شعار الموقع

سياق التكفير/ دافعية الكتابة

إليامين بن تومي 2004-10-30
عدد القراءات « 529 »

سياق التكفير/ دافعية الكتابة
قراءة تأويلية لتجربة نصر حامد أبو زيد

? مقدمة

شكل الاستناد إلى المرجعية الثقافية دافعاً مهمّاً في تعرية المنظومة الثقافية التي تشكل المعرفة الخلفية، أو تهيكل رؤية العالم، حيث إن كلاًّ من براون ويول يقولان: إن >المعرفة التي نملكها كمستعملين للغة تتعلق بالتفاعل الاجتماعي بواسطة اللغة إلا جزءاً من معرفتنا الاجتماعية والثقافية، إن هذه المعرفة العامة للعالم لا تدعم فقط تأويلنا للخطاب، وإنما تدعم أيضاً تأويلنا لكل مظاهر تجربتنا<(1).
والقارئ حين يواجه خطاباً ما فإنه لا يكون خالي الذهن، بل يعتمد على تجاربه السابقة، لأن كل نص له ذاكرة، والقراءة تعمل دوماً على تحريض هذه الذاكرة واستفراغها في فهم وتفسير النص..
تعمل الواجهة الأمامية لأي عمل أو أثر فني على إثارة الواجهة الخلفية للقارئ، لأن العلاقة بين الواجهتين جدلية، فإن السياق المرجعي ينطلق دائماً من تفاعله مع السياق النصي، >وما دامت الواجهة الأمامية هي التي تثير الواجهة الخلفية، وأنه على ضوء هذه الأخيرة سوف تتحدد القيمة الدلالية والوظيفية الجديدة، التي اكتسبتها العناصر المنتقاة في السياق الجديد، فإن العلاقة بين الواجهتين الأمامية والخلفية لا يمكنها أن تكون ستاتيكية بل ستصبح جدلية(2).


