شعار الموقع

مابعد العولمة

هشام الميلوي 2004-10-30
عدد القراءات « 1070 »

حوار مع: البروفسور عمر أكتوف

? تقديم

العولمة تحتضر تحت ضربات إفلاس أوطان وبلدان بأسرها كالأرجنتين، وتحملها لصدمات الفضائح المالية التي أودت بالاقتصاد المعولم كإنيرون  Enron, Artrur و Anderon, Nortel, Vivend...
كيف يمكن تفسير فشل الثورات الثلاث الكبرى للاقتصاد الحديث (الثورة الصناعية، التقنية، والعولمة) في تحقيق وعودها بالعدالة الاجتماعية؟ في كتابه الأخير ((استراتيجية النعامة، ما بعد العولمة التدبير والعقلانية الاقتصادية))، يوضح البروفسور عمر أكتوف كيف أن رسل ومبشري الاقتصاد النيوليبرالي يحاولون إقناعنا بأن نجاة الإنسانية هو في طلب الغنى اللامنتهي، وتمجيد الأقوى والنجاح الفردي، وهم لا يفعلون ذلك إلا عندما نضع رؤوسنا في التراب.
ويحدد الكاتب تحت عبارة >رسملة الاقتصاد< « Financiorisation » المفهوم الأساسي لهذه الإيديولوجية ويعني ذلك أن الدولة تترك للشركات الخاصة حرية التصرف، وأن المدارس الكبرى تلقن مديري أعمال الغد أن على الحكومات الالتزام بقواعد التسيير المتبعة في الشركات (تدبير سليم، مردودية، تنافسية) والأدهى من ذلك والأمر هو إزاحة المشاكل الاجتماعية والإنسانية من الخطاب السياسي

ـ معيقات للسوق الحرة ومصاريف لا مبرر لها وغير نافعة أي دون مردودية ـ لصالح المال من أجل المال. وهنا يتساءل عمر أكتوف >عن أي عولمة يتحدثون و 80% من التجارة العالمية تتم بين الشركات المتعددة الجنسية وفروعها؟<.
إن القارئ لكتاب البروفسور أكتوف الأخير سيجد نفسه أمام رؤية موسوعية تدعو إلى إعادة نظر جزئية وملتزمة في قضايا الاقتصاد العالمي ويفضح بما لا يدع مجالاً للشك الفضائح المالية التي عرفتها كبريات الشركات العالمية مؤخراً وما يسميه >بانحراف النظام الاقتصادي الدولي<، هذا الانحراف الذي أوصله إلى نتيجة مفادها أن >من لا يزال يؤمن بالنيوليبرالية والعولمة فهو مجرم في أسوأ الأحوال أو غبي في أحسنها<.
>في عالم (يعيش) فيه 3 مليارات إنسان بأقل من ثلاثة دولارات يومياً، و225 ملياردير يمتلكون مقدار ما في حوزة ملياري شخص، و 51 شركة تحتل المراكز المائة الأولى >الاقتصاديات< في العالم، و90% من الاقتصاد العالمي هو اقتصاد احتكاري، هل نحن بعيدون حقًّا عن اللامعنى المطلق؟<.
>ارتفعت أصوات مع بداية القرن الجديد منددة بالأخطاء المرتكبة في الاقتصاد العالمي، لكن هل هي مجرد أخطاء حسابية وتوقعات خاطئة؟ أكيد لا، فهي أخطاء اقتصادية وتدبيرية تتعلق بالمفهوم نفسه للعالم ولطريقة تدبيره والتعامل معه<.
عمر أكتوف أستاذ التدبير بمدرسة الدراسات العليا للتجارة بمونتريال بكندا HEC، خبير دولي، عمل لصالح شركات كبرى كـ IBM... وهو من الأصوات المنددة بالعولمة المالية والمحاصرة في الوقت نفسه داخل كندا والولايات المتحدة. وكتابه الأخير هو مجموعة من المقالات والدراسات رفضت معظم المجلات المتخصصة نشرها، ولقد خص مجلة >الكلمة< بالحوار التالي على هامش صدور مؤلفه الأخير، والذي ترجم للعديد من اللغات.


