إنه سؤال يلخص قصة هذا النص المفتوح، لعولمة متعددة الأبعاد، أو بالفعل ذلك الشأن اليومي الذي يواجهه الأفراد والجماعات، كما لو كان حدثاً نازلاً من السماء كما يقول جاك نيكونوف. بل الأخطر من كل ذلك، أنها مراوغة. تلك إذن حقيقتها. من هنا لا غرابة في هذا التناسل المستمر للتظاهرات الدولية والمحلية، تبشيراً بالعولمة وطلباً لتسريع إجراءات تحرير التجارة الدولية. يتساءلون، لماذا هي تظاهرات تحت رعاية الهيئات الدولية، وهو ما يجعلها مفارقة واضحة للعيان؟! فذلك لسبب بسيط؛ هو أن العولمة لا تملك قاعدة سوسيولوجية واسعة ولا امتداداً جماهيرياً. لذا فهي تتوسل بالهيئات الدولية التقليدية. فالأمم المتحدة تملك القرار السياسي من خلال الجمعية العامة كما تملك القرار الأمني من خلال مجلس الأمن، كما تملك القرار الثقافي من خلال اليونسكو. أما من خلال صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، ومنظمة التجارة الدولية، فهي تملك القرارين الاقتصادي والتجاري. ثمة إشارة تتعلق بما يتعين أن تكون عليه المرحلة القادمة: أن تتحول هذه الهيئات الدولية إلى بؤر حقيقية لدعم مسارات الليبرالية الجديدة. فمن هيئة أممية أشخاصها الدول إلى هيئة عالمية أشخاصها شركات دولية عابرة للحدود. لا ننسى أن الأمم المتحدة ناصرت القضايا التي لا يطالها الفيتو الأمريكي. كما إن البنك الدولي تيرموميتر الاقتصاد الغربي، كلنا يعرف تفاصيل بروتن وودز، وكيف نجح صندوق النقد الدولي في حماية التوازن الاقتصادي الغربي على خلفية التهميش وسياسة الاستتباع المفروضة على اقتصاديات العالم الثالث في إطار إعادة الجدولة. ونعلم أيضاً كيف نجح في أن يجعل من الدولار معياراً أساسياً للنقد. ولذا نفهم من هذه الرعاية الأممية للتظاهرات المتعاقبة، أنها محاولة لجعل العولمة ظاهرة فوق دولية. وكونها في طريق فرضها بقرارات أممية، الأمر الذي يعني أن العولمة تبشر بعصر نهاية سيادات الدول ونهاية ملحمة الجماهير. أما ما يتعلق بالمؤتمرات والندوات المحلية التي تدور حول مبدأ القبول أو الرفض للعولمة، فهي مضيعة للوقت. لأن العولمة واقع يفرض نفسه بنفسه، وأي نقاش لا يهدف البحث عن الطرق الممكنة لاحتوائها أو السبل الناجعة للاندماج في حراكها اندماجاً خاضعاً لمخطط مدروس أو مشروع معدّ سلفاً للمناورة من داخلها، فسيجرفه التيار ويجعله على هامشها؛ لا هو بمنتج ظافر بموقع في (أوراشها)، ولا هو مستهلك لها استهلاكاً يجعله في مقام المستفيدين من روائعها. سيكون وضعه خارج التاريخ الحديث. وستتضاعف محنة الأمة، لتصبح حقاً أمة أمية في زمن تدفق المعلومات، لتصبح مشكلتها أكبر من قضية اغتصاب جزء من خريطتها. بل سوف تتعرض إلى استعمار غاشم لزمنها الحضاري المهدور. سوف يسرق منها المستقبل، لتكون أمة بلا مستقبل!
في هذا الإطار، أريد أن أعود إلى أصل السؤال: عن المفهوم أو التعريف. في الحقيقة، العولمة ككل ظاهرة لها صلة بالقوة والسيطرة هي حقيقة تاريخية ذات جوهر واحد، وإن اختلفت مظاهره وتشعبت شؤونه. لكن هذه الوحدة الجوهرية وهذا الانحفاظ لذات السلطة في ثنايا هذه التداعيات التاريخية لا يعطينا الحق في الإمضاء على تعريف واحد. بل إن استئناف التعريف ضرورة يمليها واقع التطور نفسه. فالتاريخ يعيد نفسه، أي نعم، لكنه لا يعيد نفسه بالمعنى الذي يفيد استعادة المعدوم المحال فلسفياً، وإنما استعادة المثال. إن للتاريخ حركة دائرية. فـ{كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيْدُهُ}. لكن يتعين علينا عدم إغفال الأعراض الطارئة والتحولات التي يخضع لها المفهوم. فالتعريف يتحرك بحركتها. هذا بطبيعة الحال ليس درساً في التعريف المنطقي. بل هو نوع من تحرير محل النزاع. فحتى لا نقع في إشكالية التعريف مرة أخرى كما حصل مع موضوع >حوار الحضارات< لابد من لفت الانتباه إلى حقيقة الالتباس الذي يمكن أن نقع فيه أثناء الحديث عن العولمة. للأسف ثمة من ينظر إلى العولمة بوصفها دعوة أو تبشيراً بالعالمية. لكن هذا ليس هو مقصودنا منها. إذا كان للعولمة أو العالمية دلالة سابقة، متماهية مع النمط السائد ومساوقة للمفهوم التقليدي للقوة ومصادرها، فإن إعادة انتشار عناصر القوة في الأزمنة الحديثة تفرض تعريفاً متطوراً للقوة أولاً والعولمة ثانياً. العولمة هي نزعة للسيطرة. وهذه الأخيرة لها أنماط مختلفة تتحدد بمستوى التطور الذي تشهده العصور في صيرورتها ومراحلها المتعاقبة.
نتساءل إذن، ماذا تعني العولمة أو العالمية بالنسبة الى روما أو جينكيزخان أو نابوليون.. لقد كانت هناك دائماً إرادة للسيطرة من قبل الأمم القوية على الأمم الأضعف. إلا أن النزوع الهيمني كان يتحدد بمعطيات التطور في مفهوم القوة نفسها. ربما اكتفت روما بوضع اليد على المجال وفرض السيادة على الأمم. إرادة السيطرة هي هذا الشيء المشترك بين كل أشكال الهيمنة في التاريخ. ليس بالضرورة أن تكون صاحب حضارة لكي تهيمن. لقد هيمن المغول على العالم الإسلامي الذي كان يمثل أرقى كيان حضاري يومئذ. لكن بما أن العالم الإسلامي كانت قوته في عمرانه وصنائعه أو لنقل في منظومته المعرفية، سرعان ما ذاب المغول في حضارته.
