شعار الموقع

ثلاثة نصوص جديدة لجاك دريدا

هشام ميلوي 2005-04-30
عدد القراءات « 1054 »

ثلاثة نصوص جديدة لجاك دريدا

ترجمة: هشام ميلوي*

* تقديم

لم يكن رحيل جاك دريدا مجرد موت الفيلسوف الفرنسي الأكثر ترجمةً في العالم، ولكن أيضاً آخر الشهود على جيلٍ طبع المشهد الثقافي أمثال فوكو، دولوز وبورديو.

بعد أكثر من خمسين مؤلَّفاً، دفع مبدع التفكيك لطاقات التحليل النفسي، الأدب والفن التشكيلي من أجل إعادة استنطاق التقاليد الميتافيزيقية الغربية ومفاهيمها المؤسِّسة، كما حاول تجديد طرق تدريس الفلسفة، ورسم خطوطٍ سياسةٍ جديدةٍ، عبر التزاماته في الشأن العام الفرنسي والدولي، لقد كان جاك دريدا يعطي دائماً انطباعاً غريباً، بعدم الرضا عن الأدوار البسيطة في الحياة، فحوّل ما قد يبدو بسيطاً وبدهياً إلى إشكالاتٍ لا نهائيةٍ وبطرقٍ عديدة. لم يدع دريدا شيئاً في الحياة إلا وسأله، وبحث عن مكانٍ لمعنىً آخرَ ممكن، أو عن شكلٍ آخرَ للمعرفة.

ولقد قمنا بترجمة نصّين من آخر النصوص التي نشرت لجاك دريدا، أولهما نصٌّ ناقش فيه مفهوم الدول المارقة، والنص الثاني عبارةٌ عن حوارٍ حول مفهوم الإرهاب الدولي.

المترجم

* النص الأول

لاشك أن مصطلح التفكيك أو المفهوم نفسه، ارتبط باسم جاك دريدا، كما ارتبط بثورةٍ ثقافيةٍ، وصفت كعبورٍ شاقٍّ من التقليد الميتافيزيقي الغربي، إلى شكلٍ آخرَ لن يكون نفسه.

في حوارٍ نشرت إجابته عن سؤال: ما معنى التفكيك؟ لأول مرة 12 أكتوبر 2004م في جريدة لوموند الفرنسية أعطى دريدا الإجابة التالية:

ما معنى التفكيك؟

يجب فهم هذا المصطلح (التفكيك) ليس بمعنى فك الارتباط أو الهدم، لكن بتحليل البنيات المتراصّة التي تكوّن العنصر المقولاتي (discurssif)، المقولاتية الفلسفية التي نفكر فيها، وهذا يمر عبر اللغة، عبر الثقافة الغربية، عبر كل ما يحدد انتماءنا إلى تاريخ الفلسفة هذا.

إن كلمة (التفكيك) كانت موجودةً من قبل في الفرنسية، لكن استعمالها كان نادراً جداً، ولقد ساعدتني أولاً ترجمة الكلمات، أحدها مصدره هايدغر الذي تحدث عن (الهدم) Destruction، والآخر مصدره فرويد الذي تحدث عن (فك الارتباط) dissociation، ومن طبيعة الحال سارعت إلى تحديد أن ما أعنيه بالكلمة نفسها وأسميته التفكيك لم يكن هايدغرياً ولا فرويدوياً فقط، وبذلت جهداً في أعمالٍ شرحت فيها ما أدين به لهايدغر ولفرويد، وكذا الانعطاف الذي سبّبه ما أسميته بالتفكيك.

ليس في استطاعتي إذن أن أشرح ما هو التفكيك بالنسبة لي، دون إعادة وضع الأمور في سياقها. لقد باشرت أعمالي وبصماتي بهذه الكلمة عندما كانت البنيوية سائدةً، أي أن التفكيك هو موقف كذلك من البنيوية.

من جهةٍ أخرى، في الوقت الذي احتلت فيه علوم اللغة الصدارة، وكانت المرجعية اللسانية (الكل هو اللغة) le tout est langage سائدة، في هذا الظرف الذي أتحدث عنه خلال الستينات، حيث بدا التفكيك كأنه لا أقول ضد البنيوية، لكن على أية حال متميزٌ عنها ويناهض سلطة اللغة هذه.

لهذا تجدني دائماً مندهشاً ومستفَزّاً، أمام هذه التشابيه للتفكيك بـ -ما يمكنني قوله- (الكليانية اللغوية) (omnilinguistisme)، وبحب اللغة، و(النزعة الساقية) (le pantexteualisme)، إن التفكيك يبدأ بالعكس من ذلك، لقد بدأت بمناهضة سلطة اللسانيات، واللغة والتمركز اللغوي، إذن لقد بدأ كل شيءٍ معي بالمناهضة والتنديد بالمرجعية اللسانية logocentrisme - والتمركز العقلي، الكلمة التي كررتها مراراً وصغتها، كيف إذن يمكننا أن نتهم غالباً التفكيك، بأنه فكرٌ لا يوجد فيه إلا اللغة، النص، بالمعنى الضيق وليس الواقع، إنه تعبيرٌ خاطئٌ غير قابلٍ للتقويم على ما يبدو.

