شعار الموقع

تأثير الاقتصاد الإسلامي على المجتمع الإنساني

الدكتور عمر الكتاني 2005-04-30
عدد القراءات « 811 »

تأثير الاقتصاد الإسلامي على المجتمع الإنساني

الدكتور عمر الكتاني*

* الإشكالية والمنهجية

لاشك أن سعة هذا الموضوع وأهميته التاريخية، وبعده الحضاري في المجتمعات الإسلامية يطرح علينا العديد من الإشكاليات نذكر منها:

1- ضرورة توسيع مفهوم الاقتصاد الإسلامي ليشمل مجموع الأحكام الشرعية المكتوبة التي تحدد المعاملات الاقتصادية الإسلامية من جهة، والنشاط الاقتصادي للمجتمع الإسلامي من جهة أخرى، على اعتبار أن الكثير من التشريعات في هذا المجال لم تجد مصدرها في القرآن السنة واجتهاد الفقهاء فقط، وإنما صدرت عن اجتهاد الخلفاء المسلمين كنتيجة أحياناً عن احتكاك الحضارة الإسلامية بالمجتمعات التي دخلت تحت رايتها.

2- المنظور الاقتصادي للحضارة من الوجهة الإسلامية هو منظور جزئي لمفهوم إسلامي موحد ينطلق من وحدوية التصور الإسلامي للإنسان كبناء روحي ومادي مركب تتداخل فيه العناصر الخلقية والمادية بشكل متوازن لتجعل منه ديناً عالمياً صالحاً لكل العصور وكل الأجناس.

ويمكن تحديد مقومات هذا البناء الحضاري الإنساني في ثلاثة عناصر:

- العنصر الخلقي المستمد من التصور الفلسفي الديني أو اللاديني للوجود.

- العنصر العلمي المستمد من التصور الفلسفي للعقل والذي تتحدد بموجبه سرعة اكتساب المعارف العلمية واتساع أفقها ونوعية توجيهها.

- العنصر الاقتصادي المستمد من التصور الفلسفي للجسد الذي يقوم بتوظيف المعارف العلمية لتوسيع القاعدة الإنتاجية في إطار المذهبية التي يسمح بها العصر الخلقي.

هذا البناء الحضاري الثلاثي الأركان ينطلق أساساً من الوجهة الإسلامية من العنصر الخلقي مصداقاً لقوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} وتكذيباً لما قاله ماركس من أن الواقع المادي للإنسان هو الذي يغير وعيه وليس وعيه هو الذي يغير واقعه.

التخلف الحضاري انطلاقاً من هذا المفهوم هو قبل كل شيء تخلف خلقي ينعكس عنه في الدرجة الثانية تخلف علمي ثم أخيراً تخلف اقتصادي.

3- المنظور الاقتصادي للحضارة من الوجهة الإسلامية يتمحور كنتيجة للمبدأ الأول حول الإنسان كعنصر محرك للنشاط الاقتصادي ومحرك، ولا يتمحور حول المادة كما هو الشان بالنسبة للفكر الاقتصادي الغربي، الذي يعتبر المادة المحرك الأساسي للنشاط الاقتصادي في الفكر الرأسمالي، أو المحرك للصراع الطبقي في الفكر الاشتراكي.

4- الإنسان في المفهوم الإسلامي كائن واقعي: يخاطب فيه القرآن روحه وجسده، أي نفسه القابلة في كل وقت وحين وفي كل مكان وزمان إلى السمو الروحي أو السقوط في ملذات الحياة، ألم يقل عز من قائل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}(1).

هذا المفهوم يختلف بشكل أساسي عن النظرة الفلسفية اليونانية للإنسان الذي لازال يمثل جوهر الفكر الاقتصادي الليبرالي والاشتراكي. وهي أما نظرة طبيعية عند أرسطو حيث إن الإنسان يخضع في تصرفاته إلى نفس الضرورات الطبيعية التي يخضع لها الحيوان أو النبات أو الجماد(2). أو نظرة مثالية عند أفلاطون تعتبر سعادة الإنسان رهينة بانسلاخه عن واقعيته عن طريق إقحامه في مدينة فاضلة لا يملك فيها مالاً ولا بنوناً تذاب فيها كل الملكيات والمصالح الفردية لمصلحة الجماعة. مما جعل المؤرخ الاقتصادي الفرنسي Henri Denis يقول: إن فكر أفلاطون كان وراء الفكر الشيوعي رغم ما يمكن أن يظهر من فوارق بينهما(3).

5- الاقتصاد في المفهوم الإسلامي علم يبحث في ميدان تداول السلع والخدمات من خلال قواعد السلوك الإسلامي ولا يبحث في السلوك البشري من خلال تداول السلع والخدمات. وكل سلوك هو أخلاق، والأخلاق لا توزن بميزان كمي، ولكنها تنعكس كماً وكيفاً على الحياة البشرية. وأسس هذه الأخلاق قد تكون وضعية أو إلهية لا ينسلخ فيها الفكر الاقتصادي عن مرجعيته المذهبية. ولا الاقتصاد الإيجابي Economie positive الذي يُعنى بالمردودية فقط عن الاقتصاد المعياري EConomie normative الذي يُعنى بتأثير هذه المردودية على توازن الإنسان المادي والمعنوي. وقد يطغى الجانب الإيجابي على الجانب المعياري كما هو الشان في الاقتصاد الغربي فتطغى نزعة الاستغلال فيصبغها الطابع العلمي بسمة الشرعية.

إن قراءة التاريخ الاقتصادي الإسلامي لازالت في مرحلة البحث عن الداء، بَدَأها الرَّحالةُ المسلمون ووصلت إلى قمتها مع ابن خلدون في بحثه عن عوامل ارتقاء وسقوط المجتمعات الإسلامية ثم دخلت من جديد في عهد الانزواء والتقلص ولم ترقَ إلى مستوى الاختصاص، ونحن نعيش عهد الاختصاص.

ولعل السبب غير موجود في ضعف المادة التاريخية بقدر ما هو موجود في الانفصام الحاصل منهجياً بين الفقيه والاقتصادي في غياب توحيدهما في شخص واحد، من جهة، وبين مفهوم الاقتصاد في المنظور الغربي ومفهومه في المنظور الإلهي، وعدم استطاعة الفقيه والاقتصادي المسلم التخلص من عقدة المفهوم الغربي للاقتصاد من جهة أخرى.