إن مظاهر السيطرة اليوم تختلف تماماً عن السابق. إنها سيطرة قوية وسريعة وشاملة. يمكننا القول: إننا نعيش عصراً موسوماً بتوتاليتاريا القوة أو السلطة. وهي سلطة لها مظاهر مختلفة، متوحشة وناعمة في آن واحد. إذا كان التمرد أو >السيبة< دليلاً على هشاشة السلطة في الأزمنة السابقة، فإن التمرد في الأزمنة الحديثة غدا مساوقاً للحمق والجنون والانتحار. ذلك لأن الرقابة امتدت إلى كل شيء، حتى حلمك أصبح خاضعاً للتوجيه. فالاقتصاد الموجه ليس هو اقتصاد المنظومة الاشتراكية سابقاً، بل هو اقتصاد الرأسمالية التي تستطيع أن تصنع حلمك أو تبيعك الحلم المناسب جاهزاً حسب الطلب. ففي عصر توتاليتاريا السلطة وشمولية الرقابة والرقابة على الرقابة، أصبح من الضروري تعريف العولمة على أنها جنون الرقابة الذي يهدف وضع اليد على ما تبقى من الكائن خارج حدود السيطرة، لإعادة تأهيله ودمجه في نظام الرقابة. إنها ملحمة الترويض الكبرى. فعالم الغد لا يتسع للإنسان الأصيل Indigène. إن هذا لا يتم إلا بوضع اليد على العقول وعلى المكتسبات الاجتماعية بتحويلها إلى أرقام تبادلية. أي جعلها ظواهر رقمية، حيث يغدو الكل قابلاً للتسليع بلا شرط.
لكن الأخطر في ذلك كله، أن العولمة تبشر بنوع جديد من البشر. فكائن العولمة، هو كائن سأسميه: الكائن >الأنطو - ميتري<. إذا كانت الأشياء في مفهومها العولمي هي هذا الكل المسلع، فإن المجتمع الصناعي الحديث قد أضاف نمطاً آخر من التسليع: التسليع الرمزي أو تحويل القيم والصناعات المعنوية والروحية إلى كائنات سوقية قابلة للعرض والطلب. إذا كانت الأشياء اليوم قد أصبحت جميعها - بالفعل - موضوع ماركوتين: أي الكل محسوب والكل مقيم، فإن تقدماً آخر على طريق هذا التسليع الكوني، هو تسليع الكائن نفسه. فالكائن في المجتمع الحديث بدأ يتحول إلى صفة أخرى، أو لنقل إلى مسخ جديد. ربما تجاوزنا حتى عصر الـ Homo-oeconomicus. على الأقل كنا في السابق، نتحدث عن الإنسان المستلب الذي هو الصورة الحديثة عن مفهوم الفصام عند ليفي بروهل بخصوص مبدأ المشاركة La participation. في المجتمع الطبيعي - حتى لا أقول البدائي -.. أو لعلنا تحدثنا عن الكائن المستلب بضاعياً كما تحدث ماركس؛ المستلب الصنمي الذي أصبح للأشياء سلطة على معنوياته ووجدانه.. ففي كل هذه الحالات، على الأقل، كان شيئاً ما من هذه الإنسانية لا يزال حاضراً. حتى داخل هذا الإنسان البضاعي الذي أصبحت البضاعة بالنسبة إليه أكثر من كونها منفعة، بل قيمة في ذاتها؛ قيمة غامضة أشبه ما تكون بحالة صنمي لباسي Fetichiste - vestimentaire مهووس بحداء أو حقيبة لامرأة مجهولة. لقد أصبحت الذات نفسها هاربة.. تريد الاستقالة، لا المشاركة. إنه عصر انقراض الأنا.
إذا كان جاك لاكان قد حدثنا عن الوعي المتخيل La conscience imaginaire أو >الأنا< كما تظهر في المرحلة المرآوية بوصفها معطى خارجياً، فإن >الأنا< هنا ليست متخيلة بل هاربة لا معنى لها. ليست الأشياء مرآةً لها، بل هي مرآة الأشياء. لقد اقتربنا من درجة الصفر لكائن على أهبة الهروب. كوجود لغيره - للأشياء - هذا ما يدل عليه الارتفاع المهول في معدل الانتحار الفردي والجماعي.. وذلك لمجرد أن هذا الكائن المنزوع > الأنا< لم يعد قادراً على الانخراط في عالم الأشياء الموجودة لذاتها - والتي هي على كل حال غير موجودة لنا -. وإذا فشل الإنسان في تطبيق المبدأ الفوكوني، بالخروج من سباته الإنسانوي ليكون مجرد عنصر في نظام الأشياء، فالمخرج هو الانتحار.
العولمة إذن، ستتعامل مع الإنسان بوصفه ظاهرة > أنطو- ميترية<. فهو ليس كائناً موجوداً لغير >أسمى< بل هو كائن موجود لغير >أدنى<. أعني سوف تصبح علة وجوده هي مدى استعداده للاندماج في عالم الأشياء بمنطق >الهو< لا بمنطق >الأنا<، ومرآة للأشياء وليس العكس. هذا الفقر الوجودي لإنسان المستقبل - الإنسان العولمي المسلع - سيخضع وجوده إلى قرار السوق بموجب العرض والطلب.
ماذا إذن، لو نجحنا في الاستنساخ وأصبحنا ننتج من البشر ما تطلبه حركة السوق، ونعيد إتلاف ما لم يعد مستحقاً للحياة. ماذا إذا أصبح الاستنساخ مثلاً، متاحاً للاستهلاك العمومي - La consommation de masse -؟! إن وجوده حينئذ لن يكون واجباً بالمعنى المتعالي لحكمة الخلق، ولا هو مقذوف به هناك بالمعنى الذي تفيده محنة الوجود هناك أو الدازاين الهيدغيري.. ولا حتى الموجود الذي تحصلت ماهيته بالعمل، بعد أن كان وجوداً عمائياً Chaotique لا معنى له أو محض هيولي مجردة حتى عن الإمكان، الإمكان أو الاستعداد لتقبل الصور. فالموجود العولمي هو غير ذلك؛ هو كائن حددت ماهيته سلفاً.. ماهيته تسبق وجوده. فهو موجود خاضع لنوع من السياسة الإنتاجية أو الاستهلاكية الاستباقية أو السياسة الإيكونوميترية الاستباقية Pré-économétrique. حتى الولادة لن تبقى شأناً شخصياً، بل سوف تكون صناعة مرتبطة بمتطلبات السوق. أنت فقط تطلب، هناك المصنع يزودك بقائمة لاختيار الشخص المناسب، في ذوقه في استعداده في شكله. فإنسان العولمة القادم، هو كائن مجبور ومسير وموجه، ليس من قبل خالقه كما يحدثنا علم الكلام القديم، بل مسير ومجبور من قبل إرادة السوق الحرة كما ينبغي أن نفهم في ضوء علم الكلام الليبرالي الجديد. فالحاجة إلى الوجود، ليس الإمكان ولا الفقر الوجودي، بل هي الاستعداد للترويض..
