شعار الموقع

نحو أفق تنويري لمشروع علماء الدين في هذا العصر

فيصل العوامي 2004-10-15
عدد القراءات « 652 »


الكتاب: علماء الدين: قراءة في الأدوار والمهام.
الكاتب: الشيخ حسن الصفار.
الناشر: دار الجديد‏ـ بيروت
الصفحات: 239 من القطع الوسط
سنة النشر: 1999, ط1

تتزاحم في هذه اللحظة الزمنية مجموعة معطيات ذات أثر بالغ على عموم المسيرة الإسلامية, بشكل لايسع المتتبع إغفالها وعدم التفكير والتنظير في دائرتها.. فما من مهتم إلا وهو يلمس مدى عمق التخلف الذي ما فتأ يتمدد على مستوى حياتنا الإجتماعية, حيث تشيع كثير من الرواسب والظواهر النفسية والسلوكية ـ خصوصاً ما يتناقض منها مع العمق الديني‏ـ التي تشوّه وتعقد الصورة الطيبة للمجتمع.. ويرافق هذا التخلف تنامٍ‏ملحوظ للأفكار والنظريات الوافدة والتي يمكن التوقف عند الكثير منها تساؤلاً واستنارةً.. كما يضاف إلى هذين المعطيين غياب ملحوظ للعنصر القيادي المخلص والكفوء الذي يمكن أن يتحرك بالمجتمع نحو الأفضل في ظل التخلف الإجتماعي والتزاحم الفكري..
وفي قبال ذلك تظهر على السطح يقظة اجتماعية وثقافية يمكن أن تدعي وبسهولة تامة دينيتها بل إسلاميتها, وهذه اليقظة تسير في خط معاكس لتلك المعطيات, الأمر الذي قد يتسبب في حدوث شيء من الفوضى والإضطراب على المستوى الثقافي والإجتماعي.
في ثنايا كل ذلك يبرز وبصورة ملفتة اسم عالم الدين بصفته عنصراً‏أساسياً‏من العناصر التي يمكن أن تسد فراغاً كبيراً وتؤثر في تهدئة ذلك الإضطراب.. لهذا كان لابد من مراجعة وتقويم لهذا الإسم, ورسم الصورة الحقيقية له,‏الصورة المثالية التي قررها الدين لتكون عاملاً مهماً‏في التأثير على المجتمع..
في هذا السياق جاء كتاب «علماء الدين: قراءة في الأدوار والمهام» لفضيلة الشيخ حسن موسى الصفار, ليعكس صورة فعلية للعالم الديني المتخصص في الشأن الشرعي, صورة لم تأت من فراغ وإنما كوّنتها التجارب المتكاثرة على مختلف الأصعدة الإجتماعية والثقافية والسياسية. وهذا ما يمكن أن يتميز به هذا الكتاب, فمؤلفه من شريحة علماء الدين أنفسهم مما يعني أن النقد والتقويم الذي تمتلئ به صفحات هذا الكتاب إنما هو نقد داخلي وليس خارجياً,‏ثم ان ذلك التقويم جاء افرازاً للعديد من التجارب الحية التي خاضها المؤلف في كل الأصعدة المشار إليها على مدى يناهز العشرين عاماً. الأمر الذي يعطي الكتاب ميزة خاصة, وبالتالي فإن القراءة الصحيحة له ينبغي أن تأخذ في اعتبارها هذين الأمرين, بحيث يُقرأ الكتاب على أن كاتبه من أهل الخبرة وليس مجرد مراقب أو متتبع لحركة علماء الدين. وانطلاقاً من ذلك فقد رأى المؤلف بأن عالم الدين يمكن أن يكون رقماً‏صعباً في ثلاثة من المناخات, الثقافي والإجتماعي والسياسي.. وهي المناخات والأبعاد التي نحاول مراجعتها.