? المرجع والقراءة / انتهاك المركز

ومن خلال تفحص المقتربات المختلفة التي تؤطر عملية القراءة، نلاحظ أن مفهوم المرجع يختلف بنسبة ارتكاز الجمل المرجعية في النص؛ انبناء هذه الجمل يكون بنسبة التركيز على المرجع الذي يؤدي إلى اختلاف ماهية المرجعية، وفي كل الحالات يؤدي المرجع دوراً تأسيسياً في عملية القراءة، من كونه يمثل هوية النص في بعديه الداخلي والخارجي.
فعقدة أوديب مثلاً، هي المقولة المرجعية للإطار المعرفي الذي اتخذه التحليل النفسي ممثلاً في فرويد، شكلت هذه الرؤيةُ المركزيةُ المحورَ الذي دارت عليه تفسيرات فرويد النفسية.
وإذا كانت الجمل المرجعية هي التي تحيلنا على بناء عالم متخيل للنص، فإن الأخطاء اللاشعورية كفلتات اللسان وزلات القلم والأحلام، هي التي تعيد ترميم الواقع الحقيقي في ذهن العصابي، وبالنسبة للتحليل النفسي تحتل قضية الشخص (مرجعية الملفوظ) مساحة إقطاعية في تصميم التحليل، وليس أدل على ذلك من الدراسات التي قدمها فرويد، >الأولى عن قصة ألمانية مغمورة هزيلة فنياً بعنوان: هذيان وأحلام في قصة كراديفيا ليانس، وذلك سنة 1906م، والثانية عن الرسام الإيطالي ليوناردو دافنشي بعنوان: ذكرى من طفولة ليوناردو دافنشي، وذلك سنة 1910م، أما الثالثة فكانت حول شخصية الكاتب الروسي دستويفسكي بعنوان: دستويفسكي وجريمة قتل الأب، وذلك سنة 1928م<(3).
في قصة دستويفسكي: نجده يقرأ لنا أنواع العصابات التي نتجت عن مواقف عدوانية والحب التي كبتها البطل نتيجة التهديد، فشكلت شخصية البطل وحالته النفسية مرجعاً ملفوظياً في قراءة القصة.
وسلطة المرجع تكون كل مرة من خارج النص لتركز على النص، وهي نوع من القراءة شكّلها الإسقاط، >لأن الإسقاط ينكر استقلالية العمل الأدبي وخصوصيته، ويرى أن النص ينتج من قبل سلسلة خارجية غريبة عن النص: (حياة المؤلف، الظروف الاجتماعية، العقل البشري)<(4).
والطاقات التكثيفية للمرجع، لا تقتصر على صياغتها من المقترب الخارجي الذي نَمَّطَ بعداً واحداً لعملية القراءة، وإنما للمرجع كثافات أخرى تذوب داخل النص في التركيبة الدلالية والنحوية للغة.
وهنا نقف على أهمية القارئ في تفكيك حالات التناقض التي تسود الخطاب، القارئ الذي يتفاعل مع النص فينتج واقعاً تخييلياً تخمينياً لا على مثال النص الأول، وإنما على مثال القراءة المنتجة النافذة إلى أعماق المرجع؛ >ولذا فالقارئ يظل محكوماً بالنص ذاته وبقدراته الداخلية، أي أن القارئ لا يحق له أن يضيف شيئاً من عنده إلى النص، فالنص واحد وكذلك أبنيته وأنساقه<(5).
فالمرجع في هذه الحالة يمثل الإغواء التأويلي الذي من خلاله تشبع دلالات النص، ليقترب القارئ من البنية القلقة التي تشكلها حالات التناقض، واستتباعاً للولوع بالفكر النتشوي الذي طبع عصر البنيوية، عصر النهايات (نهاية المؤلف أو موته بتعبير بارت)، نجد أن النص أخذ ينظر إليه على أنه تناص من التركيبات النحوية واللغوية، فالنص >يتألف من كتابات متعددة تنحدر من ثقافات عديدة تدخل في حوار وتتحاكى وتتعارض<(6).
وهنا تشكل المعرفة الخلفية الدافع التأسيسي والإغراء الأيديولوجي، لتبعث في النص مرجعاً جديداً، إحياءً للداخل التركيبي.
وتقويضاً لمسافة القراءة، يضطلع القارئ بتفكيك مراجع الكتابة الداخلية المتراصة في شقوق النص وبياضاته لمستويات الامتصاص العميقة الغائرة في ثنايا النص -الأسطورة، الرمز، ولعبة اللغة-.
ولا تنكشف هوية المرجع إلا فى اللحظة التي يصبح فيها القارئ طرفاً في عملية التفاعل، فالعلاقة بين النص والقارئ علاقة جدلية، والنص لا يشكل معناه بنفسه، وإنما القارئ هو الذي يعمل على تمثل هذه المعاني المتناثرة والمقاصد العائمة على المسطح المحايث للنص.