فبقدر ما نبتعد من عصر الإيمان أو الفلسفات المتعالية، بقدر ما نقترب من اللامعنى. إنه بالفعل عصر إلهيات الماركوتين. سيطرة على الوجدان وعلى العقل وعلى الوجود.. هذا هو الجديد في تعريف العولمة: أن يصبح العالم قريباً من كل شيء - حتى من أبعد الأشياء - لكنه بعيد - حتى من أقرب الأشياء - عن > أناه<.. هذا ما أسميه: البعد في القرب والقرب في البعد.. لقد عرف كل الأشياء وضيع >أناه< فما هي العولمة إذن؟ أقول بناء على ما سبق؛ إنها محاولة توتاليتارية لاستكمال السيطرة على الوجود بما هو موجود، من أجل تحقيق التحول بالتاريخ الحديث، من عصر الإنسان المستلب جزئياً أو المشارك إلى عصر ما بعد الإنسان الاقتصادي Post-Homo-oeconomicus؛ أعني إلى عصر الكائن بوصفه ظاهرة أنطومترية Onto-métrique. إن إنسان العولمة هو في المحصلة النهائية، مجرد شيء من أشياء العولمة !
ليس ثمة >فوضى. إن الأزمنة الحديثة موسومة بالخضوع اللانهائي لنظام الرقابة. ربما اليوم وفي المستقبل سوف نعيش تضخماً مرعباً في منسوب الرقابة التي هي أساس السيطرة. إن المفاهيم التي ذكرتموها لم يعد لها أي مضمون وظيفي في التحولات المنظورة. ليست العولمة وشعاراتها هي مفاهيم وهمية للخطاب النيوليبرالي، جاءت فجأة لتلبس على مفاهيم سابقة. كل ما هنالك، أن المفاهيم التقليدية التي هي الأخرى من اختلاق الليبرالية المهيمنة، فقدت فعاليتها الوظيفية في إطار ما يشهده العالم من تطور سريع. كل شيء مراقب، وكل شيء خاضع لنظام تراقبه القوة الليبرالية المهيمنة على مصادر القوة في العالم. إن المفاهيم لا قيمة لها هنا إلا بما تمثله من بعد وظيفي. القوة هي التي تخلق المفاهيم وتزودها بعناصر البقاء. لا عجب إذا قلت لك الآن: امنحني قوة، أمنحك مفهوماً. إذن، كيف يقال إننا نعيش الفوضى، وبمقدور عابر سبيل في طوكيو أن يعرف عن وضعك المدني حتى عن فاتورة الكهرباء. فما نعيشه إذن ليس مصداقاً للفوضى، بل هو حالة من الحركة التي تدور حول محور مركزي لا نعرف شيئاً عن مدى إمكانية صموده.. هي حركة من نوع Mouvement de centrefuge، لا نستطيع التنبؤ بنهايتها. فالكل داخل هذه الحركة لا يرى إلا شيئاً واحداً؛ متى ينفرط عقد هذه المنظومة ومتى ندخل سدم العماء. الشيء الوحيد الذي افتقدناه في هذه الدوامة، هو إمكانية التنبؤ الصحيح. إنه عصر منظم، لكنه يوحي بخيبات الأمل وينذر بالعماء. نعم، ربما في ظل الوتيرة السريعة للتطور، قد يصعب علينا التوقع. من هنا سيصبح الحديث صعباً وإشكالياً حول المستقبليات. إذن العولمة ليست عالم فوضى، بل هي عالم رقابة منظمة وصارمة، لعبت فيه المعرفة لعبتها البروميتيوسية.
وهنا أحب أن أقول: إنه ليس عصر الثورة الرأسمالية الثانية، حيث هذا يطرح سؤالاً دورياً: من يثور على من؟! إنها ثورة المعلومات التي كان لها الدور الحاسم في سباق المسافات الطويلة للرأسمالية المتوحشة. وهنا تبدو الرأسمالية محظوظة أكثر من اللازم. محظوظة يوم أسعفتها التقنية، ومحظوظة يوم أنقذتها الوصفة الكينيزية، ومحظوظة يوم انسحب من الميدان خصيم لها قاده وعيه الشقي إلى الانتحار.. ومحظوظة يوم أسعفتها ثورة المعلومات.. لكن كل هذا لا يرفع عنها صفة الإمكان؛ فأية دحرجة تلك التي سيتعرض لها النظام الرأسمالي، يوم يندب حظاً عاثراً ربما يخفيه عنه اليوم مكر هذا العماء القادم لا محالة. إن الأمر المعجز حقاً هاهنا، هو كيف استمرت الرأسمالية في توحشها حتى اليوم، وكيف ستحافظ على توحشها ورشاقتها المغشوشة إلى حين؟ ذلك هو المعجز حقاً فيها وليس هو انهيارها. على أن هذا الانطباع هو نفسه لكبير المضاربين في الأسواق المالية؛ أعني جورج سوروس.
لقد أحسن بورديو، بالفعل، حينما وصف هذه المعادلة الفالراسية بالأسطورية. ذلك لأن التحولات الجديد للاقتصاد الحديث، لا تقبل المساومة. فالنزعة الداروينية
- والتي هي للأسف، المحرك الأساسي لهذه البنية الذهنية - لا تقبل بالهدنة. ومع ذلك فعصرنا هو أكثر وحشية مما تصور أسلافنا. على الأقل كانت النشوئية الاجتماعية مع نيتشه تحرضنا على إبادة الضعفاء بحثاً عن القوة وإرادة الحياة. لكن حتى هذا الحلم الهوسي بالقوة الذي لم يقطع حبله السري مع إرادوية شوبنهاور أو لنقل مع حلم >زارا< بحثاً عن الإنسان الأعلى، لم يعد له معنى. إن المشكلة اليوم، أن هذا النظام أصبح قادراً بل مصمماً على صناعة الضعفاء وصناعة الفقر والبؤس. إذن هو ليس حتى نظاماً داروينياً. إذا كان نيتشه ينام على أمل ألَّا تطلع الشمس فيه على العبيد. فإن الاقتصاد الدارويني لا يستغني عن الضعفاء ويتمنى أن يزدادوا كل يوم فقراً إلى حد يشدهم إلى عبوديتهم، التي من دونها لا تزدان الحركة الصناعية؛ فهم اليد العاملة وهم المستهلك وهم العموم.. فلو أصبحنا كلنا أرباب عمل، فمن سيكون المنتج ومن سيكون المستهلك؟! لقد خدعنا نيتشه إذن في نزعته الداروينية هذه، لأننا لو أصبحنا أقوياء، فسيضيع منا معيار القوة. وإذا كان مفهوم القوة نسبياً، وكان للأقوى دائماً الحق في سحق الأضعف، فالنتيجة أن واحداً فقط هو الأجدر بالحياة. أعود لأقول مرة أخرى، بأن النزعة الداروينية لا تقبل الترويض، فهي كما يراها صاحبها في الطبيعة تخبط خبط عشواء، لكنها ماكرة بامتياز. إن خصمها التاريخي كان ولا يزال، هو هذه القيم النبيلة من قبيل الحرية، والعدالة الاجتماعية، والحق في الحياة و.. و..