لم أتخلَّ عن كلمة التفكيك، لأنه يتطلب ضرورات الذاكرة، وإعادة الوصل، تجميع تاريخ الفلسفة التي نوجد فيها، مع عدم التفكير في الخروج من هذا التاريخ، ثم إنني ميّزت مبكراً ما بين الختام clôture والنهاية fin، يتعلق الأمر بتعيين اختتام التاريخ، ليس التاريخ الكلي للميتافيزيقا، فأنا لم أعتقد يوماً بوجود ميتافيزيقا، وهذا نفسه حكمٌ مسبقٌ سائد. إن الفكرة القائلة بوجود ميتافيزيقا هي في ذاتها حكمٌ مسبقٌ ميتافيزيقي، هناك تاريخٌ وتصدعاتٌ في الميتافيزيقا، والحديث عن اختتامها لا يعني نهايتها.

إذن، فإن التفكيك، التجربة التفكيكية، تتموضع بين الختام والنهاية، وفي التأكيد على الفلسفي لكن بفتحها آفاقاً لسؤالٍ حول الفلسفة نفسها، ومن وجهة النظر هذه، فإن التفكيك ليس فقط فلسفةً، وليس مجموعةً من الطروحات، ولا حتى مسألة الوجود بالمعنى الهايدغري. على نحوٍ معيّنٍ ليس التفكيك بشيء، وليس باستطاعته أن يكون مدرسةً أو منهجاً، مع مجموعة قواعد ومساطير يمكن تدريسها.

ليس التفكيك تقنيةً بمعايير، وأكيدٌ أنه قد يحتوي على ضوابطَ لطريقة طرحه نوعاً من الأسئلة على الطريقة التفكيكية. من هذا المنظور، أعتقد بأن التفكيك يمكن تدريسه، ويمكن أن تكون له آثار مدرسة.

لكن في مبدئه ذاته، التفكيك ليس منهجاً، لقد حاولت أنا نفسي التساؤل حول ما يمكن أن يكون منهجاً بالمعنى اليوناني أو الديكارتي، بالمعنى الهيغلي، لكن التفكيك ليس منهجاً، أي تطبيقاً لقواعدَ معينة.

وإذا أردت إعطاء وصفٍ سلبيٍّ ومختزَلٍ للتفكيك، سأقول: إنه فكرٌ حول أصل وحدود سؤال (ما هذا الذي؟ ?Qu'est ce que)، السؤال الذي هيمن على تاريخ الفلسفة. في كل مرةٍ نحاول التفكير في إمكانات ?Qu'est ce que طرح سؤالٍ حول هذه الصيغة من الأسئلة، أو التساؤل عن ضرورة هذا الخطاب في لغةٍ معينة، أو في تقليدٍ معين، فإن ما نقوم به لا يتلاءم مع: ما هذا الذي؟ إلا في حدودٍ معينة.

وهنا يكمن تميز التفكيك، إنه تساؤلٌ حول كل ما هو أكثر من تساؤل، ولهذا السبب كنت دائماً أتردد في استعمال هذه الكلمة، إنه يضمر كل ما قاد إليه سؤال (ما هذا الذي؟) في تاريخ الغرب والفلسفة الغربية، أي فعلياً كل تاريخ الفلسفة، من أفلاطون إلى هايدغر، ومن هذا المنظور، ليس لنا الحق في مساءلته للجواب عن سؤال (?Qu'est ce que tues) (ما أنت؟) (ما هذا؟) بصيغة عادية.

* النص الثاني

هل للدول المارقة وجود؟ مبررات الأكثر قوة

تقديم

انطلاقاً من مسألة السيادة، والدور الذي تقوم به الولايات المتحدة، والتحولات التي تسببت فيها العولمة، يتساءل جاك دريدا عمّا أصبحت تعنيه مصطلحات ومفاهيم مثل (العقل)، (الديموقراطية) وأيضاً تلك المتعلقة بـ(السياسة)، (الحرب)، (الإرهاب) خاصة عندما يفقد شبح السيادة مصداقيته.

النص

إن التعسف في استعمال السلطة، هو في حد ذاته مكوّنٌ من مكوّنات السيادة نفسها، ماذا يعني هذا بالنسبة (للدول المارقة)؟ والتي تتهمها دولٌ أخرى بخرق القانون وعدم احترامه، نظراً للانحرافات التي تقوم بها دولةٌ من هذه الدول المارقة؟

إن الولايات المتحدة التي تتصرف كحامي وضامنٍ للقانون الدولي، والتي تبادر إلى الحروب وعمليات الحفاظ على الأمن لامتلاكها القوة، فإن هذه الولايات المتحدة والدول المتحالفة معها في هذه العمليات، هي بما تقوم به كدولٍ ذات سيادةٍ، هي أول الدول المارقة.

