قبل ثورة المعلومات وتحدات العولمة التي أخذت تبسط هيمنتها، وتفرض ظلالها واريجها على مساحة كبيرة من العالم الذي أوشك أن يكون مدينة واحدة بفضل الإتصالات والشبكات المعلوماتية مرت على العالم الإسلامي ـ والعالم العربي جزء لايتجزا منه ـ إشكالياتٌ كثيرة على مختلف المستويات السياسية والإجتماعية والإقتصادية والفكرية. ابتداءً من المذاهب الأدبية والفكرية إلى تلك الإبتكارات والإنجازات التي وقف منها العالم الإسلامي بين مُحَلِّل ومُحرِّمٍ على المنابر وصفحات الكتب دون أن يقف عندها وقفة الواقع ونظرة المتأمل.
في كلِّ يومٍ كنا نجد من ينظر لهذا الوافد الجديد نظرة تختلف عن الآخر فهناك مَن يبارك له ويرحِّب به محارباً ولاعناً مَنْ سبقه. وفي كلِّ مرة كنا نخرج من المولدِ بلا حمُّص كما يقول المثل . نخرج عراة عاجزين عن ترسيخ الماضي والاستفادة منه في الحاضر ومقصرين عن استيعاب الحاضر لأننا لم نستطيع في يوم من الأيام أن نكوِّن نظريَّتَنا ونبني نهضةً مدروسةً وليدة عقلٍ ودراسة.. فالمشكلة الأساسية تكمنُ في غياب المنهجية وغياب الخطوات الجادة والجريئة لأن هناك قضايا هامةً تحتاج لجرأةٍ يتبناها عقلٌ موحدٌ وتحتاج لمؤسسةٍ متلاحمةٍ تنطلق من وحدة الهدف وصدق النوايا.
تأتينا صرعات العالم ومبتكراته ونظرياته على حين غرَّة قبل أن نبت في قضايا سابقة، لم نستطع وَضْعَ حلٍّ لها، ولم نستطع حلَّ ألغازها واستلام مفاتيحها تأتينا على حين غرَّ لتقتحم فراغ نفوسنا وغفلتنا، وما أقوله في هذا السياق ليس من بابِ التقريع والهجاء للواقع بل من باب التوصيف والمصارحة مع الذات. ونحن أحوج ما نكون لهذه المصارحة، فمعرفة النفس وطبيعتها أهم من معرفة الآخرين لأنها المنطلق لرؤية الآخرين ومد الجسور التي أضحت ضرورة لامناً منها..
إننا أما أسئلة كثيرة، وهذه الأسئلة تتولد عنها أسئلة أخرى، فمن الأسئلة الهامة: هل نحن قادرون على مواكبة الآخرين وإثبات الهوية الثقافية التي يحرص كلُّ مجتمع على ترسيخ مقوماتها لتبقى جذوره ضاربة في الأرض؟ وهل تملك مقومات الثبات والقدرة على وضع البديل القادر على المواجهة ودخول معترك العولمة؟
وإذا أردنا التواجد الحضاري كثقافة إسلامية لها توهجها ولها ثوابتها فما هي إمكاناتنا المتوفرة والكامنة؟ وهل نملك الثروة على مستوى الإبتكار والإبداع والإنطلاق مع الحفاظ على شخصيتنا واستقلالنا؟ إنها أسئلة تحتاج لوقفةٍ طويلةٍ وعميقةٍ مع الذات وبحاجة لمصارحة فيها الكثير من التأن، فالتجارب السابقة أثبتت حالةً من حالات الإنحلال أو الذوبان أو الإنطواء بشكل أو بآخر تحت جناح كل وافدٍ، وانقسمنا على مستوى الخطاب السياسي الإسلامي والخطاب الفكري بين منكرٍ ورافضٍ لدرجة القطيعة دون إعطاء البديل الشافي ودن تقديم صيغةٍ ناجعةٍ أثبتت جدواها وفعاليتها. ولذلك كنا ننتقل كالكثبان الرملية مع كل مستجدات الحياة قبل إيجاد صيغة للتعامل مع الأمثل ليكون البديل المناسب والقوي. وبين مندفعٍ ومروجٍ لهذا الوافد دون تقليب له ووعي في التعامل معه فوجد فيه المنقذ من الخيبات والنكسات فأضاع شخصيته وتخلى عن جذوره..
