>ليس التجديد فعل قطيعة مع الماضي أو التراث، بل هو استعادة لما يحمله الماضي من راهنية، فلا يعود الماضي مطلوباً لماضويته، وإلا أصبح سجناً ومصادرة لكل مقتضيات العصر، بل هو - أي التجديد - عملية جذب واتصال بين ماضوية الحاضر وراهنية الماضي..<.
د. وجيه قانصو
هناك حاجة دائمة ومستمرة لتجديد الخطاب الديني، لأسباب ذاتية وموضوعية، فالتطور الحضاري وتغير الأزمنة يجلبان معهما أسئلة وتحديات جديدة، وأي خطاب ينشد الاستمرارية والبقاء لابد له من مواكبة الواقع بالإجابة عن أسئلته، واستيعاب المستجدات والتطورات، كيلا تتسع الهوة بينه وبين الواقع، فيفقد تأثيره وموقعه بالتدريج.
من هنا تبرز أهمية التجديد في الخطاب الديني الإسلامي، الذي ينطلق من ثوابت العقيدة وقيمها المتعالية والخالدة ليعيد قراءتها وفهمها على ضوء المستجدات والتطور العلمي والفكري الإنساني، وليقدمها بلغة وأسلوب وحُلة جديدة يستوعبها الواقع الجديد كذلك، كما يعيد قراءة أحكام الشريعة وفقهها بما يؤكد صلاحيتها لكل زمان ومكان وخلودها، وعدم تخلفها عن الواقع ومتغيراته.
وقد انخرط الخطاب الإسلامي منذ أكثر من قرن - ونتيجة للصدمة الحضارية والعسكرية التي تعرضت لها الشعوب الإسلامية - في حركة تجديدية واسعة النطاق، كانت لها نتائج إيجابية كثيرة خصوصاً على مستوى التأصيل لعدد من المفاهيم الحديثة واستيعابها، كما استطاعت هذه الحركة التجديدية أن تجيب عن الكثير من أسئلة الواقع وتحدياته، لكن إلى جانب هذه النتائج الإيجابية، عرف الخطاب الإسلامي الكثير من الإخفاقات والأزمات التي لم يستطع تجاوزها إلى حد الآن، وهذا ما يبرر استمرار الدعوات للتجديد والمطالب المتكرر لإعادة النظر في واقع هذا الخطاب وأولوياته وأهدافه.
إن التجديد ليس فعلاً أو مشروعاً ينجز في لحظة زمكانية وينتهي كل شيء، بل هو تعاطٍ إيجابي تفاعلي بين الواقع الحي والمتغير باستمرار، وبين قيم ومبادئ النص (الوحي) لتأكيد نزولاته المتكررة والمستمرة، التي تستوعب الواقع وتوجهه نحو أهداف ومقاصد الشريعة في الخلق والاستخلاف. لذلك فالتجديد كان ولا يزال ضرورة شرعية (ذاتية) وحاجة موضوعية للانسجام مع سنن التطور في الحياة، وليس مطلباً سياسياً لتحقيق أهداف أيديولوجية آنية لجهة ما، وهذا ما أكدته مجمل البحوث والدراسات المقدمة لندوة: (تجديد الخطاب الديني) التي عقدت في دمشق بين 10-12 شباط (فبراير) 2004م، ونظمت بالتعاون بين مركز الدراسات الإسلامية ومركز الدراسات الاستراتيجية بجامعة دمشق، وقد شارك في الندوة عدد من المفكرين والأكاديميين والمهتمين بقضايا التجديد في الخطاب الديني، فيما يلي استعراض للأوراق المقدمة في فعاليات هذه الندوة.
في الجلسة الافتتاحية ألقى د. محمد الحبش مدير مركز الدراسات الإسلامية بدمشق كلمة عَدَّ فيها السعي لتجديد الخطاب الديني، إنما هو في المقام الأول وفاء لرسالة الأنبياء الكرام وإحياء لتراثهم، ثم هو استجابة للشرط الموضوعي في الرسالة الخاتمة التي تطمح أن تقدم الأجوبة الكاملة لكل زمان ولكل مكان، وهو ما تجلى في حراك التشريع الأول، عبر آلية النسخ في عصر الرسالة، ثم في آليات تخصيص العام وتقييد المطلق، وتأويل الظاهر وتحقيق المناط وتنقيحه وتخريجه وفق القاعدة التي أصلها الفقهاء الكرام: >لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان<.
وأضاف د. الحبش: إن تجديد الخطاب الديني مطلب شرعي في المقام الأول، بالإضافة إلى كونه مطلباً قومياً، لأنه مضى عبر التاريخ حاملاً ثقافياً للإبداع العربي في العالم.. وفي الأخير أكد د. الحبش أن حجم العطاء التجديدي في هذا المؤتمر من خلال المشاركات، هو الذي سيقرر ما إذا كنا بسبيل إطلاق مبادرة عربية إسلامية لحشد طاقات التنوير في الخطاب الإسلامي، وهو ما نأمله بحق، أن تكون دافعاً حقيقياً للنهوض والتوثب، يتكامل مع سائر أشكال الطيف، يغتني بها ويغنيها، ولا يجحدها أو يلغيها...
? أعمال اليوم الأول
انطلقت أعمال المؤتمر بالجلسة الأولى التي ترأسها د. سمير حسن، وقدم فيها في البداية الأستاذ زكي الميلاد (رئيس تحرير مجلة الكلمة) ورقة بعنوان: (لماذا لم يتجدد الخطاب الإسلامي المعاصر؟) وقد أجاب عن هذا السؤال من خلال ثلاثة محاورة أساسية، المحور الأول تحدث فيه عن علاقة الخطاب الإسلامي بمفهوم التجديد، فرأى أن هذه العلاقة قد مرت بأطوار وتحولات، في الطور الأول تعامل الخطاب مع مصطلح التجديد بمنطق الرفض بوصفه مفهوماً غربياً، وفي الطور الثاني حصل قدر من التطوير في هذه العلاقة فقد أصبح الهاجس يتمثل في محاولة ضبط مفهوم التجديد وتحديد طبيعته ومجالاته. أما في الطور الثالث فقد تخلص الخطاب الإسلامي من جميع المخاوف وانخرط في عملية التجديد وممارسته وذلك بسبب الصحوة واليقظة التي غيرت - كما يقول الميلاد - من رؤية الخطاب الإسلامي لذاته وقد وجد نفسه أمام فرصة لأن يجرب ويختبر ما لديه من أفكار وتصورات وأطروحات. وفي هذا الطور ظهرت أوسع الكتابات والاشتغالات الإسلامية حول مفهوم التجديد وبالذات خلال عقد التسعينات.. وفي الطور الرابع تعرض - ولا يزال - هذا الخطاب لتحديات كبيرة بعد أحداث 11 سبتمبر واتهام جهة إسلامية بأنها المسؤولة عن الحادث الذي فجر العلاقة بين الإسلام وشعوبه من جهة والغرب من جهة أخرى، وفي هذا الطور أصبحت القناعة بالتجديد ضرورية وفعلية ولها الأولوية وخصوصاً لمواجهة التطرف والغلو في الدين والتكفير.