وكذلك الشأن بالنسبة للدراسات الاستشراقية حول الإسلام التي لم تثر أغلبها إلا بكثير من التحفظ تأثير الاقتصاد الإسلامي فكراً أو ممارسة على المجتمع العالمي مع أنها ركزت على تأثير العامل الاقتصادي في الصراع الحضاري بين الإسلام والمسيحية في البحر الأبيض المتوسط، متحلية في ذلك عقدة النقص نفسها فيما يخص التمييز بين المفهومين. وكانت نتيجة ذلك عدم استئثار علاقة الاقتصاد الإسلامي بالنظم الإنتاجية السائدة في العالم غير الإسلامي بالأهمية التي تستحقها في هذه الدراسات كإشكالية تاريخية تبرز تباين مسلسل التطور التاريخي في الشعوب الإسلامية مقارنة مع شعوب دول أوروبا الغربية. وأمام نقص وضعف هذه الدراسات وشعور الغرب بذلك نجده يشجع حالياً ظهور مؤسسات للدراسات الاستراتيجية والمستقبلية في الغرب نفسه وفي معاهدنا وجامعاتنا كذلك ويوجه جانباً من هذه الدراسات حول إشكالية العلاقة بين الدين والاقتصاد، ويسخّر في ذلك مجموعة من الباحثين الإسلاميين تحت إغراء منح دراسية ورحلات حتى يوجّه سياساته لمواجهة كل قوة اقتصادية تنبع من كيان الصحوة الإسلامية. وقد بدأت بالفعل هذه السياسات تظهر من خلال الحصار الاقتصادي التي تواجهه بعض الدول الإسلامية ومنها الجمهورية الإسلامية الإيرانية، ومن خلال سياسة تغريق السوق بالنفط لإسقاط أسعاره والإضرار باقتصاد الدول الإسلامية بالخصوص، ومن خلال الحصار التكنولوجي والعلمي، ومن خلال الحد من هجرة العمالة الإسلامية إلى الغرب، ومن خلال امتصاص الفائض المالي لبعض الدول الإسلامية عن طريق سوق الأسلحة بعد تهيئتها نفسياً، وتخويف بعضها ببعض، وتشجيع النزاعات الإقليمية والخلافات الحدودية، وعن طريق التعتيم الإعلامي لتعميق الهوة النفسية بين الشعوب، وعن طريق سياسة الائتمان الاستعمارية لتفقير الشعوب وتجويعها لإضعاف أنظمتها وجعلها تحت الوصاية الغربية.

كل هذه الوسائل تجعل من الاقتصاد سلاحاً ذا حدين، فإذا كان الخطاب الديني يفتقده الغرب، ويتمسك به الإسلام ويجعل به صلب قوته فالسلاح الاقتصادي ورقة يلعبها الغرب حالياً والظاهر أنه نجح فيها إلى حد الآن، وهذا ما يضطرنا الآن إلى محاولة تغيير منهجنا وإعادة قراءة تاريخنا بوسائل حديثة للتعرف في المرحلة الأولى على دور الاقتصاد الإسلامي في تغيير المجرى الحضاري للمجتمعات البشرية حتى يتسنى لنا في المرحلة التالية أن نأخذ العبر منه لإعادة هيكلة اقتصاد المجتمعات الإسلامية.

لاشك أن الإجابة على هذا السؤال صعبة وشاقة، وأن الإلمام بالموضوع يتطلب العشرات من الأبحاث ويستدعي تضافر الجهود في ميادين علمية مختلفة كالفقه والتاريخ والجغرافية والاقتصاد، وهذا لا يتأتَّى إلا من خلال مجموعات بحث متعددة الاختصاصات

لذا يقتصر البحث رغم طموح عنوانه إلى تسليط الضوء على الدور الذي لعبه الاقتصاد الإسلامي في المجتمعات التي حظيت بنعمة الإسلام، في مواجهة نظامين استغلاليين سادا في عصور مختلفة قبل وبعد ظهور الإسلام وهما نظام الرق، ونظام الإقطاع، عسى أن يكون في ذلك بداية اعتراف بالدور الإيجابي الذي لعبته التشريعات الإسلامية في الميدان الاقتصادي.

* موقف الاقتصاد الإسلامي من نظام الرق

وجد الإسلام أنظمة اجتماعية واقتصادية متغطرسة في البشرية منذ أقدم العصور من أبرزها وأشدها نكراناً لكرامة الإنسان وجحوداً لقيمته نظام الرق، فقد كان هذا النظام شائعاً عند كثير من الشعوب وأخص بالذكر اليهود والفراعنة واليونانيين والرومان. وكانت أهم مصادره سبايا الحروب والشعوب الخاضعة لإمرتهم. وكثيراً ما كان عدد الرقيق يفوق السكان الأحرار، أما ظروفهم فكانت قاسية. فإما سخروا للهو والمتعة، وإما الإنتاج في الزراعة والصناعة.

الجذور الفلسفية لنظام الرق

لقد أقر الفلاسفة الإغريق وعلى رأسهم أفلاطون وأرسطو بنظام الرق وبرروه انطلاقاً من تفريقهم بين العمل اليدوي والعمل الفكري(4). فالأول ضروري لحياة البشر ولكنه شاق. وبالتالي يتعارض مع الهدف السامي للإنسان وهو توظيفه للعقل. ونظراً لوجود اختلافات في القدرات العقلية للإنسان لابد من توزيع العمل داخل المجتمع، وبالتالي توزيع المجتمع على طبقات تكون أدناها طبقة العبيد. مهمتها تحقيق الحاجيات الأساسية للطبقتين الأخريين المتكونتين من الأسياد وهما طبقة المحاربين ووظيفتها حماية المكتسبات من أي خطر خارجي أو داخلي، وطبقة الحاكم ووظيفتها تسيير شؤون البلاد.

ويمكن تلخيص الفكر الفلسفي الإغريقي في التسلسل التالي:

سعادة المجتمع تكمن في تحقيق عدالة اجتماعية، وهذه العدالة تحتاج إلى تنظيم اقتصادي يكون أساسه توزيع العمل حسب تقسيم طبقي تخصص فيه الأعمال الفكرية والرئاسية للأسياد، والاعمال اليدوية الإنتاجية للفئات الدنيا وخصوصاً العبيد.