إن عدم التطرق إلى الملفات المؤسِّسَة لأعمال تشومسكي أو بلوم (وهي مفيدةٌ وتنويرية)، والكتب المعنونة بالدول المارقة، ليس من باب المسّ أو البخس من قدر هذه المؤلفات الجريئة، بقدر التأسف والحسرة على غياب فكرٍ سياسيٍّ منتج، خاصة فيما يتعلق بموضوع التاريخ والبنية، وبـ(منطق) مفهوم السيادة، وهو (المنطق) الذي بيَّن مسبقاً أن هذه الدول التي تحارب الدول المارقة، هي بحكم سيادتها الشرعية، دولٌ مارقةٌ تتعسف في استعمال السلطة. فحيثما توجد السيادة يوجد تعسف السلطة، الدولة المارقة. قانون الاستعمال هو التعسف، وكذلك القانون نفسه، وهكذا (منطق) السيادة التي تحكم وتسود دون أن تقتسم السلطة. لأنها تتسلل بدقة، وهي لا تتسامح إلا مؤقتاً، وتتسامح دائماً مع الزعامة الإمبراطورية. إذن لا وجود إلا لدولٍ مارقةٍ سواءً بالقوة أو بالفعل، الدول مارقة، هناك دائماً المزيد وأكثر مما نتوقع منها، المزيد من الدول المارقة، كيف ذلك؟

في نهاية هذه الجولة، يبدو أنه باستطاعتنا الإجابة بـ(نعم) على السؤال المطروح في العنوان، منطق الأكثر قوة، هل هناك دولٌ مارقة؟ نعم، أليس كذلك؟ لكن أكثر مما نتصور، ونقول دائماً أكثر، هنا الاستدارة الأولى في الموضوع.

لكن إليك الأخيرة منها، الجولة الأخيرة من ثورةٍ أو من دوران باب revolving door، قد يبدو أنه من المناسب القول بأنه حيثما توجد دولٌ مارقةٌ، فسلطة المروق voyoucratie هي الحاكم الأساسي في سيادة الدولة، وحيث لا وجود إلا للمارقين، فلا وجود للمارقين، حيثما يوجد مارقون أكثر مما نتصور، لا وجود للمارقين. لكن وراء هذه الضرورة الضمنية نوعاً ما، محاولةٌ لإخراج معنى ودلالة كلمة (مارق) من الاستعمال العادي له، كلما كان لدينا أكثر كانوا أقل plus qu'il y en a.moins il y en a، والمزيد من المارقين، (المزيد من الدول المارقة) تعني شيئين متناقضين، هناك ضرورةٌ أخرى للحد من هذه التسمية، وحصرها في مجالها الزمني، وكذا الحد من استعادتها المتكررة، وبطريقةٍ تهدف إلى فرضها من طرف الولايات المتحدة وبعض حلفائها.

أطروحتي هي كالتالي: فمن جهةٍ، بدأت هذه الحقبة نهاية ما سُمّي بالحرب الباردة، حيث اعتقدت القوتان العظميان العضوان الدائمان، أنهما باستطاعتهما حفظ الأمن والنظام في العالم، عن طريق توازن الرعب النووي والدولي، ومن جهةٍ أخرى، حتى لو استُمِرّ في استعمال المصطلح، فإن نهايته قد أُعلِن عنها بطريقةٍ مسرحية، وتم تأكيدها على المسرح الإعلامي، 11 سبتمبر (تاريخ لا يمكن الاستغناء عنه على المستوى الاقتصادي، في العودة إلى حدثٍ لا يتوافق مع أيٍّ من المفاهيم السائدة، ولهذا تم تأسيسه بنيوياً كحدثٍ عامٍّ وسياسيٍّ من طرف هذه القوة الإعلامية - المسرحية mediatheatral، والمحسوبة من الجانبين. مع انهيار مركز التجارة العالمي، انهارت كل العدّة (المنطقية، الدلالية، اللغوية، القانونية، السياسية)، التي من شأنها أن تجعل من التشهير بالدول المارقة معقولاً، وذا معنىً مبكرا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، ((انهيار) لتواجد إحدى المقدمات، أحد الأبراج المنهارة)، ومنذ 1993م مع تولي كلينتون للسلطة، افتتح هذا الأخير سياسة العقوبات والثأر من الدول المارقة، معلناً في رسالةٍ للأمم المتحدة، بأن بلاده ستحتفظ بحق استعمال الفصل الاستثنائي (الفصل 51)، وأن الولايات المتحدة ستتحرك (بمشاركة باقي الأطراف إذا أمكن، لكن إذا اقتضت الضرورة فإنها سترد منفردة)، هذا التصريح تمت المصادقة عليه أكثر من مرةٍ من طرف مادلين أولبرايت، عندما كانت سفيرةً في الأمم المتحدة، أو وليام كوهن كاتب الدولة في الدفاع، الذي صرح بأن بلاده مستعدة للتحرك وحدها عسكرياً (أي دون موافقةٍ مسبقةٍ من الأمم المتحدة أو مجلس الأمن) عندما تُهَدَّد مصالحها الحيوية، وبالمصالح الحيوية يقصد: (الولوج إلى الأسواق الرئيسية، مصادر الطاقة والموارد الاستراتيجية)، وكل ما يمكن اعتباره مصالح حيويةً من طرف (القضاء الوطني)، يكفي إذن داخل الولايات المتحدة، أن يعتبر الأمريكيون ودون استشارةٍ مسبقةٍ، أن (مصالحهم الحيوية) كفيلةٌ بإعطائهم سبباً ومبرراً كافياً، لمهاجمة وزعزعة أو تدمير دولةٍ بكاملها، إذا كانت سياسة هذه الدولة ضد هذه المصالح.

