتة، وإن كان ذلك يحتاجإلى تبين، لا يتسع له البحث هنا.»
* ورقة مقدمة لندوة العطاء الفكري لأبي الوليد ابن رشد، الأردن. نظمها المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالتعاون مع جامعة آل البيت الأردنية، بتاريخ 18/11/1998م.
** باحث ومدير التبادل الثقافي بوزارة الثقافة الأردنية.
الهوامش:
(1) المنقذ من الضلال، ص27.
(2) تهافت الفلاسفة، ص40.
(3) تهافت ص35.
(4) منقذ ص18 إلى 19.
(5) منقذ ص32.
(6) منقذ ص26.
(7) تهافت ص107.
(8) تهافت ص21.
(9) تهافت ص200.
(10) مسألة المعرفة والمنهج عند الغزالي ص119.
(11) الأحياء جزء5 ص37.
(12) تهافت 320.
(13) التهافت ص37.
(14) تهافت التهافت، ص59، جزء1.
(15) تهافت التهافت، ص253 جزء1.
(16) تهافت ص520، جزء2.
(17) تهافت التهافت، ص126، جزء1.
(18) تهافت التهافت ص402 جزء1.
(19) تهافت التهافت ص406 جزء1.
(20) تهافت التهافت ص335 جزء1.
(21) تهافت التهافت ص413 جزء1.
(22) تهافت التهافت ص200 جزء1.
(23) تهافت التهافت ص213 جزء1.
(24) ميزان العمل ص137.
(25) أنظر القائمة «أ» من ملحق هذه الدراسة.
(26) انظر ظاهرية ابن حزم الأندلسي ص45.
(27) تهافت التهافت ص197 جزء2.
(28) فصل المقال، ص24.
(29) مناهج الأدلة، ص86.
(30) مناهج الأدلة، ص88 (ولنلاحظ هنا أن ابن رشد يتبنى فكرته عن السببية، لا على أساس علمي تجريبي، وإنما على اساس ميتافيزيقي).
(31) مناهج الأدلة، ص90.
(32) مناهج الأدلة، ص87
(33) معيار العلم، ص165.
(34) معيار العلم، ص136.
(35) انظر، أو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، دار مكتبة الهلال، بيروت، 1994، ص185.
(36) المصفى، جزء 1، ص46.
(37) معيار العلم، ص308.
(38) معيار العلم، ص166.
(39) معراج السالكين، ص130.
(40) معراج السالكين، ص123.
(41) تهافت الفلاسفة، ص189.
(42) تهافت الفلاسفة، ص190.
(43) الأحياء، جزء 4، ص285.
(44) معيار العلم، ص166. يأخذ ابن رشد ـ مع اعتراضه المشهور ـ بهذا التوجه الأشعري حين يقول «الأشعرية.. هربوا من القول بالسباب لئلا يدخل عليهم القول بأن ها هنا سباباً فاعله غير الله، هيهات، لا فاعل هنا إلا الله إذ كان مخترع الأسباب وكونها أسباباً مؤثرة هو بإذنه وحفظه لوجودها. وأيضاً فإنهم خافوا ان يدخل عليهم من القول بالأسباب الطبيعية ان يكون العالم صادراً عن سبب طبيعي» (فلسفة ابن رشد، ص105).
(45) تهافت الفلاسفة، ص188.
(46) تهافت الفلاسفة، ص189.
(47) يدين ابن رشد هذه النظرة حين يقول «والدهرية هم الذين ينسبون لكل ما يظهر ها هنا مما ليس له سبب ظاهر إلى الحار والبارد والرطب واليابس. وقد عنيت الفلاسفة بالرد على هؤلاء (تهافت التهافت /1/288) كذلك يقول: «وأما بالنسبة إلى افلاسفة من أن المبادىء المفارقة تفعل بالطبع، لا بالاختيار فلم يقل به أحد يعتد به» (تهافت التهافت /1/2/290) كما يذكر «لا ينبغي أن يشك في أن هذه الموجودات قد تفعل بعضها في بعض ومن بعض، وانها ليست مكتفية بنفسها في هذا الفعل بل بفاعل من خارج، فعله شرط في فعلها بل في وجودها فضلاً عن فعلها» (تهافت التهافت /2/782). والطريف أن يستعمل ابن رشد مع هذا لفظي «الاقتران» و«العادة» اللذين يستعملهما الغزالي حين يقول: «إن الله تعالى هو المخترع لجواهر جميع الأشياء التي «تقترن» بخا أسبابها التي جرت العادة» أن يقال إنها أسباب لها فهذا الوجه المفهوم من انه لا فاعل إلا الله هو مفهوم يشهد له الحس والعقل والشرع» (فلسفة ابن رشد، ص125).