وفي المحور الثاني تحدث عن مفهوم تجديد الخطاب الإسلامي، والمحددات الناظرة له من جهتين: تفكيكية تحلل عناصر ومكونات هذا المفهوم، وتركيبية تحدد المعاني العامة والكلية له. أما في المحور الثالث فقد أجاب فيه عن سؤال: لماذا تأخرت مهمة تجديد الخطاب الإسلامي؟
الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت للدكتور أحمد برقاوي (من الجامعة السورية) تحت عنوان: (محمد عبده ومسألة الحكم: جرثومة العلمانية في فكره)، والمقصود بجرثومة العلمانية عند د. برقاوي (أصل العلمانية وإمكانية تطورها في الفكر الإسلامي)، وقد استدلّ على ذلك من خلال اجتهادات المصلح المصري المعروف الشيخ محمد عبده، المتعلقة بالدولة وطبيعة الحكم، وخصوصاً رأيه في الدستور الواجب أن يكون لمصر، فحسب د. برقاوي، المدقق لمقترحات عبده بخصوص الدستور يلحظ بما لا يدع مجالاً للشك أن عبده يريد سلطة مدنية من جميع الوجوه، فهناك السلطة التشريعية، سلطة النواب، وهناك سلطة تنفيذية مسؤولة أمام السلطة التشريعية، وهناك محاكم شرعية ومحاكم أهلية وتعليم ديني وتعليم مدني والموظفون المصريون بمعزل عن انتمائهم الديني - إلا رئيس الوزراء الذي يجب أن يكون مسلماً لأن هناك مسائل مختصة بالدين يجب أن يفصل فيها..-، والوزارة مدنية ومجلس النواب مدني، وبالتالي فالحكم مدني من جميع الوجوه، وبذلك يكون الشيخ المصلح - كما يرى د. برقاوي - هو من وضع جرثومة العلمانية في الفكر المصري والعربي، هذه الجرثومة التي بلغت صيغتها النهائية مع الشيخ علي عبد الرزاق في كتابه (الإسلام وأصول الحكم).
والخلاصة التي يتوصل إليها د. برقاوي هي: أن العلمانية على الرغم من عدم استخدام هذا المصطلح من قبل التيار الديني الإصلاحي. هي فكرة أصلية من أفكار هذا التيار، مما يدحض القول بأنها رؤية مفكرين مغتربين عن عالمهم..
وهذا الاستنتاج يثير الكثير من التساؤلات - في نظرنا - لأن مقترحات الشيخ محمد عبده بخصوص الدستور يجب أن تُقرأ وتفهم في سياقها التاريخي والموضوعي، فالشيخ عبده كان همه القضاء على الاستبداد بتقييده بهذه المجالس، والتي لم يكن الشيخ يرى بأساً في اقتباسها من الغرب ما دام الإسلام في نظره لم يحدد أي شكل من أشكال الحكم لابد من اتباعه، وهذا نوع من التجديد ومواكبة العصر، ولا علاقة له بفصل الدين عن الدولة. وقد استوعب الإصلاحيون الكثير من المظاهر التحديثية والتجديدية ولم يجدوا أي تناقض بينها والقيم والمبادئ الإسلامية. أما آراء الشيخ علي عبد الرزاق فلا علاقة لها بالعلمانية كذلك، وإنما هي محاولة للوقوف في وجه الملكية الاستبدادية في مصر، التي كانت تحاول أن تستثمر مفهوم الخلافة الإسلامية لتبسط سلطتها السياسية، لا على مصر فقط وإنما على باقي المناطق العربية، فجاء كتاب علي عبد الرزاق ليشكك في الأساس النظري للدعوة إلى الخلافة الإسلامية، وليكشف مساوئ هذه الخلافة المستبدة وليحذر منها. لكن قد نتفق مع د. برقاوي في أن آراء الشيخ عبد الرزاق كانت ممهدة لمن جاء بعده ليطالب بفصل الدين عن السياسة، ما دام أن مؤسسة الخلافة ليست من مطالب الإسلام وإنما من مبتكرات المسلمين...
الجلسة الثانية في هذا اليوم ترأسها د. عبد القادر الكتاني، وتحدث فيها في البداية د. جودت سعيد (سورية) عن: (تجديد الخطاب الإسلامي)، فأشار إلى أن الحوار لا يتم إلا بين طرفين متكافئين، وهذا يلقي عبئاً مضاعفاً على الحضارة العربية والإسلامية كي ترتقي بخطابها لتحاور ذاتها ثم تحاور الحضارة الغربية، وتساءل عن أسباب عدم التكافؤ بين المسلمين وغيرهم فأكد على وجود مشكلات كبرى لم نواجهها بوعي ووضوح وهذا هو السبب - في نظره - في عدم كفاءة خطابنا، من هذه المشكلات مشكلة الخوارق والسننية، وعدم الاستفادة من القرآن الذي انتقل بالدين من الخوارق إلى السننية مقدماً بعض الأمثلة على ذلك مثل: انتصار الحق الأعزل على الباطل المسلح، بسبب القوة الذاتية للحق. كما قدم مجموعة من القراءات الجديدة لعدد من الآيات القرآنية استطاع أن يستنبط منها مفاهيم جديدة، هي المفاهيم التي توصل إليها العقل الإنساني بعد معاناة طويلة، وانتقد بعض القراءات الفقهية القديمة لأنها في نظره قاصرة عن اكتشاف الآفاق البعيدة لهذه الآيات وما تحتضنه من مفاهيم، وهذه القراءات الجديدة - في نظره - تمثل التجديد الحق للخطاب الإسلامي، وترتقي به ليكون مكافئاً للخطاب الغربي.