سأعود مرة أخرى إلى نيتشه؛ إنها شعارات من وحي أخلاقيات العبيد.. حتى الحرية والعدالة هي من زفرات العبيد.. كيف إذن نتمكن من تحقيق هذه المصالحة التاريخية - الأسطورية حسب بورديو - بين نزعة الاستقواء الأعمى ومطلب العدالة والتكلفة الاجتماعية. إنها بالفعل أسطورة لا مكان لها إلا في ذهنية فالراس! نعم، هناك تمديد في شهر العسل بين العولمة والديموقراطية المغشوشة. وهي كما تبدو، لعبة الوقت بدل الضائع. لأن العولمة ما أن تستحكم قوتها، حتى تصبح ديموقراطية الرأسمال وليس ديموقراطية الإنسان. ذلك لأن إنسانها أو بالأحرى كائنها الأنطو-ميتري، هو مروض بما فيه الكفاية للاستجابة للاستهلاك الموجه، ولقمع هذه التوتاليتاريا الناعمة. فالكائن الانطو-ميتري هو كائن مجبور غير مختار.. هو كائن مفرغ من أناه الفرداني.
إن الوتيرة التي تجري عليها الأحداث اليوم، تؤذن بنهاية عصر الجماهير ونهاية عصر الفرد بما هو فردانية حرة. إنه عصر لا يستحق أن يوصف بالإنساني، إنه وكما يصفه RAHAN في بعض الرسوم المتحركة للأطفال: بالكائن الذي يمشي واقفاً! أي ذلك الذي ليس له ما به يمتاز عن باقي الكائنات البرية سوى فعل المشي واقفاً.. على أن ثمة من هذه الكائنات من يشاركه هذه الاستقامة. ومن يدري أن كائن العولمة، سوف يكون محدودب الظهر وربما افتقد ميزة المشي واقفاً بعد أن افتقد معنى إنسانيته. إنهم أولئك الذين يمشون واقفين: ceux qui marchent debout أي ذلك المسخ الجماعي؛ قطيع العولمة!
أي مستقبل للديموقراطية في مجتمع لا يملك الفرد فيه > أناه< ومن هربت منه ذاته كيف يكون له رأي؟! ففي مجتمع >الأنوات< المفقودة، ما الحاجة إلى الرأي؟ طالما العولمة تتيح لك الحياة دون > أنا<. أي ككائن يمشي واقفاً، أو كطاقة غريزية مثارة بمقاييس مضبوطة. سنكون مدينين إلى الفارابي حينما رأى الإنسان مجبوراً في صورة مختار! العولمة تعفيك من أن يكون لك رأي، ومن كدح الفكر وجهد النظر. فهي تتيح لك إمكانية شراء > الرأي< جاهزاً كطبق من الهمبرغر. ثمة دائماً من يفكر عنك؛ إنه الإعلان. والاستهلاك لا يدع لك الفرصة في هذا السباق المارثوني. فوراء الرأي تفكير، ووراء التفكير جهد ووقت. والكائن الأنطو - ميتري مسلوب الوقت منهك من فرط الترويض اليومي. فأمامه رأيان على الأغلب، والأمر لا يتطلب منه إلا أن يجيب بـ: نعم أو لا.. وبين نعم ولا هذه لكائن أنطو - ميتري، تكمن أكذوبة الديموقراطية المغشوشة في مجتمع ليبرالي خضع فيه الرأي لمنطق العرض والطلب.
لا حديث إذن عن تنمية مستدامة، هناك فقط وفقط، استهلاك مستدام! ثم هب أننا صدقنا بحرية هذا الكائن المصنوع أو المعالج في أوراش المجتمع العولمي، فعبر أي وسيلة من وسائل الإعلام سيعبر عن رأيه. إذا كان الإعلام صناعة بيد الرأسمال نفسه. فوسائل الإعلام ليست حرة. إذن الديموقراطية كانت حكاية لأولئك الجماهير الذين أصبحوا اليوم أقصوصة قديمة أشبه بملحمة الخلق الأولى. أما العولمة فهي دعوة إلى عصر انقراض الجماهير. المجتمع السياسي العولمي المنظور هو مجتمع مافيوقراطي بامتياز.
علينا أن ننتبه إلى تلك المغالطة الخطيرة التي تخلط بين النزوع إلى استعباد النوع وبين تطور المجتمع الحديث، الذي كان للرأسمالية الفضل في تقدمه بالمقدار نفسه من فضلها عليه في هذه الانهيارات. النزعة الاستغلالية المتوحشة وجدت في كل النظم السابقة للرأسمالية. إذا تحدثنا عن القطاع الرأسمالوي Le secteur capitalistique كما يصفه ماكسيم رودانسون، فهو حاضر في كل أشكال الانتاج السابقة للرأسمالية. بمعنى آخر، إن ما يدور في رأس الإقطاعي هو نفسه ما يدور في رأس الميركونتيلي، وهو نفس ما يدور أيضاً في عقل رجل مضاربات في بورصة وول ستريت أو نيويورك. وهذا ما يتضح جلياً أثناء الحديث عن الدولة - الشركة بديلاً عن الدولة - الأمة.. وأيضاً من خلال اتفاقية MAI. فالدولة - الشركة، هي بالفعل الصيغة الممكنة الوحيدة للمجتمع العولمي. لأن الشركة سوف تلتف على الدولة في نوع من الخوصصة الذكية. الشركة لا تريد أن تشتري الدولة كلها، وليس ذلك في واردها التوسعي. فالوظيفة المحددة للدولة تجعلها جهازاً ردعياً وحمائياً. الدولة تحتكر العنف، والشركة لا تريد الإنفاق على العنف طالما أن الدولة ممكن أن تفرض على المجتمع ضريبة هذه الخدمة! أي حماية الشركة منه بالذات. الدولة تملك أن تجبر المواطن على دفع أضرار أي شركة تعرضت للعصيان المدني أو لاحتجاج العمال. هذا ما يكشف عنه مفهوم الـ Gouvernance، واتفاقية الـ Mai. فالـ gouvernance، تتيح للشركة أن تتوفر على حق المساهمة في رسم مخططات الدولة أي المساهمة في تدبير الشأن العام، وذلك وفق نظام الأسهم أو الحصص. بمعنى آخر، الدولة ستصبح بورصة للاستثمار في تدبير الشأن العام. وليس للدولة إلا أن تنفد سياسة المستثمر. إن للدولة في هذا الأركستر الرأسمالي المتوحش، دور المايسترو الذي يتقن فن التموج والانسياب مع هذا النغم الساحر لكونسرتوهات مؤلفة ومقروءة سلفاً. على أنه لا يفوتنا القول بأن مؤلف هذه المعزوفة يجب أن يكون هو كبير المستثمرين بامتياز!
لقد ظهر ذلك بوضوح من خلال اتفاقية الـMai، التي نزلت على الرأي العام كالصاعقة. إنها وثيقة تكذب ادعاء العولمة بأنها تبشر بعصر الجماهير أو عصر الديموقراطيات الحرة. لقد كانت اتفاقية سرية كما لو أنها مخطط مافيوزي. ربما كانوا على حق، لأن الجماهير، هؤلاء الغوغاء، سوف يعكرون عليهم هدوء أشغال الاجتماع، كما جرى في سياتل وجينوا.. لقد كانت أشبه بوفد جاء ليستكمل انتقاماً زيوسياً ضد ما تبقى من سياسات اجتماعية بين يد البشر؛ إنها لعنة ليبرالية.