? نص الحوار

? بعد كل هذا الجدل حول مفهوم العولمة، وكل هذه المؤتمرات والندوات وأيضاً التوترات في العشرية الأخيرة، هل لا زالت العولمة مفهوماً وارداً لتحليل ووصف مجتمعاتنا وأنظمتنا الاقتصادية؟
إجابتي ستكون على نحو متناقض نعم ولا! نعم لأنه من الصعب إن لم أقل من المستحيل الادعاء بأنه بوسعنا العيش في نظام مستكفٍ بذاته ومغلق أمام العالم. الكونية أو العولمة هو واقع مرغوب فيه ومرجو بوصفه تطوراً للتجارة والمبادلات باتجاه اندماج وتكامل أكبر لمختلف البلدان والأسواق، قصد تقسيم وتوزيع أفضل للثروات والتوازنات المتكاملة بين الدول، وهذا هو الوجه الحسن والنظري للعولمة وتعميم التبادل الحر والذي دافع عنه في الماضي الاقتصاديون الكلاسيكيون كريكاردو.
ومع ذلك فإنني أقول: لا، لأن العولمة النيوليبرالية التي تقدم لنا تحت عصا مؤسسات بروتن وودز و>توافق واشنطن< تشكل نوعاً من الوصاية المباشرة على الاقتصاد العالمي. وكما قال جوزيف ستيكليز، حاصل على جائزة نوبل للاقتصاد 2001، فإن >التبادل الحر ليس هو حرية التبادل<. إذن فإن مفهوم العولمة لا زال وارداً لكن يجب إعادة النظر فيه من جديد وكليًّا من أجل جعل المجتمع والشركات المعاصرة قادراً على الإنتاج والخوض في علاقات متبادلة وتعاضد لتوزيع الأرباح فيما بينها، وكذلك على مستوى العيش (كما كان الشأن بالنسبة لجهود الاتحاد الأوربي من أجل دمج إسبانيا والبرتغال). غير أننا اليوم نرى العكس تماماً مع العولمة، حيث نشاهد ازدياد الفوارق واتساعها بين الأغنياء والفقراء والمنافسة والاحتراب التجاري، وإخضاع الدول الأكثر فقراً حتى مع وجود اتفاقات للتبادل الحر (كما هو حال المكسيك) التي لا تشمل سوى اليد العاملة الرخيصة والمواد الأولية لا أكثر.
? بعض الحركات المعارضة للعولمة تؤكد أن هذه الأخيرة ليست سوى قانون الغاب، بمعنى أنه لا وجود لقوانين في عالم ومنطق العولمة، ومع ذلك يبدو أن هذه القوانين وضعت باتفاق الشركات المتعددة الجنسية وبعض الحكومات الغربية، أليس الأمر راجع إلى نقص في الديموقراطية ما دام مسلسل العولمة يفرض من خلال اتخاذ القرار السياسي ويطبق على كل المواطنين وعلى مختلف الديموقراطيات الوطنية؟
سأحاول مرة أخرى الإجابة بنعم ولا، سأشرح ذلك: إن المرجعية المطلقة >لقوانين< السوق الحرة وقدرة هذه الأخيرة على التنظيم الذاتي، فإن الإيديولوجيا التي تقود العولمة النيوليبرالية تبدو وكأنها تضع العالم تحت سطوة >قانون الغاب<، حيث الأكثر قدرة على المنافسة هو الأكثر حظاً في الفوز. وحيث المعايير هي للأكثر قوةً وذكاءً. ومن جهة أخرى، هناك العديد من دول العالم الثالث لا زالت تعيش الفوضى، حيث لا وجود لمفهوم النظام والدولة، وكمثال على ذلك هاييتي، ليبيريا، وبلدان إفريقيا الوسطى والغربية، مع ذلك وكما قال ستيكليتز في كتابه >الخيبة الكبرى< هناك العديد من المؤامرات المنظمة بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، البنك الفيدرالي الخزينة الفيدرالية الأمريكية (وهذا ما نسميه أيضاً بتوافق واشنطن) وبمشاركة فعالة من طرف الشركات المتعددة الجنسية ولوبياتها (والتي حللها وتناولها بالدراسة ستيكليتز بالتفصيل في كتابه >عندما تفقد الرأسمالية صوابها<).
وهكذا يمكننا القول: إن الاقتصاد العالمي اليوم يوجه لخدمة مصالح الدول الغنية، بما أن غالبية الدول المسماة متقدمة وديموقراطية تعاني من تحكم الأوساط المالية التي تقيم وتزيح السلطة السياسية (وتكفي الإشارة إلى حجم حضورها في البيت الأبيض) إذن، فالسياسي أصبح خادماً لمصالح رأس المال، وما يسمونه >حرية السوق< ما هو إلا (وخاصة مع ازدياد الحاجة إلى الخضوع لمعايير المنافسة الدولية) إصدار لقوانين وتغيير أخرى والخوصصة... وهي كلها إجراءات تخدم الفئة الأكثر غنى طبعاً. إذن هناك نوع من الاتفاق الضمني بين قواعد اللعبة السياسية والقوى المالية ليديروا مباشرة ما من المفترض أن يكون ذاتي التنظيم.
وإذا تحدثنا على مستوى الدول، فإننا نلاحظ الشيء نفسه: فصندوق النقد الدولي، البنك الدولي، منظمة التجارة العالمية تشكل جميعاً نوعاً من حكومة عالمية تسعى >لتنظيم< العالم وفقاً لمصالح القوى المالية والشركات المتعددة الجنسية، هذا ما نسميه >بالعولمة< و>إنتاج الأسواق<. ولقد اكتسحت جميع مناطق العالم وأزاحت المجتمع والدولة إلى الهامش وقدمتهم بوصفهم أعباء مالية >تكلفة< Coûts ووضعت تحت تصرف الشركات كل ما أرادت استغلاله حتى المصلحة العامة والمشتركة، الماء، الصحة، التعليم...
? ماذا تقصدون إذن