هذا التصور الفلسفي الذي برز أربعة قرون، قبل ظهور المسيح كان أسمى ما عرفه الفكر العالمي فيما يخص التنظيم الاجتماعي والاقتصادي. وقد عاشت الحضارات القديمة تحت رحمة هذا التصور المرتكز على فكرتين، فكرة إثنية مبنية على التمييز العنصري والعرقي، وفكرة اقتصادية مبنية على استغلال مادي لهذا التمييز. ولاشك أن الربط بين هاتين الفكرتين لازال قائماً حالياً فأينما وجدنا أنظمة اقتصادية مبنية على الاستغلال وجدناها قائمة على مبدأ التمييز.

القاعدة الإنتاجية لنظام الرق في الحضارات اليونانية والرومانية

كان سكان اليونان يقدرون بحوالي 400.000 نسمة منها 40.000 مواطن لهم كامل الحقوق، والبقية مكونة أساساً من العبيد، يشتغلون في ظروف قاسية في الفلاحة والصناعة لصالح الدولة أو الخواص، وما تبقى، وهم أقلية، أجانب أحرار متواجدون في العاصمة أثينا(5).

وكان جل الأحرار يعملون كجنود ولا يشتغلون بالفلاحة والزراعة، بل يملكون بالتساوي قطع أرضية يعمل فيها العبيد.

أما في بلاد الروم فكانت الوضعية أشد وأقهر حيث تشير كتب التاريخ إلى الوضعية المأساوية التي كان يعيشها الرقيق. وقد أبانت تحريات المؤرخ الهنغاري Szilzgyi على أن معدل الحياة بالنسبة للرقيق لم يكن يتعدى 17.5 سنة بالمقارنة مع 58.6 سنة للقساوسة و36,2 سنة للعاملين في الأعمال الحرة(6). ورغم كثرة الوفيات هذه فإن عددهم وصل إلى أربعة ملايين نسمة في إيطاليا في عهد الإمبراطورية الرومانية مقابل عشرة ملايين من الأحرار(7).

فلو افترضنا أن أغلب العبيد يشتغلون في ميادين الإنتاج الصناعي والفلاحي وأن نسبة السكان العاملين الأحرار تبلغ 40% بعد حذف الصغار والمسنين والأسياد، ثم حذفنا من هذه النسبة الجنود لوصلنا إلى نتيجة تدل على تفوق اليد العاملة من الرقيق على اليد العاملة من الأحرار، وبالتالي على ارتكاز النظام الإنتاجي على الفئة الأولى. وهذا ما يؤكده الباحثون الماركسيون المعاصرون في الغرب حيث ذهبوا إلى تفسير نمو الإنتاج في دولة الروم بتواجد اليد العاملة من الرقيق. سواء منها التي تعمل في القطاع الصناعي والفني والإداري في المدن، أو التي تعمل في القطاع الفلاحي في البادية. ولم تكن كلفة هذه اليد العاملة كثيرة بالنظر إلى فقدانها لكل الحقوق بما فيها الحقوق المدنية كحق الملكية والزواج، فيما كانت خاضعة لأقصى العقوبات في حالة العصيان أو التمرد.

وقد أثارت هذه الوضعية ثورات عددية وكثيرة لم يشهد العالم الإسلامي من مثيلات لها. كثورة سبارتاكوس الذي قاد عشرات الآلاف من العبيد في حركة تمرد استطاع بها السيطرة على جنوب إيطاليا (73 قبل الميلاد) مدة سنتين، وخاض فيها ست معارك دامية انتهت بالقضاء على ثورته وصلب ستة آلاف من العبيد(8).

وثورة Eunoos وهو سوري الأصل و Cléon وهو من سيسليا الذي قام على رأس 200.00 من العبيد بثورة سيطر فيها على صقلية مدة سنتين (135-133 قبل الميلاد)، كما قامت حركات تمرد أخرى سنة 103 قبل الميلاد في كمباينيا وفي صقلية وتم إخمادها بالسيف.

موقف الإسلام من الرق

أمام هذا الوضع السائد قبل الإسلام نزل القرآن مخاطباً البشرية جمعاء بقوله عز وجل: {أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى، وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ}(9).

وجاءت سنة نبيه الكريم تأكيداً وتطبيقاً لهذا المبدأ، وقال في وصيته الجليلة: (إخوانكم إخوانكم، جعلهم الله تحت أيديكم فمن كان أخوه تحت يديه فليطعمه مما يطعم، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم من العمل ما لا يطيقون، فإن كلفتموهم فأعينوهم، ولا يقولن أحدكم: عبدي ولا أمتي، ولكن ليقل: فتاي وفتاتي)(10). وقال عليه الصلاة والسلام: (أوصاني حبيبي جبريل بالرقيق حتى ظننت أنه سيضرب له أجلاً يخرج فيه حراً)، وفي رواية: (حتى ظننت أن الناس لا تستعبد ولا تستخدم)(11).

تدرج الإسلام في إلغاء الرق

من خصائص الإسلام وإعجازه سننه التاريخية، ومن أبرز هذه السنن (واقعيته) حيث إن الإسلام ظهر في بيئة عالمية تقرّ نظام الرق وتعتبره دعامة أساسية في البنيات الاقتصادية. فهو عماد الحركة التجارية، وهو دعامة النشاط الزراعي. ولو أن الإسلام حاول إلغاء الرقيق دفعة واحدة -يقول صبحي الصالح- (لخالف نواميس الحياة الاجتماعية في مراحل التطور، ولعرض الأوضاع الاقتصادية في بيئته التي ظهر فيها، وفي بيئات كثيرة في العالم، لأزمات واضطرابات، أهمها انتشار الفقر المقرون بالجرائم من قبل العبيد قبل التحرير)... ويقول كذلك: (وما من فيلسوف روماني ولا مفكر يوناني ولا قائد فارسي ولا حبر يهودي ولا زعيم عربي إلا أقر الرق وعمل به، حتى المسيحية ورغم مثاليتها البالغة في تكريم الإنسان لم تمنع هذا الرق ولم تضع نظماً صريحة لتخفيفه أو تقليله أو نسخه كما فعل الإسلام، بل في نصوص المسيحية اعتراف واضح بنظام الرق تدل عليه الوصايا الموجهة إلى العبيد إرشاداً لهم إلى طاعة سادتهم، كما في رسالة بولس إلى أهل اخسس: (يا أيها العبيد، أطيعوا سادتكم حسب الجسد بخوف ورعدة في بساطة قلوبكم كما للمسيح، لا بخدمة العين كمن يرضي الناس، بل كعبيد المسيح عاملين مشيئة الله في القلب، خادمين بنية فذلك يناله من الحرب عبداً كان أو حراً) ولذلك وجد كثير من القدسيين للرق أسباباً مشروعة، وصوراً مقبولة، كتوما الأكويني وسانت اغستان وايزيد وغيرهم الذين سوّغوا من الرق ما يكون بنتيجة الخطيئة على حد تعبيرهم)(12).