أولاً: الشأن الثقافي:
لقد انطلق المؤلف في تأسيسه للمشروع الثقافي لعالم الدين من مبادئ عدة, أولها الحاجة إلى صاحب المؤهل التخصصي في الحياة العلمية «خاصة في هذه العصور المتأخرة عن عصر النص الشرعي المتمثل في القرآن الكريم والسنة المطهرة,‏فإن الوصول إلى الكثير من المعارف والأحكام الشرعية يستلزم التوفر على مستوى من الخبرة والمعرفة في مجالات علمية وأدبية مختلفة ليتمكن الإنسان بها من اكتشاف النص الشرعي الصحيح وإدراك مدلوله.. فقد حدث تغيير في أساليب التعبير واختلاف في المصطلحات بين الأجيال اللاحقة والسابقة, كما تعرّض قسم من النصوص الشرعية للتلف والضياع, وحصل شيء من الدس والوضع في الأحاديث والروايات, فأصبحت مهمة اكتشاف الحكم الشرعي بحاجة إلى معرفة بعلوم اللغة العربية وآدابها, وإلمام بعلم التفسير والحديث, وإطلاع على أصول وقواعد الإستنباط ودراية بآراء أئمة الفقه.. وذلك بحاجة إلى بذل جهد كبير وصرف وقت واسع لايتأتى إلا بالتوجه والتخصص, كما هو الشأن في مختلف حقول العلم والمعرفة وشتّى ميادين الحياة».
والمؤلف عندما يؤكد على هذا المبدأ ويؤصله فإنه يجيب على إشكالية هي من أعقد الإشكاليات التي تعج بها الساحة الثقافية في هذا القرن بالذات, وهي المتمثلة في الفكرة القائلة بأن مهمة التفكير والتنظير في الحقل الديني مهمة منوطة بالأمة كلها وليست منوطة ببعضها, بناءً على أن التديّن تكليف يشمل الأمة ولايختص بفئة معينة.
وهذه الفكرة تجد لها مناخاً‏كبيراً تعيش فيه, وتتردد على ألسن العديد من المفكرين ـ طبعاً من غير المختصين في الشأن الديني ـ... ومناطهم في ذلك أنه مادام أن الكل مطالب بالتدين فإن الكل أيضاً مطالب بصناعة الفكرة الدينية, وبهذا فإنه من المشروع لكل إنسان مهما كانت مستواه المعرفي أن يشارك في صناعة أفكاره ومتبنياته الدينية, وما قول الرسول (ص) «اختلاف أمتي رحمة» إلا تأكيد على هذا المعنى, فاختلاف الأمة ككل وليس شريحة مختصرة يعد رحمة وليس نقمة. فالمؤلف في تأكيده على مبدأ التخصص يقدم إجابة على هذه الإشكالية المعاصرة, وكأنه يقول بأن الكل فعلاً مطالب بالتدين ومطالب أيضاً بتحصيل التكليف الشرعي, لكن هذا التحصيل اعم من الصناعة, فمن لديه القدرة على الصناعة فبإمكانه المشاركة والتنظير, لأن الصناعة تدور مدار القدرة وعدمها, أما من لاتتوفر لديه هذه القدرة فإنه أيضاً مطالب بتحصيل التكليف ولكن عبر طريق آخر غير الصناعة كالتقليد وغيره.
وأما المبدأ الآخر الذي اعتمد عليه المؤلف فهو سعة المهام الدينية والتي تتطلب «وجود فئة متفرغة للقيام بها, وأبرزها المهام التالية:
1ـ تبيين مفاهيم الدين وأحكامه في مختلف جوانب الحياة, وشرحها للمجتمع المسلم, بالتعليم المباشر والإجابة على أسئلة المستفسرين وعبر شتى أساليب التبليغ والإعلام.
2ـ التذكير بالقيم الروحية والفضائل الأخلاقية وتوجيه الناس للإستعداد لآخرتهم عبر الوعظ والإرشاد الذي يثير وجدان الإنسان, ويوقظ ضميره, حتى لاتسيطر عليه الإنشدادات المادية الجارفة, فيفقد توازنه ومشاعره الإنسانية.
3ـ القضاء بين الناس, وفصل الخصومات والنزاعات على أساس موازين الشرع.
4ـ معالجة الإشكالات والشبهات الفكرية التي تثار من قبل المخالفين للدين, أو تطرحها تطورات الحياة.
5ـ الدعوة إلى الله تعالى والتبشير بالدين في سائر المجتمعات البشرية.
هذه المهام الدينية الخطيرة وأمثالها, لايمكن أن تُترك على هامش حياة بعض الأفراد, ولأوقات فراغهم, بل لابد من فئة متفرغة تتصدى لتحمّل مسؤوليتها ولانجازها في واقع الأمة, وتكون متصفة بالعلم والفقاهة في الدين».
فإذاً هناك مبدآن يتكئ عليهما فضيلة الشيخ الصفار مؤسساً من خلالهما المشروع الثقافي لعالم الدين, وهما التخصص والتفرغ, وذلك لحصر عملية التنظير في الثقافة الدينية في فئة مؤهلة, وإعطاء العمل الديني أولوية وأهمية خاصة.
