الثقافة والسياسة...
تجليات العلاقة وأنماطها
زكي الميلاد
-1-
هل توجد نظرية في العلاقة بين الثقافة والسياسة؟
لا يكتمل الحديث عن الثقافة دون الاقتراب من تحديد أنماط علاقتها بالسياسة. العلاقة التي لا ينفك الحديث عنها قديماً وحديثاً، في معظم أو جميع الكتابات التي عالجت موضوع الثقافة أو التي حاولت تكوين رؤية أو فكرة عنها.
ودائماً كان الباعث موجوداً في الحديث عن هذه العلاقة، لكنه باعث يتغير ويتجدد من زمن إلى آخر، وتتغير معه صورته وقوته، وذلك لشدة التعقيد والالتباس الذي أصاب هذه العلاقة، وشدة الجدل والحراك فيها.
ومع أنّ الكتابات التي تُصنف على هذا المجال قد توسّعت في الحديث عن هذه العلاقة وتراكمت، إلَّا أنها لا تجزم في التوصل لنظرية ثابتة تساهم في ضبط هذه العلاقة بين الثقافة والسياسة، وفي السيطرة عليها وتحريكها ضمن قواعد وأصول لا تحيد عنها أو تخرج عليها. ولم أجد بين هذه الكتابات التي تمكنت من الاطلاع عليها نظرية يمكن الرجوع إليها في هذا الشأن، أو نظرية يُشار إليها وتُتابع باهتمام. كما لم أجد بين الكتّاب المشتغلين في حقل الثقافة والدراسات الثقافية من يدعي أنه صاحب نظرية في هذا المجال.
وما وجدته كان مُخيِّباً بعض الشيء، فتوماس إليوت خصّص فصلاً في كتابه (ملاحظات نحو تعريف الثقافة)، حول الثقافة والسياسة، ولم يأت بما هو جدير بالتأمل والنظر، بل كان ضحلاً وقليل الجدوى. وهكذا الحال مع لويس دوللو الذي خصص فصلاً بعنوان: الثورات الثقافية في القرن العشرين، في كتابه (الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية)، واعتبر أن العلاقة بين الثقافة والسياسة هي أولى هذه الثورات، التي سببت حسب رأيه اضطرابات في الثقافة وفي طرق اكتسابها، وغيرت النظرة إلى الثقافة بكاملها. مع ذلك فإنه حين يتحدث عن العلاقة بين الثقافة والسياسة يكون مملًّا وشديد العمومية، ولا يقترب كثيراً من جوهر هذه العلاقة، أو من مناطق وحدود النزاع فيها، إلى جانب كتابات أخرى لم تُظهر تميزاً مهمًّا حول هذه العلاقة.
وليست المشكلة بالتأكيد في وجود النظرية أو عدمها، النظرية التي تضبط أو توازن أو تفصل بين مجال الثقافة ومجال السياسة، ولعل عدم وجود مثل هذه النظرية يكشف عن مدى الصعوبة التي تعترض بناء نظرية في هذا الشأن يمكن الالتزام بها، والاحتكام والرجوع إليها، ولا أظن أن هذه المسألة كانت غائبة عن الأذهان أو بعيدة عن الإدراك والخيال، وإنما لعدم تركيز الاهتمام نحو هذه المسألة بالشكل الذي يجعل منها موضع اختصاص.
ولهذا لم يُعرف بين الكتاب والباحثين من استحوذت هذه المسألة على اهتمامه، وعُرف بهذا الاهتمام وتميز به عن أقرانه، وقدّم نظرية يمكن أن تكون مرجعاً في النظر لهذه المسألة.
والمطروح في هذا الشأن هو مجرد أفكار وتصورات لا تكاد تتجاوز إطار الجدل والسجال، والذي وقفنا عنده ولم نبرحه، بدل أن يكون هذا الجدل والسجال معبراً عن مرحلة ما قبل النظرية، وممهّداً ومخصّباً لها ومحفّزاً على السعي نحوها. لا بمعنى أن النظرية تأتي كبديل عن الجدل والسجال، ولإطفائه وإخماده، وإنما تأتي كتطوير لذلك الجدل والسجال والارتقاء المعرفي به، وإعطائه درجة من الوضوح والثبات، وإخراجه من دائرة القلق والتطاحن، الذي قد ينتهي إلى حالة من الفوضى والاضطراب، كما أن من الصعب تحديد بداية لتاريخ هذه الإشكالية بين الثقافة والسياسة، والتي دائماً ما تصور في الكتابات الثقافية على أنها إشكالية قديمة، دون تحديد لهذا القدم من حيث العصر والزمان. بمعنى في أي عصر أو زمان بدأت هذه الإشكالية وعرفت ودخلت مجال التداول، وتحددت بهذا الوضع، وبهذه الأوصاف والتسميات. والقدر الذي يمكن أن يعرف، ويمكن الحديث عنه في شأن هذه الإشكالية، هو أن السياسة هي التي اقتحمت على الثقافة مجالها، ويذهب إلى هذا الرأي لويس دوللو الذي يبدو له -كما يقول- أن امتداد السياسة إلى الحياة الثقافية هو الذي ظهر في بداية الأمر، وقد أدّى ذلك إلى تدخل السلطات العامة في القضايا التي لم يكن لها عليها سلطان حتى ذلك الحين(1)، وحتى هذا الامتداد والاقتحام من السياسة على الثقافة من الصعب تحديده بوقت أو بتاريخ محدد ولا بعصر أو زمان.
ولكي نفهم هذه الإشكالية ونكوّن فكرة عنها، نحن بحاجة إلى أن نتوغل في مكوناتها، ونحلل عناصرها ونفكّك علائقها، ونشخّص أبعادها. وتحدد هذه المهمة في أمرين:
الأول: ويرتبط بتجليات هذه العلاقة، بمعنى الصور المتعددة التي تظهر عليها أبعاد هذه العلاقة وعناصرها ومكوناتها.
الثاني: ويرتبط بأنماط هذه العلاقة، وصور تحولاتها وتغيراتها تشابكاً وتفاعلاً تارة، وانقطاعاً وانفصالاً تارة أخرى، وهيمنة وتصادماً تارة ثالثة.
-2-
الثقافة والسياسة وتجليات العلاقة
تظهر العلاقة بين الثقافة والسياسة في صور وتجليات عديدة ومتنوعة، تكشف عن تعدد أبعاد هذه العلاقة وتشابكاتها، وتفسر لنا جوانب التعقيد وطبيعة الجدل والسجال الذي يلازم هذه العلاقة.
ومن صور وتجليات هذه العلاقة:
أولاً: العلاقة بين المعرفة والواقع
تتجلى الثقافة في هذه العلاقة، في كونها تعبر عن ذلك الجانب الذي يتصل بالمعرفة، في حين تتجلى السياسة في ذلك الجانب الذي يتصل بالواقع. ومن هذه الناحية تعبر الثقافة عن عالم النظرية أو عالم المعرفة، مع أن الثقافة ليست هي المعرفة، والمعرفة ليست هي الثقافة. كما أن السياسة من هذه الناحية تعبر عن عالم الواقع الخارجي أو الموضوعي. فما هي العلاقة بين المعرفة والواقع؟
من الواضح أن المعرفة ليست هي الواقع، والواقع ليس هو المعرفة، وبالمعنى الفلسفي فإن المعرفة لها وجود، كما أن الواقع له وجود آخر مختلف عن الوجود الأول. وهذا الاختلاف لا يعنى الفصل والقطع النهائي التام بين الوجودين، بحيث لا يمكن الاتصال والتفاعل بينهما. وإنما المقصود أن الواقع ليس كاشفاً دائماً وبالضرورة عن المعرفة، والمعرفة ليست كاشفة دائماً وبالضرورة عن الواقع. والمعرفة ليست على صورة الواقع، والواقع ليس على صورة المعرفة. ودائماً هناك مسافة بينهما، أو تباين وتضارب أحياناً، مع ذلك فإن المعرفة بحاجة إلى الواقع، والواقع بحاجة إلى المعرفة. المعرفة بحاجة إلى الواقع لكي تخرج من عالم المثل وتقترب من عالم الواقع، ولكي تبرهن على حقائقها ومعارفها. والواقع بحاجة إلى المعرفة لكي يقترب من عالم المثل ويكتسب البصيرة ويتعرف على الطريق. وهذا يعنى أن المعرفة تكون ناقصة دون الواقع، والواقع يكون ناقصاً دون المعرفة. والإحساس بالنقص هو الذي يولد الجاذبية، أو يؤسس لعلاقة دائمة مستمرة. فالمعرفة هي التي تحسّس الواقع بالنقص، وتدفع به نحو التكامل، والواقع هو الذي يحسس المعرفة بالنقص والحاجة إلى قوانين الحركة والفاعلية.