وقد ضيق التشريع الاقتصادي الإسلامي الخناق على نظام الرق من خلال تكريمه للعمل، ومن خلل تسخيره جزءاً من مصاريف الزكاة ومن الكفارات لتحرير الرقاب.

تكريم العمل في التشريع الاقتصادي الإسلامي

اعتبرت الحضارات القديمة العمل مقياساً للانحطاط الاجتماعي، وأقرت على أساسه نظام التفرقة بين الفئات الاجتماعية، لتبرر استغلال الإنسان للإنسان. وجاء الإسلام بنقيض ذلك وكرّم العمل وجعله وسيلة لاستخلاف الإنسان في الأرض، وقارنه أحياناً بالجهاد، وضرب أمثلة على نبل العمل اليدوي بأن خص به الأنبياء، أفضل الخلق.

فجعل آدم يحترف الزراعة، وداود الحدادة، وإدريس الحياكة، وزكريا النجارة، وعيسى الصباغة، ومحمد عليه وعليهم السلام رعي الغنم والتجارة. وضرب الإسلام أمثلة على نبل العمل الفكري في أول آية قرآنية نزلت على النبي : {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ }(13). وضرب الإسلام أمثلة على نبل العمل الخلقي في قوله تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا}(14). وربط الإسلام بين هذه المفاهيم في قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}(15). فكانت فلسفته مرحلة تحول أساسي في المجتمع البشري:

تحرير الرقاب من مصاريف الزكاة ومن غيرها

سخر الإسلام مصاريف لتحرير الرقاب من جملتها الزكاة مصداقاً لقوله تعالى في آية الصدقات: {وَفِي الرِّقَابِ}، وعرض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على كل أسير بعد غزوة بدر يجيد القراءة والكتابة ولا يستطيع فداء نفسه أن يعلم عشرة من المسلمين. وكان للعبد الحق في شراء نفسه من سيده بمال يدفعه له في شكل أقساط لمدة معينة. وهو ما يسمى بـ(المكاتبة)، كما كانت أعظم الكفارات تؤتى عن طريق عتق الرقاب، وهكذا سُخّرت النظم المالية لا لأهداف اقتصادية أو اجتماعية فقط بل وكذلك لأهداف إنسانية في إطار مشروع إسلامي حضاري قوامه تحرير الإنسان وتخصيص عبوديته لله وحده.

انعكاس المبادئ الإسلامية على الوضعية الاجتماعية للرقيق في العالم الإسلامي:

يمكن تلخيص ما آلت إليه الأبحاث في كتب التاريخ وكتب الحضارة الإسلامية في العناصر التالية:

1- وجود الرق مصدره الأساسي في أسرى الحرب، وقد أجازه الإسلام بشكل مبدئي على أساس المعاملة بالمثل. ولكن كثرتهم وتعوُّد الناس على اقتنائهم شجع سوق النخاسة في فترات من الحكم الإسلامي.

2- لم يكن العنصر الإنتاجي عنصراً أساسياً في تداولهم، فكان الكثير منهم خدماً في المنازل أو جنوداً في جيوش المسلمين.، واستخدموا أحياناً في ميادين اجتماعية كالتدريس وخدمة ذوي العاهات والعميان. وسخر بعضهم للهو والموسيقى تجاوزاً للحدود التي أقامها الإسلام في هذا المجال.

ورغم عدم وجود إحصاءات دقيقة حول عددهم وتوزيعهم في مختلف المجالات المذكورة. ورغم التجاوزات التي وقعت خلال مختلف العصور الإسلامية فيما يخص استخدام الرقيق لم نعثر على مرجع واحد لمؤرخ عربي أو مستشرق من الذين انكبوا على مئات من أمهات الكتب التاريخية في أبحاثهم، يؤكد اعتماد الاقتصاد الإسلامي أساساً لا في مراحل توسعه ونموه، ولا في مراحل تقلصه وانكماشه على اليد العاملة من الرقيق.

وقد أكدت عديد من المصادر التحسن الكبير الذي طرأ على وضعية الرقيق في المجتمعات الإسلامية كـ(كتاب تراث الإسلام) للمستشرق M.A.Cook الذي خصص في جزئه الأول فصلاً موسعاً حول التطورات الاقتصادية في العالم الإسلامي، وكتاب (حضارة الإسلام) لمؤلفه النمساوي جوستاف جرونبيام، وكذلك كتاب المستشرق الألماني آدم متر (الحضارة الإسلامية والحضارة العربية)، ولعل أهم تطور يمكن ملاحظته هو انتقال العديد منهم من درجة الرقيق إلى درجة الموالي أي الرقيق الذين تم عتقهم، وقد ساوى عمر بن الخطاب F بين العرب والموالي في العطاء، أما علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فقد فضّل الموالي على العرب في العطاء فلامه العرب، فأجاب عن ذلك بأن هذه الأموال هي أموال الموالي قبل أن تكون أموال العرب(16)، وقد تكاثر الموالي حتى فاقوا الأحرار في عددهم في بعض المدن الإسلامية(17). وأصبحوا ملاّكاً وقوّاداً في الجيش، ولعبوا دوراً كبيراً في الفتوحات الإسلامية، خاصة في عهد الوليد بن عبدالملك، وفي عهد الفاطميين في مصر، والمرابطين في المغرب. وتحسنت وضعيتهم بشكل مميز في العصر الأموي واحتلوا نصيباً أكبر من نصيب العرب في الوظائف العامة، وعلى الأخص ما يتعلق بالإدارة المالية، وكانت الثروة والإدارة مركزة في أيديهم. وبذلك تقلصت الفوارق الاجتماعية بين الفئات التي كانت تحت إمرة الحكم الإسلامي.

وبينما كان التطور التاريخي في القرون الإسلامية الأولى يكرس مسلسل تحرير الرقيق في العالم الإسلامي دخلت أوروبا في القرون الوسطى في عهد نظام إقطاعي كان الضحيةَ فيه هذه المرة العمال الفلاحون الملاك الصغار حيث تحولوا إلى أقنان.