إنهم يتحدثون عن مصير الأفكار والمثل الجميلة في عصر انتصرت فيه القوة الإيديولوجية التي كانت تقف دائماً ضد مطلب العدالة الاجتماعية. الذين كانوا في حاجة إلى هذه السياسة الاجتماعية، هم أولئك المهمشون الهاربون من جحيم المجتمع الصناعي.. هم مثال جونفالجان الذي تفجر عنه ذلك النداء الإنساني اللامشروط من أعماق هيغو وأمثاله، بوصفهم شاهدين على عصور الاستبداد الأوربي، ولم تكن مطلباً للقرصان الإنجليزي المسيطر على أعالي البحار. التاريخ إذن يعيد نفسه بصورة أفظع.
ومع ذلك دعنا نمضي في هذه المماحكة بعض الشيء لنقول: إذا كان ولا بد أن تحتضر السياسة من أجل تحرير الإنسان اقتصادياً، فما المانع؟ وإذا كانت العولمة هي هذا الخلط العجيب لأوراق السلطة ومصادرها فما هو الإشكال؟ وما المانع إن كانت ستهز البنى العتيقة التي شيد على أساسها الاجتماع السياسي، لمزيد من إطلاق المبادرة؟ إن مثل هذا الفهم السطحي للأمور لا يجعلنا نغفل كون كل هذه المفاهيم ليست جديدة على اجتماعنا الإنساني. بل كانت دائماً برنامج عمل الليبرالية والسوق الحرة منذ العهد الفيكتوري. كل ما هنالك أن الحرب الباردة التي انتهت وانتهى معها فعل التوازن العسكري والسياسي والاقتصادي والإيديولوجي، قد أخرت تحقق هذا الحلم، قبل أن يعود العالم إلى عذريته الإيديولوجية مجدداً في انتظار البديل.
والليبيرالية الجديدة اليوم، تستأنف محاولتها التقليدية المتطرفة للبلوغ بحرية السوق إلى أقصى حد ممكن. فالحديث عن العقد الاجتماعي أو فكرة المواطن الحر، هي أساطير المجتمع الحديث. فلم تكن يوماً سلطة القرار في يد الجمهور، وإن كان بين الفينة والأخرى ينجح في تحقيق مطالبه الجزئية. إذا كانت النظم الأوربية طيلة الحرب الباردة قد خضعت لحد أدنى من السياسة الاجتماعية، لعلها هي ما جعل المجتمع الأوربي أكثر انتعاشاً من المجتمع الأمريكي نفسه. فذلك ليس راجعاً لضغط الجماهير فحسب، بل هو خدعة تخفي حقيقة الوضع الأوربي لأنه حزام أمني للولايات المتحدة الأمريكية والليبرالية الغربية ضد التهديد السوفياتي. وإلا لماذا تراجعت السياسة الاجتماعية في أوربا بمجرد انهيار سور برلين. يفترض من الجمهور الأوربي أن يكون شاكراً للاتحاد السوفياتي، لأن صواريخه الباليستية شكلت حماية لسياسات أوربا الاجتماعية.
إن الجماهير هي الجماهير، فما الذي تغير اليوم؟! إذا كان للجمهور قدرة على الضغط بالأمس القريب، فهو راجع إلى أن النظام الدولي لم يكن يتحمل. أما الآن بعد نهاية الحرب الباردة، فإن تظاهرات الجماهير الأوربية تحولت إلى نوع من التهريج، فلا آذان صاغية. لقد تراجع صوت الجماهير. والمستقبل ينذر بتراجعات مهولة في مجال الحقوق المدنية. إننا نعيش مرحلة الدحرجة السيزيفية بعد أن جربنا الصعود المضني الذي أتى على ما تبقى من معنى لإنسانية حرة!
إذا عدنا إلى ما تقدمت الإشارة إليه، الاقتصاد الخالص أو المجرد، وتحديداً مع ليون فالراس، سوف نجدنا أمام اقتصاد مروض ومختزل في معادلات رقمية. هذا معناه أن الاقتصاد أصبح شأناً علمياً خالصاً، لا علاقة له بالمجتمع ولا حتى بالسياسة. فالعدالة الاجتماعية هي موضوع إنساني مجالها القيم. ومن هنا بدأت الأسطورة. إذا كان > فالراس< قد طرد الإنسانيات من عالم الإنتاج ومنطقه الرياضي، كيف يريد بعد ذلك إعادة إدخالها من نوافد مغلقة رأساً. كيف يمكننا تحقيق المصالحة بين وفرة الإنتاج والعدالة الاجتماعية. هذه التلفيقة الأسطورية تحجب حقيقة فعل الميكانزمات الرأسمالية التي لا يمكنها أن تعمل إلا على حساب العدالة الاجتماعية. على الأقل، الليبراليون المتطرفون يفضحون هذه الازدواجية ليعلنوا طلاقاً تاماً بين الأمرين. وعلينا إذن ونحن نتحدث عن الاقتصاد المجرد القائم على العلم، وتحقيق المصالحة بين الإنتاج الحر والعدالة، أن نقف عند الدوافع الإيديولوجية وراء هذه التلفيقة الفالراسية الخادعة. لا سيما وأن فالراس من خلال كتابه عن الاقتصاد السياسي والعدالة، قصد إلى دحض اشتراكية برودون المثالية. لكن انظر مثلاً إلى >جورج كينان< وكثيرين من أمثاله، يمتدون إلى جيل المركونتيليين، ولا يزال لهم نظراء وحواريون بين ظهرانينا. أولئك الذين يعلنون بوضوح وصراحة: فلتسقط العدالة الاجتماعية ليس ثمة من فارق إذن بين تلك النزعة الفيكتورية ونزعة الليبرالية الجديدة اليوم سوى ما جد في وسائل التيسير وتطور التقنية، وتقنية المعلومات.
إن العصر البروميتيوسي الذي ازدهرت فيه السياسات الاجتماعية في أوربا لم يكن سوى شهر عسل أشبه بحكاية الأزمنة الجميلة في أوربا. لقد حلت المقاولة مكان الحزب، وصندوق النقد الدولي مكان مجلس الأمن الدولي. أما الآبارتايد الاقتصادي فهو جوهر النظام الرأسمالي وفلسفته. ثمة توزيع متفاوت للعمل والثروة. إذا لم يكن ثمة أبارتايد اقتصادي فلا مكان للسوق الحرة. أعني حرية سباق تنافسي على أرضية ملعب مائلة. إن فكرة الوطنية وما يناظرها من مفاهيم، كمفهوم الدولة-الأمة، هي جزء من الأركيولوجيا السياسية للعهد القديم. فإنسان المستقبل، لا وطن له. بل هو كما وصفه مرة جاك آتالي: بدوي، رحلي->nomade<-. فالإنسان العولمي مدين للمقاولة أكثر من الدولة.. هو حيوان استهلاكي أكثر مما هو حيوان سياسي. فحينما تموت فكرة المواطن والوطن، حتماً ستموت السياسة.
