الثقافة الإسلامية لكي تكون فاعلة ومؤثرة في عالم اليوم الذي يموج بالمعارف والعقائد المتعددة, في حاجة إلى خاصيات أربع: إنتاجية واستقلالية ونقدية وواقعية.
1ـ خاصية الإنتاجية
إنتاج الثقافة المؤثرة يمر عبر تحقيق التفاعل الحيوي بين آلة العقل والوحي والكون, في تكامل وتناسق, بعيداً عن أوهام التعارض والتناقض التي سكنت العقول والكتب لفترة من الزمن, فقديماً قال الغزالي: تسعة أعشار الفقه النظر فيه عقلي محض. والإنتاج ليس هو الحشد والحفظ وترجيع ما سبق إليه الأولون, بل تعويد العقل على الاشتغال بآليات جديدة, تَصْنَع المعارف وتُصَنِّعُ المناهج. وعقليتنا اليوم, جزء من بنية مجتمعنا, وهي استهلاكية تقتات على فتات ما أنتجه الآخرون, وهم الذين يرسمون لنا مساحات التفكير, ويحددون المواضيع, بل والنتائج. مما يكرِّس عجز عقليتنا عن السيطرة الذهنية على الواقع بتناقضاته, وعجز إزاء ظواهر الحياة وعلاقاتها. فتتحول إلى عقلية استسلامية, تعاني من الغموض والإضطراب, وترى نفسها ضعيفة أمام ظواهر المجتمع والحياة. وقد أدى ذلك إلى العجز التام عن ممارسة فعل التفكير, وهو في عمقه امتداد نفسي لقهر اجتماعي صارخ.
إن خاصية الانتاجية تعني, من جهة أخرى, الثقة في ملكة عقلنا, وقدرتنا على استيعاب الوجود والحياة,في تفاعل مع الوحي, وضمن رؤية عقدية توحيدية مُحَفِّزة لا مُعَطِّلة. فالأمة اليوم في حاجة ماسة إلى أن تنهض بوجدانها المتدين لتربي فيه عقيدة المؤمن العاقل المنتج والمتوكل الفعَّال والمقدام, متخذة لذلك كل وسائل التربية المتحررة من روح السلبية التي أتخمنا بها ما نقرؤوه في غالب الكتب المتداولة,ومما نسمع من وصايا الآباء, ومواعظ الخطباء, ونصائح الفقهاء التي لاتذكرنا إلا بدواعي الحذر والسلامة والورع.
2ـ خاصية الاستقلالية
خلق الله تعالى الإنسان واستخلفه في الأرض, وزوده بوحي وعقل, وحمله المسؤولية. والقرأن الكريم والسنة النبوية مليئان بآيات وأحاديث تتحدث عن المسؤولية الفردية للإنسان. وعرف الفكر الإسلامي في إحدى مراحله نقاشاً صاخباً حول الحرية والجبر والمسؤولية, في رسالة الإنسان الاستخلافية. ويُستخلص من كل ذلك أن الإنسان راع ومسؤول. ولامسؤولية بدون حرية في التفكير والسلوك. من هنا تأتي ضرورة استقلالية العقل المسلم وتجنب كل أشكال التقليد والجمود على المظاهر والرسوم,أو ما سماه الدكتور الجابري (العقل المستقيل). وعلماء الأصول الأفذاذ, مثل الشاطبي, نحتوا نظرية عظيمة في المقاصد, ونادوا بأن الأمور بمقاصدها, والأفعال بمآلاتها. والإيمان يقتضي أن تكون للفرد استقلالية الضمير وحريته, يختار دينه في الحياة كما يشاء, ويُحدد انتماءه الاجتماعي. ولن يتأتى هذا إلا بثقافة مستقلة ومتحررة, من رواسب الماضي وعقد الحاضر ومخاوف المستقبل. ثقافة يتبوَّأ فيها العقل مكانته اللائقة به, إذ دين الإسلام بالذات, كما يرى الأستاذ راشد الغنوشي, يمثل العقل فيه الطريق إلى الله سبحانه وتعالى. فلا دين لمن لاعقل له, ولا دين لمن لاحرية له. والقرآن كله دعوة للتفكير ودعوة للتعقل ودعوة للخروج من حياة التبعية والتبلُّد والتسليم والتقليد. إن شهادة الإسلام ثمرة تفكير مستقل ومعاناة وقناعة شخصية. وقد نبَّه ابن رشد, إلى أن التفكير العقلي المنظم هو الطريق إلى الله. وصوَّر ابن طفيل ذلك بشكل شيِّق في روايته «حي بن يقظان».