* محاربة النظام الإقطاعي من طرف الاقتصاد الإسلامي

ظهور النظام الإقطاعي في أوروبا

ظهر النظام الإقطاعي بعد سقوط الإمبراطورية الرومانية فيما بين القرن الخامس والقرن الخامس عشر الميلادي في غرب أوروبا ولم تنجُ من هذا النظام سوى بيزنطا بعد دخولها تحت الحكم الإسلامي.

فبعد سقوط الإمبراطورية الرومانية تجزّأت أطرافها إلى دويلات قام على رأسها قواد الجيش بفضل إمكانياتهم العسكرية. ونظراً لكثرة الحروب الداخلية والخارجية، وتصاعد الضرائب، وتدهور الإنتاج الفلاحي وجد الفلاحون أنفسهم مضطرين إلى طلب الحماية مقابل أموال من قواد الجيش الذين أصبحوا حكاماً ونبلاء فاغتنوا بسبب سطوتهم على الأراضي ونزعهم لملكية من لا يستطيع تأدية ضرائبه. وكانت للكنيسة كذلك أراضٍ شاسعة جعلتها في وضعية النبلاء نفسها، متسترة بغطاء الدين على حساب صغار الفلاحين الذين أصبحوا هم والعمال الفلاحين أقنان، أي فئة عمالية خاضعة هي وأراضيها للنبلاء يتصرفون في رقابهم تصرف الأسياد في عبيدهم.

أما العالم الإسلامي فعرف نمواً وازدهاراً وتوسعاً حتى القرن الثاني عشر الميلادي، حيث بدأت الصراعات بين النظام المركزي في بغداد وولاته في مصر والأندلس، انتهت بظهور خليفة أموي في بغداد وخليفة فاطمي في مصر، هذا مع زيادة تهديد أمراء فارس وسيطرة الأتراك السلاجقة إلى أن هجم المغول بقيادة هولاكو على بغداد.

فهل عرف الحكم الإسلامي المآل نفسه الذي آلت إليه أوروبا الغربية بعد أن انقسمت الخلافة فيه؟. وهل ظهرت إقطاعيات ثم تحولت إلى نظام إقطاعي أم أن الإصلاحات الاقتصادية الإسلامية التي تخللت الحكم الإسلامي أوقفت هذا الاتجاه؟.

الإصلاحات الاقتصادية في مجال الملكية

ميّز النظام الاقتصادي الإسلامي بين الملكية الخاصة والملكية العامة على أساس مرن يأخذ بعين الاعتبار المصلحة العامة والظروف المختلفة للشعوب الإسلامية في آن واحد، وقسم الأراضي التي تدخل في حوزة الدولة الإسلامية -كما ذكره علي حسني الخربوطلي- إلى خمسة أقسام(18):

1- أرض يُسلم عليها أهلها فهم مالكون لرقابها.

2- أرض يبقى أهلها على دينهم ويخضعون للحكومة الإسلامية بمعاهدة بينها وبينهم يؤدون بمقتضاها الخراج زيادة على الجزية.

3- أرض ينقاد أهلها عنوة، فإما قسمت بين الذين فتحوها فتصبح أرض عشر، أو بقيت في أيدي أهلها ملكاً يتوارثونها كما فعل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) في أرض السواد، وهي أرض خراج.

4- أرض لا تكون ملكاً لأحد، فإما يعمرها الإمام مقابل تعويض لبيت مال المسلمين، يستأجر من يقوم بفلاحتها لمصلحة المسلمين، أو يُقطعها لرجل مسلم قادر.

5- أراضي إقطاع وهي نوعان: إقطاع تمليك يؤدي عليها العشر وتورّث، وإقطاع استغلال مقابل العشر أو الخراج ولا تورّث.

هذا النظام المرن طبق خلال العصور الإسلامية بشكل عادل أو جائر حسب تقوّي الخلفاء والولاة ودرجة ورعهم، فكانت أهم التشريعات في عهد نبينا (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم في عهد الخلفاء الراشدين. وقد تميز عهد عمر بن الخطاب باجتهادات كان لها الأثر البالغ في عهد سيدنا عثمان وسيدنا علي ( رضي الله عنهما ).

وهذا ما يؤكده الطبري في كتابه تاريخ الأمم والشعوب حيث يقول: (تجلى اهتمام الفاتحين بإعادة الأرض إلى أصحابها والقضاء على سيطرة الدهاقين والأرستقراطيين، فأعادوا لهذه الطبقة المستضعفة من الفلاحين شعورها بذاتها وملكيتها وخصوصاً من الاضطهاد والاحتكار(19).

ثم ظهرت في العهود التي تلتها بعض التجاوزات في نظام الملكية الإسلامي جعلت تاريخ المجتمع الإسلامي تتخلله فترات مدّ وجزر، مما جعل بعض الولاة أحياناً أكثر حرصاً من الخلفاء في حماية ملكية الأرض وصون خراجها.

ولو قارنا بين سياستين واقتصادين في عهد الفتوحات الأولى فيما يخص ملكية الأرض: سياسة عمر بن الخطاب في تأميم أرض سهل دجلة والفرات، وسياسة هارون الرشيد في تقسيم أرض إقليم الثغور؛ لوجدناهما متباينين ظاهرياً لكنهما متكاملين في خدمتهما للمصلحة العامة.

