شعار الموقع

المعرفة والإصلاح

ذاكر آل حبيل 2005-07-02
عدد القراءات « 752 »

المعرفة والإصلاح

الدال الثقافي الجديد في عملية الإصلاح

* بمثابة مقدمة

التحولات الجارية في عالمنا اليوم، تكاد تسبق كل التوقعات في القراءة الاستراتيجية، لطبيعة جريان الحدث ومتوالياته الافتراضية، والتي صارت تنقلنا إحداثاته إلى مزيد من التعقد والتشابك، في فهم طبيعة تكوينات المتغيرات الجارية، ودافعياتها الظاهرة والمستترة، فالتحولات التي تتتالى أمام أنظارنا وأنظار العالم، تمر بمرحلة عاصفة من المتغيرات، التي يصعب التحكم في طبيعة تحولاتها المطَّردة والسيطرة عليها، إذ بلغت حداً يدفعنا إلى القول - في الشكل الأولي للحكم التوصيفي للحدث- بأن ما يجري إن هو إلا فوضى عارمة تجتاح العالم في زمن العولمة، وإفراطها المخل في تخيل انتظامات تبدل النظم المجتمعية، وطبيعة مكونات مفهوم سلطة الدولة وسيادتها، وكذلك طبيعة البيئة الدولية في مرتكز علاقاتها وتحالفاتها وهيمنة القوى فيها.

إن ما يجري تباعاً في العالم من تغيرات، يستهدف إعادة بناء المجتمعات على أسس من الهيمنة الشاملة للقوى العالمية النافذة، والتي تُدعى تلطفاً في الأدبيات العالمية "الشراكة الاقتصادية والاستراتيجية"، والتي تريد تلك القوى من خلالها تفعيل تصوراتها على خلفية الهيمنة تلك، بالسيطرة الضمنية على حركة انتظام مفهوم الدولة وسلطتها الداخلية، والتي كانت فيما مضى مشبعة بالنفوذ والتحكم والسيطرة، وكذلك الاستبداد ولربما السيادة، إلى مرتكز الهيمنة العالمية ونفوذها الاقتصادي الشامل، القائم على التحكم في مسارات حراك المجتمعات النامية، والتي لا زالت تعاني من مساوئ النظم السياسية وسلطتها الاستبدادية وفسادها، والتي أفقدت مجتمعاتها نمواً مطرداً ضمن بنائية التنمية الاقتصادية والاجتماعية المطلوبة للتقدم، وساهمت بشكل دائم في تعويق مهام التطور الحقيقي لبنائية تكوين الدولة، وكذلك حركة مجتمعاتها التي مارست ضدها أقصى أنواع التهميش وتهوين الإرادة، من خلال تضخم مفهوم هيبة السلطة ونظامها، والحفاظ على الأمن العام، ومستدركات مفاهيم ومصطلحات القاموس السياسي الخاص لحكوماتنا، كالحفاظ على "الجبهة الداخلية"، "ومقاومة العدوان"، "ولا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، "والتصدي للطابور الخامس"، والذي يُعنى به كل صاحب فكر، لا يتساوق وطبيعة تفكير النظام ومن هم في سلطته، وغيرها من المفاهيم، التي بررت بشكل دائم خنق الحريات العامة، بسيادة الاستبداد بجميع مستوياته، وتقليص فرص المشاركة الشعبية في مهام التنمية، وانعدام التكوين الطبيعي لمؤسسات المجتمع المدني المشارك في صنع القرار، وتضاؤل الفرص الكافية لردم الهوة مع العالم الخارجي الأكثر نمواً وتطوراً.