والحمولة الثقافية للنص هي نفسها الحمولة التي تشتمل عليها البنية الذهنية للقارئ الضمني أو المثالي، لأنها من صميم الشيفرة السوسيوثقافية للقارئ، وهي في أساسها مرجعية القارئ في لحظة تلقيه النص.
تستند القراءة إلى مرجعيات تنبني من خلال الأطر العامة أو ترتكز عليها الواجهة الخلفية للنص الأدبي، ولما كان النص عالماً مهولاً من العلاقات المتشابكة، >والنص الأدبي هو حالة انبثاق عما سبقه من نصوص<(7)، وجب على القارئ ليفهم هذه الشيفرة أن يعمد أولاً إلى تحليل مراجع الكتابة، لأن العلاقة بين الشيفرة والمرجعية علاقة متشابكة تشابكاً عضوياً مكيناً، >فلا وجود لأحدهما دون الآخر، فالقصيدة تستمد وجودها من الشاعر، والشاعر وهو يكتب قصيدته يجد نفسه في مواجهة مع سالفيه من الشعراء، ومع الشعر المخزون في ثقافته<(8)، وهنا فقط تتأسس هوية النص، والمرجعية مهمة لفهم وكَنْهِ هذه الهوية.
? لماذا نصر حامد أبو زيد؟
لقد شكل عام النكسة -1967م- بؤرة هامة انطلق منها الكثير من البحاثة للنظر بجلاء في الأسس المحيطة بخذلاننا المهول في منظومتنا الفكرية، ولما كان الأدب لا ينفصل عن هذه المنظومة، ومن >منظور هذه الدلالة بعد العام السابع والستين، وما يدل عليه هذا التلاحق الملحاح في وعي متوتر بأزمة جذرية قاهرة تقترن بالشك في كل شيء، وتلح بالضرورة على اكتشاف الأنا في علاقاته المتعددة لثلاثية: الحاضر، الماضي، والآخر، ومن ثمة اكتشاف أو إعادة قراءة كل واحد من الأطراف الثلاثة بمستوياته المتعددة..<(9).
لقد شكلت القراءة التلفيقية مساحة أساسية في واقع تحتمت فيه القراءات الضيقة المبنية أصلاً على الأحكام المسبقة، ولطالما ساهمت هذه العقلية الدوغمائية في تقزيم المشاريع الفكرية الجادة، وذلك بارتهانها إلى نظام ينبني على جملة من الثنائيات الضدية الحادة، هي نظام العقائد والإيمان، ونظام اللاإيمان واللاعقائد، وهي عبارة عن تشكيلة معرفية مغلقة، تتمحور حول لعبة مركزية من القناعات، لتشكل سلسلة من أشكال التسامح واللاتسامح تجاه الأخر..(10).
وبقدر ما نحن في حاجة إلى التعلم من الآخرين، نحن في حاجة إلى رسم طريق نقدي يتأسس على ما هو منجز هنا والآن، وعلى ما أنجزه الأسلاف(11).
ونصر حامد أحد الأعلام الفكرية الذين طرحتهم العقلية الدوغمائية على سرير بروكست.
نبين أهم المرجعيات التي استعان بها في نقده لساحتنا الفكرية، وتتناول هذه الدراسة كتابه: >النص السلطة الحقيقة<، كواجهة أولية ركز فيها أبو زيد على جملة الإحالات المرجعية التي بها كان التأسيس للقراءة الجادة، فمعادلة النص والحقيقة من كبريات الإشكالات الفلسفية التي عرضت مسألة الفهم الحقيقي للقصد الإلهي.
شكل التراث المسيطر والمهيمن على كتابات أبي زيد
إن نموذج نصر حامد يحيلنا على أفق من التوقع ساد مرحلة زمنية، إنه أفق من الانتظار، لأننا: >لا نستطيع إعادة بناء منظومة فكرية ما إلا بالاعتماد على مجموعة من الخطابات، ويتم ذلك على نحو يكون الغرض منه هو العثور خلف العبارات على قصدية الذات المتكلمة، وعلى نشاطها الواعي... وبالعثور على الكلام الأبكم الهامس الذي لا يتوقف.. يتعلق باستعادة النص الرفيع اللامنظور، والذي هو دوماً يسري بين السطور المكبوتة ويزاحمها أحياناً...<(12).
وهنا تطرح مسألة القراءة السياقية، وتكون القراءة السياقية: >بمعنى الاطلاع على السياقات المتاخمة للأدب، وهي قراءة تثقيفية، من شأنها أن تخصب حقل النقد في تشكيلها للحصيلة المعرفية لدى الناقد / القارئ على حد سواء، فتؤثث عدته، وتشحذ ذائقته، وتمده بفيض من المعلومات تسهل عليه ولوج عوالم الأدب من خلال زوايا ثلاث: صاحب النص، النص، القارئ<(13).