وفي تاريخ الفكر الإنساني القديم والحديث، كان دائماً هناك الانقسام بين تلكما النزعتين، بين من ينتصر لنزعة المعرفة، وبين من ينتصر لنزعة الواقع. وفي حقل الفلسفة الإسلامية طُرحت مسألة الوجود الذهني لتأكيد حقيقة أن المعرفة لها وجود. وقد جاءت هذه المسألة على خلفية أن حقيقة العلم هي عبارة عن تمثل حقيقة الأشياء في الذهن، موضوع هذه المسألة في الدراسات الفلسفية يربط العلم بالمعلوم، ومدى واقعية العلم والإدراك.
وحين يقسّم السيد محمد حسين الطباطبائي الإدراكات الذهنية إلى ثلاثة أقسام، فإنه يحددها من جهة العلاقة بين المعرفة والواقع، وهذه الأقسام هي:
1- الحقائق ، وهي المفاهيم التي لها مصداق واقعي في الخارج.
2- الاعتباريات، وهي المفاهيم التي ليس لها مصداق واقعي في الخارج، لكن العقل يعتبر أن لها مصداقاً.
3- الوهميات، وهي الإدراكات التي ليس لها مصداق في الخارج(2).
وهكذا الحال في ميادين العلوم الأخرى، حيث نلحظ مثل ذلك الانقسام بين من يغلّب نزعة المعرفة، وبين من يغلّب نزعة الواقع. ومن طبيعة هذا الجدل أنه كان يساهم في تطوير نظرة المعرفة إلى الواقع، ونظرة الواقع إلى المعرفة. ولهذا فإن الفكر الإنساني يتطور ويتقدم باتجاه الكشف عن قوانين العلاقة بين المعرفة والواقع، من أجل التحكم في هذه العلاقة، وفهم منطقها، والالتزام بقوانينها.
ولتقريب هذه الصورة في العلاقة بين الثقافة والسياسة، يمكن القول ابتداء: إن الثقافة هي شيء مختلف عن السياسة، فهما شيئان مختلفان وليسا شيئاً واحداً. مع ذلك فإن الثقافة بحاجة إلى السياسة للاتصال بالواقع والتفاعل معه. والسياسة بحاجة إلى الثقافة للاتصال بالمعرفة والارتباط بها.
وهذا يعنى أن الثقافة تظل في حاجة إلى السياسة، الحاجة التي تشعرها بالنقص. والسياسة تظل في حاجة إلى الثقافة، الحاجة التي تشعرها بالنقص أيضاً.
والشعور بالنقص شعور لا يُحتمل، ولا يمكن له أن يجمد أو يخمد، ولا يرتفع إلا في حالتين، في حالة التغلب على ذلك النقص، أو في حالة التعويض عنه. فالثقافة تشعر بالنقص أمام السياسة لأنها بحاجة إلى الاقتراب من الواقع، والسياسة تشعر بالنقص أمام الثقافة لأنها بحاجة إلى الاتصال بالمعرفة.
ثانياً: العلاقة بين النظر والعمل
في هذه العلاقة تتجلى الثقافة في كونها تعبر عن ذلك الجانب الذي يتصل بالنظر، في حين تتجلى السياسة في ذلك الجانب الذي يتصل بالعمل. باعتبار أن الثقافة تنتمي إلى عالم النظر، وتنتمي السياسة إلى عالم العمل. أي أن الأصل في الثقافة هو النظر، والأصل في السياسة هو العمل. فالثقافة ترجع في اشتقاقاتها اللغوية والمعجمية إلى معاني الفهم والحذق والفطنة والتهذيب والذكاء، وجميع هذه المعاني تتصل بجانب النظر، وتجعل الأصل في الثقافة هو النظر أيضاً. وترجع السياسة في اشتقاقاتها اللغوية والمعجمية إلى معاني الإدارة والزعامة والقيادة وغيرها، وجميع هذه المعاني تتصل بجانب العمل، وتجعل الأصل في السياسة هو العمل أيضاً.
وفي الفلسفة القديمة حينما كانت الفلسفة شاملة لجميع المعارف والعلوم، صنفت السياسة على الجانب العملي، بعد تقسيم الفلسفة إلى نظرية وعملية.
والكشف عن العلاقة بين النظر والعمل، يساعدنا في فهم أبعاد العلاقة بين الثقافة والسياسة، فما هي صورة العلاقة بين النظر والعمل؟
تعتبر هذه المسألة من المسائل التي شغلت اهتمام الفكر الإنساني منذ عصوره القديمة، وظلت موضع جدل، وانقسمت حولها المواقف والتصورات، بين من يعطي الأولوية للنظر على العمل، وبين من يعطي الأولوية للعمل على النظر، بين من يرى أن الأصل هو النظر، ومن يرى أن الأصل هو العمل، وبين من يرى الفضيلة للنظر، وبين من يرى الفضيلة للعمل.
وقد عرف عن الفكر اليوناني تقديسه للنظر الذي جعل منه فضيلة، واعتبره هو الأصل الذي يتقدم على العمل. كما رفع منزلة أهل النظر وجعلهم من أرقى الطبقات الاجتماعية، وفضّل أن يكونوا الحاكمين. ولهذا أعلى اليونانيون من شأن المنطق، ورفعوا منزلته، وهو العلم الذي كان من صناعتهم، حيث برعوا فيه كثيراً، وعُرفوا وتميزوا به في تاريخ الفكر الإنساني.
وبخلاف هذا المنحى تطور الفكر الأوروبي الحديث، الذي قطع علاقته المعرفية بالفكر اليوناني القديم، ليتحول من عالم الذهن إلى عالم الطبيعة، بتخلّيه عن المنطق اليوناني الصوري، وتعرُّفه على المنطق التجريبي، الذي جعل من الحس والتجربة أساساً للعلم.
ومنذ تلك العصور القديمة والفكر الإنساني يتعامل بثنائية النظر والعمل، وظهرت هذه الثنائية على العلوم والمعارف، التي قُسمت إلى نظرية وعملية كما حصل في الفلسفة والأخلاق، وامتد هذا الأثر إلى أصول الفقه عند المسلمين، حيث يقسم العقل إلى نظري وعملي.. وهكذا في علوم أخرى.
والذين رفعوا منزلة النظر على منزلة العمل، كان في تقديرهم أن النظر تتجلى فيه مكانة ومنزلة العقل، ويختص به العقلاء والعلماء والحكماء، ومن خلاله يتوصلون إلى العلم الكلي والمعرفة الكلية. في حين تتجلى في العمل قوة البدن، ويختص به عوام الناس، ومن خلاله يتوصلون إلى العلم الجزئي والمعرفة الجزئية.
والذي نلاحظه أن الحضارات الإنسانية بحسب طبيعة فلسفاتها، كانت تجدد رؤيتها إلى العلاقة بين مفهوم النظر ومفهوم العمل. ويرى الدكتور حسن حنفي أن الحضارات تتقلب رؤيتها بين النظر والعمل بحسب تقدمها وتراجعها، والقاعدة عنده أن العمل هو اختيار رئيسي في كل حضارة، وهو الاختيار الذي يقف وراء قيامها وانتشارها قبل أن تهرم وتتوقف، فيتحول الهم العملي إلى هم نظري(3). ويمكن أن يكون هذا الكلام صحيحاً بصورة عامة، لكنه ليس قانوناً عاماً.