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها الباحث أنور أبو طه (المنسق العام للملتقى الفكري للإبداع - فلسطين) تحت عنوان: (التجديد الديني مدخلاً لإصلاح الفكر الإسلامي) أشار فيها في البداية إلى أن دعاوى التجديد والإصلاح في العالم العربي والإسلامي تخفي وراءها الاعتراف الضمني بصلابة المؤسسة الدينية، وبقاء الدين فاعلاً بالرغم من الهجمة الحداثية والليبرالية.. وبعد مناقشته لموقف الحداثة من الظاهرة الدينية ونقد الخطاب الغربي لهذا الموقف، تساءل الباحث أبو طه: هل تشكل الحادثة مدخلاً يصلح معرفياً وسوسيولوجياً لإصلاح الفكر الإسلامي، أو هل هو المدخل الأوحد في ظل هيمنته وإكراهاته المتعددة للإصلاح؟ وهل من مدخل جديد آخر؟ وأي المدخلين يحقق الشرط الإبستمولوجي والسوسيولوجي للإصلاح: الحداثة أم التجديد؟ وقد أجاب على هذه التساؤلات بالتفصيل ليصل إلى أن >التجديد الديني إن أريد منه التحقق لابد أن يتمتع بالمشروعية التي لا تتأسس إلا في قلب الإطار المرجعي المعرفي أولاً، ثم الضرورة التاريخية التي تعكس الحاجة إلى الإصلاح.. كما أن جوهر الحداثة هو حرية الذات في التجدد الذاتي والتحرر من كل استلاب أو تبعية، إنْ للتقاليد المعيقة للتقدم أو التقليد المعيق للإبداع..< وبعد استعراضه للتيارات التي تمارس إنتاج الفكر الإسلامي تحدث عن التجديد بوصفه المدخل لإصلاح الفكر الإسلامي، فدعا إلى البدء بتجديد العلوم الدينية مؤكداً أن الوعي المتجدد في كل منظومة قيمية ونظام عقائدي كلي يقوم على:
1ـ الوعي بتأسيس البنية القيمية لمجال الاعتقاد والانتماء العقدي والفكري والسلوكي.
2ـ الوعي بفقه الواقع.
3ـ الوعي بالآخر، لأن صورة الذات لا تتضح ولا تعرّف إلا بحضور الآخر في مرآتها على ما هو عليه.
أما أهم قضايا التجديد - في نظره - فهي التي تطال القضايا الكلية والتي تتعلق بأصول العلوم مثل: مباحث تفسير النص الإلهي، الاهتمام بالتطور الدلالي للمفاهيم الشرعية، وطرق استثمارها في العلوم الشرعية، إعادة التوسع في قواعد وأصول نقد الحديث الشريف على ضوء المتن وليس السند فحسب، معالجة قضيةِ ما يُعَدُّ تشريعاً وما لا يعد تشريعاً، ما يعد ديناً وما لا يعد ديناً.
وفي الأخير خلص الباحث أبو طه إلى أن: المدخل الفاعل والحسي والقادر على الإصلاح الشامل والحقيقي للفكر الإسلامي، ينهض بالتجديد والتجديد وحده. وأضاف: على أن التجديد ليس نظاماً، قد يبدأ في اشتغاله وقضاياه وميادينه كنظام فكري جديد، ولكنه لابد وأن يتحول إلى حركة. إن جوهر التجديد حركة، حركة نقد وبناء، تَمَثُّل وتجاوز، إيمان دون فناء، وعي دون استلاب، التزام دون قعود. حركة تُحرِّك الراكد والساكن، وتجذب الذين حبسوا أنفسهم طويلاً في الجمود، وذلك دونما توجس من مظاهر الحنين للمألوف، ودونما اعتبار لرهانات السياسة...
تناول الكلمة بعده الشيخ حسين شحادة (رئيس تحرير مجلة المعارج البيروتية) الذي قدم: (مقاربة أولية لرؤية الإمام السيد محمد حسين فضل الله في تجديد الخطاب الإسلامي) أشار فيها في البداية إلى كون السيد فضل الله من روّاد الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني من داخل بنيته ووفق الرؤية القرآنية لشروط التغيير والتحديث. ثم تساءل عن أزمة الخطاب الديني، هل هي ناجمة عن نقص في معرفة هذا الخطاب بثقافته الإسلامية النقية، أم ناجمة عن نقص في معرفته بثقافة عصره؟ محذراً من الاختلافات حول وسائل هذا التجديد وخطورة تسرب الضغوط الخارجية وتأثيرها السلبي على أي تجديد. وبالنسبة للتجديد في فكر سماحة السيد فضل الله، أكد الشيخ شحادة على أن سماحة السيد يرى في تفسيره (من وحي القرآن) أن الأمة الإسلامية لن تستطيع الحفاظ على هويتها وبقائها إلا من خلال إرادتها القادرة على تحويل الأفكار إلى برامج عمل مرتبطة بأهداف القرآن وغايته من بناء الحياة والإنسان على سلالم تطور العقل البشري، وتفاوت مداركه من أمة إلى أمة ومن جيل إلى جيل... وأضاف: لا يمكن لخطاب إسلامي أن يأخذ مكانه العالمي في مدى ثورة الاتصالات والمعلوماتية، ما لم يتجاوز شعار الاكتفاء بخصوصيته إلى مراجعة هذه الخصوصية لاكتشاف عوامل القوة والضعف فيها، لينبت التجديد من منابت مقوماتها الذاتية، بعيداً عن لعبة التلفيق الذي يحاول دمج بعض المفاهيم المستوردة وإسقاطها على قيمنا الإسلامية، متوهماً بابتداعه هذا أنه سائر على خطا التجديد والتحديث.. كما دعا إلى إعادة صياغة هذا الموروث وإنتاجه إنتاجاً معرفياً، في ضوء قواعد اجتهادنا الإسلامي وضوابطه.. ولن يعيب خطابنا الإسلامي المتهم - بنزعته التاريخية - فيما لو قدر له أن ينجح بفتح نوافذ التاريخ على أبواب الحاضر والمستقبل، فالقرآن الكريم يجري في الزمان والإنسان مجرى الشمس والقمر - على حد تعبير الإمام الباقر C - ما يفتح قضية تجديد الخطاب الإسلامي على تجديد مناهج التفكير ومناهج التطبيق في آن، فلم يعد بمقدورنا اختزال أزمة الخطاب الإسلامي في إطار أزمة الالتزام بالإسلام، متجاهلين أزمة الوعي بهذا الدين الحنيف فكراً وفقهاً وثقافة.. وأخيراً دعا الشيخ شحادة إلى ضرورة تأسيس خطاب إسلامي جديد قادر على قاعدة بلورة مفهوم التواصل بين ماضي الإسلام وحاضره، مشيراً إلى أن السيد فضل الله عالج هذه القضية في مؤلفاته وأبحاثه التي تناولت شروط التجديد ومواصفات المجدد.. وقد أكد فيها أن من أبرز عقبات التجديد: الجهل والتخلف، والذهنية المقفلة التي ليست مستعدة لأن تنفتح على مواقع التحدي التي يوجهها أعداء الإسلام إلى الإسلام في المسألة الثقافية والفكرية..