ولتبرير هذه الأحادية السيادية، وهذا الاستئثار بالسيادة، وخرق المؤسسة المفترض ديموقراطية للأمم المتحدة، ولإعطاء منطقٍ لمنطق الأقوى، يجب الإقرار بأن هذه الدولة التي تهدد بالاعتداء، تتصرف كدولةٍ مارقة، (الدولة المارقة) -يقول روبرت ليتواك- (هي الدولة التي تعتبرها الولايات المتحدة كذلك)، وهنا في الوقت الذي تعلن فيه عن استعدادها للتحرك الانفرادي، فإن الولايات المتحدة تموضع نفسها كدولةٍ مارقة، وهي الدولة التي تم السماح لها رسمياً من طرف الأمم المتحدة لتصرفٍ كذلك، أي اللجوء إلى كافة الوسائل التي تراها ضروريةً، من أجل حماية نفسها من المسمى (الإرهاب الدولي) في العالم ككل.

لكن ما الذي وقع، أو بالضبط، ما الذي أشارت إليه وشرحته وأكدته 11 سبتمبر؟، وراء كل ما قيل، ما الذي أصبح واضحاً وجلياً في هذا اليوم، اليوم الذي لم يكن بعيداً عن التوقع والحسبان كما يدّعون؟ هو هذا الفعل الهائل والجلي: بعد الحرب الباردة لم يعد التهديد المطلق يأخذ شكلاً دولاتياً etatique، فإذا كانت القوة النووية مراقبةً من طرف الدول العظمى، في ظل توازن الرعب خلال الحرب الباردة، فإن العدّة النووية خارج الولايات المتحدة وحلفائها، لم تعد مراقبةً من طرف أية دولة، رغم محاولات الحد من الآثار. العديد من المؤشرات تدل أنه إذا كانت هناك صدمةٌ في الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة والعالم، فهي ليست كما نظن غالباً بالمعنى العام للصدمة، أيُّ حدثٍ صادمٍ وجارحٍ تولَّد؟ لأنه حدث من قبل في الماضي، فعاد من جديد، يوشك أن يقع مرة أخرى مع خشيةٍ لا تقبل الشك، من تهديدٍ أسوأَ في المستقبل.

الصدمة تظل صادمةً وغير قابلةٍ للشفاء، لأنها تأتي من المستقبل المفترض فيه أن يكون صادماً، أيضاً تكون الصدمة عندما نعاني من جرحٍ لم يحدث بعد بصيغةٍ فعلية، وإنما فقط بعلاماتٍ تؤشر لحدوثه، وتنبثق زمنيته من الآتي (-veni )، والآتي/ المستقبل هنا ليس فقط انهيارٌ افتراضيٌّ لأبراجٍ أخرى وبنياتٍ مشابهة، أو إمكانية هجومٍ جرثومي، كيماوي أو (معلوماتي) إلخ. رغم أن هذا غير مستبعد فإن الأسوأ الآتي à-venir هو هجومٌ نوويٌّ يهدد بتدمير جهاز الدولة بالولايات المتحدة، أي لدولةٍ تتمتع بزعامةٍ بقدر ما هي واضحةٌ، عرضيةٌ، ولدولةٍ يفترض فيها أن تكون الضامن الوحيد للنظام العالمي للدول السيادية. إن هذه الهجمة النووية المفترضة لا تلغي الاحتمالات الأخرى، وقد تكون مصحوبةً بهجومٍ كيميائيٍّ جرثوميٍّ معلوماتي.

منذ ظهور مصطلح الدولة المارقة Rogue State كانت مثل هذه الاعتداءات تدور في الأذهان، وقد حُدِّدت مصادرها في دولٍ معينة، أي سلطة منظمة، مستقرة، محددة، مموضعة، وذات مجالٍ معيّنٍ، وغير منتحرة -متهورة- أي متجاوبة مع أسلحة الردع. في سنة 1998م قال الناطق باسم مجلس النواب الأمريكي نويت غينغريتش: (كان الاتحاد السوفياتي مصدر أمانٍ منذ أن كانت سلطته قائمةً على نظام البيروقراطية، بطريقةٍ جماعيةٍ أي غير انتحارية)، ويضيف: (أنه من المؤسف اليوم ألَّا يوجد إلا ثلاثة أنظمةٍ أو اثنان من هذا النوع)، وكان عليه القول بأنه لم يعد هناك دولٌ أو أنظمةٌ أو منظماتٌ سكونيةٌ Statique مرتبطةٌ بأرضٍ وأمّةٍ ما.