وفي نطاق التصور الإسلامي، تتصف العلاقة بين النظر والعمل بدرجة عالية من الوضوح، حيث حظيت هذه المسألة باهتمام، وهو الاهتمام الذي كشف عن قيمتها وحيوتها، والحاجة إلى معالجتها وتكوين رؤية واضحة حولها. ويمكن أن نجمل هذه الرؤية في الأبعاد التالية:
1- إن النظر يمثل قيمة، والعمل أيضاً يمثل قيمة. فأول آية نزلت من القرآن الكريم هي آية (اقرأ)، التي جاءت تشريعاً للعلم والنظر، وتأسيساً لقاعدة أن كل شيء في الإسلام يبدأ من العلم والنظر، ونفياً للجهل بكافة صوره. وقد دعا القرآن الكريم إلى النظر في آيات كثيرة منها قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ}(4)، وقوله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}(5)، {قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ}(6)، {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاء كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ}(7).
كما امتدح القرآن الكريم الذين يتفكرون، وأثنى عليهم في آيات عديدة أيضاً، والتفكر هو من سنخ النظر. ومن هذه الآيات قوله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}(8)، وقوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا}(9)، {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}(10)، {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ}(11).
هذه الآيات تؤكد على أن النظر يمثل قيمة في التصور الإسلامي، كما أن العمل أيضاً يمثل قيمة في التصور الإسلامي، وفي هذا النطاق وردت العديد من آيات القرآن الكريم التي تدعو إلى العمل. الدعوة التي نفهم منها أن العمل يمثل قيمة. ومن هذه الآيات قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}(12)، {إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ}(13)، {وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}(14).
واعتبار أن النظر يمثل قيمة، والعمل يمثل قيمة، فهذا يعنى أن النظر مطلوب، وهكذا العمل مطلوب أيضاً. فلا ينبغي تفضيل النظر في مقابل العمل، أو تفضيل العمل في مقابل النظر، ولا الأخذ بالنظر وترك العمل، أو الأخذ بالعمل وترك النظر.
2- إن النظر له مجاله الذي يتحدد به، والعمل له مجاله أيضاً الذي يتحدد به. وهذا لا يعنى القطع التام والنهائي بين النظر والعمل، وإنما تمييز ما يستقل به النظر عن العمل، وما يستقل به العمل عن النظر، باعتبار أن كلاًّ منهما له طبيعة مختلفة. وهذا يعني أن النظر في مجاله يتقدم على العمل، والعمل في مجاله يتقدم على النظر.
والقرآن الكريم يحدد مجال النظر بشكل واسع بحيث يشمل عالم الكون والخلق والطبيعة، وعالم الاجتماع والتاريخ، وعالم النفس والإنسان. فعن عالم الكون والخلق والطبيعة قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ}(15) إلى جانب آيات أخرى سبقت الإشارة إليها. وعن عالم الاجتماع والتاريخ قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ}(16)، وقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا}(17)، إلى جانب آيات كثيرة في هذا الشأن. وعن عالم النفس والإنسان قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ}(18)، وقوله تعالى: {فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ}(19). هذه الشمولية والاتساع هي من خصوصية مجال النظر، الذي يختلف في خصوصيته عن مجال العمل. لأن النظر ينتمي إلى عالم الذهن الذي لا يتقيد بقيد، في حين أن العمل ينتمي إلى عالم الحس الذي يتقيد بشرط الزمان والمكان والحال. ويرتبط النظر بالرؤية العامة إلى الكون والتاريخ والإنسان، ويرتبط العمل بالسعي والجزاء والعقاب. إلى غير ذلك من مفارقات تتصل بطبيعة اختلاف مجال النظر عن مجال العمل.
3- الاقتران بين النظر والعمل، فلا ينبغي أن يكون النظر مقطوعاً عن العمل أو لا يقبل الاقتران به، أو ليست له قابلية للتحول إلى عمل؟ كما لا ينبغي أن يكون العمل مقطوعاً عن النظر أو لا يقبل الاقتران به. فالنظر ليس للنظر، والعمل ليس للعمل، والقيمة الحقيقية للنظر في أن يتحول إلى عمل، أو أن يتصل به ويتلازم معه، أما النظر الذي لا يتحول إلى عمل ولا يتصل به فإنه لا قيمة حقيقية له. فالنظر يكون ناقصاً دون العمل، والعمل يمثل مرحلة الفعل، والقوة هي مقدمة إلى الفعل، ولها دائماً قابلية التحول إلى فعل، والثمرة هي من حصاد الفعل وليست من حصاد القوة.
وقد أكدت النصوص الدينية الشريفة وبشكل وثيق على الاقتران بين النظر والعمل، فعن الإمام علي (عليه السلام) قال: (العلم مقرون بالعمل فمن علم عمل. والعلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلَّا ارتحل عنه)(20). وعنه (عليه السلام): (العلم يرشدك والعمل يبلغ بك الغاية)(21). وعنه أيضاً: (العمل شعار المؤمن وبحسن العمل تُجنى ثمرة العلم لا بحسن القول)(22)، وهذا الاقتران هو من أكثر ما أكدت عليه الأحاديث الدينية الشريفة.
وفي مجال اللغة العربية يتأكد هذا الاقتران أيضاً كما يرى الدكتور حسن حنفي، الذي وجد أن هناك تشابهاً بين لفظ (علم) و(عمل) فهما -كما يقول- يتكونان من الحروف نفسها (ع، ل، م) ومعهما لفظ ثالث هو (عالَم) أي الكون مع إضافة (ا) ممدودة بعد العين دلالة على الأفق والاتساع. وبتأويل -على طريقة ابن عربي أو هيدجر حسب قول حنفي- فإن العلم والعمل والعالَم أبعاد ثلاثة لحقيقة واحدة هي النظر والعمل وميدان التحقق(23).
ولقد قامت الحضارة الإسلامية على هذا الاقتران بين النظر والعمل، الاقتران الذي أصبح من مكونات الفلسفة الإسلامية في عصور تقدمها وازدهارها.
4- حاكمية النظر على العمل، فالنظر هو الذي يحدد هوية العمل وغاياته ومقاصده، ويرسم له الطريق، ويلهمه الإرادة والفاعلية. والعمل دون النظر يكون فاقداً البصيرة، ومصيره إلى التيه. والنظر يمثل صورة العمل في الذهن، والعمل يمثل أو يفترض أن يمثل صورة الذهن في الفعل. ومنزلة النظر من العمل هي منزلة العقل أو القلب من الجسد، وكما أن القلب يكون حاكماً على الجسد، فالنظر أيضاً يكون حاكماً على العمل. وهذه الحاكمية يفترض فيها البقاء والاستمرارية دون توقف أو انقطاع، وتشمل كافة مراحل العمل، ما قبله وأثناءه وما بعده. ما قبله إنشاءً وتكويناً، وأثناءه مطابقةً وتصديقاً، وما بعده نقداً وتقويماً.
وقد دلت على هذه الحاكمية نصوص دينية شريفة، منها ما روي عن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: (من عمل على غير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح)(24)، وعن الإمام علي (عليه السلام) في وصيته لكميل بن زياد قال: (يا كميل ما من حركة إلا وأنت محتاج فيها إلى معرفة)(25)، وعن الإمام الباقر (عليه السلام) قال: (لا يُقبل عمل إلا بمعرفة، ولا معرفة إلا بعمل، ومن عرف دلته معرفته على العمل، ومن لم يعرف فلا عمل له)(26).
كما نستفيد هذه الحاكمية من تقديم الإيمان على العمل في القرآن الكريم، والإيمان مصدره النظر.
هذه لعلها قواعد العلاقة بين النظر والعمل في التصور الإسلامي، والتي تكشف عن ملامح من أبعاد العلاقة بين الثقافة والسياسة. ومن هذه الجهة يمكن القول: إن الثقافة تمثل قيمة، والسياسة تمثل قيمة أخرى. والثقافة لها مجالها والسياسة لها مجالها المختلف أيضاً. وهناك ضرورة لأن تقترن العلاقة بين الثقافة والسياسة، ومن حيث المبدأ يفترض أن الثقافة لها حاكمية على السياسة، هي حاكمية النظر على العمل.