(48) تهافت الفلاسفة، ص247.
(49) تهافت الفلاسفة، ص249.
(50) الاقتصاد، ص63.
(51) تهافت الفلاسفة، ص247. (52) تهافت الفلاسفة، ص247.
(53) تهافت الفلاسفة، ص260.
(54) الاحياء، جزء 4، ص260.
(55) تهافت الفلاسفة، ص194 (يقول ابن رشد: «وانفصال أبي حامد عن هذه المحالات بأن الله لوضع لنا علماً بأن هذه الممكنات لا تقع إلا في أوقات مخصوصة.. صحيح») تهافت ص799 جزء2.
(56) المصفى، جزء 1، ص139.
(57) انظر، أو حامد الغزالي، تهافت الفلاسفة، دار مكتبة الهلال، بيروت، بيروت 1994، ص185.
(58) المصفى، جزء 1، ص141.
(59) في هذه النقطة تأتي مخالفة ابن رشد للغزالي والمتكلمين عموماً بأنه لا يجب اعتماد المعجزة دليلاً على صدق الرسول، ويكيف ذلك إلى أساس من القول، بأن (الرسول (ص) لم يدع أحداً من الناس ولا أمة من الأمم إلى الإيمان برسالته وبها جاء، بأنه قدم على يدي دواه خارقاً من خوارق الأفعال، مثل قلب عين من الأعين إلى عين أخرى، وما ظهر على يديه من الكرامات والخوارق فإنما ظهرت في أثناء أحواله من غير أن يتحدى بها. وأما الذي دعا به الناس وتحداهم به هو الكتاب العزيز) (فلسفة ابن رشد /311) فيما يتبنى هو شخصياً موقفاً آخر فيقول: «الدلالة على صدق الرسول بأنه يأتي بأفعال الرسل وهي الشرائع، فكل من أتى برسالة فهو رسول، حيث انه، «من المعلوم بنفسه أن فعل الأنبياء عليهم السلام هو وضع الشرائع بوحي من الله وأن من وجد منه هذا الفعل فهو نبي» (فلسفة ابن رشد 115) يدل على ذلك «بما ينذرون به من وجود الأشياء التي لم توجد بعد فتخرج إلى الوجود على الصفة التي أنذروا بها» (فلسفة ابن رشد /116) وهذا الموقف الرشدي يحتاج إلى مناقشة، أوليس الإخبار عن الغيب ووقائع المستقبل من المعجزات. وهل يعتمد ما جاء في النص القرآني منها دون الخبر المتواتر؟!. «كذلك يقول ابن رشد «فالذي يجب أن يقال فيها، أن مبادئهما هي أمور إلهية تفوق العقول الإنسانية فلابد أن يعترف بها مع جهل أسبابها». والطريف أن ابرن رشد يستفيد من هذا الرأي من الغزالي، يقول ابن رشد: «ويعلم أن طريقه الخواص في تصديق الأنبياء طريق آخر، قد نبه عليه أبو حامد، في غير ما موضع، وهو الفعل الصادر عن الصفة التي بها سمي النبي نبياً الذي هو الإعلام بالغيوب ووضع الشرائع الموافقة للحق والمفيدة في الأعمال ما فيه سعادة جميع الخلق» (تهافت التهافت ص772 جزء2).
(60) تهافت الفلاسفة، ص193.