ولقد رأيت ذلك بنفسي في نيويورك قبل أقل من شهر، أكد أعضاءٌ من الكونغرس في التلفزيون، أنه قد تم اتخاذ إجراءاتٍ تقنيةٍ خاصةٍ ضد أية هجمةٍ على البيت الأبيض، من شأنها أن تدمر في ثوانٍ جهاز الدولة، وكل ما يمثل دولة القانون. لا يمكن أن يتواجد الرئيس ونائبه وغالبية أعضاء الكونغرس، في المكان نفسه وفي الوقت نفسه كما كان في السابق، مثلا أثناء الإعلان الرئاسي حول وضعية الاتحاد، هذا التهديد المطلق كان محصوراً زمن الحرب الباردة في نظرية الألعاب الاستراتيجية، ولا يمكن احتواؤها حيث لا وجود لتهديدٍ من دولةٍ يمكن حتى معاملتها كدولةٍ مارقة. وهذا يجعل جهود الإنفاق اللغوي (دون الحديث عن الإنفاق العسكري) دون جدوى، ولتبرير كلمة الحرب والأطروحة القائلة (الحرب على الإرهاب الدولي)، يجب استهداف الدول التي تعطي الدعم المالي، أو تُستعمل كقاعدةٍ لوجيستيكية للإرهاب، أو التي من الممكن أن تكون -كما يقولون هناك- مموِّلةً أو محتضنة Sponsor or harbour للإرهابيين.

الحرب على الإرهاب

إن كل هذه الجهود من أجل تحديد وتعريف (الإرهابيين) أو الدول المارقة، هي (عقلنةٌ) موجهةٌ لإنكار الأزمة، والخوف المطلق والرعب أمام هذا التهديد الذي لا يمكن لدولةٍ ما التحكم فيه أو مراقبته، يجب إزاحة هذا الإسقاط التعريفي، يتوجب كذلك وقبل كل شيءٍ، أن نزيح عن وعينا أن القوى النووية أو أسلحة الدمار الشامل، يتم إنتاجها والحصول عليها افتراضياً في أماكن لا وجود للدول بها، ولا حتى دولةٍ مارقة، الجهود نفسها، والحركات ذاتها و(العقلنة) نفسها والإنكارات تذهب هدراً عندما نُصِرّ بيأسٍ على تعريف الدول المارقة، ومحاولة الحفاظ على مفاهيم مثل الحرب (حسب القانون الأوربي القديم) والإرهاب. لم نعد في حاجةٍ من الآن فصاعداً لحربٍ عالميةٍ كلاسيكية، لأنه لا وجود لدولةٍ أعلنتها، أو أعلنت الدخول فيها ضد الولايات المتحدة، حيث لا وجود كذلك للدولة - الأمة في حربٍ أهليةٍ، أو حتى (حرب الأنصار) (حسب المفهوم البالغ الأهمية لشميث)، بما أن الأمر لا يتعلق بمقاومةٍ ضد استعمارٍ إقليميٍّ، أو حربٍ ثوريةٍ أو حرب استقلال، من أجل مقاومة دولةٍ مستعمِرةٍ وتأسيس أخرى. وللأسباب نفسها فإن محاكمة مفهوم الإرهاب في هذا السياق أمرٌ غير وارد، لارتباطه دائماً (بالحروب الثورية)، (الحروب التحريرية) أو (حروب الأنصار)، والتي كانت الدولة دائماً هي الرهان، الأفق والساحة.

إذن لا وجود إلا لدولٍ مارقةٍ لا لدولةٍ مارقة. إن المفهوم يقترب من النهاية المحتومة ومن حدوده، وهذه النهاية كانت دائماً قريبةً من البداية. وبالإضافة إلى كل الإشارات والعلامات المفهومية نوعاً ما، يجب إضافة هذه والتي تمثل عرضاً لنظامٍ آخر. إن هؤلاء الذين كانوا مع كلينتون وسرّعوا كما كثّفوا من هذه الاستراتيجية اللغوية، وتعسّفوا في استعمال المصطلح الشيطاني لـ Rogue State، هم نفس الأشخاص الذين أعلنوا في النهاية 19 يونيو 2000م، عن قرارهم بالتخلي على الأقل عن المصطلح. مادلين أولبرايت قالت بأن كتابة الدولة المارقة ليست -كما ترى- تسمية مناسبة، وأنها اختارت تسمية محايدة ومعتدلة States of Concern، كيف يمكن ترجمتها؟ مع الحفاظ فى الوقت نفسه على جديتها؟ نقول (الدول المثيرة للقلق)، دولٌ تثير قلقنا، ولكنها أيضاً دولٌ يجب علينا الاهتمام بها، وتشغلنا من أجل معالجة حالتها، حالتها من الناحية الطبية والقانونية. إن التخليَ عن هذا المصطلح يعني أزمةً حقيقيةً، في منظومة وميزانية الدفاع للصواريخ ومضادة الصواريخ، ماذا لو أعاد بوش استعمال نفس المصطلح؟.

* النص الثالث

قامت أستاذة الفلسفة بمدرسة نيويورك جوفانا بورادوري، بإجراء حوارٍ مع دريدا حول مفهوم الإرهاب؟ نشر فى جريدة le monde diplomatique عدد فبراير 4 200م.