إن خاصية الاستقلالية مدخل أساسي لبناء صرح ثقافي متين قادر على الصمود أمام الرياح الهوجاء التي تضرب في اتجاهنا كل يوم! ولن يفيدنا الارتداد إلىالوراء, والتحصُّن داخل أنساق ثقافية تاريخية ومحنطة, ولا الارتماء في فضاءات روحانية لا قرار لها ولا مقاييس, تلغي العقل لحساب الأذواق والأحاسيس, في إطار تحالف ثقافي تاريخي بين التقليد والمؤسسة السياسية المستبدة.
3ـ خاصية النقدية
النقد تعبير عن يقظة عقلية وحيوية في التفكير. بالنقد نتجدد ونتطور, وبغيره نجمد ونموت. والثقافة التي لاتخضع لنقد ومراجعة هي أكوام من المعلومات وحسب, قد تنفع يوماً, ولكن الأكيد أنها عاجزة عن مسايرة متطلبات الحياة, ومستجدات المعرفة والعلم. والنقد كما يقول الأستاذ خالص جلبي, يفرض نقاشاً عقلانياً صارما, ودقة علمية فائقة,ونحن لانفهم ذلك إلا تخريباً وطعناً بقدسية الأشخاص. وللأسف, كثيرة هي المعلبات الثقافية التي مازالت تحكم عقولنا, وتُكبِّل تصوراتنا ومازالت لم تُخضع لعملية نقد ومساءلة, إما جهلاً بمحورية النقد كممارسة معرفية وجيهة, أو لاختلاط الفكر بالشخص, مما يدخل العلاقات في خندق المجاملات على حساب الحق والمصلحة.
والمنتمون اليوم للصف الإسلامي, الراغبون, بصدق, في بناء ثقافة مستقبلية جلهم مازال رصيده المعرفي لايتجاوز أفكاراً ومسلمات تلقاها منذ صغره, ومراحله الأولى في الدعوة: في الجلسة, والمخيم, والتنظيم بشكل عام, ولم يكلف نفسه عناء الزيادة والتجديد. فمازال التعامل مع كتب بعينها, وإلقاء دروس بنفس الشكل والمضمون في رتابة وروتين, وجو يساعد على النوم أكثر مما يبعث على اليقظة والصحو. كل هذا, وغيره ولّد أنماطاً بشرية متماثلة, بعضها يكرر البعض. وهذا يبرر ما يلحظه المتتبع للمشروع الإسلامي المعاصر, الذي يفترض فيه أن يمتلك جذراً ثقافياً ضابطاً, مازال تسيطر عليه ثقافة محدودة, إنفعالية وتبسيطية. أبناؤه في الأغلب لايقرؤون ولا يتابعون وغير مشاركين في الشأن الثقافي في أوطانهم, إلا قليل. يعيشون دفئاً تنظيمياً وهمياً, تغذيه ثقافة تاريخية استهلاكية, قد تُسمى تربية أو تكويناً.. في أغلبها تقليد وتبسيط, مما أعدَّه فقهاء أبعد ما يكونون عن مجال المعارف الجديدة, والعلوم الدقيقة,إنسانية واجتماعية ونفسية وتقنية.