لكن الشيخ المؤلف عندما أسس لهذين المبدأين لم يكن هدفه فقط اعطاء وسام تشريفي لعالم الدين, وإنما اعتبرهما شروطاً لمسؤولية خطيرة تقع على كاهل العالم ولابدَّ له من تحملها وهي مسؤولية القيادة. وفي هذه المنطقة الحرجة يقدم المؤلف مفهوماً‏لوظيفة عالم الدين يختلف فيها مع كثيرين. ففي حين يرى بعض أهل الرأي في الوسط العلمي أن وظيفة عالم الدين لاتتجاوز تعليم الأحكام الفقهية, وإجراء المراسيم الدينية كصلاة الجماعة وعقود الزواج والطلاق, والصلاة على الميت وتلقينه, يرى الشيخ الصفار بأن وظيفة العالم تتجاوز ذلك إلى ما هو أعمق وأخطر وهو القيادة, فبدراسة واعية للمفاهيم والنصوص الدينية في هذا المجال, يمكننا القول بجزم ويقين أن دور عالم الدين هو دور القيادة للأمة, في مختلف مجالات الحياة, وان وظيفته هي رعاية شؤون المجتمع في جميع الجوانب.. ذلك أن الإسلام منهج كامل شامل لتنظيم حياة الإنسان, والأمة مطالبة بتنفيذ برامج الدين وتطبيقها, فلا بد وأن تتوفر في قيادة الأمة صفتا العلم التفصيلي بمبادئ الدين وأحكامه والإلتزام الواعي بها.
لكن يمكن تسجيل مناقشة في خصوص هذا الإستنتاج, وفي مدى المساحة التي ينبغي أن يحتلها في وسط علماء الدين, فالمؤلف في عرضه للمشروع الثقافي للعالم, لم يقدم تفصيلاً للبرنامج الثقافي لعالم الدين الذي يتناسب مع اللحظة الراهنة, فقد كان من المناسب جداً‏التأسيس لمفردات المشروع الثقافي خاصة وأن المؤلف أشار إلى الملامح العامة للمشروع كالتحول من الفردية إلى المؤسساتية, وتنقية الثقافة الإسلامية, والتصدي لمعالجة المشاكل الراهنة.. ولو أن المؤلف فعل في هذا الفصل كما فعل في حديثه عن المشروع الإجتماعي وقدّم تصوراً‏عملياً‏ـ ولو على سبيل الإقتراح‏ـ لما ينبغي فعله اليوم من برامج ثقافية لكان ذلك أتم وأكمل.

الشأن الإجتماعي:
الشأن الثاني هو المناخ الإجتماعي فقد صدّر المؤلف حديثه بنقد للمنهج التقليدي الداعي إلى الإنغلاق والعزلة والإكتفاء بممارسة دور هامشي ومحدود في المجتمع.. وأكد بأن هناك عوامل فكرية ونفسية واجتماعية تكمن وراء اتباع هذا المنهج, ولكن مع ذلك فإنه لم يسهب إلا في قضية فكرية واحدة وهي إدعاء استحباب العزلة,‏وقد دعّم كلامه هذا باستعراض لعدة من المؤلفات والكتب الحاثة على الإعتزال والإبتعاد عن قضايا الناس, هذا عدا عن المقولات التي ساقها كقول ابن سيرين «العزلة عبادة» وقول إبراهيم النخعي «تفقّه ثم اعتزل».
وقد أجاد المؤلف في رده لهذا المدعى مبيناً بأن هذه الطريقة في التعاطي مع المجتمع «تتنافى مع مجمل تعاليم الإسلام ونهجه الإجتماعي, والذي يحتوي على مفردات وبرامج كثيرة تدفع الإنسان المؤمن للتفاعل مع مجتمعه والتصدي لقضاياه, وخدمة شؤونه, وأفضل ردّ على ما ذكروه من سلبيات التداخل مع الناس, ما روي عن رسول الله (ص): أنه قال: المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أفضل من المؤمن الذي لايخالط الناس ولايصبر على أذاهم».
ثم إنه أشار سريعاً إلى عامل نفسي يدفع باتجاه العزلة لكنه لم يسهب فيه مع أنه السبب الأعمق والأهم وهو «ضعف الثقة بالنفس, والتهيب من المشاكل, والخوف من الوقوع في الخطأ, والفشل مما يسبب فقدان السمعة الحسنة, لذلك يركن العالم إلى زاوية محرابه وقوقعة دوره المحدود, ليبعد نفسه عن كل المضاعفات والإشكالات التي يتعرض لها من يتصدى لشؤون المجتمع ويتفاعل مع قضاياه».