ما معنى الإرهاب؟

- جوفانا بورادوري: أن يكون الحادي عشر من سبتمبر حدثاً هاماً وأساسياً أم لا، ما الدور الذي تولونه للفلسفة؟ وهل تستطيع الفلسفة مساعدتنا على فهم ما حصل؟.

- جاك دريدا:

ما من شك في أن (حدثاً) مثل هذا يتطلب إجابةً فلسفية، بل إجابةً تعيد طرح المسلّمات المفاهيمية في الخطاب الفلسفي للبحث من جديد. إن المفاهيم التي وصفناها وسمّينا بها هذا (الحدث) وصنّفناه بها، تشبه إلى حدٍّ كبيرٍ (نوماً دوغمائياً)، لا يمكن الاستيقاظ منه إلا بفضل تفكيرٍ فلسفيٍّ جديد، تفكيرٍ في الفلسفة نفسها، وخاصةً الفلسفة السياسية وتراثها، فالخطاب السائد في وسائل الإعلام واللغة الرسمية، تلجأ غالباً وبسهولةٍ إلى مفاهيمَ مثل (الحرب) أو (الإرهاب) (المحلي أو الدولي).

قد تكون القراءة النقدية لكارل شميت مفيدةً في هذا الباب، من جهة إدراك الفرق بين الحرب التقليدية (المواجهة المباشرة والمعلنة بين دولتين عدوتين كما هي في عرف القانون الأوروبي التقليدي)، و(الحرب الأهلية) ثم (حرب الأنصار) (في جل أشكالها والتي أقرها شميت نفسه في بداية القرن التاسع عشر)، لكن ومن جهةٍ أخرى علينا الإقرار وعلى عكس شميت، أن العنف المندفع الآن لا يمت للحرب بصلة، (إن عبارة (الحرب على الإرهاب) هي من أكثر العبارات خلطاً، ويجب تحليل هذا الخلط والمصالح التي يخدمها هذا التعسف اللغوي). إن بوش يتحدث عن (حرب)، لكنه غير قادرٍ على تحديد العدو الذي أعلن بأنه أعلن الحرب auquel il déclare qu il a déclare la guerre.، أفغانستان وساكنتها المدنية وأسلحتها ليسوا أعداءً للأمريكيين، ولم يتوقفوا يوماً عن قول ذلك.

ولنفرض أن ابن لادن كان هو المخطط والمقرر الوحيد، الجميع يعلم أن هذا الرجل ليس أفغانياً، وأنه طرد من بلده (ومن كل (البلدان) ومن طرف كل الدول بدون استثناء تقريباً)، وأن نشأته كانت بفضل الأمريكيين، خاصة وأنه ليس الوحيد، الدول التي تساعده بطريقةٍ غير مباشرةٍ، لا تقوم بذلك بصفتها دولاً، فلا يمكن لدولةٍ دعمه جهاراً. أما بالنسبة للدول التي تؤوي/تحتضن (harbour) شبكات (الإرهابيين)، فمن الصعب تعريفها كذلك.

الولايات المتحدة كما أوروبا، لندن وبرلين هي أيضاً ملاذ، أماكن للتكوين والاستعلام لكل (الإرهابيين) في العالم. إذن ليس هناك جغرافيا أو تخصيصٌ ترابيٌّ واردٌ من أجل تحديد أساس التقنيات الجديدة للتواصل أو الاعتداء. (لنقل بسرعةٍ وبدقةٍ ثم نمرّ، من أجل شرح ما قلته أعلاه عن التهديد المطلق والمجهول المصدر والغير دولاتي non étatique: إن الاعتداءات ذات النوع (الإرهابي)، لن تكون في حاجةٍ إلى طائراتٍ وقنابل أو انتحاريين، يكفي فقط اختراق منظومةٍ معلوماتيةٍ ذات قيمةٍ استراتيجية، ووضع فيروسٍ أو عناصرَ مشوشةً لشل الموارد الاقتصادية، العسكرية والسياسية لبلدٍ أو لقارة، وهذا متاحٌ فعلُه من أي مكانٍ فوق الأرض، وبتكلفةٍ منخفضة).

إن النسبة/العلاقة بين الأرض، التراب الوطني، الرعب Terre, Territoire, terreur قد تغيرت، ويجب معرفة أن هذا الأمر مردُّه إلى المعرفة il faut savoir que cela tient au savoir، أي إلى التقنية العلمية. إن هذه التقنية العلمية هي التي تشوش على الفرق بين الحرب والإرهاب، وفي هذا الصدد، فإن مقارنة الإمكانيات الهائلة للتدمير ونشر الفوضى في المستقبل داخل شبكات المعلومات، والتي لا زالت في الاحتياط، ستجعل من 11 سبتمبر مسرحاً عنيفاً لمشاهد العنف التي تداعب الخيال، وبمهاجمة شبكات المعلومات networks التي تعتمد عليها الحياة (الاجتماعية، الاقتصادية، العسكرية...) لبلدٍ كبير)، للأعظم قوةً في العالم، سيكون في الإمكان غداً أسوأ مما كان، غيرَ مرئيٍّ، صامتاً، أسرعَ بكثيرٍ، وبطريقةٍ غير دموية.