هذا يدعونا للقول: إنَّ الثقافة الإسلامية أمام تحديات العولمة بحاجةٍ لوقفةٍ متأنية صادقة وملحة فالعالم الراهن ما عاد يقبل الضعيف الواهن، وما عاد يخبئ شيئاً بل نراه في سباق علمي لتقديم كل ما هو مدهش، فكل إنجاز علمي قادر على خلق ثورة في المجتمعات وقادر على إلغاء جهود سابقة، يجعلنا عاجزين عن اللحاق به بل يفهم ما يقدمه لنا ولذلك نعجز عن فهم استعمالاته ونعجز عن فك ألغازه ونبقى في حالة جري ولحاق إلى أن نكلَّ ونعلن الإستسلام. العولمة تجاوزت الحدود وألغتها ولكنها رسخت حدوداً من نوع آخر لايتجاوزها إلا من دخل عصر العلم المبهر. فهي قادرة على خطابك وأنت في فراشك. ولذلك نحن بحاجة لحسن مواجهة مبنية على الموضوعية والوعي المنتج. وهذا لايمكن إلا بتفهم روح العصر والإنفتاح على العالم ومستجداته كي نحافظ على وجودنا ولايعني هذا أن نسلِّم إرادتنا ونستغني عن الثوابت الأساسية الداعمة لكياننا كمسلمين وهنا تبرز مهمة المثقف المسلم الذي يكتنز المعرفة ويمحصها بالمتابعة والمحاكمة دون انقطاع عن الحاضر.. وهذا يحتاج لرعايته الجادة وإعطائه الفسحة من المناخ الثقافي المتفاعل مع المستجدات، وبالحفاظ عليه وعلى علمائنا الذين يتواجدون بكثرة وبفاعلية متميزة خارج حدود أوطانهم التي أنجبتهم وتنتظر عطاءهم..
إن العالم الإسلامي بحاجة لترسيخ ثوابت العلم والاستقرار على منهجية توحد بينهم ومن ثم الإنطلاق إلى مرحلة البناء الحضاري الفعّال. فنحن أحوج ما نكون إلى تهئية المناخ العقلي الوجداني المعرفي، فاستنكار واقع الحال ورفضه المطلق لايجدي نفعاً، ولايقدم إلا اليأس والإحباط ويزيدنا ضياعاًن فيعيق خطواتنا، ويعيد ما جرى معنا في السابق والعاقل من اتعظ بتجارب الآخرين ومن تجاربه.
فالقضية ليست قضية العولمة بل هي قضية عالم فيه من يعطي فيسيطر، وفيه من يعيش عالةً فيُنهش فالواقع يدعونا لإعادة الحسابات وتجنب الإرتجالية والعبثية وتظهير أفكارنا من المعوقات والقضايا التي تشغلنا دون جدوى. ومازلنا نبحث في أمرها من قرون إلى يومنا هذا، والبحث فيها ضياعٌ للوقت وتشتيت للذهن وترسيخ للتفرقة، لم يكن الإسلام جامداً في يوم من الأيام أو متحجراً ولم يكن الإسلام مسلوب الإرادة والتفكير وهو الذي جسد الفكر وحضّ عليه وفرضه علينا، ولم يكن مغلق الأبواب في وجه التيارات والمستجدات بل كان أكثر استيعاباً وهضماً لها واستفادةً منها دون مساس به..