قضية الشخص
في كتابه >الخطاب والتأويل<، يروي نصر حامد أبو زيد جزءاً من ذاكرته، من سيرته الذاتية، والتي بدأها بقصيدة للشاعر >صلاح عبد الصبور< والموسومة بعنوان: >مأساة الحلاج<(14).
أنا رجل من غمار الموالي، فقير الأرومة والمنبت
فلا حسب ينتمي إلى السماء، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون، بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً - بذات مساء - سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
نموت كآلاف من يكبرون، حين يقتاتون خبز الشموس
ويسقون ماء المطر
وتلقاهم يافعين حزانى على الطرقات الحزينة
فتعجب كيف نموا واستطالوا، وشبّت خطاهم..
وهذي الحياة الظنينة
التغريض
قبل أن أسرد تفاصيل السيرة الذاتية، نلاحظ اللفتة في استدعاء الحسين بن منصور الحلاج، للتعبير عن محنة الميلاد، وهو استحضار للموروث، بل امتصاص لتجربة الحلاج، وتناص المحنة، محنة نصر حامد من نفس محنة الحلاج، وأصبحت قضية الشخص، مع الخطاب الديني المغلق، هي المسيطر والمهيمن، والمؤسس لشواهده، حتى في حديثه عن سيرته، يدخل بها إلى سيرة غيره: >إن الخطاب مركز جذب يؤسسه منطلقه، وتحوم حوله بقية الأجزاء<(15).
لماذا الحسين بن منصور الحلاج؟ ولماذا محنته؟
وفي سياق قراءة تجربة الحلاج، نجده قد عانى من نفس ضربات العقلية التي يعاني منها نصر حامد أبو زيد، كُفّرَ الحلاج من لدن الفقهاء، وعُلّقَ رأسه على أبواب دمشق، روي ضمن مبدأ التشابه، فهو يكرر نفسه من خلال ذكر هذه الشخصية.
الحلاج هنا من قبيل الماضي الذي أعيد تحيينه في نصر حامد أبو زيد، وذلك لتوافر المعادل نفسه، وتوافر التجربة ذاتها، ولما كان التاريخ، تاريخ تلقي النصوص، والحلاج نص، تم تلقيه في تجربة مثيلة هي من صميم تجربة نصر حامد أبو زيد، >لا تكون التجربة بالمعنى التجريبي بالضبط صالحة إلا في تجربة ما، إن ترادف التجربة هذا، يعنى أن الظاهرتية لا تحتد في خارج ما، في عالم آخر، بل في التجربة الطبيعية ذاتها، مادامت هذه الأخيرة تجهل معناها، إذن، مهما كان التشديد قوياً على طابع هذه القبْلية، على الإرجاع في عالم الأفكار، على دور التعبيرات الميالة إلى الخيال، وحتى على نظرية الـ>إمكانية<، فإن طابع التجربة هو المشَدّدُ عليه ثانية ودوماً<(16)، وهكذا انصهرت الآفاق في بوتقة واحدة تعيد نفسها مع الحلاج ونصر حامد أبو زيد، تجربة وجودية تذوب فيها الأزمنة لتتوحد فيها التجارب، لأن الإنسان في ذاته شكل من أشكال الفهم، وهو المسار الذي تتجلى فيه اللغة كما يقول هيدجر.
أما العنوان: >أنا رجل من غمار الموالي<، فهو عنوان لافت، فالضمير >أنا< هو المدار الكلي لقضية الشخص، وحَدُّه الإحالة المرجعية، وهو مقصد إنباء المرجع، فالعنوان هنا >أحد التعبيرات الممكنة عن موضوع الخطاب، ووظيفة العنوان هي أنه وسيلة خاصة قوية للتغريض<(17)، يعيد الحكواتي من خلاله تهيئة مناخ الحكي، وهو نوع من موضعة القارئ في جو الحكاية للتأثير عليه، وهي محاولة لنشر عدوى الخطاب، وتحقيق أكبر قدر ممكن من التعاطف.
إن معدل الانتشار في القصيدة لعدوى المركز تجذبه الجمل المتتالية لصيغ الاستعطاف: فلا حسبي ينتمي إلى السماء... لأن فقيراً سعى نحو حضن فقيرة.. نموت كآلاف من يكبرون..
يحيل العنوان إلى أفق تدور فيه هذه الخطابات المشتركة، >أنا رجل من غمار الموالي، >فالقارئ وحده هو الذي يمكنه أن يتصور عالماً من التوقعات الممكنة<، ويعتبر أنه كذلك لأنه يثير لدى القارئ توقعات قوية حول ما يمكن أن يكونه الخطاب، بل كثيراً ما يتحكم العنوان في تأويل المتلقي<(18).