أولاً وقبل كل شيء، ليست الرأسمالية ثورة، بل هي نزعة تاريخية لها استعداد نادر للتكيف مع كل مراحل التقدم البشري. فما حصل بالنسبة للأزمنة الحديثة، هو أن الرأسمالية قفزت إلى القمة، وذلك نظراً للتطور القفزي نفسه الذي حصل في مجال التقنية، وازداد بفعل التراكم الضخم للثروات، نتيجة الحركة الاستعمارية الكبرى التي عرفها تاريخ العلاقة الأوربية بعوالم ما وراء البحار. إن ما حدث في الغرب ليس أمراً جزافياً. لقد كان من المفروض أن تنكشف هلامية السؤال الويبري نهائياً. لماذا ظهرت الرأسمالية في أروبا دون غيرها؟ إنها في تقديري مسألة لحظة حاسمة في التاريخ. نعم، لقد كانت الرأسمالية ستحصل بشكل أو بآخر وفي أي زمن أو مكان آخر. فالسبق إذن راجع إلى التطور التقني الجديد بما أتاحه من قوة في الصنائع وسرعة في التنقل ودقة في الأداء.. وراجع أيضاً إلى هذا التراكم -الذي هو شرط الإقلاع الاقتصادي-.
إن الشيء الذي أتيح للغرب ولم يتح لغيره، هو اختصار الوقت في مراكمة الثروات والمعدن النفيس من مستعمرات الدنيا. وهو ما لا يمكن أن يحدث بالنسبة لأمة أخرى من الأمم. هذه حقيقة لا ينبغي نسيانها أبداً.
أقول: إنها نزعة وجدت حتى داخل الأنماط الاقتصادية ما قبل الرأسمالية، وإذن فبالإمكان التنبؤ بالكثير من مظاهرها. فغاياتها الجهنمية يمكن استقراؤها من نشأتها الأولى. الأمر بالفعل يتجه نحو النهاية. وبما أننا جميعاً وصلنا مرحلة أصبح من الصعب تصور إمكانية إحداث أي تغييرات في بنية العلاقات الدولية وفي منطق الاجتماع السياسي للمجتمع الصناعي الحديث، فهذا معناه أن المحنة بلغت مداها واشتدت. والمحنة متى اشتدت انفرجت. هذا معناه بما أننا لا نملك تصوراً عن المآل الذي سيعقب هذه النهاية السيئة، فهذا يعني أن ما بعد عصر الانسداد تسكن الثورة. أي التغيير الجذري الذي يتحقق معه التحول التاريخي نحو الأفضل.
ربما نكون من سلالة الحالمين الذين لازالوا يحلمون بذلك اليوم، في زمن عادت الثورة لتصبح كما يصفها نيتشه: مفخرة العبيد... لكننا على أية حال لسنا الوحيدين الذين يحلمون بذلك، إذ حتى في الأعماق السحيقة للرأسمالية، يسكن قلق من المستقبل، ولذا تراها تستعجل مخططاتها، ولا تؤمن بالخطط البعيدة المدى.
إن سقوط النظام الرأسمالي أمر متوقع جداً. بل ما يخالف منطق الأشياء هو كيف يستمر هذا النظام، وكيف لا يزال محظوظاً ويستمتع بمزيد من البقاء. لعل نهايته هي أقرب إلى الاستيعاب من بقائه نفسه. كما يتساءل أكبر تاجر في العملات، أعني جورج سوروس مثلاً الذي يُعَدُّ أكبر مستفيد من المضاربات المالية وأكبر نقاد النظام الرأسمالي. وإذن، فهو قلق ساكن في عمق هذه النزعة الرأسمالية ذات الواجهة الخادعة. إن العالم لا يمكنه أن يستمر على هذه الوتيرة من التطور الذي افتقد قيمته ومعناه. وإلَّا تحول إلى مسخ فاقد لمبرر البقاء. وكما ذكرنا قبل قليل، أي مستقبل للإنسان، إذا استمر على هذا المشوار يحمل صخرة التصنيع على ظهره بلا جدوى؟ أي مستقبل للبيئة، إن كانت الأرض هي الكوكب الوحيد المعرض للتلاشي بفعل التلوث غير المحدود، الذي خيبت آماله اتفاقية >كيوطو<؟ أي مستقبل لعالم مرهون للرعب النووي الذي بدا كسيف ديموقليس فوق رؤوسنا..
لا مخرج إذن، فإما نكون أو لا نكون. وفي اعتقادي أن الثورة ستفرض نفسها بنفسها. والعالم المتقدم لم يعد يملك إلا أن يبرر هذه الفظاعات ويحجبها. لكن الرقع اتسعت على راقعها. لقد تورطت الرأسمالية في مشوار لا تملك قرار التراجع عنه. وهي تقترب من لحظة الصفر.. من كارثة كونية أو انتحار جماعي. إن النظام الرأسمالي الذي فشل خلال كل هذه الحقب، في أن يبيد آفة المجاعة والفقر من عالمنا، لكي يمنح للعدالة الاجتماعية مكانتها المحترمة في قائمة الحقوق، أكد على أنه ليس خياراً صالحاً للمجتمع الإنساني لأنه أصبح خطراً على نموه الاقتصادي، بمعنى أنه حارس لتخلف الجنوب وحارس للفجوة الفئوية بين جماهيره.
? هل الإسلام مرشح لمواجهة العولمة كما يرى كبلان؟
إنها حقًّا، عولمة موجهة، مأمركة، خاضعة لنمط من الرقابة الصارمة، بحيث أصبح من المتعذر أن نتصور نموذجاً لعولمة بديلة أو عولمة بطعم ونكهة مختلفة. لقد كان من المفترض في العولمة الحقيقية، أن نعيش في عالم يكون فيه >الماكدونالد< ممكن الوجود لا واجب الوجود.. تحضر فيه أمريكا وتغيب.. -على أن مشكلتي ليست مع >الماكدونالد<- لكن العولمة اليوم، معناها، أنك لن تكون إنساناً عولمياً نموذجياً حتى تكون مصاباً بفقدان الذوق وعمى الألوان. فالعولمة إذن هي نفسها الـ: American way of life. وهذا ليس له إلا تفسير واحد: أن العولمة هي فقر في الاختيار وأمركة للذوق. إنها دكتاتورية، خطابها إما نهاية التاريخ وإما عنف الحضارات.. لكن أيًّا كان الأمر فسوقها واحد: إنه عصر التوحيد الذي لم تشهده المجتمعات الغربية. إذا كان العقل الغربي تثليثي في الاعتقاد، يسمح بتصور الأقانيم الثلاثة، فهو في الاقتصاد، ضد هذا الشرك.