سيأتي يومٌ نقول فيه: إن (11 سبتمبر) كان يمثل أزمنة الحروب الأخيرة، حيث كان نظام الحجم الكبير لازال سائداً: المرئي والضخم، يا له من حجمٍ ويا له من ارتفاع! ومنذ ذلك اليوم حصل الأسوأ، كل أنواع تكنولوجيا النانو الأكثر قوةً وغير المرئية، المنيعة، تسلسلٌ في كل مكان، تنافس الميكرولوجيا والميكروبات والبكتيريا، لكن لا وعينا يشعر بها ويعرفها، وهذا هو الذي يخيف.

إذا كان هذا العنف ليس (حرباً) بين دول، ولا علاقة له (بالحرب الأهلية) أو (بحرب الأنصار) بالمعنى الذي حدده شميت، باعتبار أنه لا يتطلب كما هو شأن (حروب الأنصار) انتفاضةً وطنيةً، أو حتى حركة تحررٍ تسعى نحو الحكم في إطار الدولة الأمّة. (رغم أنه من بين أهداف بن لادن الجانبية أو المركزية، زعزعة استقرار المملكة العربية السعودية، الحليف الغامض للولايات المتحدة، وتأسيس سلطةٍ جديدةٍ بها). وحتى لو أصروا على الحديث عن الإرهاب، فإن هذه التسمية تعطي مفهوماً جديداً وتمييزاتٍ جديدة.

س : هل تعتقدون أن بإمكاننا تحديد هذه التمييزات؟.

ج: إنه أصبح أكثر صعوبةً مما كان، إذا أردنا عدم الاتكال الأعمى على الخطاب واللغة السائدة، والتي غالباً ما تتأثر -وذلك لمرونتها- بلغة الإعلام، وبالإيماءات والإيحاءات الشفوية للسلطة المهيمنة، يجب علينا أن نكون حذرين عندما نستعمل كلمة (إرهاب)، وخاصة (الإرهاب الدولي)، ما معنى الرعب في المقام الأول؟ ما الذي يميزه عن الخوف، عن القلق، عن الرهبة؟ وفوراً أقول بأن حدث 11 سبتمبر لم يكن كبيراً، إلا باعتبار أن الصدمة التي خلّفها في الوعي واللاوعي، لم تكن بسبب ما قد حصل، وإنما بسبب تهديدٍ غير محدَّدٍ ولا معرَّفٍ، من مستقبلٍ أكثر خطورةً من الحرب الباردة. هل أتكلم عن الرعب، الخوف، الفزع، أم القلق؟.

بماذا يختلف الرعب المنظّم، المولّد، المستخدَم كأداةٍ، عن هذا الخوف الذي يمثل تاريخاً من التقليد، منذ هوبز إلى شميت وحتى بنيامن؟ فقد كان مرتبطاً بشرط السلطة والقانون، والممارسة الكاملة للحكم، مرتبطاً بشرط السياسة نفسها التي تتبعها الدولة؟.

في اللييفياتن Léviathon لا يتحدث هوبز عن الخوف وحده (fear) وإنما عن الرعب Terrour. بنيامن يقول بأن الدولة تستأثر بالتهديد، وبتعبيرٍ أدقَّ باحتكار العنف، سنقول: حتماً أن كل تجربةٍ للرعب رغم خصوصيتها، ليست بالضرورة وليدة الإرهاب، بلا شك، لكن التاريخ السياسي لكلمة (إرهاب)، مشتقٌّ من مرجعية الرعب الثوري الفرنسي، والذي مورس باسم الدولة، والذي يفترض في الآن نفسه الاحتكار الشرعي للعنف.

ماذا سنجد لو رجعنا إلى التعريفات السائدة أو الشرعية والصريحة للإرهاب؟ نعني بذلك جريمةً في حق الحياة الإنسانية عن طريق خرق القوانين (الوطنية والدولية)، مع التفريق بين المدني والعسكري؟ (من المفترض أن يكون ضحايا الإرهاب من المدنيين)، وهدف مقصد سياسي (التأثير أو تغيير مسار سياسة بلدٍ ما بإرهاب ساكنته المدنية). إذن هذه التعريفات لا تستثني إرهاب الدولة، كل الإرهابيين في العالم يزعمون أنهم يدافعون عن أنفسهم ضد إرهاب دولة، لا يفصح عن اسمه ويحتمي بكل أشكال التبريرات.

تعلمون عن الاتهامات التي وجهت للولايات المتحدة عن ممارستها ودعمها لإرهاب الدولة، من جهةٍ أخرى، فإن الاندفاع الإرهابيَّ كان دائماً -حتى في زمن حروب الدول- حسب القانون الأوروبي القديم. إن إخافة السكان المدنيين كانت عملةً سائدةً مند قرون.