? أعمال اليوم الثاني
انطلقت أعمال اليوم الثاني بجلسة صباحية ترأسها الشيخ معتوق الخزنوي، وتحدث فيها في البداية الباحث الأستاذ جمال البنا (مصر) عن: (الفقه الجديد ودوره في تجديد الخطاب الديني) انطلاقاً مما جاء في كتبه: (نحو فقه جديد - 3 أجزاء) و(تثوير القرآن) و(تفسير القرآن بين القدامى والمحدثين). وفي هذه الكتب وضع الباحث الأسس المقترحة لفقه جديد، كما عرض فيها مجموعة من القراءات الجديدة للأحكام الإسلامية. منطلقاً من أن: الفقه الجديد يرى أن ما جاء في الشريعة من أحكام في الميراث أو الزكاة أو الحدود.. إلخ، سواء نص عليها القرآن أو السنة، يخضع للتثبت من وجود الحكمة التي صدر على أساسها النص. فإذا كان التطور قد نفى هذه الحكمة، فإن الحكم يسقط من تلقاء ذاته لأن الحكم يدور مع العلة وجوباً وسلباً.. والمعول عليه في التوصل إلى هذا هو العقل دون اختيار أو تطوير، فإذا كان العصر الحديث قد قضى على الرق وعلى الغنائم في الحرب والجزية... فإن كل ما جاء عنها قد انتهى وطويت صفحته...
أما بخصوص الاستفادة من السنة في الفقه الجديد، فالباحث وإن كان يعترف بمرجعية السنة، لكنه يضع مجموعة من المعايير القرآنية يجب أن تلحظ -كما يقول- في الأحاديث التي يؤخذ بها، فإذا جاء حديث معارض أو مناقض لأحد هذه المعايير فإننا نتوقف.. ونتائج هذا المنهج تثير الكثير من الإشكاليات، لأن الباحث ينطلق من مسلمات لديه هي محل اختلاف بين المسلمين ويبني عليها آراءه الاجتهادية مثل ادعائه أن الرسول K نهى عن كتابة أقواله وسنته، لأن ذلك يثير الشكوك حول حجية السنة.
إن النهي عن كتابة السنة كان من اجتهاد بعض الصحابة وقد خالفهم من جاء بعدهم من التابعين، عندما شعروا بأهمية السنة شارحةً ومبينةً للقرآن وأحكامه ومتممة لما لم يذكر في القرآن، وهي كذلك وحي بدليل قوله تعالى: {مَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى}. ورفض السنة يستتبعه رفض الكثير من الأحكام التي أجمعت الأمة على كونها أحكاماً إسلامية ثابتة، والاختلاف حول شرعيتها مثل شرعية رجم الزاني المحصن وقتل المرتد وغيرها من الأحكام والتشريعات التي يحاول البعض - ومنهم الباحث البنا - تجاوزها والتشكيك في شرعيتها لأنها وردت في السنة ولم ينص عليها القرآن. وهذا المنهج لن يؤدي إلى التجديد المطلوب، أي مسايرة الشريعة للمتغيرات وإجابتها عن أسئلة العصر، وإنما سيؤدي إلى القضاء على الإسلام وشريعته، فلو اكتفينا بالقرآن فقط فإن ثلثي الفقه الإسلامي على الأقل ستصبحان في ذمة التاريخ. وهذه الدعوات ليست جديدة فقد رفض الخوارج الرجم لأنه غير منصوص عليه في القرآن، ولو وُجد في القرآن فإننا سنجد من يطالب بتأويل النص القرآني، لأن الهدف هو رفض الحكم. وكان على هؤلاء المطالبين بالتجديد أن يبحثوا في علة الحكم وأهدافه وشروط تطبيقه الصعبة، الأمر الذي يكشف عن صداه المعنوي في الردع العام والخاص، وقد ثبت تاريخياً أن من رُجم من المسلمين جاء معترفاً باقترافه الفحشاء طالباً التطهير للتكفير عن ذنبه. لذلك نعتقد أن التجديد إذا اتخذ هذا المنحى لن يكون تجديداً للخطاب الديني وإنما قضاء على الإسلام وشريعته، وتقديم التنازلات لصالح القوانين الوضعية التي قد يكشف التطور عن خطئها في المستقبل.
طبعاً نتفق مع الباحث على وجود أحاديث كثيرة موضوعة، واجتهادات خاطئة أو لم تعد صالحة لأنها كانت إجابة عن أسئلة عصرها وظروف مجتمعها، وكذلك نتفق معه على فتح باب الاجتهاد على مصراعيه ونبذ التعصب المذهبي وإعادة النظر في الكثير مما تسالم عليه الفقهاء في الماضي أو اشتهر بينهم، لكن لابد من وضع ضوابط شرعية وعقلية، كيلا يتم استغلال الاجتهاد وإبداء الرأي لنقض مبادئ الإسلام وقيمه وأحكامه القطعية. كذلك نتفق مع الباحث البنا على ضرورة إعادة النظر في التفاسير القديمة للقرآن، ورفض الإسرائيليات التي اعتمدها بعض المفسرين، وكذلك الأحاديث الموضوعة لأسباب النزول، بالإضافة إلى التأويلات والتفاسير التي تخالف بعض الحقائق العلمية القطعية، وضرورة تثوير القرآن واستنطاقه والتدبر في آياته، والغوص في أعماقه لاستخراج مكنوناته وجواهره ففيه تبيان لكل شيء.
لقد قدم الباحث الكثير من الاجتهادات ودافع عنها وخلص في النهاية إلى أن المشكلة ليست في الإسلام وإنما في المسلمين الذين >لا يريدون التفكير وإعمال العقل في عصر يقوم على الفكر والعقل، ويريدون الاكتفاء بما تركه لهم أسلافهم الذين كانوا كباراً ومتقدمين في عصورهم ولكنهم الآن عقبة في سبيل التقدم.. والمسلمون اليوم لا يعجزون فحسب عن التفكير، بل إنهم يحاربون من يفكر أو يجدد.. والحل هو ما ذكرناه من رجوع إلى القرآن الكريم مباشرة وعدم الالتزام بما جاء في كتب التفاسير من أحكام، وضبط السنة بمعايير القرآن، عندئذٍ يمكن للقرآن أن يحقق - يضيف الباحث البنا - ثورة الإسلام في العصر الحديث كما فعلها في العصر القديم...<.