أمام هذا الواقع المزري، لا يمكن للعولمة أن تحظى بأنصار في مجتمع الفقراء والجوعى والمهمشين، الذين هم للأسف أغلبية المعمورة، ولكن المفارقة، قاصمة الظهر أن هؤلاء الجوعى هم بالنتيجة من يمثل القوة الاحتياطية لأنصار العولمة. هم الجيش وهم العمال وهم المستهلك وهم فئران التجارب. إنه قدر الإنسان في زمن لا يستمتع فيه الإنسان بإنسانيته. فالإنسان في المجتمع الحديث، إما مستهلك -بكسر اللام- مستلب أو فقير مستهلك -بفتح اللام-. والنتيجة لا وجود للإنسان المعتدل.
ولكن، هل نسلم للرأسمالية المتوحشة ناصيتنا ونمنحها فرصة أخرى كي تسرق منا ما تبقى من إنسانيتنا المهدورة؟
هنا فقط يمكنك أن تتحدث عن جيل جديد من الحقوق تولد من رحم هذه الملحمة من التجاوزات الفظيعة.. وهنا يمكننا مبدئياً الحديث عن مشروعية حركة الاحتجاج الواسعة التي يقوم بها قطاع واسع من المجتمع المدني في أوربا وأمريكا نفسها، والذي أظهر إلى أي حد هو في مقدمة المستهدفين بهذه العولمة. وقد نخطئ لا محالة إذا نحن ظننا تلك الحركات الاحتجاجية هي تفضلاً من الشارع الغربي أو دفاعاً عن العالم الثالث. لقد كرست الحرب الباردة واقع السياسات الاجتماعية في الأنظمة الأوروبية. والآن، هاهو الشعب الأوربي نفسه يدفع فاتورة نهاية الحرب الباردة. وللأسف ثمة من ردد ولا يزال، بأننا محظوظون يوم منعنا الاتحاد السوفيتي من الوصول إلى المياه الدافئة.
إن ما يحدث اليوم في أوربا هو بداية لتاريخ جديد. فالأوربي في حالة استئناف لنضال تاريخي طويل المدى. فالفظاعة اليوم هي أكبر من كونها إنسانية. إنها كونية شاملة. إذا لم يتوقف هذا النزيف العولمي، فليس الإنسان وحده من سيفقد معناه، بل الكوكب كله معرض للدمار. وهنا لا يمكننا الحديث عن نجاح لهذه الحركات الاحتجاجية أم لا. لان المطلوب من طلائع التحرر العالمي أن يعملوا ويحلموا ولا يتراجعوا أمام أكذوبة نهاية التاريخ. هذا لا يعني أن العولمة أمر يمكن التراجع عنه. هذه مصيبة أخرى ابتلينا بها هذه الأيام! إما مع أو ضد إما العولمة أو التخلف. هذه هي عقيدة الثالث المرفوع، التي جعلت البعض يرى في موقفنا من العولمة تعبيراً عن خلفية رفضوية مؤدلجة، أو كراهية للحداثة وللغرب. والواقع أن هؤلاء وقعوا في فخ الدعاية العولمية التي تخفي استبدادها وقمعها اللامحدود، ووحشيتها التي التهمت كل الأحلام الجميلة للحداثة نفسها. فهل هذا يعني أن حركات الاحتجاج ضد العولمة في أوربا وأمريكا هي حركات احتجاج ضد الحداثة وضد الغرب؟!
وحتى يكون المرء واضحاً أكثر، نقول: إن العولمة هي سيرورة حتمية فرضها التطور التاريخي وثورة المعرفة والتواصل. لكن هذا لا يعني أنه لا مجال للمناورة. إن الحتمي في العولمة هو جوهرها العالمي والمعرفي، لا مظاهرها الإيديولوجية أوسياساتها الاحتكارية. إذن ثمة إمكانية متاحة لتصعيد خيار الممانعة لتحقيق حد أدنى من الحقوق في انتظار التغيير الأعظم. وحتى لا يكون كلامي ضرباً من التدليج والديماغوجية الرفضوية، سأوضح ماذا أعني بخيار الممانعة. أجل، علينا أن ندرك حقيقة موقع الإرادة في صناعة التاريخ أو تغييره. إذا نحن عددنا الإنسان صانعاً للتاريخ وفق ما يقرره منطق الفعل الإنساني من خلال الاستقراء التاريخي، سنكون قد وقعنا في نزعة إرادوية لا تاريخية. وهذا لا يعني أننا نمنح هذه السلطة للتاريخ في أفق تغيب عنه الفاعلية الحرة، هذه إشكالية أزلية أرَّقت ولا تزال تؤرق العقل الإنساني حتى اليوم. إنما أتصور أن التاريخ لا يصنع نفسه في استقلال عن هذه الفاعلية، ولا أتصور أن هذه الفاعلية تصنع التاريخ كما لو كان هذا الأخير مجرد تطور سلبي أو مسلسل من المحمولات الطارئة على حركته. التاريخ يصنع نفسه بنفسه ومن خلالنا. وهذا يعني أن العولمة هي حقيقة تاريخية لا نملك حيالها سوى فعل المناورة. أي الحفاظ على الحد الأدنى من القيمة. لسنا نحن من سيغير هذه الوجهة، إنما مطلوب منا أن نناور داخل هذا المسلسل وليس خارجه. الممانعة إذن أن نؤدي دورنا داخل هذا المعطى الجديد. ليس المطلوب منا رفض العولمة، بل المطلوب حماية القيمة الإنسانية والنضال من أجل التحرر والعدالة. النضال من داخل العولمة لا من خارجها. كيف ينبغي لنا أن نعولم نضالنا من أجل إنسانية حرة في صياغة عالميتها.. كيف نعولم هذا الخطاب المعارض للاحتكار المتعولم الخادع.. كيف نقاوم خطر العولمة نفسها؟ المشكلة إنسانية وليست مسؤولية أمة دون أخرى أو فكر دون آخر. إن قيمة الفكر هنا تكمن في مدى نجاحه في تأطير حركة الاحتياج بخلق بدائل حقيقية وبرسم أمل في هذا الزمن الموسوم بالانهيارات الكبرى.
السؤال الوارد حول موقعية الإسلام والفكر الاسلامي من هذه الحركة في عصر موسوم بنهاية التاريخ وموت الإيديولوجيا هو سؤال مهم. إلا أن الإجابة عليه ليست بالسهولة المتبادرة إلى الأذهان. لأن المسألة ليست مسألة أن ينخرط الفكر الإسلامي في هذه الحركة أم لا. بل القضية الأساسية كيف ينخرط هذا الفكر الذي تشرب من عوائد التخلف المحلي في هذه الحركة العالمية.. وماذا يملك الفكر الإسلامي من خلال اجتهادات أنصاره ودعاته من حلول.. وهل ما بين أيدينا جدير بإنقاذ العالم اليوم، أم أن الأمر يتطلب اشتغالاً حقيقياً على مادة هذا الفكر. أنا لا أتحدث عن الإسلام، بل إن حديثي موجه إلى الناطقين باسمه. فالقرآن لا ينطق بلسان، بل بترجمان وبمن يستنطقه من الرجال. إن كلام جورج كبلان، لا ينبغي أن نأخذه على عموميته وإلا وقعنا في الفخ. نعم، الإسلام خيار عظيم في ظل هذه المواجهة، لكن كيف؟ هل الإسلام كما هو ؟! طبعاً، لا أقصد الجانب الماهوي منه، بل أعني الإسلام كما هو، أي من خلال عوائد أنصاره ومجتمعاته من دون معالجة ولا صناعة متجددة.