هنا كانت بداية سيرة المؤلف؛ قصيدة تحيل على موضعة القارئ في أفق الخطاب ضمن معطياته وشروطه، >أنا رجل من غمار الموالي<، إنه عنوان يحكي الحاضر بتشفير الماضي.
فلا حسبي ينتمي للسماء، ولا رفعتني لها ثروتي
ولدت كآلاف من يولدون بآلاف أيام هذا الوجود
لأن فقيراً - بذات مساء- سعى نحو حضن فقيرة
وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية
هنا في هذا المقطع وفي السطر الأخير >وأطفأ فيه مرارة أيامه القاسية<، يعرض لنا نصر حامد أبو زيد زمناً غير الطفولة، لأنه زمن من سياق هذا القصيدة، زمن المحنة التي دارت على الحلاج، حين تمكن في سياق الإدراك من تتبع خيوط الخيانة.
? الإطار: سياق التكفير
بدأ إعلان التكفير في مارس 1993م، هذه الحرب التي أيدتها محكمة استئناف الأحوال الشخصية بالقاهرة في 14/ يونيو/ 1995م، والتي عززتها محكمة النقض في 5/ أغسطس/ 1996م، غير أن هذا الاتهام لم يثر نصر حامد بقدر ما أثاره >قرار الجامعة المصرية برفض ترقيته إلى رتبة أستاذ<، وحكم على الرجل بفسخ عقد زواجه بالسيدة ابتهال يونس بحجة ارتداده(19).
سيناريو الاستبعاد والإقصاء
والسيناريو مصطلح استعمله (سانفدور وكارود 1981م)، ويقصد به: >المجال الممتد للمرجع المستعمل في تأويل نص ما، وذلك لأن المرء يمكن أن يفكر في المقامات والوضعيات كعناصر مشكلة للسيناريو التأويلي الكامن خلف النص<(20).
محنة نصر حامد بقلم نصر حامد، لا تحيلنا على تفاصيل القضية في مكانها وزمانها، بل تنسج حولها سيناريوهات تمتد في المجال إلى علاقة المثقف بالسلطة، وكيف حاولت هذه السلطة دائماً أن ترجح كفة المثقف التبريري.
فالمثقف في تصوره إنما هو منتج الوعي، ولقد باتت هذه العلاقة ملتبسة بدوائر المصلحة، وهي حاجة السلطة الملحة إلى اكتساب الشرعية، >وهذا البعد يبرز لنا الجانب التأسيسي لحاجة السلطة السياسية إلى تأكيد مشروعيتها<(21)، وهنا يضع نصر حامد رؤيته للمثقفين فيقسمهم إلى نوعين:
- المثقف التبريري البراغماتي الدوغمائي المصلحي المنتج لخطاب السلطة.
- المثقف المنتج للوعي المفتوح.
وهنا تحاول السلطة أن تثبت الأول على حساب الثاني فيما يعتقد نصر حامد.
إدارة الصراع: المركز والهامش
واستمراراً لنفس القناعة التي حكمت الرؤية من خلف، يعود نصر حامد بالمرجع إلى محنة ابن رشد وهنا يتساءل: من الذي نستدعيه بالضبط ليحدث التنوير الذي نتوق إليه؟.
هل هو ابن رشد هامش الثقافة العربية الإسلامية في بعدها التراثي؟.
في تصوره أن استدعاء ابن رشد محكوم عليه بالفشل، لأنه سيدخل في صراع أيديولوجي ضد مركز ذلك التراث، فالتهميش الذي عانى منه ابن رشد هو نفسه التهميش الذي يعانيه نصر حامد، وهو إقصاء على مستويين:
- مستوى فكرى عقلي.
- مستوى اجتماعي وسياسي(22).
وهو من جنس التغييب الذي لحق ابن رشد، وتبتدئ فصول قضية قاضي قرطبة.
في عصر يعقوب المنصور (580-595هـ)، حين ألمت بالبلاد الحرب، كان الخليفة في حاجة إلى تأييد الفقهاء، لحث الناس وتأييدهم على الطاعة، ويبدو أن الثمن كان ابن رشد.
ويبدو أن ابن رشد كَوَّن عداءات من خلال المناظرات التي كان يعقدها مع الفقهاء، وهو خطاب يناقض المركز السني المتصوف الذي دشنه أبو حامد الغزالي.
ويبرر نصر حامد الترضيات التي قدمها بعدما طرد من الجامعة، وخطابه الذي بدأ يتهافت لتحقيق بعض التنازلات، وهي من صميم الترضيات التي قدمها ابن رشد لخطاب المركز.