بـ>ما بعد العولمة<؟

إن ما أسميته >ما بعد العولمة<، أو >ما بعد الكونية< هو ذلك النزوع المتزايد والخطير للاقتصاد العالمي نحو رأسمالية مالية للأنشطة والمبادلات أي طغيان العمليات المالية على الإنتاج الحقيقي، بالإضافة إلى أننا دخلنا إلى دورة جديدة من إعادة هيكلة للمعايير الاقتصادية على مستوى عالمي، هذه المعايير تختلف تماما عما هو موجود في النظريات النيوليبرالية التي قامت عليها العولمة والتي أصبحت تقليدية أي إننا نقبل ضمنياً بفشل العولمة النيوليبرالية، ومن خلال استخلاص دروس فشل >النافتا< والنموذج النيوليبرالي وتوافق واشنطن أمام أزمات المكسيك والفوضى التي اجتاحت الأرجنتين مثلاً، وأمام مجاعات إفريقيا والعديد من دول العالم الثالث، وأمام احتضار النظام الرأسمالي على الطريقة الأمريكية كما يشهد على ذلك ENRON, Tyco, Anderson, Xerox...، فإن ما بعد العولمة بالنسبة لي هي تتبع هذه المتغيرات واستنتاج تحليل يتيح لنا الخروج من هذه الدائرة المغلقة ومن هيمنة وجهة النظر المالية والنيوليبرالية، والقبول بفشل هذا النموذج (وطنياً وعالمياً) وللدخول في >ما بعد< شكل جديد من أشكال التحليل لمشاكل الاقتصاد العالمي.