إنّ الإسلام لمقولة العولمة تتبعها أخطار تمسُّ وجودنا وهويتنا الإسلامية، فتجعلنا على هامش الحياة ورصيف العمر نستجدي الأمم وعاجزين عن المواكبة. وثقافتنا الإسلامية تتعرض لحربٍ قاسية ولامتحان عاتٍ وأقسى من كل الإمتحانات السابقة. تواجهنا كل يوم ابتكارات وأفكار لادور لنا فيها إلا أن ننقل الخبر بالصورة والحرف، فتزداد خيبتنا وتشتد أزمتنا من ورائها، تأتينا دون سابق إنذار ودون أن تستأنس بآرائنا وتراعي مشاعرنا وعقائدنا مما يؤدي إلى خلق فجوة بين المؤيدين والمعارضين متجاهلين فائدتها وضرورتها أو كيف نواجهها. نحن بحاجة لتسامح فكري ثقافي ديني يجعلنا نقدر الآخرين ولانلغيهم بشطبة قلم على صحيفة أو بجملة على منبر. نحن بحاجة لمن يصب أفكاره نقيةً لخدمة الثقافة والمجتمع وهذا يحتاج لوضوح الرؤيا وللموضوعية في مواجهة الأزمات الهامشية والجزئيات المعيقة لتطورنا.. فالحاجة ماسة لتوحيد المنهج قدر استطاعتنا ولتقريب وجهات النظر ونسجها في بوتقة الجماعة. فلا يمكن أن نواجه العولمة أو نسايرها إلا بثبات ووعي، فإذا كنا منهمكين جرياً وراء الكماليات والهوامل من الحياة متناسين الجوهر والحقائق الفاعلة فينا. فإننا لن نستطيع تجاوز ما نحن عليه من شتات وتخلُّف.. نعم! نواجه العولمة بما نملكه ونحققه من إنجازاتٍ حضارية معاصرة. نواجهها بثبات خطواتنا ونسيرها حسب مشيئتنا بعقلنا الراجح وعيننا الباصرة.
نحن بحاجة لتقديس الفكر الحر وللعلم البناء الذي يدعمه الحوار ولذلك أتساءل دائماً ما جدوى حواراتنا إذا كنا لم نتجاوز بعد مرحلة القول والخصام في أشياء ما عادت محسوبة في الحاضر، فعلينا أن ندخل العولمة بوعي قبل أن تجتاحنا ونحن نائمون مغيبون. علينا أن نعرف أبعادها وأسرارها، ونقترب منها دون وجل، وهذا لايكون إلا بتكوين مجتمع مثقف متكامل يتبناه علماء المسلمين ومفكروهم بعد تجاوزهم للخلافات والشكليات التي أثبتت في كل وقتٍ ومع كل حدثٍ ضررها وما آل إلينا الأمر بسببها.
لنا في تجارب الأولين عبرة، ولنا الحق في فتح عقولنا لمستجدات الحياة، ولكن بتؤدةْ ودراية. فخيرٌ لمثقفينا الجادين من ترك شبابنا تعبث بهم الأقدار فتسلبهم الدهشة بالمبتكرات العصرية والإنخراط في صف العولمة أن يبحثوا ويجددوا ضمن الثوابت متجاوزين أزماتنا العائقة. فالعولمة ليست غولاً إلا في نظر من لايعرف حقيقتها وليست بدعة بل حقيقة فرضتها الظروف وهذا لايعني التصفيق المطلق لها ومبايعتها. فكثيراً ما استنكرن ومن بعدها أغمضنا أعيننا وبعدها حللنا وشجعنا. لا أتهم أحداً ولا أعمم ولكن من باب المتابعة يمكنني القول: إنّ الكثير من مثقفيّنا ومن رجال الخطاب الفكري لايعرفون كيف يتعاملون مع الكتاب ومع الأجهزة الحديثة التي تداعبنا صباح كل يوم كالحاسب والتلفاز والهاتف. فأكثرنا اقتنوا من المبتكرات أحدثها بدافع الفخر وطلب الراحة وإملاء البيت والمكتب ومراعاة روح العصر وأغلبنا يعجز ويجهل التعامل معها ومع جزئياتها. أرى أنّ المواجهة لاتكون كالمعارك السياسية المبنية على التعصب والقبلية وقمع آراء الآخرين واللجوء إلى العنف بل بالتحليل المنطقي والمواجهة مع الذات وهذا منوط برجال الثقافة والفكر الذين بأيديهم المفاتيح الموصلة إلى برّ الأمان. وإلا فسوف نبقى نجري دون اللحاق بأحدٍ وسوف نلهث وراء كل جديد لا رأي لنا فيه ولانصيحة لنا في شأنه ولا قدرة لنا على وقفه.
وأتمنى ألا يأتي ذلك اليوم الذي تغرقنا فيه العولمة ونحن لانحسن العوم ولانحاول تعليم فن العوم.