إنه لكي نؤسس ثقافة مستقبلية بانية, في ضوء الانفجار المعرفي المعاصر, واكتساح ثقافة الغرب القومي ومقوماته,في إطار العولمة, لابد من إخضاع ما نتلقاه من معارف إلى عمليات نقدية صارمة ومتكررة, ولابد من ان نطوِّر مداركنا يوماً بعد يوم. إن النقد هو جزء من تصورنا العقدي الذي سطّره المنهج القرآني والتجربة النبوية. وعلى المثقف المسلم أن يساهم في تقوية صرح ثقافته, بالمبادرة والإنتاج, وأن ينتقد بوضوح وصراحة,ويراجع الشيوخ والمسؤولين في أفكارهم, حاملاً على ظاهرة الاستصنام البشري, من غير عقدة نقص ولا تهيُّب, إلا ما تفرضه الأخلاق وأدبيات الحوار, من معاملة طيبة واحترام متبادل. ثم الانفتاح على الثقافات والأفكار الإنسانية, ففيها من الحكمة الكثير. وللأسف فالعلمانيون في وطننا الإسلامي, في أغلبهم, يمتلكون جرأة كبيرة في نقد التراث والكسب الإسلامي عبر التاريخ, قد يصل نقدهم حد التشكيك في الثوابت إما جهلاً أو تبعية ثقافية للآخر, ولكن الأكيد أن مجموعة من الدراسات النقدية, من هذا النوع, مخلصة في منطلقاتها, وجادة في منهجها, ولابد من الاستفادة منها, لتدريب العقلية الإسلامية على التفكير بصوت مرتفع, والنقد والمراجعة والتصحيح, حتى نعمل على تأسيس وتشييد معمار ثقافي مستقبلي واعد.
4ـ خاصية الواقعية
إن العقل المسلم, بتعبير راشد الغنوشي, ظل قروناً طويلة مترنحاً بين سكرة نواسية وشطحة حلاجية, فإذا آفاق منها عالجته بطشة حجاجية, وإن آثار هذه السكرة لاتزال عالقة تغشي الأبصار وتمنع الرؤية الصحيحة والتخطيط العملي على ضوء المعطيات الواقعية.
والواقعية التي نقصد: أن تكون ثقافتنا ثمرة تفاعل مع مُحيط معين, وتفتح فيه طرق الاجتهاد والتجديد, لأن التفاعل مع الواقع الحي هو الذي يُعرِّض الفكر لتحديات الظروف المتجددة كل يوم, ويستفزُّه إلى أن يستجيب لها فيتجدد وينمو اضطراداً. وبغير هذه الصلة تموت دواعي التجديد وعناصر الحركة والتوالد. كل هذا يُساعدنا على إنتاج ثقافة واقعية عبارة عن علاقة عضوية بين سلوك الفرد واسلوب الحياة في المجتمع. إنها كتلة, بتعبير مالك بن نبي, بما تتضمنّه من عادات متجانسة وعبقريات متقاربة, وتقاليد متكاملة وأذواق متجانسة, وعواطف متشابهة, وبعبارة جامعة, هي كل ما يعطي الثقافة سمتها الخاصة, ويُجدد قطبيها من عقلية ابن خلدون إلى روحانية الغزالي.
ولن نحقق خاصية الواقعية, أيضاً, في ثقافتنا إلا إذا تخلَّصنا من مسلمات ثقافية بائدة, كالسرية, والمفاصلة العضوية, والعزلة المادية, والهجرة.. وغيرها من أشكال الهروب والغموض في الفهم والحركة. وأحللنا محلها مفاهيم: القراءة المستمرة, والمشاركة والتفاعل والمخالطة, من غير استلاب ولا ركون لأفكار الفساد, وتكريس الباطل, بل في منازلة صريحة للشر ومؤسساته.
وعليه, إن مستقبل ثقافتنا, رهين بتحويلها, بناء على الخاصيات الأربع المذكورةإلى جو يمتص الفرد عناصره تلقائياً, من ألوان وأصوات وحركات وروائح وأفكار, ويتلقاها لا بوصفها معاني ومفاهيم مجردة, ولكن بوصفها صوراًمألوفة يستأنسها منذ المهد.
* كاتب من المغرب