يرى نصر حامد أن ابن رشد شكل بنية قلقة في خطاب المركز، حيث دحض كل الدعاوى التي قدمها المركز، علماً أن خطاب أبي حامد الغزالي هو المهيمن على الخطاب الإسلامي، منذ القرن الخامس الهجري وهو حجة الإسلام، وعمل الغزالي على توسيع دائرة المذهب الأشعري، الذي ناهض بدوره خطاب الهامش الاعتزالي، وتنبني مركزية الغزالي -كما تذكر الموسوعة- من خلال المواقف الملحمية التي خاضها في كل مواقفه:
1ـ موقفه من المتكلمين.
2ـ موقفه من الباطنية.
3ـ موقفه من الفلاسفة.
4ـ موقفه من الصوفية.
5ـ موقفه من السببية والقدر.
وتلاحقت عنده نظرية المعرفة في أنظمتها الثلاثة: البيان والبرهان والعرفان، إلا أنه انتصف للفرع الثالث العرفان.
نهاية إقدام العقول عُقال وأكثر سعي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا وحاصل دنيانا أذىً ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيلَ وقالوا

لقد استجلب نصر حامد ابن رشد، المكون الهامشي في الثقافة العربية الإسلامية: >ليس ابن رشد بدعة في التراث العربي الإسلامي، كما يوهم البعض، بل هو امتداد التراث المهمش، وإن كان سعيه للانزياح من موقع الهامش قد فرض عليه تنازلات وترضيات عمقت هامشيته، لأنها ساهمت بطريقة غير مباشرة في تكريس مركزية الغزالي بكل ما يمثله من دلالات.. وإن كان لا بد لنا الآن من استدعاء ابن رشد، فلم يكن استدعاؤنا له من أجل الصراع الأيديولوجي، بل من أجل تعميق فهمنا لأنفسنا ولتراثنا ولواقعنا في نفس الوقت<(23).
إن تعميق الرؤية للأزمة المعاصرة، إنما تنشأ أصلاً في نظر أبي زيد من غلبة البعد التاريخي الذي راكم قضية الصراع بين العقل والنقل، وحسم الأمر في كل مرة لصالح الموقف السني الأشعري، أما العقل الممثل فإنه استدعاء لحالة الخيبة التاريخية، وهي خيبة مكررة في نماذج متوالية، ابن رشد، ابن عربي، الحلاج، وطه حسين، وغيرهم، وانتهاء بقضيته التي زَمَّنَها تاريخاً، فأعاد صراع الحاضر في ماضيه، من أجل أن الحاضر هو ماض أعيد إنتاجه مكرراً، فإذا كان نصر حامد ممثلاً في صورة ابن رشد، فإن الغزالي مثله -نصر حامد- في شخصية محمد عمارة، وموقف الرجل خاص من خلال نقده لكل من علي عبد الرازق، وزكي نجيب محمود، إنها القضية نفسها منذ الصراع الاعتزالي الأشعري، حيث حاول الموقف الأشعري كل مرة وضع كتب العقلانيين على محكات العقيدة، إنها قراءة استنساخية تعود كل مرة بنفس الهوس لتُغَلِّبَ اتجاهاً على حساب آخر، قراءة تشكلها أساليب إنتاج خطاب دعوي استفزازي، وهي تحاول كل مرة استدراج الخصم لتشكل تجاهه ثنائية إيمان لاإيمان، قراءة تعلمت التسرب من مسار مستحكم في واقع الثقافة العربية، وهي قراءة تفرز نفس الأجهزة ونفس الأحكام، لأن الآليات نفسها لم تتغير، تدرس النص من خارج بنيته، فينهار النص وتبقى القراءة نفسها.
وقانونها الأساسي ينحصر في توقعهم: >إذا صح النقل شهد العقل وبطل النظر<.
إنها علاقات تحكمها آلية الحضور والمثول المتجدد كل مرة في هذه الثنائية، وهي فعالية تنتج نفسها إذا تم استدعاء نفس الأساليب.
محنة نصر حامد مع توالد الموقف المحافظ المصادر، إنما هي محنة مع قراءة موضعت نفسها أسلوباً ثابت بل نموذجاً قارًّا يتوالد دورياً.