ثالثاً: العلاقة بين المعرفة والقوة
تظهر الثقافة في هذه العلاقة في صورة التعبير عن المعرفة، وتظهر السياسة في صورة التعبير عن القوة. والعلاقة بين المعرفة والقوة علاقة جدلية وقديمة قدم الفكر الإنساني، حيث انشغلت بها الفلسفات الإنسانية في جميع عصورها وأزمنتها. ومازالت تشكل هاجساً في الفكر الإنساني المعاصر، الذي تتنازعه استقطابات المعرفة تارة، واستقطابات القوة تارة أخرى، وهناك من ظل يعظم المعرفة، إلى جانب من ظل يعظم القوة. وهناك من حاول العمل في سبيل هيمنة القوة على المعرفة، إلى جانب من حاول العمل في سبيل هيمنة المعرفة على القوة.
والخطر دائماً كان في انفلات القوة من رباط المعرفة، الانفلات الذي يحوّل القوة إلى مصدر بطش وتدمير، إلى سلوكيات همجية وبربرية. لهذه ظل السعي الدائم في المعرفة لكبح القوة ولجمها، لتكون القوة في خدمة المعرفة، لا أن تكون المعرفة في خدمة القوة.
وفي التاريخ القديم مثّل الإسكندر المقدوني صورة انفلات القوة من عقال المعرفة، التي مثّل موقعيتها أرسطو أو هكذا يفترض، حيث كان أستاذاً للإسكندر المقدوني. فالمقدوني مثّل في هذه المفارقة صورة القوة، في حين أن أرسطو مثّل صورة المعرفة، ومن شدة تأثيره في المعرفة الإنسانية لقب بالمعلم الأول.
وفي تاريخ الحضارة الإسلامية، مثّلت تجربة المغول صورة التحول من غلبة القوة على المعرفة، إلى غلبة المعرفة على القوة. فقد عُرف المغول بالقوة والبطش دون سواهم، وقاموا بغزو البلاد الإسلامية وتحطيم حضارتها بأبشع صور القوة. ويصدق على هذا الحال تدمير القوة للمعرفة. ولكنهم وبعد زمن من سيطرتهم على هذه البلاد وإقامتهم فيها تحولوا إلى اعتناق الإسلام، الحال الذي يصدق عليه تغلب المعرفة على القوة.
أما في تجربة الغرب، فقد تغيّرت الصورة، حيث اجتمعت لديه المعرفة والقوة، وبصورة طاغية ومذهلة للغاية، لم تحصل في حضارة سابقة. والمفارقة الغريبة أن الغرب استخدم المعرفة بصورة أساسية في خدمة مجتمعاته، واستخدم القوة مع المجتمعات الأخرى غير الأوروبية التي استعمرها وفرض سيطرته عليها. ففي داخل حضارته وظّف الغرب القوة لخدمة المعرفة، وفي خارج حضارته وظّف المعرفة لخدمة القوة.
في تحليله لتحول مصادر القوة في الفكر الإنساني، يرى عالم المستقبليات الشهير توفلين توفلر في كتابه (الموجة الثالثة) أن الأرض في السابق كانت هي مصدر القوة وهي مرحلة الإقطاع. وفي مرحلة الدولة تحولت القوة إلى السلطة، فمن يملك السلطة يملك القوة، أما اليوم فقد أصبحت المعرفة هي مصدر القوة، ومن يملك المعرفة يملك القوة. حيث دخلت المعرفة في تفاصيل حياتنا، وأصبحت مقوماً في كل شيء.
بدأ الإسلام رسالته بآية (اقرأ)، وهذا دليل على أن المعرفة مقدَّمة على القوة. ويعبّر عن هذه الحقيقة المقولة المتداولة: إن الإسلام يرتكز على قوة المنطق لا منطق القوة.
ومن حيث القاعدة فإن المعرفة مقدمة على القوة وحاكمة عليها أيضاً. كما أن الأصل في المعرفة هو الشياع بين الناس، فزكاة العلم نشره كما جاء في الروايات الشريفة، وبالتالي فإن طرق الوصول إلى المعرفة، ينبغي إن تكون مفتوحة ومتيسرة لكل الناس. بخلاف القوة التي هي بحاجة إلى حصر وتقييد، لأنها من صلاحية واختصاص السلطة.
وأما من جهة العلاقة بين المعرفة والقوة، فإن المعرفة بحاجة إلى القوة لحمايتها وتطبيقها، والقوة بحاجة إلى المعرفة لتهذيبها وضبطها وتوجيهها، ولتحويلها إلى طاقة تساعد في حماية النظام العام، وتطبيق القانون، واحترام الحقوق، ومن أجل بناء العمران والتقدم.
رابعاً: العلاقة بين القيم والمصلحة
من الصور التي تتجلى فيها الثقافة صورة التعبير عن القيم، ومن الصور التي تتجلى فيها السياسة صورة التعبير عن المصلحة، باعتبار أن الثقافة وثيقة الصلة بالقيم والأخلاق، وما من ثقافة إلا وتحاول الظهور بمظهر الارتباط بالقيم والأخلاق والدفاع عنهما. في حين أن السياسة دائما تُصوَّر على أنها فن إدارة المصالح، وتتخذ من المصلحة منظوراً لها، فهناك تلازم لا يكاد ينفك بين السياسة والمصلحة. والمقصود بالمصلحة هو مطلق المصلحة التي تعني جلب المنفعة أو دفع المفسدة.
ومنطق القيم يختلف عن منطق المصلحة، وهذان المنطقان قد يلتقيان وقد يفترقان، يلتقيان باقتراب السياسة من القيم، ويفترقان بابتعاد السياسة عن القيم. لأن المشكلة دائماً ليست من جهة القيم، وإنما هي من جهة السياسة التي تمتلك إرادة الفعل، ومن يمتلك إرادة الفعل هو الذي يقرر صورة العلاقة وكيفيتها. بمعنى أن الاختيار هو من جهة السياسة، فهي التي تختار الاقتراب من القيم أو الابتعاد عنها.
والقيم والمصلحة محركان في حياة الإنسان والجماعات، فهناك من تحركه القيم، وهناك من تحركه المصلحة. ومن تحركه القيم هو أرفع درجة من الذي تحركه المصلحة، لأن منزلة القيم أرفع من منزلة المصلحة. ولا شك أن الذي تحركه القيم يكون أكثر صفاء في بواعثه من الذي تحركه المصلحة، وقد يكون أكثر ثباتاً واستقامةً وأجزل عطاء أيضاً. لأن المصلحة لها أجل أقصر من أجل القيم، ولأن المصلحة محكومة بحدود الإمكان، والإمكان الضيق كذلك والمحدد غالباً بدقة، في حين أن القيم محكومة بحدود الاستطاعة التي تعني بذل قصارى الجهد.
والفرق بين الإمكان والاستطاعة، أن الإمكان ناظر بشكل أساسي إلى الواقع الخارجي وشروطه، في حين أن الاستطاعة ناظرة إلى الذات بما تحمل من طاقات ومقومات. ويظهر هذا الفرق في أن عامل الإمكان قد يقف أمام المشكلة ويتراجع بسببها، بخلاف عامل الاستطاعة الذي يحاول التغلب على المشكلة وتجاوزها.
والربط بين القيم والاستطاعة نفهمه من قوله تعالى: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}(27) والتقوى هي الإطار الناظم لجميع القيم. وكل التكاليف التي قررها الشرع على العباد متوقفة على الاستطاعة، قال الإمام الصادق (عليه السلام): (ما كلف الله العباد كلفة فعل ولا نهاهم عن شيء حتى جعل لهم الاستطاعة ثم أمرهم ونهاهم)(28).
وقال أيضاً (عليه السلام): (وإنما وقع التكليف من الله تبارك وتعالى بعد الاستطاعة ولا يكون مكلفاً للفعل إلا مستطيعاً)(29).