ويفسر المستشرق (هل) رفض عمر بن الخطاب تقسيم أراضي السواد المفتوحة في العراق، بين الجنود المسلمين بقوله: (غير أن السماح للجند بالإقامة مع عائلاتهم في معسكرات حربية دائمة أدى إلى نشأة ميل إلى الاستقرار عند أفراد الجيش، وتجلى ذلك في الميل فيما نشب بينهم من سباق على حيازة الأرض التي تحت أيديهم، وكان السهل الفسيح الذي يرويه دجلة والفرات والذي شهد الغزو الإسلامي الأول، يبدو في أعين العرب جنة تستهوي أفئدتهم، إذ أدرك العرب ما تضمه أرضه من خيرات وافرة وهي أول ما اجتذب المثنى بن حارثة إلى فتح العراق)(20). ولذا لم يكن عجباً أن يطالب الجند باقتسام الأرض فيما بينهم والاستقرار فيها، إذ تذكر الجند وعود عمر وطالبوه بتحقيقها، كما طالبوه بأن تكون الأنصبة في الأرض بنسبة قوة القبيلة وأهميتها. واقترح آخرون اعتبار أرض هذا الإقليم كله غنيمة توزع وأهلها على الجند الفاتحين بالتساوي. بعد اقتطاع الخمس للدولة، ولو أن عمر استجاب لهذه المطالب، لوقف لكل محارب ثلاثة من الفلاحين كما لو أن البلاد قسمت بين المسلمين لتحول الجيش إلى طبقة ملاك للأراضي. ولنتج عن ذلك أن تصبح البلاد أرضاً بوراً خربة بسبب إهمال ملاكها القدامى، وتفشي الرق فيها، وامتصاص الفاتحين لها. ولكن عمر اتخذ قراراً كان له أبعد الأثر في تطور الدولة الإسلامية، إذ قرر اعتبار الأرض المفتوحة ملكاً للدولة، لا يمكن لأحد أن يتصرف فيها في أي وقت من الأوقات (أرض فيء)، وقرر كذلك وضع المحصول تحت تصرف الدولة من أجل الصالح العام، لذلك ظلت الأراضي في العراق ومصر بأيدي أهليهما حيث حرَّمت الدولة على المسلمين الاشتغال بالزراعة، كما أن عمر لم يسمح لعمرو بن العاص والي مصر بأن يبني لنفسه منزلاً في معسكر الفسطاط)(21).

أمام هذه السياسة التي يشرحها بكل وضوح المستشرق الألماني (في هل) نجد موقفاً آخر في توزيع الأرض يتخذه هارون الرشيد في عهدٍ توسعت فيه رقعة الأراضي الإسلامية، وأصبح لزاماً على الفاتحين المحافظة على المكتسبات من هجومات معاكسة يشنها أعداء الإسلام، فأنشأ هارون الرشيد إقليم الثغور، وهو نظام عسكري اقتصادي، بنيت على أساسه حصون جديدة، وزود كل حصن بحامية دائمة خاصة بها وأعطيت جنودها مرتبات محترمة إضافة إلى أرض تستثمرها هي وعائلاتها، وهذا ما يؤكده (في هل) بقوله: (في عهد هارون الرشيد وخلفائه المباشرين، انتقل أناس كثيرون بأسرهم، من ولايات الإمبراطورية القاصية إلى إقليم الثغور واستقروا فيه. وأدّى ذلك إلى ازدهار حياة هذا الجزء من البلاد، الذي خربته الحروب المتكررة ونقص عدد سكانه)(22).

كانت إذن مرونة في التعامل في سياسية توزيع الأراضي جعلتها تتكيف مع مراحل تطور المجتمع الإسلامي، وبالأخص المراحل الأولى، دون أن يكون هناك تناقض مع مبادئ الشريعة الإسلامية.

وكان لابد من تدعيم الإحاطات في مجال الملكية بإصلاحات في النظام الجبائي، حيث إن النظم الجبائية الجائرة تهدف في عمقها إلى انتزاع ملكية الأرض من أصحابها وبالتالي إلى بروز النظم الإقطاعية.

الإصلاحات الجبائية

ونذكر منها:

1- إنشاء دواوين بالعربية مثل ديوان الخراج، وديوان الرسائل، وديوان الإيرادات الممنوعة، وديوان الخاتم. وتبني دواوين بالفارسية كما أشار إلى ذلك على حسني الخربوطلي بقوله: (إن معظم نظم عمر بن الخطاب كانت فارسية الأصل، مثل نظام العملة، وتقسيم الولايات الإداري، ونظام الضرائب (الجزية والخراج) (23).

2- إحداث نظامي العطاء والأرزاق. وقد اعتبر نظام العطاء من أهم وجوه صرف مال الفيء، فرضه عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) سنة 20هـ. استجابة لتكاثر أموال الفيء وزيادة الإيرادات(24). وبناء على إحصاء شامل لكافة المسلمين بما فيهم أهل مصر وتم توزيعه حسب سلم عادل للأولويات كما فرضه للمقاتلين ولعيالهم وذريتهم، وجعله متوارثاً، وكان يفرض للمولود عند ولادته عشرة دراهم حتى إذا بلغ أصبح له عطاء الرجل(25). وشمل العطاء كافة المسلمين بما فيهم النساء والأطفال. وسار على هذا النظام الخلفاء الراشدون ومعظم الخلفاء الأمويين.

وأدخل عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) نظام الأرزاق فرض بموجبه لكل مسلم، رجلاً أو امرأة أو عبداً، مدّ حنطة وقسط زيت وقسط خل كل شهر(26). في حين كان العطاء كل سنة، ويقول صالح العلي في ذلك: (... كان للرزق أثره الحسن على حياة المسلمين الاقتصادية، فقد مكن الفلاح من دفع بعض الضرائب المفروضة عليه عيناً من المحصول مما خفض أعباءه. ولكن كان للرزق أثره السيئ، فالمدن كانت تأخذ من الريف ضرائب عليه مالية وعينية من المحاصيل دون أن تصدر له ما يعادلها، فضمنت المدن الأموال التي تقوم عليها أسس الحياة الاقتصادية، بينما قلّت الأموال في الريف وأصبحت حياته الاقتصادية قائمة على أسس التبادل الطبيعي مما أدى إلى الركود)(27).

3- تكييف مستحقات الخراج حسب الوضعيات فتحدد النسب تبعاً لإمكانيات الفلاحين، وحسب جودة الأرض وإنتاجها، ويلغي الخراجات عن الأرض التي لا يصلها الماء، ولا يؤخذ إلا مرة واحدة ولو تعددت المحصولات في السنة الوحدة، ولا يؤخذ من المناطق الزراعية النائية لتشجيع استثمارها.

لاشك أن هذه الإصلاحات كان لها الأثر البيِّن في هيكلة البناء الاقتصادي والاجتماعي في العالم الإسلامي بالرغم من بروز بعض التجاوزات والانحرافات في مختلف العصور الإسلامية بعد الخلافة الراشدية أدت إلى إقطاع أهل السلطة والجاه من طرف الدولة في بعض الحالات وقد أخذ هذا الإقطاع في غالب الأحيان الأشكال التالية:

1- الإيغار: وهو أن يوغر الملك الرجل الأرض فيجعلها له من غير خراج، أو تأدية الخراج مباشرة إلى السلطات، تجنباً لأدائها للعمال.