ولعل من الإنصاف في تحرير هذا الإشكال الإجتماعي هو القول بأن ما يؤخذ على شق من العلماء في هذه المرحلة الزمنية ليس العزلة عن الناس ـ وإن كان ذلك جارياً عند بعضهم قديماً‏وحديثاً‏ـ إذ أن أغلب العلماء بشتى اتجاهاتهم على صلة وثيقة مع شرائح كبيرة من أبناء المجتمع, لكنهم لايملكون مشروعاً‏اجتماعياً واضحاً يتناسب مع مرحلتنا ولايجدون أنفسهم معنيين بذلك, وعذرهم في ذلك ليس محبوبية العزلة‏ـ كما تصوّر المؤلف‏ـ ولا حتى الخوف من الفشل, وإنما الخلفية الحقيقية لذلك عدم امتلاكهم للطموح الإجتماعي وعدم تطلعهم لخلق فعل اجتماعي كبير.. لا بل قد يكون الطموح موجوداً أيضاً‏لكن الهمة مفقودة,‏والتغيير الإجتماعي يحتاجýإلى همة مضاعفة, ولهذا فإن العديد ممن يطالهم هذا الإشكال يتطلعون للبروز الإجتماعي لكن بدون أن يدفعوا أي ثمن, وهذا إن كان ممكناً قبل حين فإنه متعذر في هذا الحين.
بعد هذا العرض قدم المؤلف الشيخ الصفار منطلقات منهجه الإجتماعي المتبنّى وهو الإندفاع نحو المشاركة الإجتماعية الفاعلة, وقد أُوجِزَتْ تلك المنطلقات في ثلاث أولها: منهجية الإسلام, حيث أنه جاء ليخرج الإنسان من قوقعة ذاته ويدفعه لمشاركة الناس آلامهم ويتحمل مسؤولية تجاههم..‏وثانيها: أن المشاركة الإجتماعية فرصة مناسبة لممارسة عملية الهداية والتوجيه, وثالثها: قيادة المجتمع إلى الخير, إذ «حينما يتصدى علماء الدين لقضايا الناس وإدارة شؤونهم المختلفة, فستكون أزمة أمور المجتمع بأيديهم ويصبحون في موقع القيادة التي يجب أن يمارسوها».
ثم إن المؤلف لم يغفل المشروع الإجتماعي التفصيلي فقد قدّم تصوّراً عملياً‏لهذا المشروع, ضَغَطَه في خمسة مقترحات: مشاركة الناس في سائر المناسبات الإجتماعية, وقضاء احتياجاتهم وتذليل مشاكلهم, ورعاية الضعفاء منهم, والتصدي لمهمة الإصلاح وتوحيد المجتمع, وإنشاء المؤسسات والأنشطة الإجتماعية.

ثالثاً: الشأن السياسي
أما المناخ الثالث الذي ينبغي أن يعيش فيه عالم الدين فهو المناخ السياسي, وقد أسس لمبناه في هذا الشأن بأن الإسلام «لايمكن أبداً‏أن يكبح عند الإنسان توجهه السياسي, ولا أن يحظر عليه الإهتمام بالشأن العام, لأن معنى ذلك أن يُطلب منه التنازل عن أهم ميزات إنسانيته, كما سبق ـ حيث أنه أشار في صدر البحث إلى أن الاهتمام السياسي هو من صميم وعي الإنسان لذاته وحمايته لمصالحه وحقوقه ـ وأن يشجعه على الإسترسال والخضوع للواقع المعاش, دون أي وعي أو محاولة تأثير.. ثم إن الإسلام جاء لاحقاق الحق, وإقامة العدل في حياة البشر, فلا بد وأن يعبئ كل أتباعه لانجاز ذلك الهدف, مما يعني توجيههم نحو الفاعلية والنشاط الإجتماعي, في كل ميادينه وعلى أعلى مستوياته.. وللإسلام برنامج ونظام في الحكم وإدارة شؤون المجتمع, ولا يمكن أن يشق ذلك البرنامج طريقه للتنفيذ والتطبيق ما لم يتحمّل أبناء الإسلام مسؤولية العمل من أجله.. لكل ذلك, يمكننا القول بثقة أن الإسلام يوجب على أبنائه الإهتمام بالشأن السياسي».