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها الباحث السوري عبد الرحمن الحاج بعنوان (بنية الخطاب الإسلامي الجديد وتحولات ما بعد 11 أيلول/ سبتمبر) أكد فيها في البداية أن التجديد والإصلاح الديني الإسلامي لم يعد أمراً إقليمياً يخص العالم الإسلامي فحسب، فمنذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصبح جزءاً من السياسة العالمية وقضاياها، بعد أن زُجَّ بالإسلام في وسط الأحداث الكبرى ووضع بشكل أو بآخر تحت سطوة عصا الإرهاب الأمريكية، وَوُضِعَ المسلمون في حالة دفاع عن النفس جعلتهم في كل مؤتمراتهم وندواتهم يصدرون ختام اجتماعاتهم بالدعوة إلى إصلاح الفكر الإسلامي والديني.. كما أشار إلى أن أهمية دراسة الخطاب الجديد لا تنبع فقط من ضرورة تتبع الخطوات التي يقطعها الفكر الديني فحسب، ولكن لأن فهم الخطاب الجديد ذاته مسألة مهمة معرفياً لأنها تتصل بقضية النهضة مسألة المسائل.. ثم شرع في تحليل العناصر الداخلية لهذا الخطاب، وطريقة تشكلها، والنظام الذي يحكم علاقاتها، والأساس المنطقي الذي ركّبت على أساسه.. وذلك من خلال ما أسماه بالتاريخ المفارق أو الإطار المرجعي، عالج فيه رؤية العالم كما هي لدى المفكر السلفي والإصلاحي، وكيف تم التعامل مع الأزمنة والمتغيرات وتأثير ذلك على فهم الدين، فما كان لدى السلفي التقليدي - في نظر الباحث - زمناً أسطورياً ثابتاً، اتخذ بعده الواقعي في الخطاب الإصلاحي والتجديدي، لكن الوعي بالزمن والذي كان يفترض أن يقود إلى تحولات عميقة في الخطاب الإصلاحي، اصطدم بالواقع الفعلي لمركب الدين الإسلامي: غياب سلطة دينية ومشكلة مع العلم... سرعان ما أدى ذلك إلى انقلاب دراماتيكي للزمن، فأصبح الإصلاح الديني يعني العودة بالدين إلى ما كان عليه سلف هذه الأمة على هدي العقل... لكن مفهوم الزمن الغربي المفارق سرعان ما أصبح مسلّما في خطاب التجديد مما جعلنا نشهد - كما يقول الباحث - إعادة تركيب لزمن الحداثة في حضور (أنا) في طور جديد... في صورة تأسيس نظري واسع النطاق للعلاقة بين المعرفة الحداثية الممثلة لزمنها في مشروعات متفاوتة الأهمية، لكن أهمها على الإطلاق مشروع إسلامية المعرفة الذي تعرض لنقد إبستمولوجي حاد، لكنه - في نظر الباحث - كان بمثابة الفتح في التنظير للتعاطي مع الزمن الغربي، فالحصار الذي وجد هذا الخطاب التجديدي نفسه فيه في الثمانينات ما لبث أن فتح الأفق لتشكل خطاب جديد في التسعينات مع استراحة العقل المسلم من أزمة الهوية بانقضاء الصراع الأيديولوجي مع الماركسية، إذ صاحب هذا التكون ولادة حركة نقدية واسعة للحداثة الغربية..
تحدث الباحث كذلك عن العنصر الثاني من العناصر الداخلية لهذا الخطاب والمتمثلة فيما أسماه بمركب الذات، عالج فيه قضية العلاقة بالتراث في الرؤى الإصلاحية والتجديدية والسلفية، والالتباس الحاصل بين مفهوم الدين ومفهوم التراث، وعلاقة التراث بالمعرفة الحداثية.
وقد خلُص الباحث الحاج إلى أن الخطاب الإسلامي الجديد لم يستطع بعد تكوين نموذجه المعرفي، لكن عناصر مكوناته وآلية ترابطها وعملها تنبئان عن إمكانية قريبة، نقول نموذج معرفي ونحن ندرك تماماً معنى أن يتشكل نموذج جديد، في انطلاقة ثورية للمعرفة الدينية وربما النهضوية العربية على وجه العموم...
الورقة الثالثة في هذه الجلسة قدمها د. عبد الله مبروك النجار (عضو مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف) تحت عنوان: (تجديد الخطاب الإسلامي في مجال الاستدلال الفقهي: دراسة تطبيقية) فتحدث في البداية عن أهمية التجديد في إطار الاستدلال الفقهي، وضرورة الاجتهاد الذي هو أداة تبرز عموم الشريعة وخلودها وصلاحيتها لكل زمان ومكان. مؤكداً أنه بدون التجديد سيحكم على الإسلام بالسجن في مرحلة زمنية معينة أو مكان محدد، وتحنيطه فيه، ليكون تشريعاً متحفياً شأنه شأن التشريعات التي نقرأ عنها في العصور التاريخية الماضية..
أما المقصود بالتجديد فلا يعني تغيير النصوص وتبديلها، وإنما المطلوب هو تطبيق تلك النصوص على نحو يلائم العصر ويستوعب النوازل، ويتسع للحكم على مستجدات العلم ومبتكرات السلوك ليبين لنا - كما يقول- حكمها وفقاً لما يغلب على الظن أنه يصيب حكم الله ورسوله فيها..
وقد قدم مجموعة من الأمثلة عن مجالات التجديد ومصاديقه، مبتدئاً بمجال العلاقات الدولية، حيث تحدّث فيه عن كيفية تعامل الرسول K مع أهل الذمة ومع الأمم الأخرى، منتقداً بشدة الانحراف الذي سقط فيه خطاب بعض التيارات الإسلامية، التي لا ترى في الآخر إلا عدواً يجب أن يحارب، ويعلن عليه الجهاد، والسبب في ذلك في نظره يرجع للفهم والتطبيقات الخاطئة لأحكام (الولاء والبراء). في الوقت الذي أصبحت العلاقات الدولية تتحكم فيها مفاهيم جديدة مثل: مفهوم السيادة، وتقرير المصير، الاحترام المتبادل.. لذلك لابد من خطاب إسلامي جديد يتواءم مع هذه المفاهيم الجديدة، وكذلك إعادة النظر في أحكام الولاء والبراء ليتم تطبيقها في إطار العلاقات الدولية المتكاملة، وليس وفقاً للنظرة الفردية القاصرة.. ويضيف: أما أن ترتفع العقائر بالسباب والتحقير، وتدمير مبنى هنا أو هناك، أو قتل جماعة في الشرق أو في الغرب، دون استعداد حقيقي للمواجهات الشاملة، فإن ذلك من شأنه أن يثير الوحوش الضارية علينا، ونحن لا نملك في مواجهتها ما نقوى به على درء خطرها..
كذلك تحدث عن ضرورة تجديد الاستدلال الفقهي في مجال العبادات وقدم على ذلك مجموعة من الأمثلة مثل: مواقيت الصلاة، والتداوي بالطب النبوي مؤكداً أن تجديد الخطاب في هذا المجال يكون بتحديث الطب ومواكبة بحوث العصر، وليس بالتزام عين ما كان يعالج به في عصور الإسلام الأولى، وكذلك التجديد في أبواب الزكاة ومصارفها للتطور الهائل في القضايا الاقتصادية...
كما تحدث أيضاً عن ضرورة تجديد الاستدلال الفقهي في مجال المعاملات، مؤكداً على قاعدة (تغير الاجتهاد بتغير النوازل والأزمات)، لأن غاية التجديد هي مواكبة التشريع للواقع وعدم التخلف عنه، وهذا ما جعله - أي التجديد - سنة فقهية مستمرة على امتداد تاريخ التشريع منذ عهد الصحابة وإلى وقتنا هذا... وما لم يواكب ذلك التطور المتلاحق بجديد في التناول الفقهي، فإن ذلك - يضيف د. النجار - سيؤدي إلى عزل الفقه عن مسيرة الحياة واتساع الهوة بين الأحكام الشرعية وتطبيقاتها العملية...