التناص وقراءة الخطاب الكروي

وأنا أعتبر نفسي متواصلاً مع هذا الخط في سياق تطور النظرية الأدبية وعلم النصوص، عندما كتبت مفهوم النص كان الشيخ أمين الخولي مرجعية بالنسبة لي فيما يسمى أدبية القرآن<(24).
وهنا نجد أن نصر حامد أبو زيد لا يقف على أرض النقد لوحده، بل يتوحد في همومه مع عدد كبير من النقاد، وشكلت هذه الخطابات السابقة له معرفة خلفية أو رؤية عميقة للعالم، لأن كل نص أدبي هو حالة انبثاق عما سبقه من نصوص، إذن فمشروع نصر حامد أبو زيد ما هو إلا انبثاق من أعمال أخرى سبقته، بتعبير بارت >انبثاق اليوم من الأمس<.
والقضية تنسلك في إطار عام موجه للموقع المتراوح >بين كوننا شكلاً في العالم الحديث، وكوننا جوهراً من خارجه؛ تناقض يضطرنا إلى معاناة قضايا مجتمع قديم في عالم حديث، ومعاناة قضايا عالم حديث في مجتمع قديم، ففي التعبير عن معاناتنا تلك نعرض أنفسنا لإنتاج أدب يجده القارئ مستورداً غريباً<(25).
والنهضة العربية تأثرت في بدايتها بالموروث الغربي، لذلك نجدها مقلدة أكثر منها مجددة، وإن كانت مجددة بالنسبة لمواقع الثبات التي تتحكم في زمام السلطتين السياسية والدينية: >لعبت مقولة التشابه دوراً تأسيسياً في المجال المعرفي<(26)، ونعني بالتشابه هنا: الهموم المشتركة التي عالجتها مختلف المشاريع الفكرية، مثلاً ما عالجه حسن حنفي في >مقدمة لعلم الاستغراب<، ليس بالبعيد عما يعالجه نصر حامد أبو زيد، فكلاهما يصبان في معين واحد؛ هو إعادة تقويم العمل القرائي لتحصيل الوعي المطلوب بالتراث سواء من داخل الذات أو من خارجها.
مبدأ مقايسة المجال الكروي
لقد كان التساؤل من نحن؟ حلقة تدور فيها جميع الأسئلة التي ترتبط أو تتشرنق داخلها الثقافة العربية، لوجود علاقة ملتبسة بالآخر الذي نتصوره في علاقتين: علاقة المعلم من جهة، ومن جهة أخرى علاقات المستعمر الطامس للهوية، الحاصل على مستوى الثقافة العربية.
ومن خلال تلك المشاريع التي تحمل معها كل مرة رؤىً تحاول التجديد في الأنساق الثقافية، والتي تحمل تساؤلاً جوهرياً: هل الثقافة العربية تعدت كونها ثقافة مطابقة إلى كونها ثقافة اختلاف؟ الواقع >وفي هذين الضربين من ضروب المطابقة، تندرج الثقافة العربية الحديثة في نوع العلاقة الملتبسة التي يشوبها الإغواء الأيديولوجي مع الآخر والماضي، بحيث يصبح حضورها استعارة جردت من شروطها التاريخية ووظفت في سياقات مختلفة<(27).
وهنا نجد أن لطه حسين دوراً ريادياً في تمثل المناهج الغربية في قراءة التراث، ويعتمد مشروع طه حسين على مبدأ المقايسة لا بين الشرق والغرب، وإنما من خلال المجالين الثقافيين، الشرق القريب والغرب، وإن كانت هذه النظرة لا تنفك أن تكون متمحورة ضمن المركزية التي أشاعتها الكونية الغربية.
وعمل المصب الغربي عمله في القراءات التي قدمها طه حسين مثلاً في الشعر الجاهلي بتمثله للمنهج الديكارتي، ولما كانت النصوص مفتوحة على القراءة، أنتجتها تلاحم علاقات من كل ناحية، لأن >كل علاقة تنتج بواسطة علاقة، ومعنى هذا أن هناك علاقة أولى تكون منطلقاً لتوالد عدة علاقات في صيرورة وسيرورة متوالية، وهذا يصح في جميع أنواع العلاقات فهي تتوالد وتتناسل<(28)، والنص في كل هذا تربطه صداقات بمعنى علاقات خارجية مع نصوص أخرى >بعد 60 عاماً على طرد الأديب المصري الراحل طه حسين من جامعة القاهرة بسبب كتاب اعتبر مسيئاً إلى الإسلام، منع مجلس إدارة الجامعة نفسها قبل أسبوع وللسبب عينه مؤلفات نصر حامد أبو زيد الأستاذ المساعد للغة العربية في كلية الآداب، ورفض ترقيته إلى درجة أستاذ<.
اشتغل نصر حامد في تجديد الخطاب الديني، ضمن آليات البحث لإثراء الحياة الثقافية العربية، والعمل على انتشالها من القراءة التقليدية، التي تعمل دوماً على استنساخ نفس الملامح للثقافة العربية، العودة إلى الماضي هي التي كانت تشكل كل مرة هذه القراءة، محاولة لتخليص العقل العربي من الذهنية البترولية التي تعتمد دوماً على النبش في الماضي، والاعتماد من ثمة على ما توفره الأرض، إلى محاولة الإبداع والابتكار في أساليب البحث ومنهجيات العمل، وهو ما جعل نصر حامد أبو زيد يدرس علاقات الأيديولوجي التي جعلت مثل هذه القراءة تتحكم في رأس الفكر العربي، يقوم بإعادة ترتيب وتأثيث الفهم، محاولاً تحديد علاقات الالتباس التي شكلتها الصيرورة التاريخية المترسبة في طبقات الأصيل والمكرور، في الوقت الذي التزمت فيه السلطة الدينية والسياسية العمل على تهميش المثقف الاعتزالي.