2- الإلجاء: وهو كتابة الرجل أرضه باسم أمير قوي يلجأ إليه ويحتمي به، ويقوم صاحب النفوذ بدفع الخراج ورعايتها من الناحية المالية حتى تصير في الغالب له. ويمكن تشبيه هذا النظام بنظام الحماية الذي كان سائداً في بلاد فارس والروم تحت اسم Patronage أو Auto pragia.

3- التقبل أو القبالة: ويعبر عنه أحيانا بالكفالة أو الضمان، وهو أن يجعل الرجل لنفسه قبيلاً أو كفيلاً يحصل باسمه الخراج ويأخذه لنفسه لقاء أجر معلوم يدفعه إليه. وكان القبيل أو الكفيل أغلب الأحيان من العمال وذوي الجاه والسلطان.

4- تحويل أراضي الخراج إلى أراضٍ عشرية.

ولعل هذه التجاوازت لم تبلغ مستوى يجعل من هذا النظام عصبة الحياة الاقتصادية في الدول الإسلامية بالنظر إلى نسبة الأراضي التي يسيطر عليها الحكام والولاة بالمقارنة مع الأراضي الأخرى، في حين سجل الصراع بين الإقطاع والنظم الاقتصادية الإسلامية انتصارات مهمة في أوروبا خلال العهد الإقطاعي في المناطق التي استطاع الإسلام فتحها ونذكر منها على الخصوص صقلية التي دخلها المسلمون سنة 828م في غرب أوروبا، وبلاد البلغار في شرق أوروبا. وكذلك الشأن بالنسبة للهند إبان الحكم التركي.

وقد أشار المؤرخ م اماري إلى الحكم الإسلامي في صقلية بقوله: (إن هذا الحكم يبدو إيجابياً ومفيداً لأنه بعث بدم جديد، وتغلغل في الكيان البائس لصقلية البيزنطية، والأهم من ذلك بسبب التغييرات التي أدخلها على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في الجزيرة، حيث ألغى الإقطاعيات الكبيرة وشجع تمليك مساحات زراعية صغيرة، وأحيا الزراعة الحقلية وأغناها بأساليب ومحاصيل جديدة)(28). ويزيد فيقول: (ومن جهة أخرى فقد كانت هذه الفترة هي بعينها التي بدأت فيها العملية الانتكاسية المتعلقة بإعادة الفترة هي بعينها التي بدأت فيها العملية الانتكاسية المتعلقة بإعادة الملكيات الزراعية الكبيرة، وذلك عندما ردت إلى الكنيسة ممتلكاتها الهائلة التي ازدادت ثراء بفضل تقوّي الملوك وسياستهم، كما ظهر الإقطاع الذي سيكون له أثر غير حميد على الحياة الاجتماعية والاقتصادية في الفترات اللاحقة، ونحن مدينون لهذه الفترة العربية النورماندية بأقدم الوثائق التي سجلت فيها عقود كتبت باللغتين العربية واليونانية. وتعبر هذه العقود عن الكدح المغمور والعنيد لفلاحي صقلية المسلمين، وعن الاتجاه الذي قد بدأ فعلاً، للتراجع نحو أنماط من الاقتصاد الزراعي الهابط اجتماعياً وتقنياً. وهكذا فغنى الفترة العربية تظل بالفعل أعلى قمة وصلت إليها تلك الجزيرة الكبيرة الواقعة في البحر المتوسط، سواء من حيث استثمار مواردها والحياة المادية المتعلقة به)(29).

أما في شرق أوروبا فقد كان الصراع كبيراً بين البلغار المسلمين والخزر وفي ذلك يقول المؤرخ غابرييلي: (كان ملوك البلغار الذين اعتنقوا الإسلام في بداية القرن العاشر الميلادي يعملون على تقوية الصلات مع الخلافة العباسية من أجل الحصول على دعمهم لمحاربة الأسياد الإقطاعيين الخزر الذي كانوا يفرضون سلطتهم على البلغار)(30).

وفي الهند تأسست الإمبراطورية المغولية وعرفت في عهد حكم بابر وهو من أتراك تيمورلنك ازدهاراً اقتصادياً وسياسياً وثقافياً وقد أدخل الباتان (الأفغان المسلمون) خلال فترة 1540-1555م نظام المواصلات التي قامت عليه الإدارة المغولية. وطبقت في أغلب الفترات نظام الجزية على غير المسلمين.

وعندما تقهقرت هذه الإمبراطورية ودخل الاستعمار البريطاني اضطر الإمبراطور شاه علم الثاني منح عائدات الأرض من المقاطعات الشمالية إلى شركة الهند الشرقية في عام 1763 الأمر الذي أعطى لهذه الشركة سلطة قانونية على مساحة واسعة للبلاد(31). فكان إضعاف الجانب الاقتصادي الإسلامي في إمبراطورية المغول تمهيداً لدخول النظام الاستعماري في الهند، وكانت مقاومة المسلمين له أكبر من مقاومة الهندوس. وفي ذلك يقول المؤرخ عزيز أحمد: (لم تكن استجابة المسلمين للحكم البريطاني ومؤسساته إيجابية مثل استجابة الهندوس. فقد كانت حكومة شركة الهند الشرقية تفضل الهندوس على المسلمين. ففي مناطق توسعها الأولى في البنغال وفي أركوت والساحل الجنوبي الشرقي كان أعداؤها هم المسلمين. وكانت سياستها الإدارية في بعض المناطق، وخصوصاً في البنغال، ضارة بالنسبة للمسلمين، إذ إن الحاكم العام كورنواليس والسيرجون شور أدخلا نظاماً لعائدات الأرض يدعى باسم (التسوية النهائية) هبط بالمزارعين والفلاحين المسلمين إلى مستوى العمال الزراعيين، وأوجد طبقة من أصحاب الأملاك الهندوس (زمندار) الذين انتعشوا على حساب الجماهير الإسلامية. وحين استولى البريطانيون على الهند كان المذهب الحنفي الذي عاد له المغوليون هو قانون البلاد كلها، ولكن شركة الهند الشرقية جمعت بين التراث وبين عناصر من القانون العرفي البريطاني، لتشكل قانوناً إنجليزياً - إسلامياً، أصبح مقصوراً على الأحوال الشخصية كما تطبق على المسلمين، وفي سنة 1835 أصبحت اللغة الإنجليزية هي اللغة الرسمية بدلاً من الفارسية، ولم يعنِ ذلك بالنسبة للهندوس سوى مجرد استبدال لغة أجنبية بأخرى. أما المسلمون فلم يسبق لهم أن تعرضوا لمثل هذه المحنة من قبل). وقد مهد هذا الوضع إلى تهيئة انفصال المناطق المسلمة أو بعضها عن المناطق الأخرى، وتم ذلك سنة 1947 بعد صراع طويل بإنشاء دولة الباكستان.