الجلسة الثانية في هذا اليوم ترأسها د. محمد محفل، وتحدثت فيها في البداية
د. سهير عبد العزيز (مصر) عن صورة الإسلام والمسلمين بعد أحداث سبتمبر 2001م، والضغوطات التي تتعرض لها الشعوب الإسلامية وحكوماتها من أجل مكافحة الأصولية الإسلامية فكراً وتنظيمات؛ لأنها أصبحت تشكل خطراً على الغرب ومصالحه وعولمته الثقافية والاقتصادية.. إلخ. وتحدثت عن دور الإعلام الصهيوني في تصعيد الخلاف بين الغرب والعالم الإسلامي. أما بخصوص دعوات التجديد التي انطلقت بعد أحداث سبتمبر من الإعلام الأمريكي والمطالبة بإعادة صياغة الإسلام والفكر الإسلامي، فهي بالنسبة للدكتورة سهير تبدو مريبة وخطيرة وتخفي وراءها نوايا سيئة، لأن المطلوب -كما تقول- هو أن نجدد ديننا على طريقتهم، طريقة مارتن لوثر وكالفن. للوصول إلى إسلام مفصَّل على المقاس الأمريكي والاعتدال والإصلاح والتجديد بنفس المقاس كذلك. متساءلة: لماذا يتدخلون في فهمنا لقرآننا؟ وليس عجيباً أن يحاولوا وإنما العجيب أن يذعن بعضنا لهذا التدخل.. إن التطرف الذي يَدَّعون والإرهاب الذي يزعمون - تضيف الباحثة - نشأ من سوء فهم الإسلام أو من المظالم الصارخة التي توقعها أمريكا وربيبتها وحليفتها في منطقتنا، في مقدراتنا ومقدساتنا، في حقوقنا..
كما تحدثت عن بعض المقترحات للخروج من هذه الأزمة، مثل:
1ـ وضع أفراد الأمة في إطار جماعي يوحد طاقة المسلمين.
2ـ الانحياز إلى الأمة وثوابتها.
3ـ الحرص على الوضوح والدقة الشرعية.
4ـ ضرورة مواجهة الخطاب الصهيوني.
5ـ أن يتصدى للخطاب الإسلامي المؤهلون شرعياً واجتماعياً ونفسياً ولغوياً.
تناول الكلمة بعدها الداعية الإسلامي د. فتحي يكن، الذي قدم ورقة بعنوان: (الخطاب الإسلامي وحتمية تطوره). أكد فيها على كون التطور سنة من سنن الله في هذه الحياة، وأن التطور الإنساني جزء من سنة التطور الكوني، وقياساً على ذلك فإن الإيمان بكل مشتقاته والدعوة في مجالاتها والحركة في عموم توجهاتها ومهماتها ووسائلها وأساليبها، يجب أن تخضع لسنة التطور، وإلا كانت متخلفة عن العصر.. وقد دعا د. يكن إلى الانخراط في قراءة تساهم في تطور الخطاب الإسلامي، ترتكز على قراءة العلم الشرعي، وقراءة المكان والزمان الذي يجري فيه الخطاب وكذلك قراءة الظروف والأحداث والقضايا التي تهم الناس والمشكلات التي يعانون منها. ثم قدم نظرة مختصرة عن تطور هذا الخطاب أكد فيها مجموعة من الحقائق المرتبطة به، ففي دراسة لتطوره تبين -كما يقول- أن نسبة التطور الملحوظ لم تتجاوز 30%، وأنه لا يعتمد العلمية والموضوعية والوثائقية التي تتطلبها طبيعة العصر وخصائصه وروحه، الخطاب الإسلامي لا يطرح البديل في مواجهة مشاريع الآخرين، وإنما يكتفي بنقدها ومحاولة نقضها، يغوص ويغرق أحياناً في الانشغال بالجزئيات مما يفقده واقعيته وشموله، يلاحظ عليه انخراطه في الصراعات المذهبية والطائفية مما يضعف أثره ويقوي ضرره. لكن إلى جانب هذه السلبيات لا ينكر أنه حقق إيجابيات كثيرة، فهناك كتابات ومواقف وإنجازات تقدم صورة حضارية ومشرقة عن الإسلام عقيدة وشريعة وأخلاقاً وحركة..
الورقة الأخيرة في هذه الجلسة قدمها د. محمد رأفت عثمان (أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون بجامعة الأزهر - القاهرة)، بعنوان: (دواعي إصلاح الخطاب الديني، وعلاقته بحركات الإصلاح)، تحدث فيها في البداية عن المراد بتجديد الخطاب الديني وإصلاحه ثم شرع في عرض الأمور التي يمكن أن يتحقق بها تجديد أو إصلاح الخطاب الديني، وهي:
1ـ مخاطبة المجتمع الإسلامي بلغة عربية مفهومة وعبارات واضحة بعيدة عن التراكيب القديمة الصعبة. وإذا كان الخطاب موجه للغرب فلابد أن يكون بلغتهم وبأساليب عقلية.
2ـ تحفيز الشعوب وحكامها للانخراط في التقدم العلمي وتشجيع البحث والاستفادة مما توصل إليه الغرب في جميع المجالات العلمية والتقنية.
3ـ فهم الدين فهماً صحيحاً مبنياً على الأسس العلمية الصحيحة، والبعد عن التنطع والمغالاة في فهم الأحكام.
4ـ مراعاة الأولويات وعدم الانشغال بالقضايا الفرعية وإهمال القضايا المهمة والكبرى التي تحتاج إلى معالجة.
5ـ إنشاء قناة فضائية إسلامية يشرف عليها المتخصصون.
6ـ دراسة القضايا المعاصرة من الناحية الشرعية..
كما تحدث عن علاقة الخطاب الديني بحركات الإصلاح الديني، مؤكداً: أننا محتاجون إلى إصلاحيين إسلاميين ذوي استعدادات علمية خاصة، وإدراك لأدواء الأمة ودوائها، ويعرفون ويدركون ما هو عليه حال الأمة الإسلامية الآن...