يجب علينا إضافة كلمةٍ عن مصطلح (الإرهاب الدولي)، الذي يغذّي الخطاب السياسي الرسمي في العالم كله، ويستعمل كذلك في العديد من الإدانات الرسمية من طرف الأمم المتحدة. بعد الحادي عشر من سبتمبر، أدانت الأغلبية الساحقة الممثَّلَة في الأمم المتحدة (ربما بالإجماع أيضاً وإن كنت لا أذكر الأمر جيداً، لكن يمكن التحقق منه) (الإرهابَ الدولي)، كما كان شأنها خلال العشرية الأخيرة. وخلال لقاءٍ تلفزيٍّ كان على كوفي عنان التذكير بمناقشاتٍ سابقة، أنه في الوقت الذي كانوا يستعدون فيه للإدانة، أعربت بعض الدول عن تحفظاتها حول وضوح مفهوم الإرهاب الدولي، والمعايير التي تساعد في تعريفه، وكما هو شأن العديد من المفاهيم القانونية ذات الرهانات الخطيرة، فإن ما يظل غامضاً دوغمائياً أو ما قبل نقديٍّ (لم يخضع للنقد القَبْلي) pré-critique، لا يمنع السلطة المسماة بالشرعية من استعماله عندما ترى ذلك مناسباً.

بالعكس، كلما كان المفهوم غامضاً وملتبساً كان طَيِّعاً أمام الاستعمالات الانتهازية، بل إن هذه القرارات المتتالية دون نقاشٍ فلسفيٍّ حول موضوع (الإرهاب الدولي) وإدانته، دفعت الأمم المتحدة إلى السماح للولايات المتحدة، باستعمال كل الوسائل التي تراها الإدارة الأمريكية مناسبةً، من أجل حمايتها ضد ما يسمى (الإرهاب الدولي)، دون الحاجة للرجوع إلى الوراء، والتذكير كما يحدث دائماً بأن الإرهابيين في سياقٍ معيّنٍ يسمَّون بمحاربي الحرية، (مثلاً أثناء الصراع ضد المحتل السوفياتي في أفغانستان)، ويتم التنديد بهم كإرهابيين في سياقٍ آخر، (غالبا نفس المحاربين، بنفس الأسلحة)، علينا ألَّا ننسى الصعوبة في التفريق بين ما هو دوليٌّ ووطنيٌّ، في حالات الإرهاب التي طبعت تاريخ الجزائر، إيرلاندا الشمالية، كورسيكا، إسرائيل أو فلسطين. لا أحد باستطاعته أن ينكر وجود إرهاب دولةٍ، أثناء القمع الفرنسي في الجزائر ما بين 1954 و 1962م، ثم إن الإرهاب الذي مورس من طرف الثوار الجزائريين اعتُبِر ظاهرةً غير مألوفة، طالما أن الجزائر اعتُبرت جزءاً لا يتجزأ من التراب الوطني لفرنسا، كما هو شأن الإرهابي الفرنسي (الممارس من قبل الدولة)، الذي قُدِّم على أنه عملياتٌ للشرطة وحفظ الأمن الداخلي. فقط خلال العشريات الأخيرة وفي سنوات 1990م، أقرّ البرلمان الفرنسي صيغة (الحرب) (إذن مواجهة دولية) لهذا الصراع، من أجل ضمان معاشات (منح المحاربين القدامى) التي طالبوا بها.

ما الذي أفصح عنه هذا القانون؟ إنه يجب أو باستطاعتنا تغيير كل الأسماء المستخدمة إلى الآن، من إعادة تسمية ما قد سميناه باستحياءٍ من قبل. في الجزائر نفسها تحولت (الأحداث) -القمع العسكري، كما العمليات البوليسية وإرهاب الدولة- فجأةً إلى (حرب) (عدم قدرة الرأي العام الشعبي على إيجاد الاسم المناسب (للشيء)).

من جهةٍ أخرى، يعتبر الإرهابيون في الجزء الأكبر من العالم محاربين من أجل الحرية، وأبطالاً للاستقلال الوطني. ماذا عن إرهاب المجموعات العسكرية التي فرضت تأسيس إسرائيل والاعتراف بها، هل كانت محليةً أو دولية؟ والإيرلانديين؟ والأفغان الذين حاربوا الاتحاد السوفياتي؟ والشيشان؟ ما هي اللحظة التي يجب اعتبار الإرهاب فيها المصدر الوحيد للصراع الشرعي؟ أو بالعكس؟ ما هي الحدود بين المحليِّ والدولي، الشرطة والجيش، التدخل من (أجل الحفاظ على الأمن) والحرب، الإرهاب والحرب، بين المدني والعسكري فوق أرضٍ ما، وفي البنيات التي تضمن القدرات الدفاعية أو الهجومية (لمجتمعٍ) ما؟ أقول وبغموضٍ ولبسٍ كلمة (مجتمع)، لأن هناك حالاتٍ يوجد فيها كيانٌ سياسيٌّ عضويٌّ ومنظّم، إنه ليس بدولةٍ، لكن افتراضياً هو كذلك: انظروا إلى ما يسمى اليوم بفلسطين أو السلطة الفلسطينية.

 

الهوامش:

* باحث من المغرب.