الواقع إن هذا القدر المتاح من الفكر الإسلامي اليوم، كما قلت وسأقول دائماً، قصاراه أن يجعل المسلم مسلماً بريء الذمة من الناحية الشخصية. أو إذا شئت بلغة الفقهاء، إنه يحقق الحد الممكن من المعذرية والمنجزية للمكلف الشرعي. لكن ما به يكون الإسلام حضارة ونهضة وتقدماً وتطوراً، فهذا شأن آخر له منطق مختلف. وهاهنا يجري نقاشنا. إذا كان الفرد بريء الذمة من الناحية التكليفية، فإن الأمة ذمتها مشغولة بتكليف آخر. أي بتحقيق نهضتها. إذن ماذا يعني >كبلان< أن يكون الإسلام قريباً بنيوياً من الفقراء. هل هذا يعني أن الإسلام يحمل مشروع تفقير العالم أو حماية الفقراء؟ هل الإسلام هو مشروع أهل الصفة أم هو مشروع إعادة إدماج الفقراء في دورة الغنى الممكن!؟ نعم الإسلام يقارن بين الفقر والكفر: >لو كان الفقر رجلا لقتلته< كما يقول علي بن أبي طالب. والكفر ظلم: {وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}. الإسلام بهذا المعنى ضد الظلم. بوصفه منقذاً للفقراء لا مكرساً للفقر.
لا شك في أن الإنسان الغربي هو مؤهل أكثر من غيره لتقبل هذا الفكر وتمثله بالقوة ذاتها التي يتعامل بها مع الأفكار والحقائق. لكن ثمة مشكلة تطرح نفسها بخصوص الطريقة السيئة التي يروج بها للإسلام في الغرب. إن الإنسان الغربي الذي قصمت ظهره الحداثة بعنفها اليومي وقمعها اللانهائي، ليس مستعداً للخروج من قمع الحداثة إلى بؤس المحتوى الروحي والعقلي الذي يطرح به الإسلام اليوم في المجتمعات الغربية. الإنسان الغربي اليوم حينما يسلم، يستقيل من الحداثة ومن عقلانيته، ويصبح مشروع أعرابي نكوصي. صورة عن ذلك الطبيب الذي ارتد إلى عطار مسكون بذهان البحث عن الحبة السوداء، لمجرد أن يسلم على يد داعية حرورائي.
الإسلام الذي يروج له الغرب، هو إسلام خطباء.. مشروع إنقاذ فردي وليس مشروع إنقاذ حضاري.. يطرح الإسلام بقليل من الذكاء وكثير من الغباء. هذا واقع ينبغي الاعتراف به وإلا لن نفلح أبداً. حينما نتفوق روحياً على الغرب وعقلياً أيضاً يمكننا حينئذ المساهمة في تحرير النوع من آثار هذا القمع الذي يفرزه المجتمع الصناعي. وأقول روحياً ونفسياً، قناعة مني بأن الإنسان الغربي أكثر جدية في تعامله مع قناعته. نريد أن ننقل الطمأنينة للغربيين، لكن أي طمأنينة نشعر بها نحن؟! إننا لم نحقق تفوقاً روحياً يجعل الغربي يثق في بديلنا الروحي.. لم نطر على بساط الريح ولم نقض على أمراضنا. إذا كان المسلمون حتى اليوم لا يؤمنون بالاعتراف، وبالتالي وداخل هذا الاجتماع المغلق والعوائد السيئة، يشكلون المناخ المناسب لتنامي الأمراض النفسية، من نفاق وكذب ودجل.. فإن الغرب قطع مشواراً كبيراً في التحليل النفسي، في وقت قل أن تجد كرسياً حقيقياً لهذا الاختصاص في جامعاتنا العربية. في الغرب لغة التحليل النفسي هي لغة الشارع اليومية. يتحدث فرويد عن علم النفس المرضي للحياة اليومية! هناك إذن مراقبة دقيقة للسلوك. وهناك بحث علمي متواصل، موضوعه النفس البشرية وأمراضها.. كيف يتسنى لنا إذن الاقتناع بإمكان خروج داعية من رحم هذا الاجتماع العربي المريض، يرى نفسه قادراً على انتشال الإنسان الغربي من ضياعه وأمراضه. متى كان المريض مداوياً؟!! هذا ما أعنيه من قولي: إن الإنسان الغربي هو أكثر نضجاً من الناحية السيكولوجية والاجتماعية، كما يتيح له النظام السياسي والتربوي الحديث، وما يتمتع به من حقوق وحريات.
إذا كان الكذب والمرض موضوعان للتحليل النفسي في الغرب، فإنهما في عرفنا هما شيء فظيع فقط متى ما ظهرا للعيان، فإن تمكن المريض من إخفائهما والتهرب من الرقابة، فليس ثمة مشكلة. لا وجود للاعتراف! وهنا ليس غريباً أن يلجأ وزير فرنسي إلى الانتحار مثلاً حينما تكشف الصحافة عن تورطه في اختلاسات مالية.. لكن هل امتلك مسؤول عربي أن ينتحر قبل أن يستعرض علينا وقاحته بكونه ليس وحده المتورط في الاختلاس. في تصوري وقناعتي، الإسلام بريء من هذه المواقف. لأنه حينما تحدث عن النفاق والمنافقين، قال: {فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ}! الإسلام اليوم أصبح صنعة بين يد دعاة يملكون فقط صناعة القول والثرثرة. لكن هل تحول الفكر الإسلامي عندنا إلى صناعة متخصصة. إن الإسلام تظهر روائعه من خلال نضج الذين ينطقون عنه. وهناك أزمة في ذلك.. ألم يقل علي بن أبي طالب: >الله الله في القرآن، فلا يسبقنكم بالعمل به غيركم
ربما هذا القدر من الحديث عن الفكر الإسلامي لا يبدو مقنعاً للأكثرية الغربية، وليس فيه ما يضاف إلى ما يتردد يومياً من أن الإسلام هو البديل للغرب كما يقول السفير الألماني >هوفمان<. ولكن ما هي تفاصيل هذا البديل، ما هو المنهج الذي يمكّننا حقيقة من القبض على مناطات الفكر الإسلامي. هذا كلام يطول. والمقام لا يتسع لمزيد من الإطناب. إنما المهم الآن، أن نؤكد على تجديد النظر في الفكر الإسلامي، وهذه مهام تضاعف من مسؤولية المسلمين. فلنحرر إذن الإسلام من هذه الفوضى، ولنجعله صنعة متخصصة. حينئذ فقط يمكننا الحديث عن موقعية مناسبة للإسلام في حركة التغيير العالمي، وبالتالي، يصح أن يكون عنصراً أساسياً في مواجهة مخاطر العولمة، وحينئذ فقط، يصح كلام كبلان.