الجلسة الثالثة في هذا اليوم ترأسها د. عبد الله رابح، وتحدث فيها في البداية الباحث السوري معتز الخطيب عن: (تجديد الخطاب الديني بعد 11 سبتمبر: جدل الديني والسياسي) فأشار إلى أن خطاب التجديد أو الإصلاح شهد تحولات مثيرة بعد أحداث سبتمبر، حيث تحول من قرار داخلي إلى مطلب خارجي للاستعمار الأمريكي، ليسري بعد ذلك إلى القرار السياسي، وتلهج ألسنة النخبة الثقافية، والمؤسسة الدينية الرسمية بالحديث عنه، ويتحول إلى حديث الصحافة اليومية ويدخل في كل الاتجاهات الفكرية والدينية.. ثم شرع في بحث كيفية تحول هذا الخطاب إلى موضوع اهتمام هذه الشرائح، محاولاً تفسير كيف تحول الحديث بعد 11 سبتمبر من حديث عن الإرهاب إلى حديث عن إصلاح العالم العربي وتجديد الخطاب الديني. كما استعرض جدل الداخل والخارج حول هذا الموضوع، وتحدث عن مفهوم التجديد المطلوب، بحسب الاتجاهات المطالبة به، وكيف تحول التجديد من مطلب للإصلاحية الإسلامية إلى مطلب للإصلاحية الأمريكية، ومصير مشروع التجديد.
وبعد معالجة هذه الإشكاليات وخصوصاً أسباب ظهور الإرهاب وكيف تعاملت معه الولايات المتحدة الأمريكية، خلص الباحث إلى أن: الإصلاح الديني في المنظور الأمريكي يتلخص في تحديث الإسلام لحل إشكالية (الإسلاموفوبيا) والإرهاب الإسلامي، وتخفيف الإصلاح السياسي وفق معادلة جديدة تخرج عن دعم الأنظمة الاستبدادية مقابل الاستقرار وتأمين المصالح، لأن هذه الأنظمة لم تعد قادرة على منح هذا الاستقرار.. ويضيف الباحث: والآن تقوم الإصلاحية الأمريكية أيضاً - بحسب تصريحاتها المعلنة - لردم الفجوة بين الغرب والعالم الإسلامي، ولإرساء دعائم (الحرية) (والقيم العالمية) وإحداث التغيير المطلوب للعيش في العالم الحديث أو المعاصر.. وهي - في بعدها الديني - تسعى لإنشاء إسلام (سمح معتدل) (ليبرالي)، يتم فيه فصل الدين عن الدولة، ويتقبل الديموقراطية، وحقوق النساء، والأقليات، وحرية التفكير والتقدم، وقبول الآخر (وخصوصاً الإسرائيلي الحاضر في كل الخطابات الأمريكية) ونبذ العنف... وهذا كله - في نظر الباحث الخطيب - يعني تصفية البعد الديني في جوهره الكلي..
وفي الأخير أشار الباحث إلى توجسه من مشروع التجديد لأنه زاد من التباسات المفاهيم وتعقيداتها وزج بالدين في توظيفات سياسية..
الورقة الثانية في هذه الجلسة كانت بعنوان: (دور الخطاب الإسلامي في حل إشكاليات الخطاب الديني) قدمتها د. منى حداد يكن، التي تحدثت في البداية عن أهمية الخطاب الديني بين الشكل والمضمون، مؤكدة أن الخطاب الديني هو غير الدين، ويتجسد بإلقاء الضوء على بعض الجوانب في الدين وإبرازها أكثر من غيرها بحسب ما تمليه الظروف، وهذا الخطاب يمكن أحياناً - في نظر د. يكن - أن يجتزئ من التصور الديني العام أو أن يغلو في بعض الجوانب مما يشكل تشويهاً للدين.. وقد مرّ الخطاب الديني - العربي بعدة مراحل منذ فترات الاستقلال في مواجهة الاستعمار والموقف من النهضة والعلاقة بالتراث. أما بخصوص مظاهر التجديد في هذا الخطاب ودوره في مواجهة الاستفزاز الغربي، فقد أكدت الباحثة أن دور الخطاب الإسلامي الجديد في حل إشكاليات الخطاب الديني دور صعب ومتشابك، كما أن السيطرة على هذا الخطاب وحسن توجيهه في الإطار والهدف الديني الصحيح، أمر في غاية الصعوبة، لأن الواقع ممتلئ بالحساسيات التي تستفز هذا الخطاب وتغفله.. وهذا الخطاب - في نظر الباحثة - يعيش في محنة، فهو مُستَغل إلى أبعد الحدود، حتى بات في بعض الأحيان مصطنع من قبل بعض الجهات الداخلية أو الخارجية لتحقيق مآرب خاصة.. أما بخصوص مواصفات الخطاب الجديد والمعوقات أمامه، فقد أكدت د. يكن أن اقتراب الخطاب الإسلامي من جوهر الإسلام وقضاياه الكبرى يزيد من قدرته على حل الإشكاليات المطروحة عليه، كما طالبت بضرورة أن يتصف بالعالمية وأن يهتم بقيم الوحدة الإنسانية والحريات، والدعوة إلى مواكبة التطور العلمي والحضاري، ليصبح جزءاً من الظاهرة الحضارية الراهنة..
? أعمال اليوم الثالث
ترأس الجلسة الأولى في اليوم الأخير من فعاليات هذه الندوة الأستاذ أحمد شكري (الأردن)، وتحدث فيها في البداية الأستاذ سهيل عروسي (عضو مجلس الشعب السوري) عن: (تجديد الخطاب الديني المسيحي) فأكد على عالمية الخطاب الديني لكل البشر، لذلك لا ينبغي تضييق الواسع، والضرورة تقتضي اليوم تجاوز الماضي والتطلع معاً إلى المستقبل. فالمسيحية والإسلام مطالبان اليوم أكثر من أي وقت مضى بإثبات -كما يقول عروسي- أنهما وجهان لعملة ماسية واحدة، وأنهما ليسا في ضفتين بل قارب واحد بمجذافين.. أما بخصوص التجديد في العلاقة فإنه يبدأ بالتأكيد على المشتركات الموجودة والبحث عن الأخرى الغائبة في الفكر والممارسة نتيجة التعليم الخاطئ، كما أشار إلى مظاهر التجديد في الخطاب المسيحي الذي بدأ يعيد النظر في المفاهيم المسيحية التقليدية تجاه غير المسيحيين وخاصة المسلمين، ويهتم بإرساء مفاهيم العيش المشترك وتنمية أواصر المحبة والمودة... وتوقف أمام بعض القضايا الفقهية المُخْتَلَف فيها بين الإسلام والمسيحية، داعياً إلى الاهتمام بالرؤية الاجتهادية التي قدمها الكاتب اللبناني ألبير منصور للتقريب بين الإسلام والمؤسسات الكنسية..