فراوحت نظمنا الاجتماعية في مكانها الملازم للتخلف، وبمزيد من الإحباط المتنامي، الذي يتأكد كلما أدركت مجتمعاتنا بوعي متزايد، طبيعة ما يجري حولها من حركة تغيير سريعة على جميع المستويات والأصعدة، العلمية والتقنية والإدارية والسياسية والاقتصادية والثقافية، المعرفية والاجتماعية، ورأت نفسها بمنأى عن المشاركة الفعلية في صنع هذا العالم الذي نعيش فيه، ورصيدها فقط وفقط الاستهلاك أو الاستخدام من قبل القوة المتنفذة، بعد أن تركزت خبرتنا في جوانب الشقاق والفتن الداخلية، ومواجهة الأعداء الداخليين والخارجيين، ثقافياً وسياسياً وعسكرياً، ووصلنا إلى ما وصلنا إليه من عدم القدرة على مواجهة متطلبات الواقع العالمي ومجرياته المختلفة تماماً عن اهتماماتنا حكوماتٍ ومجتمعاتٍ ودولاً، وفقدنا بذلك الشروع في مهام استحقاق عالمي، يجري تنفيذه بشكل متعاظم عولمياً، تقوم مفاصله على القدرة العلمية والمعرفية في عمليات الإنتاج المختلفة، وإعادة هيكلة الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية للإنسان المعاصر، على ضوء مرتكز الدور الحاسم للعلم والخبرة المعرفية المتمرسة في مجالاتها العديدة، وأصبح ما يطلق عليه "اقتصاد المعرفة" هو رأس مال الشعوب ودولها، لتحقيق فائض اقتصادي يساهم في شراكة اجتماعية اقتصادية، لتثمير تعاونها وتبادلها الدوليين، ضمن تفاهمات مع الآخر لبناء شراكات متعددة ومديدة وفاعلة اقتصادياً، هي الشرط الوافي للقبول في الاندراج الضمني، في عالم أصبح كل ما فيه مشتركاً دون مواربة أو مكابرة، حتى ما يسمى "الأمن القومي" لم يعد مقروناً بقدرة الدولة وسلطتها، ضمن القطر التي تحكمه، بقدر ما تكون عليه طبيعة التحالفات القائمة، وشبكات تقاطع المصالح المتبادلة، هي الضامن الفعلي لأي نزاع أو تهديد داخلي أو خارجي، تتعرض إليه الجماعات الإنسانية ودولها.

إن بوناً شاسعاً يفصل بيننا كشعوب ودول، وبين مدركات الوعي الجديد بمحصلات ما يجري في العالم، خصوصاً إذا ما أدركنا أن هذا التطور الذي حصل في منظومات المفاهيم الحاكمة على العلاقات الإنسانية، مهما كان حكمنا الأخلاقي على بنية تطورها، إن هو إلا نتيجة طبيعية لتراكم الخبرة الإنسانية المتسارعة والمجتهدة، لبناء عالم إنساني أكثر اتصالاً وتنظيماً ورُقيًّا، الأمر الذي يحتم علينا استدراك هذا المعنى المتصاعد في وعي الأمم والشعوب، بضرورة تحفيز قرارنا نحو الإصلاح والتجديد، الذي لم يعد يحتمل التأجيل أو التبرير أو المراوغة، أو الهروب من استحقاق المرحلة الإنسانية الماثلة، والتي لن تنتظرنا كثيراً، إنما تقتضي منا مسارعة في الانخراط الجاد والممنهج، في تحولات بنيوية عميقة تستهدف جميع الأطر والمفاصل، التي تقوم عليها طبيعة (نظامنا المعرفي)، والثقافة التي تشكل أنساقها، والتي لا شك في أنها تحتاج منا إلى إعادة النظر والاجتهاد في غربلة مفاهيمها الرئيسة، والتي تشكل في مجموعها (المسألة الثقافية) المتحكمة في حركة الواقع.

من هنا يأتي الاهتمام المتزايد والمطلوب على وجه السرعة من شعوبنا ومجتمعاتها ودولها، في الإسراع لاقتحام الدور نحو مسيرة التحول والإصلاح والتجديد، وإدراك ما هو مطلوب من جهد مضاعف ومكثف، وبالشكل التعويضي عما فات من سنوات عجاف لم نثمر فيها الكثير، وتخاذلنا مجتمعات ودولاً بضعف وبجهل وباستبداد، عن ركوب موجات التقدم والتطور والرقي التي لم نتمثلها فضلاً عن إنتاجها.