وقد أسقط المؤلف هذا المبنى الذي يهم عموم الناس على عالم الدين بنحو الأولوية, معتبراً أن هناك ثلاث مقدمات تفرض على عالم الدين الإهتمام بالشأن السياسي أولها موقعه القيادي الذي تؤكده النصوص الشرعية كالذي روي عن الرسول (ص) «أن العلماء ورثة الأنبياء», وثانيها المسؤولية التي يضعها الإسلام على عاتق عالم الدين «حيث يعتبره الكثير من النصوص مسؤولاً بالدرجة الأولى عما يحدث في المجتمع», وثالثها أن العالم «بحكم معرفته بالدين واطلاعه الواسع على مبادئه وتعاليمه, فإنه يفترض فيه أن يكون الأكثر التزاماً‏بأحكام الدين وتوجيهاته والأسبق لتطبيقها وتنفيذها».
وانطلاقاً من ذلك فإن عالم الدين لابد أن يتحمل مسؤولية الإهتمام بالشأن السياسي, على أن يكون من أهم برامجه في هذا الشأن ـ كما يرى المؤلف ـ أمران اثنان:
1ـ إيضاح برامج الإسلام وأحكامه في مجال السياسة والحكم.. حيث أن العلماء بصفتهم المعنيين بمهمة الإستنباط فإن عليهم استنباط الأفكار والنظريات الخاصة بالشأن السياسي وليس العبادي فقط, وذلك لأن (الإسلام كلٌّ لايتجزّأ).
2ـ التصدي للشأن السياسي وإدارة شؤون الأمة.. ومبنى المؤلف في هذا الموضوع أن العالم بما هو امتداد قيادي لدور الإمامة والنبوة في الأمة, وإن دور النبوة يتجسد في مشروع الحكم وقيادة الأمة حيث قال تعالى «وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله».
وأخيراً قسّم المؤلف مشروع المشاركة السياسية للعالم إلى ستة أقسام ليس في عرض واحد وإنما بينها تراتب وطولية, تبتدئ تنازلياً‏من مزاولة مهمة الحكم والإدارة, ثم إن لم يمكن فالتوجيه والإشراف على الحاكمين, ثم المشاركة في الحكم, ثم النصيحة للحاكم, وإذا لم يتسن كل ذلك فالتصدي لمشروع المعارضة, وإن لم يكن أيضاً‏فالتهيئة للمعارضة.

مناقشة وتقويم
من خلال هذا العرض تتضح الصورة التي حاول المؤلف بلورتها لعالم الدين في الأبعاد الثلاثة, ولعل المحور الأساسي الجامع لتلك الصورة هو القيادية التي يفترض تجسدها في العالِم. ونحن هنا يمكن لنا أن نناقش المؤلف في عدة أمور:
أولاً: في شأن المشروع السياسي, كان لابد من تحرير النظرية العامة قبل استعراض الجدل الجاري بين الإتجاهات, من أجل ان تأخذ الإستدلالات مسارها الدقيق..‏فكان من الضروري تحديد معنى الإهتمام السياسي وهل أنه المعرفة والإطلاع السياسي أم المشاركة السياسية.. فالتمهيد في صدر البحث كأنه يشير إلى المشاركة السياسية ويدفع باتجاهها, بينما في بطون البحث كان الإتجاه يميل إلى المعرفة حتى أن الكثير من الاستدلالات التي أُقيمت إنما يمكن تسخيرها للقول بضرورة المعرفة السياسية ولا علاقة لها بالمشاركة.
ثانياً: بعد أن استعرض المؤلف نظريته في الشأن السياسي وساق الحقائق المدعّمة لتلك النظرية, قال في سياق تعريضه بمن لايوافق العمل السياسي: «إن غالبية علماء الدين لهم موقف سلبي تجاه الشأن السياسي, فلا يرون أنفسهم معنيين به, بل ينأون بمقامهم عن التلوّث بقضايا السياسة والحكم. وينطلق هذا الموقف من فهم خاطئ لدور الدين في الحياة, فهو عندهم تعاليم روحية أخلاقية لتحصيل الجنة في الآخرة, وليس نظاماً شاملاً لإدارة حياة البشر في الدنيا» ص106..