? ما هي أسس التحليل الجديد ؟

يقوم هذا التحليل على التركيز على جانب الطلب بمفهومه العام (وهو ما يتطلب النظر إلى مفاهيم السيادة الوطنية والمشاريع الاجتماعية بدلاً من الخضوع >لقوانين السوق<)، وتشجيع نظام اتفاقات التبادل الحر باللائحة واحترام الخصوصيات الاجتماعية - الثقافية - الاقتصادية لكل بلد ولكل منطقة وخاصية المنفعة العامة لكل ما يهم حياة الناس كالفضاء، الماء... وأخيراً يقوم أيضاً على تنظيم عولمة جديدة من خلال اتفاقيات للتبادل الحر إقليمية ومحلية يحترم فيها مبدأ >الامتيازات المقارنة< (وليست المتنافسة Comparatifs non compétitifs) ومن ثم المرور إلى اتفاقيات أوسع.
? ما هي التأثيرات الأساسية لما بعد العولمة على الشركات وطريقة تسييرها؟
أولاً يجب إعادة النظر في مفهوم التجارة بشكل عام، والتجارة الدولية أيضاً. لكن بالنسبة لي فإن ما بعد العولمة هو أيضاً إعادة تقييم معايير المايكرو اقتصادية، يعني ذلك أن الشركات ستتصرف على شكل يخالف تماماً ما تتطلبه النيوليبرالية، وهو إعطاء أهمية أكبر للعمل المؤهل والدائم والنظر إلى العمال بوصفهم مكتسبات، واستثمار للشركة على المدى الطويل وليسوا مجرد موارد يجب استغلالها في أسرع وقت، أو أعباء مالية يجب محاربتها، وهو ما سيترتب عنه تغييرات على مستوى التدبير نفسه، وهذا عكس المنظور النيوليبرالي الذي يرى في الرفع من أرباح الأسهم (أي الأرباح الصافية) الهاجس الأكبر للشركة. كما إن المستفيد الأكبر من سياق ما أسميه ما بعد العولمة (وهو ما يؤكده مفكرون مرموقون كهنري مينزبرغ وجوزيف ستيكليتز) هم شركات >الرأسمالية الصناعية< Capitalisme industriel اليابانية، الألمانية، الاسكندنافية... والتي لا تتبنى المنظور التدبيري على الطريقة الأمريكية. إن الشركة القادرة على مواجهة عصر ما بعد العولمة هي التي تضع في أولياتها الاستراتيجية والتدبيرية المستخدم والعامل (حيث إنه دون مساهمة واندماج هذا الأخير فلن يكون هناك لا إنتاج ولا جودة)، ثم الزبون ثانياً (إذ دون علاقة الثمن - جودة - قدرة لن يستمر عمل الشركة)، وأخيراً المساهم، الذي يعتمد في بقائه وإرضائه على بقاء ورضا العامل والزبون.
? لكن ألا يعتمد نجاح الشركة على قدرتها في التدبير وفقاً للخصوصيات المحلية والإقليمية؟ أي قدرتها على الخروج ومقاومة النموذج الكوني للتدبير الذي تبشر به العولمة؟
أكيد، كيف يمكن تصور نموذج >لنجاح تنظيمي< خارج السياق؟ فهذا لا معنى له، لكن مع ذلك له مستويان: المستوى الأول يقتضي >الالتصاق< بالمحددات الرئيسة للخصائص الاجتماعية ـ الثقافية المحلية، الإقليمية والوطنية، حيث إن العامل يعيد إنتاج نفسه بوصفه مواطناً وشخصية إنسانية في الوقت الذي ينتج فيه، ومن جانب المستهلك الذي >يلتصق< بالذوق، التقاليد والقيم التي يجدها في الخدمات والمنتوجات، حيث يجد ذاته فيما يحصل عليه.
المستوى الثاني لاشك أن اليابانيين هم أول من التفت إليه واستغله، وهو دراسة الأذواق وعادات ورغبات الآخر في سياقه الثقافي الخاص من أجل جعله يتقبل المنتوجات التي تحمل إشارة >صنع في اليابان< Made in Japon، وهو ما أراه إحدى المظاهر >النادرة< الذكية لما نسميه العولمة، ولقد استوعبته اليابان جيداً فمنحت الجودة أولاً ثم تكييف المنتوج محلياً، وهي توليفة لقيم الاستعمال >كونية< (فالكل يقدر قيمة الجودة) ولقيم استعمال مكيفة (صناعة ما يمكن عدّه تفصيلاً منتوجاً ثقافياً جيداً). إن المشكل الأكبر في نظري هو أن هذا الادعاء الكوني يحمل معه الاعتقاد بأن العالم كله يحب الهامبرغور على الطريقة الأمريكية، وأن الجنس البشري في كل مكان تحركه نفس النوازع، وهذا هو الخطأ الكبير الذي تدفع ثمنه اليوم الإدارة والتدبير على الطريقة الأمريكية، والذي لطالما تم تقديمه نموذجاً كونياً دون أدنى جهد لفهم ما معنى الخصوصية، واختلاف الآخر يمكننا صنع السيارات أو (السندويتشات) في أي مكان في العالم، لكن النجاح في ذلك يتوقف على جعل هذه المنتوجات متناسبة من حيث الجودة والقيمة مع المنطقة والإقليم.