وهذا التقسيم بين القيم والمصلحة لا يعني أن القيم لا تحقق مصلحة، أو أنها تتعارض مع المصلحة ولا تتوافق معها. كما لا يعني أن المصلحة لا تحقق قيماً، أو أنها تتعارض مع القيم ولا تتوافق معها، هذا من حيث القاعدة الكلية. والمشكلة تظهر حين تُفضّل المصلحة على القيم أو تتعارض معها، فتتحول إلى البحث عن منافع ومكاسب لا يراعى فيها بالضرورة حقوق ومصالح الآخرين، وقد يترتب عليها ضرر الآخرين أيضاً.
وبحكم قرب الثقافة من القيم، فإن المثقف يكون أقرب إلى عالم القيم، وهذا ما يفترض أيضاً. وهذه ألمع صورة للمثقف إذا تحققت في شخصيته وطباعه وسلوكه، فإن المثقف في صورته الأخلاقية، ينبغي أن يتحوّل إلى مصدر يستلهم منه الناس القيم التي يفترض أن يكون حارساً لها، ومدافعاً عنها، وعاملاً على تطبيقها.
وبحكم قرب السياسة من المصلحة، فإن السياسي يكون أقرب إلى عالم المصلحة من حيث الواقع الفعلي، حيث يتمرس ويتطبع بها بفعل الأجواء التي يحتك بها، والممارسات التي يتعايش معها.
والمثقف الذي يكون قريباً من عالم القيم، لا يعني أنه يكون بعيداً عن عالم المصلحة، والسياسي الذي يكون قريباً من عالم المصلحة، لا يعني أنه يكون بعيداً عن عالم القيم.
خامساً: العلاقة بين المطلق والنسبي
الثقافة لها طبيعة التجلي في صورة المطلق، والسياسة لها طبيعة التجلي في صورة النسبي. والمطلق هو الذي يتعالى على المكان والزمان، ولا يتقيد قسرياً بشروطهما ومحدداتهما، والنسبي هو الذي يتقيّد بالمكان والزمان وبشروطهما ومحدداتهما. ليست للمطلق صورة فعلية إلا في الذهن، والنسبي صورته الفعلية في الواقع. لهذا فإن المطلق يستدل عليه بالذهن، ويعتبر من مقولات الذهن، والنسبي يستدل عليه من الواقع لأنه من مقولات الواقع.
والمطلق أكثر بقاء من النسبي، لأنه لا يتقيّد بمكان وزمان، ويكون عابراً بين الأمكنة والأزمنة، والنسبي أكثر ظهوراً وحضوراً، لأنه يتقيّد بمكان وزمان، ويتغير ويتقلب بين الأمكنة والأزمنة التي من طبيعتها التغير والتقلب.
كما أن المطلق بحاجة إلى النسبي ليكون فاعلاً ومؤثراً في الواقع الخارجي من خلال الاتصال بالمكان والزمان. والنسبي بحاجة إلى المطلق لكيلا يتماهى كلياً مع الواقع ويتلاشى. والمطلق هو أقرب إلى عالم الثوابت، والنسبي هو أقرب إلى عالم المتغيرات. والثوابت بحاجة إلى المتغيرات لكيلا تصاب بالجمود والسكون، والمتغيرات بحاجة إلى الثوابت لكيلا تصاب بالفوضى والاضطراب. والمطلق يخشى من التماهي في التجريد، والنسبي يخشى من التماهي في الواقع. وهذه الخشية هي التي تدفع المطلق لكي يتصل بالنسبي، وتدفع النسبي لكي يتصل بالمطلق.
لهذا فإن من يكون أقرب إلى الثقافة، يكون أميل إلى التجريد وذهنية المطلقات والثوابت، ومن يكون أقرب إلى السياسة يكون أميل إلى التطبيق وذهنية النسبيات والمتغيرات. والمثقفون بحكم قربهم من الثقافة يكونون أميل إلى ذهنية المطلق والتجريد، والسياسيون بحكم قربهم من السياسة يكونون أميل إلى ذهنية النسبي والعملي. ولهذا اعتبر ابن خلدون في مقدمته أن العلماء من بين البشر هم أبعد عن السياسة ومذاهبها، وقدّم تحليلاً حول هذه المقولة التي جعل منها عنواناً لفصل في مقدمته، حيث اعتبر أن السبب في ذلك أنهم أي العلماء (معتادون النظر الفكري، والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات، وتجريدها في الذهن أموراً كلية عامة، ليحكم عليها بأمر العموم، لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا أمة ولا صنف من الناس. ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات. وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوا من القياس الفقهي. فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن، ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر. ولا تصير بالجملة إلى المطابقة، وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك... فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها، والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال، ويتتبعها فإنها خفية. ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال، وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها، ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر كما لو اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور، فيكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم، فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم)(30).
ومن الواضح أن هذا الرأي يكرس انفصال العلماء عن السياسة بصورة عامة، ودون ضبط وتحديد، ولا يفتح لهم مجالاً في الاشتغال بالسياسة، وهذا موضع نظر. ولو كان المقصود من هذا الرأي أن العلماء غير قادرين على أن يكونوا ولاة للأمر في تولي إدارة الحكومات والدول، لكان الرأي من هذه الجهة أكثر ضبطاً، حتى لو كان هذا الرأي موضع نقاش. وأما تصوير أن العلماء من بين البشر هم أبعد الناس عن السياسة، فهذا الإطلاق لا يمكن أن يكون موضع اتفاق على الإطلاق.
هذه لعلها أبرز التجليات التي تظهر عليها صورة العلاقة بين الثقافة والسياسة. والحقائق التي نستخلصها من تلك الصور والتجليات:
1- إن الثقافة تمثل قيمة وضرورة، والسياسة أيضاً تمثل قيمة وضرورة.
2- إن الثقافة لها مجالها الذي تستقل به أو تنفرد به، والسياسة كذلك لها مجالها الذي تستقل أو تنفرد به.
3- إن الثقافة بحاجة إلى السياسة كما أن السياسة بحاجة إلى الثقافة من بعض الوجوه وفي بعض الأبعاد.
4- يفترض من حيث المبدأ أن الثقافة لها حاكمية على السياسة.
-3-
الثقافة والسياسة وأنماط العلاقة
لقد ظلت العلاقة بين الثقافة والسياسة في حالة تغيّر وتبدّل في تاريخ الفكر الإنساني، وفي تاريخ الحضارات الإنسانية. لهذا فقد تبلورت حولها العديد من التصورات التي حاولت ضبط هذه العلاقة والسيطرة عليها، أو محاولة فهمها وتفسيرها، أو تفكيكها وتركيبها. والذين تحدثوا عن هذا الموضوع لفتوا النظر دائماً إلى جانب التغير والتقلب في العلاقة بين الثقافة والسياسة. فالحقيقة التي لا ينبغي أن تذهلنا -كما يقول توماس إليوت- (أن الثقافة أصبحت بوجه عام قسماً من السياسة، عن حقيقة أن السياسة كانت في عهود أخرى منشطاً يمارس داخل ثقافة ما)(31)، ويرى تيري إيجلتون أن العلاقات بين الثقافة والسياسة متغيرة تبعاً للسياق، وينبغي أن نتخلى -حسب رأيه- عن ذلك الافتراض التنويري الذي يرى أن للسياسة ميزة على الثقافة، كما ينبغي أن نتخلى عن الافتراض الذي يكتفي بقلب هذا الترتيب للأولوية(32). وإن من الصعب -في رأي إيجلتون- المحافظة على التوازن الذي يصفه بالدقيق بين الثقافة والسياسة.