(61) يتابع ابن رشد الغزالي في مسألة كون السببية ممكنة وليست ضرورية فيقول: «واما هل الأفعال الصادرة عن وجود موجود ضرورية الفعل فيما من شأنه ان يفعل فيه أو هي أكثرية، مطلوب يستحق الفحص» (تهافت التهافت /2/783)، ثم يستأنف، فيكيف تسمية العادة بما يتفق مع اقرار الضرورة على مستوى الوهم فيقول «فأما القول الأول فإنه لا يبعد ان تسلبه الفلاسفة له وذلك ان أفعال الفاعلين ليس صدور الأفعال عنها ضرورياً لمكان الأمور التي من خارج فلا يمنع أن تقترن النار بالقطن مثلاً في وقت فلا تحرق، ان وجد هناك شيء ما إذا قارن القطن صار غير قابل للاحتراق كما يقال في الطلق مع الحيوان» (تهافت التهافت /2/807)، إلى أن ينتهي إلى القول «وأما أن يسلم ههنا أشياء بهذه الصفة أي ضرورية وأشياء ليست ضرورية وتحكم النفس عليها حكماً ظنياً يتوهم انها ضرورية فلا ينكر الفلاسفة ذلك، فإن سموا هذه عادة جاز» (تهافت التهافت /2/786).
(62) يتبنى ابن رشد هذا التقسيم على نحو آخر ومن خلال لفظي العلم والحكم إذ يقول، «إن من جحد كون الأسباب مؤثرة باذن الله في مسبباتها فإن قد أبطل الحكمة وأبطل العلم، وذلك أن العلم هو معرفة الأشياء بأسبابها والحكمة هي معرفة بالأسباب الغائبة. لكن لما تقرر عندنا الغائب تبين لنا من قبل المعرفة بذاته أن كل ما سواه فليس فاعلاً إلا بإذنه ومشيئته» (فلسفة ابن رشد /128).
(63) الاقتصاد، ص140.
(64) لنلاحظ هنا تذكير الغزالي من خلال هذا النص بأن السببية متصلة بالحكمة، وكذلك قوله. «معنى الحكمة ترتيب الأسباب وتوجيهها إلى المسببات» (المقصد الأسنى، ص66)، تماماً كما يذكر ابن رشد في الهامش السابق هذا النص الذي تم الترويج له كثيراً. الاحياء، جزء 4، ص285.
(65) المستصفى، جزء 1، ص38.
(66) معيار العلم، ص166.
(67) لا ندري كيف يستقيم ـ بعد الذي عرضناه ـ اعتقاد أحد الباحثين حين يقول: «لقد أنكر الغزالي السببية بعنف وإصرار فأخرج البرهان من مضمونه وتمسك بشكله (القياس = الجدل) ليوظفه في حراسة مضمون (البيان) كما يقرره الأشاعرة»؟ (تكوين العقل العربي /882) أو قوله «أما ما ألغاه الغزالي بإصرار فهو مضمون البرهان، السببية، وبالتالي العلوم العقلية الرياضية والطبيعية، على أن الغزالي لم يلغ هذه العلوم، فحسب، بل ألغاها اجتماعياً وتاريخياً كذلك»؟ (تكوين /982) أو قول آخر «لا يؤمن بجدوى المنطق والعقل لبلوغ الحقيقة» (تاريخ الفلسفة الإسلامية /572).
إن هذه الأقوال وأمثالها لا تعني إلا شيئاً واحداً وهو أن فكر الغزالي لم يُدرس بعناية وإنما تصفحت بعض أجزائه فتم تعميمها وتوظيفها في سبيل تقرير وجهات نظر مسبقة، ـ ومنها وجهة نظر ابن رشد ـ تناوىء فكر الغزالي ودوره وتحمله عسفاً مسؤوليات مفتعلة.
(68) المستصفى، جزء 1، ص38.
(69) يقول الغزالي «ليس في الإمكان أبدع من صورة هذا العالم ولا أحسن ترتيباً ولا أكمل صنعاً، ولو كان وادخره مع القدرة، كان ذلك بخلاً يناقض الكرم الالهي». (الأحياء /5/53) وهذا دليل قاطع على اعتقاد الغزالي بالسببية. (انظر المعالجة الشاملة لهذا الموضوع في العددين الأول والثاني من مجلة «المناظره» الصادرة في الرباط عام 1991 بقلم رئيس التحرير).
(70) الاقتصاد، ص125.
(71) المضمون به، ص103.
(72) معارج القدس، ص145.
(73) ثلاث رسائل في المعرفة ص100.