? في هذا السياق، كيف يمكن مواجهة تحديات ما بعد العولمة؟

أظن أن الإجابة على السؤال يمكن استنتاجها من الإجابات السابقة، إذا فهمنا أن ما بعد العولمة تعني أيضاً (إضافة إلى ما شرحته في فصول كتابي الأخير) وجود منظور جديد للاقتصاد، المجتمع، التبادل والتدبير، والذي يختلف عن المنظور الآخر، ويحتويه ما أسميه الرأسمالية الصناعية (اليابان، ألمانيا، الاسكندناف) التي تقوم على الإنتاجية، الديمومة، الجودة والعناية بالبيئة والمحيط والأشخاص، مقارنة مع ما أسميه أيضاً بالرأسمالية المالية ( الولايات المتحدة، كندا، انجلترا، سويسرا، فرنسا) سنفهم مباشرة أن التحدي الأول والأكبر في هذا السياق هو تجاهل النموذج المالي الأمريكي والتبشير به مع عولمة التدبير على الطريقة الأمريكية القوة الضاربة للمنظور النيوليبرالي للاقتصاد، وأعني كذلك بما بعد العولمة القطيعة مع كل ما فعلته العولمة وإخفاقاتها وعدم عدّ الدولة والنقابة أعداءً أو عوائق، بل متكاملين ضروريين وقوى متوازنة ديموقراطية، وأن الطبيعة والإنسان ليسا سوى >موارد< تستخدم حتى الاستنفاذ، ومن ثم نقلها délocaliser إلى مناطق يسهل استغلالها فيها. ويجب النظر إلى العمال والقوى العاملة بوصفهم مشاركين ـ شركاء >Partenaires ـ associés< فاعلين أكثر من مرتزقة أجراء. إن العبارة المركزية في هذا التحدي والتغيير المنشود هو التوقف عن نهج سياسة >الربح الذي يقتل الربح< le profit qui tue le profit، لأنه انطلاقاً من مستويات معينة من الربح سيكون من المحتوم الاعتداء على العوامل الأخرى للإنتاج، العمل، الطبيعة والمساهمة في الربح من أجل الرفع من معدلاته.
? فضلاً عن الانعكاسات الاقتصادية والمالية لما بعد العولمة، هناك أيضاً آثار سوسيوـ ثقافية، سواء على المستوى الفردي أو التنظيمي؟
سأذهب أبعد من ذلك، وأقول بأن لها انعكاسات على المنظور للدولة والمجتمع المدني ودورهما، فمن الأكيد أنه عندما ندير ظهرنا لما أراه العولمة النيوليبرالية الراحلة، له آثار على مستوى العلاقة بين الشركة ـ السوق ـ الدولة ـ المجتمع ـ الثقافة، وإعادة التفكير في التزام بين النقابة والشركة والدولة والبحث عن علاقة تكامل وتوازن بينهما، مقتضاهما أن تمنح الخدمات والسوق والمنتوجات غير المشتركة للشركات، وتدبير المنافع العامة وضبط السيولة والثروات وطريقة عمل السوق للدولة، مراقبة الإفراط والتطرف في الأرباح للنقابات، بمعنى أن نترك للشركات الخاصة مهمة التدبير والاستفادة من كل منتوج ليس له صبغة المنفعة العامة وحاجات ضرورية للمواطن (الماء، العدالة، التربية والتعليم، الصحة...) وأن تتولى الدولة مهمة التدبير المباشر لهاته الحاجات الضرورية وتنظيم ومراقبة الطريقة التي يتم بها توزيع الثروات وعمل السوق واحترام المنفعة العامة، وأخيراً مراقبة أرباب العمل من طرف النقابات تجنباً لتطرف في جني الأرباح على حساب عوامل الإنتاج/ العمل، الطبيعة.
أما من جانب التدبير، فإن المهمة الأولى والأساسية لمدير مؤسسة ما هو تهيئة الظروف الملائمة للعمل بشكل يجعل العمال يبذلون قصارى جهدهم وذكائهم، ويخضعون لرقابتهم الحيوية، ويتجنبون التبذير، ويفجرون قدرتهم على الإبداع. ولا ينظر إليهم بوصفهم مجرد >موارد< طيعة تستعمل وترمى بعد استغلالها. وهذه هي شروط الالتزام والتعاون التنظيمي، وهي السمات المميزة لدول >الرأسمالية الصناعية<، رغم أن هذه الدول نفسها لم تسلم من أزمة تسديد الديون والتي سببت آثار العولمة النيوليبرلية التي أصابت كل مناطق العالم.