ثم قدم د. رضوان زيادة (كاتب سوري) ورقة بعنوان: (الصراع على القيم: أزمة المعرفة الإنسانية بين الغرب والإسلام) أشار فيها في البداية إلى رؤية الأنثربولوجي آرنست غيلنر للأصوليات ومقارنتها مع الدين الإسلامي وتأكيده على الممانعة بين الإسلام والعلمنة، لأن للإسلام نظامه المعرفي الخاص به، والأصوات الأصولية التي تخرج من هنا وهناك لا تمثل خروجاً عن نسقه المعرفي، بل تمثل تعبيراً صريحاً عن مكنونه الفكري ومعتقده الإيماني... ثم انتقل لمناقشة الصراع الخفي على القيم الكونية من خلال بيان الستين مثقفاً ومفكراً أمريكياً الذي حمل عنوان: (من أجل ماذا نحارب؟: رسالة من أمريكا)، وكان من أبرز الموقعين عليه فرانسيس فوكوياما وصموئيل هنتنغتون وصموئيل فريدمان وتوماس كوهلر ونيل جيلبرت وهارفي مانسفليد وروبرت بوتمان وغيرهم.. ورعاه بشكل رئيسي معهد القيم الأمريكية.. والبيان صيغ لتبرير الحرب الأمريكية على أفغانستان، وقد لجأ في تعليله ذلك لتوظيف (القيم الكونية) بوصفها ملجأ شرعياً على الجميع أن ينضوي تحتها، بل إنه دعا المسلمين مطالباً إياهم بالوقوف إلى جانبهم لمجابهة الأصولية الإسلامية (التي تدعي النطق باسم الإسلام، لكنها تخون المبادئ الإسلامية الأساسية، لأن الإسلام يقف ضد هذه الوحشية الأخلاقية)، ولذلك علينا أن نسترد الإسلام ممن خطفه، وقاتل باسمه تشويهاً لصورته وسمعته..
لكن التعقيبات المتتالية على البيان من طرف المثقفين العرب والألمان، أثارت جدلاً واسعاً حول كونية هذه القيم وعالميتها، فالمثقفون العرب والمسلمون يرون أن المبادئ الكونية التي يبشر بها المثقفون الأمريكيون قد أرساها الإسلام قبل 14 قرناً، قبل أن توجد منظمات حقوق الإنسان أو هيئة الأمم المتحدة ومواثيقها الحقوقية.. لكن هذا الاتفاق يكشف عن اختلافات جوهرية وثانوية عن التدقيق في آلية تطبيق هذه القيم الكونية على أرض الواقع، بمعنى -يقول د. زيادة- أن هناك اتفاقاً في الرؤية، بيد أننا نجد اختلافات شاسعة في تطبيق هذه الرؤية، حتى ضمن الثقافتين الأمريكية والأوروبية رغم أنهما يعودان إلى أصول غربية واحدة.
ومن خلال هذا الجدل الدائر حالياً والاتهامات المتبادلة، يرى الباحث زيادة أن القيم الكونية قد تبددت تماماً على مذبح السياسة... فالصراع على القيم في جوهره هو اختلاف على المصالح والرؤى وامتلاك الأفضلية، وأن التفوق الحضاري سيفرض حتماً تفوقاً قيمياً لصالحه، لكن ذلك لا يعني الانغلاق على الخصوصيات، بل لابد من الانفتاح على الآخر بما فيه إغناء لها وبها.. لمحاصرة الأصوليات التي لا تهدد القيم الكونية - في نظره - فحسب، وإنما تفجر الخصوصيات الثقافية ذاتها وتدمرها..
الجلسة الأخيرة ترأسها الشيخ منذر الدقر وقدم فيها أولاً د. عبد الله الحامد (الأستاذ بجامعة الإمام محمد بن سعود بالرياض - سابقاً) ورقة بعنوان: (نحو تجديد الفكر الديني، مقاصد العقيدة الإسلامية: محاولة للتفكيك والتركيب) انتقد فيها التعريف الشائع لمقاصد الشريعة الكلية، لأنه يبدو - في نظره - عند فحصه ناقصاً، إذا وزناه بمعيار الكتاب والسنة، ومختلاً في معيار المنطق، وغير منسجم ولا متماسك في معيار علم الاجتماع..
وقد استعرض سبعة ملاحظات تمثل جوانب الخلل في هذا التعريف، منها جدلية الدين والدنيا، الناشئة من اضطراب في التوصيف العباسي للثقافة الإسلامية، الذي ركز الدين بدائرة المناسك وشعائرها وهمّش شرائط المعاش والمدنية والحضارة، وفي ذلك يقول الباحث: استقرت ثنائية الدين والدنيا، بل وجدليتهما حيناً آخر وتناقضهما تارة أخرى في الفكر العربي الإسلامي منذ ذلك الحين، فشاعت العبارة الجاهزة: دين ودنيا، وهي نظرية من نظريات الاختلال.. كما أن ذلك التقسيم الخماسي لا يتسق بصورة منهجية مع قيم المجتمع المدني كالحرية والحوارية، والتعددية الثقافية والاجتماعية، والإنصاف عند الاختلاف، وجماعات المجتمع المدني الأهلي، التي تحسم الخلاف عبر الصراع السلمي الرمزي المتسامح، بديلاً عن الصراع الدموي المادي، تلك القيم التي أجمعت فرقنا الإسلامية القديمة على تجاهلها وتهميشها، وهي قيم مهمة، أدى ترك تأسيسها على القرآن والسنة، إلى تهميشها في الفكر الديني، وإلى إغفال قيم أخرى مرتبطة بها كالكرامة والمساواة، وهياكل المجتمع المدني..
وقد أشار الباحث إلى المحاولات التجديدية التي حاولت تجاوز إجماع القدامى حول هذه القضايا، وقدم محاولة جديدة للتقسيم تقوم على التركيب عبر إطار ثنائي: سمو روحي مدني.
الورقة الثانية في هذه الجلسة قدمها د. وجيه قانصو (أستاذ في الجامعة اللبنانية) بعنوان: (تجديد الخطاب الإسلامي: المعنى والمقاربة) حيث تساءل في البداية عن المقصود من الخطاب الإسلامي، هل هو آليات تكيف الدين مع متغيرات العالم وقدرة الفكر الديني على استيعاب متغيرات المجتمع وهضم كليات المعارف المستحدثة فيه.. وهذا التجديد للخطاب الديني - في نظر د. قانصو - يجعل هذا الخطاب يأخذ حقيقته من خارج المعنى والمضمون الديني نفسه، لأنه لا يُعنى بكيفية إنتاج وتكون الفكرة الدينية نفسها، بقدر ما هو معني بتقنيات الإيصال والنشر ووسائل الإقناع وأسلوب الدعوة..
وقد انتقد د. قانصو غياب العمق المعرفي في الخطاب الديني، وفقدان السلوك الاجتهادي الذي يشتغل على إنتاج المعنى الديني نفسه، مؤكداً على ضرورة استفادة المطابقة بين بنية الخطاب الديني وبين مقاصد الدين الحقيقية ووظائفها التاريخية وإسهاماتها الثقافية وطاقتها الإلهامية.. ليكون بالإمكان تشكيل خطاب إسلامي متحرر من ضرورات الاجتماع والتباسات السلطة، ويتناغم منطقه وشكل انتظامه مع الإيحاء الذي يولده الدين في الزمان والمكان الخاصين..
وقد تحدث في الجلسة نفسها د. محمد راتب النابلسي ود. يوسف سلامة (من سورية).