ويمكن تلخيص نتائج البحث الأولى في العناصر التالية:

1- الاقتصاد الإسلامي يجد مصدره في القرآن والسنة النبوية، واجتهاد الفقهاء، واجتهاد المسلمين.

2- الاقتصاد الإسلامي ينطلق من الإنسان وليس من المادة، ومن واقع الإنسان وليس من مثاليته، وبالتالي من وحدة البناء الروحي والمادي فيه.

3- الاقتصاد الإسلامي ينطلق من ثوابت إسلامية، ومن هذه الثوابت محاربة استغلال الإنسان للإنسان. ولكنه حركي في أسلوب تفاعله مع الواقع المتغير. وقد أظهر طاقة التكيف عن طريق الاجتهاد في مناطق الفراغ في الميدان التشريعي كما قال السيد محمد باقر الصدر، وأظهر طاقة التكيف في احتكاك الحضارة الإسلامية مع الحضارات التي سبقتها وعلى الخصوص الفارسية، واقتباسه نظماً مالية وإدارية واقتصادية بشكل عام وجدها لا تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، ولم يتوقف الاجتهاد عند فقهاء المسلمين ولكن خلفاءهم وخاصة منهم الخلفاء الراشدين وعلى رأسهم سيدنا عمر بن الخطاب لعبوا دوراً طلائعياً في ميدان التشريع الاقتصادي الإسلامي.

4- استغلال الإنسان للإنسان ظاهرة نفسية متغطرسة في الإنسان تولدها حاجات الإنسان المادية، وتنتشر بسبب فقدان المرجعية الأخلاقية وقد ظهرت في صور متعددة من أبرزها النظام الإنتاجي العبودي والنظام الإقطاعي بأشكاله المختلفة، وقد استطاع الاقتصاد الإسلامي توظيف مبادئه لحماية المجتمع الإنساني من انتشار هذه الأنظمة الاستغلالية أو لتقليص وجودها.

ولو أقررنا أن الإسلام لا يستطيع القضاء عليها نهائياً نظراً لوجود غريزة التملك باستمرار، فإنه استطاع بالفعل أن يجعل منها في كثير من مناطق الإسلام ظواهر شاذة.

وقد واجه الإسلام ويواجه الآن تحدياً آخر في النظام، الرأسمالي والذي يعدّ من أخطر النظم الاستغلالية التي تواجهها البشرية. وهذا ما يطرح أسئلة عديدة حول العلاقة بين الاقتصاد الإسلامي والرأسمالية، ومدى مقاومة هذا الاقتصاد للنظام الرأسمالي، وهو موضوع مقبل إن شاء الله.

 

الهوامش:

* أستاذ العلوم الاقتصادية في جامعة محمد الخامس بالرباط - المغرب.

(1) سورة آل عمران (14).

(2) راجع كتاب Histoire de la pensée économiqueHenri Denis.

(3) نفس المرجع ص (56).

(4) وهذا ما يؤكده أرسطو في كتابه المشهور السياسة: (عندما يختلف الناس فيما بينهم اختلاف الروح عن الجسد واختلاف الرجل عن الرجل الغث أو هذه الصفة الدنيا نجدها عند من يقتصر عمله على العمل اليدوي، وهو كل ما يمكن الحصول عليه من هؤلاء، آنذاك يعبرون عن طبيعتهم كرقيق يستحقون معها سلطة السيد) 16.20 1254bArtiste : politique livre 1 ch 5.

ذكره: Henri Denis في كتابه Histoire de la pensée économiques ص 46.

(5) راجع كتاب : Encyclopédie Histoire Universelle 1 Le monde Antique vol 2 p 115.

(6) نفس المرجع ص 82.

(7) نفس المرجع ص 84.

(8) نفس المرجع ص 84.

(9) الحجرات الآية 13.

(10) سيرة ابن هشام (بهامش الروض الأنف للسهيلي) 78، عن كتاب النظم الإسلامية للدكتور صبحي الصالح، دار العلم لملايين بيروت ص 469.

(11) شرح النيل وشفاء العليل لمحمد بن يوسف أطغيش 7/703 المطبعة السلفية سنة 1343هـ عن كتاب النظم الإسلامية (صبحي الصالح) ص 464.

(12) النظم الإسلامية (صبحي الصالح) ص 464-465.

(13) سورة العلق، آية 1.

(14) سورة فصلت آية 33.

(15) سورة الكهف، آية 7.

(16) كتاب الإمامة والسياسة لابن قتيبة، ج 1، ط 156. الحضارة العربية الإسلامية (ص 311).

(17) الحضارة العربية الإسلامية د. علي حسني الخربوطلي، مكتبة الأنجلو المصرية، ص 126.

(18) الحضارة العربية الإسلامية، ص 238-240.

(19) في كتاب الحضارة الإسلامية، ص 243.

(20) وهذه الفكرة تحمل نوعا من الدس لافتقادها للدليل.

(21) الحضارة العربية، في هل، ص 51-52.

(22) الحضارة العربية، في هل، ص 87.

(23) الحضارة العربية الإسلامية، ص 283.

(24) البلاذري : فتوح البلدان ص 455، عن كتاب الحضارة العربية الإسلامية، ص 308.

(25) الماوردي : الأحكام السلطانية، عن كتاب الحضارة العربية الإسلامية، ص 308.

(26) البلاذري : فتوح البلدان ص 465، عن كتاب الحضارة الإسلامية، ص 312.

(27) التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة، ص 147، عن كتاب الحضارة العربية الإسلامية، ص 312.

(28) تراث الإسلام (الإسلام في عالم البحر المتوسط)، فرانشسكو غابرييلي، ج 1، ص 118، سلسلة عالم المعرفة الكويت 1988.

(29) نفس المصدر ص 119.

(30) نفس المصدر ص 189.

(31) تراث الإسلام، ج1، ص 205.