ومن التصورات المطروحة لأنماط العلاقة بين الثقافة والسياسة:
أولاً: إعلاء الثقافة على السياسة
من الأفكار الأساسية التي حاول تيري إيجلتون التأكيد عليها في كتابه (فكرة الثقافة) فكرة إعلاء الثقافة على السياسة، وحسب قوله: (أن نعلي الثقافة على السياسة -أن نكون بشراً أولاً، ومواطنين ثانياً- يعنى أن على السياسة أن تتحرك ضمن بُعْدٍ أخلاقي عميق، معتمدة على ما توفره من موارد، في جعلها الأفراد مواطنين صالحين، يشعرون بالمسؤولية ويتسمون بالاعتدال والطباع الحسنة... وما تفعله الثقافة هو أنها تقطر إنسانيتنا المشتركة من ذواتنا السياسية المنضوية في نحل وشيع، حيث تسترد الروح من الحواس، وتنتزع الثابت من الزائل، وتقطف الوحدة من التعدد)(33). ولهذا ينتقد إيجلتون ما يسميه بتسييس الثقافة، لأنه -حسب رأيه- يجرد الثقافة من هويتها ذاتها ويدمرها أيضاً. ولأنه يحاول على طريقته أن يقلب الفكرة، وينظر إلى تحولاتها في إطار السياق الذي تتفاعل معه وتتأثر منه، فالثقافة التي هي جزء من الحل -كما يقول إيجلتون- قد تتحول إلى جزء من المشكلة، فقد راحت كلمة الثقافة تميل عن محورها منذ ستينات القرن العشرين فصاعداً، لتعني ما يكاد أن يكون نقيضاً، حيث غدت تأكيداً على هوية خصوصية قومية، أو جنسية، أو إثنية، أو مناطقية، وليس تعالياً على مثل هذه الهوية. لأن الهويات -كما يضيف إيجلتون- ترى نفسها على أنها مكبوتة مقموعة، فإن ما كان يعتبر في السابق عالماً من التوافق، قد تحوّل إلى عالم من الصراع. وتحولت الثقافة من كونها جزءاً من الحل إلى كونها جزءاً من المشكلة، ولم تعد وسيلة لحل النزاعات السياسية، أو بُعْداً رفيعاً وعميقاً يمكن من خلاله أن يلاقي أحدنا الآخر بوصفنا أنداداً في الإنسانية، بل غدت بخلاف ذلك جزءاً من الصراع السياسي ذاته(34). ولاشك في صوابية هذا الرأي ومعقوليته، خصوصاً عند الذين ينتصرون للثقافة ويرفعون من منزلتها.
ثانياً: هيمنة السياسة على الثقافة
عُرِفت بهذا التصور النظريات الماركسية التي جاهرت به، ولعلها انفردت به أيضاً. حيث لم يكن هذا التصور مشهوراً خارج نطاق النظريات الماركسية، بل إن الرأي كان بخلافه دائماً. والذي جعل الماركسيين يقولون بهذا الرأي ويتناغمون معه، أنهم من جهة يؤمنون بالدور المركزي للدولة، وبالتوجيه والتخطيط المركزي للدولة في المجتمع الاشتراكي. ومن جهة أخرى فإن الطبيعة الإيديولوجية الشديدة عند الماركسيين، تجعل الثقافة خاضعة خضوعاً شديداً لتلك الإيديولوجية المُسيَّسة بطبعها. ففي كتابه (أدب وثورة) الصادر عام 1925م، اعتبر تروتسكي أن الثقافة في الدولة الاشتراكية يجب أن تدار سياسياً، معتبراً أن ما من بلد أكثر أهلية من روسيا لرسم الطريق أمام باقي بلدان العالم، باعتبارها الدولة الأولى التي حققت هذا المثل الأعلى(35). وهذه كانت من أحلام تروتسكي التي خيبت آماله فيما بعد، وأما في عصرنا فقد أصبحت المثل الأعلى في التصدع والسقوط. وفي كتابه (الكتاب الأحمر) يقول ماو تسي تونغ: (في عالم تعود كل الثقافة، ويعود كل أدب وفن لطبقة معينة، وترتبط كلها بخط سياسي معين)(36). ولا شك أن هذا التصور يسلب من الثقافة أعظم ميزة لها، وهي ميزة النقد. فالثقافة لا تتخلق بالنقد في ظل هيمنة الدولة، واعتبار الثقافة جزءاً من أملاكها. أو في ظل هيمنة الإيديولوجية على الثقافة التي تفرض عليها مسارات محددة بدقة، وضبطاً لوظائفها بدقة كذلك، الأمر الذي يفرغ الثقافة من محتواها، ويجعل منها صورة هيكل دون روح. والقيمة التي تذكر للنظرية الماركسية في هذا المجال هو دفاعها عن جماهيرية الثقافة.
ثالثاً: مشكلة الخلط بين الثقافة والسياسة
الفكرة الأساسية التي تحدث عنها توماس إليوت في شأن العلاقة بين الثقافة والسياسة، هي الفكرة التي وصفها بمشكلة الخلط بينهما. لأنه حسب رأيه لا يمكن الفصل بينهما، كما لا يمكن القول بأن لا شأن لكل منهما بالأخرى. وحسب قوله: (لست أزعم أن السياسة والثقافة لا شأن لكل منهما بالأخرى، فلو أمكن فصلهما فصلاً تاماً لكانت المشكلة أيسر مما هي. فالبناء السياسي لأمة يؤثر في ثقافتها، وهو بدوره يتأثر بتلك الثقافة)(37)، ويعتبر إليوت أن الخلط بين الثقافة والسياسة يمكن أن يؤدي إلى اتجاهين مختلفين:
1- فقد يجعل أمة تنكر كل ثقافة غير ثقافتها. وبذلك تشعر أنها مدفوعة إلى القضاء على كل الثقافات حولها، أو إلى إعادة تشكليها. ويرى إليوت أن من أخطاء ألمانيا الهتلرية، افتراضها أن كل ثقافة غير الثقافة الألمانية هي إما منحلة أو بربرية. وهذه المزاعم ينبغي أن تنتهي حسب رأي إليوت.
2- الاتجاه الآخر الذي يمكن أن يؤدي إليه الخلط بين الثقافة والسياسة هو الاتجاه الذي يصفه إليوت بالمثل الأعلى لدولة عالمية، لا تكون آخر الأمر إلا ثقافة عالمية واحدة ذات طابع موحد(38).
والمقصود من الاتجاه الأول حين تسيطر الثقافة على السياسة، وتكون الثقافة محركة السياسة. والاتجاه الثاني يحدث حين تسيطر السياسة على الثقافة، وتكون السياسة محركة للثقافة. والثقافة هي التي يريد أن يدافع عنها إليوت في كلامه المذكور، وينحاز إليها في مقابل السياسة، لأنه يريد من الثقافة ألَّا تكون خاضعة للسياسة ورغباتها وخططها، وألَّا يكون لها أيضاً محتوى سياسي، وتنطلق من بواعث سياسية، أو تخدم مشاريع سياسية.
وهذا الكلام لإليوت جاء في سياق حديثه ومطالبته بوحدة الثقافة الأوروبية، حيث أراد التأكيد على فكرة من بعدين، البعد الأول أن الثقافة هي القادرة على بناء وترسيخ الثقافة الأوروبية وليست السياسة. البعد الثاني أن السياسة قد تُحدث اختلافاً شديداً، لكن هذا الاختلاف لا ينبغي أن يؤثر على الثقافة المشتركة لأوروبا. لكن المشكلة هنا هي ما تحدث عنها إيجلتون (أن الثقافة نتاج للسياسة أكثر بكثير من كون السياسة تلك الخادمة المطيعة للثقافة)(39).
رابعاً : الثقافة كبديل عن السياسة
في أواخر ثمانينات القرن العشرين صدرت دراسة في فرنسا من إعداد بعض الباحثين الفرنسيين، عالجت هذه الدراسة إمكانية أن تكون الثقافة بديلاً عن السياسة في إنماء وتطوير وتحسين العلاقات الدولية، وفي معالجة الأزمات والتوترات بين الدول. واعتبرت الدراسة أن الثقافة في الوقت الحاضر تفهم بشكل أكثر اتساعاً مما كانت عليه في ماضٍ قريب، وأنها تهدف إلى تناول الإنسان بكليته جسداً وروحاً وعقلاً ووجداناً. ويشكل هذا المفهوم عاملاً قوياً في العلاقات الدولية يتمثل في إعلان الحق بالثقافة، والحق في المبادلات الثقافية. وتخلص الدراسة إلى أن السياسة بمفردها لم تستطع أن تعالج مشكلات الأمم، فلابد من تعاضد الثقافة، وبالتالي ضرورة تطوير العلاقات والمجالات الثقافية بين الدول والشعوب.