? ما هي التحديات والمعضلات التي ستواجه دول العالم الثالث في مرحلة ما بعد العولمة؟

 من الادعاء القول بأن لدي إجابة واضحة على هذا السؤال، لكن انطلاقاً من معرفتي المتواضعة بالمشاكل السياسية الاقتصادية، أستطيع القول: إن التحدي الأول والأكبر يتمثل في إقناع الفاعلين الاقتصاديين بأن >النموذج الأمريكي< هو بمثابة طريق مسدود، فليس بوسع العالم أن يسير بالوتيرة نفسها من استغلال واستعمال البترول، الحديد والخشب... التي يتبعها الأمريكيون. يجب إذن اتباع معدل نمو >معقول< اجتماعياً (توازن بين الربح، الدخل، الخدمات والمرافق العمومية...) وبيئياً (توازن بين ما يمكن للطبيعة إعطاؤه وما تستخرجه منها)، ومن الناحية العملية يتطلب قدراً من الحيلة، والحزم والصبر من أجل محاربة كل الأفكار حول الربح اللانهائي على الطريقة الأمريكية والتي تراها طبيعية، والحزم لفرض الدولة فوق كل المصالح الخاصة، خاصة مصالح الأوساط المالية الدولية والوطنية، احترام استمرارية ثروات البلاد الواسعة، مع الأفضلية لاتفاقات التبادل الحر خارج مناطق الدولار، اليورو، الين، إعادة إحياء التكتلات الإقليمية على شاكلة Mercosur وتوسيعها.. وفرض أسلوب التبادل الحر باللائحة Libre échange à la carte أي مفاوضات للاتفاقات التجارية التي تحترم فيها ليس فقط مصالح الرأسمال الذي يريد التهام كل شيء، وإنما أيضاً المصالح الخاصة للشعوب وخصوصياتهم وديمومة مواردهم الطبيعية واحترام حرية اختيارهم لنوعية المجتمع الذي يعيشون فيه، وأعتقد أن البرازيل ورئيسها >لولا< قد كسبا جولة من هذه الحرب عندما فرضت البرازيل على الولايات المتحدة المفاوضات على أساس اللائحة والاتفاقات المؤقتة.