وهو بذلك يتبنى القول بأن من لايرتأي التدخل في الشأن السياسي يعتمد على فهم متخلف للدين, ولكن الأصوب في ظني هو أن من ليس له حظ في المجال السياسي ليس هذه هي حاله وإنما قد تكون له مبررات علمية يستند إليها, أحدها ضرورة التفرّغ للإبداع العلمي, حيث أن التخصص في حقل الثقافة الدينية يحتاج إلى تركيز وتفرّغ تام, لهذا فإن عدة من الفقهاء في القديم والحديث لم يهتموا بالشأن السياسي لا لنظرة سطحية لديهم وإنما لأنهم يرون الإبداع العلمي والذب عن حريم الشريعة أكثر أولوية, وقد أنجب لنا التاريخ رجالات عظام من أمثال هؤلاء ممن لم يكن له ذكر في العالم السياسي لكن ذكرهم العلمي ضرب ما بين الخافقين بسبب أهمية انجازاتهم التي ما كانت لتتحقق بذلك الحجم لولا تفرغهم.. فما يضر إنساناً‏مثل الشيخ «الكليني» الذي أعطى من عمره عشرين سنة متفرغاً‏ليقدم للأجيال كتاباً مثل الكافي, أو البخاري الذي رفد الساحة العلمية بانتاج قيم كصحيحه وغيرهم الكثير.. ما يضر أمثال هؤلاء إذا لم يدخلوا العالم السياسي.. بالطبع لايضرهم شيء والسبب في ذلك أن المشاركة والإهتمام بالشأن السياسي ليس ضابطة اساسية لعالم الدين خاصة لمن لديه همُّ الإختصاص كالكثير من العلماء قديماً‏وحديثاً.
ثم قد يكون هناك مبرر علمي آخر لعدم الإهتمام بالشأن السياسي وهو عدم توفر الإستعداد النفسي, فالبعض من العلماء لايستقل من الإهتمام السياسي, لكنه ينظر إلى نفسه بانصاف فلا يخوض في شيء ليس لديه استعداد نفسي له.. وفعلاً فإن كثيراً من العلماء لايرون أنفسهم مؤهلين للإهتمام بالشأن السياسي ولهذا فإنهم لايلقون بأنفسهم فيه, لا أنهم يحملون نظرة متخلفة.
ولاشك أنه ليس من المطلوب على نحو الضرورة والإلزام من كل عالم دين أن يشارك سياسياً‏أو يفرّغ نفسه للعمل السياسي, نعم قد يكون النموذج الأرقى في بعض المراحل الزمنية هو النموذج الذي يجمع بين الإهتمام العلمي والمشروع القيادي الأوسع الذي يغطي حتى المجال السياسي, وذلك لايعني أن كل عالم يلزم منه المشاركة.
وطبعاً كل ذلك أيضاً‏لاينفي وجود من لايستسيغ الشأن السياسي اعتماداً‏على نظرة سطحية للفكر الديني, لكن يصعب التسليم بأنهم الكم الأغلب بين العلماء خصوصاً‏في هذه المرحلة الزمنية التي انطلق فيها العلماء إلى دوائر الحكم والمعارضة والتنظير السياسي..‏وبهذا تتعذر المصادقة على ما ذهب إليه فضيلة الشيخ المؤلف إلا على نمو الموجبة الجزئية.
ذلك كان عرضاً‏إجمالياً للصورة الفعلية التي رسمها فضيلة الشيخ حسن الصفار لعالم الدين الذي تتطلبه مرحلتنا المعاصرة, والذي يتناسب ـ كما يتبنى الشيخ ـ مع ما أراده الدين سواء من خلال تصريحاته القرآنية والروائية أو من خلال مواقف رجالاته كالأنبياء والأوصياء ومن حذا حذوهم.. هذا وقد أفرد في نهاية كتابه بحثين هما تفصيل لبعض ما أشار إليه إجمالاً في ثنايا ما مضى من حديث, أولهما حول مسؤولية علماء الدين في توحيد صفوف المجتمع, وثانيهما حول أخلاق الإختلاف وقوانينه.. وقد اثار المؤلف فيهما مسائل حرجة وذات أهمية مما يتطلب وقفة صادقة من علماء الدين.
خاتمةً. إن هذه المحاولة التي قدمها المؤلف تعد خطوة جريئة خصوصاً‏إذا نظرنا إليها على أنها معالجة جذرية لمشكلة حقيقية يشكو منها المحيط الإجتماعي الذي يعيش فيه المؤلف نفسه, وبالتالي فهي معالجة فعلية وليست نظرية.

(*) كاتب من المملكة العربية السعودية