والحقيقة أن الثقافة لا يمكن أن تكون بديلاً عن السياسة، وأن السياسة سوف تظل في حاجة إلى ثقافة. ومن الصحيح أيضاً أن السياسة بمفردها لا تستطيع معالجة مشكلات الأمم ولابد من معاضدة الثقافة.
هذه بعض التصورات المتداولة في تحديد أنماط العلاقة بين الثقافة والسياسة. وأهم ما كشفت عنه هذه التصورات هو صعوبة انتظام تلك العلاقة في نمط واحد، أو تقييدها في اتجاه ثابت، أو التحكم بها بشكل صارم.
-4-
الثقافة كنقد للسياسة والسياسة كنقد للثقافة
الذي أراه في العلاقة بين الثقافة والسياسة هو أن تتحول الثقافة إلى نقد مستمر للسياسة، وأن تتحول السياسة من جهة أخرى إلى نقد مستمر للثقافة. النقد الذي يحفظ الحدود بين الثقافة والسياسة، ويموضع الثقافة في مواقعها، والسياسة في مواقعها أيضاً. وهذا النقد المستمر هو الذي يجعل الثقافة قيمة للسياسة، والسياسة قيمة للثقافة.
وبهذا النقد تستطيع الثقافة حماية حددوها ومواقعها من تدخلات السياسة وانفعالاتها واندفاعاتها، كما تحمي السياسة من جهة أخرى حدودها ومواقعها من تدخلات الثقافة ورغباتها وفضولها. و هذا ليس هو القدر النهائي من الحاجة إلى النقد المستمر بين الثقافة والسياسة، وإنما الحاجة إليه هي أوسع وأبعد من ذلك فما هي هذه الحاجة؟
أولاً: الثقافة كنقد للسياسة
الأصل في الثقافة أن تتحول إلى نقد مستمر للسياسة، النقد الذي تحاول السياسة إفشاله أو تعطيله، أو قمعه والتحايل عليه. والسياسة بارعة في ممارسة مثل هذه السلوكيات كأدوار متعددة ومتلاحقة تارة، أو متوازية تارة أخرى. وإنما تقوم السياسة بهذه الممارسات لكيلا تجعل من الثقافة رقيبة عليها، أو مصدر إزعاج لها، يحدُّ من انتهازيتها وبطشها وطغيانها، ويقيّد رغباتها واندفاعاتها وانفعالاتها، وهذا ما تحاول السياسة التخلص منه بكافة الطرق، سعياً نحو الممارسات المطلقة. وإنها لجرأة من الثقافة أن تتحول إلى نقد للسياسة، والأجرأ من ذلك أن تصمد الثقافة في هذا النقد، ولا تتراجع أو تتخلى عنه أمام حيل السياسة وألاعيبها، أو بطشها وإكراهاتها.
والثقافة تتحول إلى نقد للسياسة حين تنزع السياسة نحو الاستبداد والتعسف في استعمال الحق، وحين تتسبب في انتهاك حقوق الإنسان وقمع الحريات، وحين تندفع نحو تغليب القوة، وفرض الهيمنة، وتحكيم السيطرة. وهكذا حين تتحول السياسة إلى حماية الفساد أو التبرير له، وتعطيل القانون وشل القضاء.
والنقد الذي تمارسه الثقافة في هذا الشأن، هو أنها تحاول تهذيب السياسة، وترسيخ علاقتها بالأخلاق ومنظومة القيم، والتأكيد على احترام القانون واستقلال القضاء، والدفاع عن حقوق الإنسان، وحماية الحريات العامة المطالبة بقيم الكرامة والعدل والمساواة.
والثقافة بإمكانها أن تمارس نقداً بهذا المستوى والضخامة، وبإمكانها أيضاً الصمود والثبات في هذا النقد، ومواجهة إكراهات السياسة وبطشها. لأن الثقافة لها قوة الروح، وثبات القيم، وعظمة الأخلاق.
ثانياً: السياسة كنقد للثقافة
الثقافة ليست محصنة من النقد، وهي ليست تصويباً محضاً، ولا تعني -بأي صورة كانت- التطابق التام مع القيم. والحق لا يمثل فيها الجوهر الثابت، فهي معرضة للزلل والتقلب والتغيّر، وبالتالي فهي بحاجة إلى النقد والتصويب.
والنقد الذي يأتي من السياسة كتصويب للثقافة، له طبيعة معينة نابعة من مكونات السياسة ذاتها، ومن طبيعة منطقها الداخلي. فالثقافة قد تنزع نحو التجريد والتفكير المطلق، والبحث في عالم المثل، والاستغراق في دائرة الجدل، والانشغال بمجال النظريات، بالشكل الذي يجعل الثقافة تنقطع عن الواقع ومجرياته، وتنفصل عن حركة العالم وأحداثه، وتنغلق عن العصر وتفاعلاته، وتصبح عندئذ غير قادرة على الفعل والثأثير، وعلى الحضور والتواصل، والاعتراض على هذا المسلك قد يأتي من السياسة، بحكم صلتها الوثيقة والمباشرة والدائمة بحركة الواقع وأحداث العالم وشؤون العصر. وفي مثل هذه الحالة تتحول السياسة إلى نقد للثقافة، لتصويب علاقتها بالواقع والعالم والعصر.
وقد تنزع الثقافة نحو البناء النخبوي، والارتباط بمصالح النخبة، والابتلاء بالتعالي عن الناس والاغتراب عنهم، وصعوبة التواصل معهم، والانفصال عن عالمهم، وعدم القدرة على تلبية ومواكبة شروطهم ومتطلباتهم. وفي هذا المسلك تتحول السياسة إلى نقد للثقافة وتصويبها، باعتبار أن السياسة معنية من حيث المبدأ بمصالح الناس ورعاية حقوقهم والاقتراب والتفاعل معهم.
وقد تنزع الثقافة نحو تكريس الفروقات الثقافية، وخلق الخصومات بين الهويات المتعددة في نطاق الأمة الواحدة، بالشكل الذي يؤثر على تماسك النسيج الاجتماعي، والاستقرار السياسي، وعلى الوحدة الوطنية. وفي هذا المسلك أيضاً تتحول السياسة إلى نقد للثقافة، لتصويب مساراتها في تكريس القواسم المشتركة، واحترام التعددية وحق الاختلاف، وتحويل التعددية إلى مصدر إثراء وإنماء وتكامل.
هذه بعض المنازع والمسلكيات التي تتحول فيها السياسة إلى نقد للثقافة.
-5-
الثقافة السياسية والسياسة الثقافية
مفهوم الثقافة السياسية يرتبط بمجال علم السياسة، وهو أقدم وأكثر شهرة وتداولاً من مفهوم السياسة الثقافية، الذي أخذ يرتبط بمجال الاقتصاد والتنمية، ويعدّ من المفاهيم الحديثة، ومازال تداوله محدوداً ويكاد ينحصر في مجال اختصاصه بصورة أساسية. هذه هي المفارقة الأولى.
المفارقة الثانية: أن مفهوم الثقافة السياسية ناظر إلى حضور الثقافة في السياسة وفي المجال السياسي، الحضور الذي يعبّر عن حاجة السياسة للثقافة. ويفسر هذا الحضور بأنه إما استدعاء من السياسة إلى الثقافة، أو تدخل من الثقافة في السياسة. في حين أن مفهوم السياسة الثقافية ناظر إلى حضور السياسة في الثقافة، وفي المجال الثقافي، الحضور الذي يعبّر أيضاً عن حاجة الثقافة للسياسة. ويفسر هذا الحضور بذات الطريقة، إما أنه استدعاء من الثقافة للسياسة، أو تدخل من السياسة في الثقافة وفي المجال الثقافي.