الهوامش:

?* باحث من الجزائر.
(1) عبد الكريم شرفي، مقدمة حول إشكالات القراءة والتأويل في النظريات الأدبية الغربية الحديثة، جامعة الجزائر، 2001-2002. ص: 162.
(2) أحمد حيدوش، الاتجاهات النفسية في النقد العربي الحديث، ديوان المطبوعات الجامعية. ص: 10.
(3) فاضل تامر، اللغة الثانية في إشكالية المنهج و النظرية والمصطلح في الخطاب النقدي العربي، ص: 50.
(4) فاضل تامر، المرجع السابق، ص: 43-44.
(5) المرجع نفسه، ص: 130.
(6) المرجع نفسه، ص: 131.
(7) عبد الله الغذامي، الخطيئة و التكفير، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية 1991م، ص: 11.
(8) المرجع نفسه، ص: 12.
(9) عبد العزيز حمودة، المرايا المقعرة (نظرية نقدية عربية)، مجلة عالم المعرفة، العدد 272، ص: 28-29.
(10) محمد أركون، الفكر الإسلامي، دراسة علمية.
(11) عبد الرحمن بوعلي، نظريات القراءة (من البنيوية إلى جمالية التلقي) دار النشر جسور، الطبعة الأولى 1995م، ص: 8.
(12) ميشال فوكو، حفريات المعرفة، ترجمة سالم يفوت، المركز الثقافي العربي، ص: 27.
(13) حبيب مونسي، المرجع الانترنت www.rezgar.com
(14) نصر حامد أبو زيد، التأويل والخطاب، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى 2000م، ص: 213.
(15) محمد الخطابي، لسانيات النص، المركز الثقافي العربي، ص: 59.
(16) بول ريكور، من النص إلى الفعل، ترجمة: محمد برادة - حسان بورقية، عين للدراسات والبحوث الإنسانية والاجتماعية، الطبعة الأولى: 2001، ص 33.
(17) محمد الخطابي، المرجع نفسه، ص: 6.
(18) المرجع السابق، ص: 60.
(19) علي حرب، الاستلاب والاسترداد، المركز الثقافي العربي، ص: 87.
(20) محمد الخطابي المرجع السابق، ص: 66.
(21) نصر حامد أبو زيد، الخطاب والتأويل، ص: 57.
(22) المرجع نفسه، ص: 22، 23، 24.
(23) المرجع نفسه، ص: 57.
(24) حوار أجري مع نصر حامد أبو زيد: www.rezgar.com
(25) عبد العزيز حمودة، المرجع نفسه، ص: 17.
(26) عمر مهيبل، البنيوية في الفكر الفلسفي المعاصر، ديوان المطبوعات الجامعية، ص: 57.
(27) عبد الله إبراهيم، الثقافة العربية والمرجعيات المستعارة (تداخل الأنساق والمفاهيم ورهانات العولمة )، المركز الثقافي العربي، الطبعة الأولى: 1999م.
(28) محمد مفتاح، النص من القراءة إلى التنظير، شركة النشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2000م، ص: 9.