المفارقة الثالثة: أن مفهوم الثقافة السياسية هو مفهوم تفسيري للظواهر والنشاطات السلوكية، التي تنتمي وتصنف على المجال السياسي، أو التي لها طبيعة سياسية، وتحديداً تلك الظواهر والنشاطات التي ترتبط بعموم المجتمع، أو التي تتصل بالأنساق الثقافية في داخل المجتمع الواحد، أو التي تتعلق بالمجتمعات المختلفة. ولهذا هناك من يرى أن اكتساح مفهوم الثقافة السياسية مجال علم السياسة، في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين، كان متأثراً ببروز ما أُطلق عليه آنذاك بالثورة السلوكية(40).
في حين أن مفهوم السياسة الثقافية هو مفهوم التزامي، يرتبط بتطبيقات البرامج والخطط والمشاريع الثقافية. ويراد من السياسة في هذا المجال أحد أمرين، أو كلاهما معاً. الأمر الأول: التعبير عن الحاجة إلى الإرادة السياسة، التي تلتزم بتنفيذ ورعاية وتطبيق البرامج والخطط الثقافية. والأمر الثاني: أن تكون الخطط والمشاريع الثقافية قادرة على التكيّف والتناغم مع المجتمعات، وتلبي الحاجات الفعلية لهذه المجتمعات.
المفارقة الرابعة: يكشف مفهوم الثقافة السياسية، أن الثقافة لها فاعلية سياسية، وتصدر منها مثل هذه الفاعلية، وجاء هذا المفهوم ملتفتاً لتلك الفاعلية، ومصوراً ومفسراً لها. في المقابل يكشف مفهوم السياسة الثقافية أن السياسة لها فاعلية ثقافية، وتصدر منها مثل هذه الفاعلية. وهكذا يصدق القول أيضاً على أن هذا المفهوم جاء ملتفتاً لتلك الفاعلية ومصوراً ومفسراً لها.
هذا عن المفارقات، أما المشترك الأساسي بين المفهومين، فهو أن كلاً منهما ناظر إلى التنوعات الاجتماعية والتعدديات الثقافية، التي تظهر وتتشكل في المجتمعات الإنسانية. والمقصود من التنوعات الاجتماعية: مجموع الشرائح والفئات التي تتشكل منها المجتمعات، والتي تقسم إلى تقسيمات عديدة، منها التقسيم على أساس النوع كالنساء والرجال، ومنها التقسيم على أساس العمر كالأطفال والشباب والشيوخ، أو التقسيم على أساس المستوى المعيشي كالفقراء والأغنياء ومتوسطي الدخل.. إلى غير ذلك من تقسيمات. والمقصود من التعدديات الثقافية: مجموع التكوينات الاجتماعية المتمايزة ثقافياً، والتي تتعدد إما على أساس ديني ومذهبي، وإما على أساس قومي ولغوي، وإما على أساس محلي ومناطقي، إلى غير ذلك.
والثقافة السياسية في علاقتها بالتنوعات الاجتماعية، تحاول تفسير طبيعة السلوك السياسي الذي يصدر من تلك التنوعات الاجتماعية، وهو السلوك السياسي الذي يتعدد ويختلف حسب مكونات تلك التقسيمات الاجتماعية، فالسلوك السياسي الذي يصدر من النساء يختلف عن السلوك السياسي الذي يصدر من الرجال. والسلوك السياسي الذي يصدر من الشباب قد يختلف عن السلوك السياسي الذي يصدر من الشيوخ.. وهكذا الاختلاف بحسب التقسيمات الأخرى.
وعلاقة الثقافة السياسة بالتعدديات الثقافية، تنطلق من أن السلوك السياسي الذي يصدر من مكونات تلك التعدديات الثقافية، قد يختلف ويتعدد ويتباين بحسب اختلاف وتعدد مكوناتها المذهبية أو القومية أو المناطقية. والثقافة السياسية تأتي في نطاق محاولة علمية منظمة لتفسير ذلك السلوك باعتبار أن مؤثراته تأتي من الثقافة، وتأتي من السياسة أيضاً.
أما علاقة السياسة الثقافية بالتنوعات الاجتماعية، فإن مفهوم السياسة الثقافية جاء أساساً لكي يلفت النظر إلى تلك التنوعات الاجتماعية، ويتوجه إلى كل أنواعها وأقسامها، ويدفع بالتنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية لأن تلتفتا إلى حقوق ومطالب واحتياجات تلك الفئات والشرائح، مع التأكيد والاهتمام على الفئات والشرائح الضعيفة والمهمشة، أو التي تحتاج إلى مزيد من الدعم والحماية، والعمل على بلورة وصياغة برامج وخطط تتوجه بصورة أساسية إلى مثل هذه الفئات، وهكذا الحال في علاقة السياسة الثقافية بالتعدديات الثقافية، حيث يقوم مفهوم السياسة الثقافية بدور أساسي في حماية حقوق تلك التعدديات الثقافية والدفاع عنها، والعمل على تحقيقها من خلال برامج وخطط التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافة والاجتماعية.
من هنا يتحدد فصل الخطاب بين مفهومي الثقافة السياسية والسياسة الثقافية وطبيعية مجال كل منها.
هذه محاولة لكشف صور أو أنماط وتجليات العلاقة بين الثقافة والسياسة، وكيف أن هذه العلاقة في حالة حركة وتأبى السكون، وتتجلى في صور وأنماط متعددة ومتغيرة. وليس المطلوب بالضرورة حسم هذه العلاقة، بقدر ما هو المطلوب فهمها ومعرفة قوانينها.
الهوامش:
(1) الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية، لويس دوللو، ص41.
(2) أصول الفلسفة والمنهج الواقعي، السيد محمد حسين الطباطبائي، ترجمة: عمار أبو رغيف، قم: مؤسسة أم القرى، 1418هـ، ج1، ص64.
(3) النظر والعمل.. والمأزق الحضاري والإسلامي الراهن، أبو يعرف المرزوقي وحسن حنفي، دمشق: دار الفكر، 2003م، ص156.
(4) سورة الأعراف، آية 185.
(5) سورة يوسف. آية 109.
(6) سورة يونس. آية 101.
(7) سورة الغاشية. آية 17 - 20.
(8) سورة آل عمران. آية 191.
(9) سورة سبأ. آية 46.
(10) سورة البقرة. آية 219.
(11) سورة الأنعام. آية 50.
(12) سورة الأنعام. آية 132.
(13) سورة الصافات. آية 60 - 61.
(14) سورة التوبة. آية 105.
(15) سورة الأعراف. آية 185.
(16) سورة العنكبوت. آية 20.
(17) سورة البروج. آية 9.
(18) سورة الحشر. آية 18.
(19) سورة الطارق. آية 5.
(20) نهج البلاغة للإمام علي.
(21) ميزان الحكمة. محمد ري شهري، بيروت: الدار الإسلامية، 1985م، ج7، ص8.
(22) المصدر نفسه، ص8.
(23) العمل والنظر والمأزق الحضاري العربي والإسلامي، مصدر سابق، ص157.
(24) تحف العقول عن آل الرسول. الحسن بن شعبة الحراني، بيروت: دار الأعلمي، 1974م، ص39.
(25) المصدر نفسه. ص119.
(26) المصدر نفسه. ص215.
(27) سورة التغابن، آية 16.
(28) نور الثقلين.
(29) المصدر نفسه.
(30) مقدمة ابن خلدون. ص497.
(31) ملاحظات نحو تعريف الثقافة. ص118.
(32) فكرة الثقافة. تيري إيجلتون، ص165.
(33) المصدر نفسه. ص25 - 26.
(34) المصدر نفسه. ص87.
(35) الثقافة الفردية والثقافة الجماهيرية. لويس دوللو، ص45.
(36) المصدر نفسه. 169.
(37) ملاحظات نحو تعريف الثقافة. ص169.
(38) المصدر نفسه. ص169.
(39) فكرة الثقافة. ص30.
(40) نظرية الثقافة. مجموعة من الكتاب، ص345.