ومن هنا تأتي دواعي الكتابة المكثفة في دوائرنا المعرفية، في شتى مجالاتها، عن الإصلاح وضرورات التجديد في مسألتنا الثقافية، الحاضنة لحركتنا الوجودية، والمشكِّلة لرؤيتنا تجاه الذات والغير والآخر والكون. إن هذا اللهج بضرورة (الإصلاح)، المقرون بدواعي ما يجري في عالمنا اليوم من مجريات الأمور، والذي لم تعد صيغ كثير من تصوراتنا الخاملة مقبولة فيه، والتي لا زلنا نرابط في الكثير من تخومها بمراوحة في المكان والزمان، دون اجتهاد كافٍ وضافٍ، يسبغ التجدد برؤى واقعية، تنتمي لعالم الإنسان، ونكون قادرين من خلالها على الدفع العملي والتحرك، باتجاه مشاركة الأمم والشعوب بشكل فعّال ومتواصل، مع ما تنشده الإنسانية لنيل سبل تقدمها وسعادتها.

* المسألة الثقافية والإصلاح، إشكالية عرضية، أم مهام مستجدة؟

الثقافة بما أنها تلك المعرفة الشاملة، الحاوية في طياتها كل إنتاجية الإنسان، في المجالات النظرية والعملية والوجدانية وغيرها، مما يحقق مستوى القدرة الإنسانية على التكيف والتعايش مع بيئته الإنسانية في طبيعة علاقاته الإنسانية، وكذلك تكييف طبيعة علاقاته المتعددة بالطبيعة واستثمارها بشكل أفضل، ضمن مسوغات بيئة أفضل لرقيه الإنساني الواعي لذلك الاستثمار، والذي لا يتحقق إلا ضمن مستويات إبداعه العارف بسنن الطبيعة، ومقومات الوجود الأمثل، في حياة كريمة يستهدفها الإنسان، بإنتاج المزيد من المعارف المقوّمة والمطوّرة لكيانه الإنساني، ولحياته العامة في هذا الوجود، ضمن متطلبات مراحل الوجود الإنساني على هذا الكوكب، وما مر به من حقب زمنية سُمِّيت في التاريخ البشري على نحو متتالٍ، كما هو معروف، إلا أننا نريد أن نمرر توكيداً معرفياً، صار دارجاً في دوائرنا الثقافية العالمة على نحو مطّرد وموضوعي بعض الشيء، خصوصاً عندما خرج علينا مجموعة من المتخصصين والمفكرين في مجالنا العربي، بـ"تقرير التنمية الإنسانية العربية"، الذي لهج بشكل بيِّن، وضمن منهجية توخت الموضوعية قدر ما توفر لها من نظر ومعاينة مدعمة بإحصاءات، ما هو عليه حال الأمة ومجتمعاتها، من تأخر معرفي طال جميع مستويات حياة الإنسان حد الفقر والعوز وإدمان التخلف، الأمر الذي صار فيه حتى ما يسمى "ثقافة" و "معرفة"، ما هو إلا تكريس وتسويغ للواقع السيئ الذي تعيش ضمنه مجتمعاتنا، حيث تميل غالبية الناس المقهورة بالاستبداد وبرمجته، إلى حماية الوضع الراهن، وعدم إعطاء الفرصة لأعداء الأمة المفترضين، أي مسوغ للتدخل في شؤوننا الداخلية، فالمحافظة هي ديدننا كلما علت الأصوات منادية بالإصلاح من قبلُ ومن بعدُ، وصار هامشنا في الإصلاح دائماً، هو في موضع المساءلة، إما ضمن مساومة سياسية بائسة، أو ضمن مجالات الاتهامات المفتوحة بكل قادح وطارد.

فالمسألة الثقافية باتت على المحك، ومعايير "مجتمع المعرفة" حسب الدلالات والمقاييس المعتبرة في عالمنا المعاصر، صارت ديدن الشعوب المتحضرة، أو تلك التي تسير بشكل حثيث ومتسارع في ركب الشراكة الفعلية، على نحو استراتيجي لا رجعة عنه، ولا مساومات، لقد أصبحت المعارف اليوم هي العنصر الفعّال والذي تسلط عليه الأضواء، وتقوم من أجله جميع فعاليات المجتمعات المعاصرة، ضمن قالبها المعولم اتصالياً، بشبكة معلوماتية تلازم ذلك المنتج من المعارف، والذي يتسابق الجميع في تسويقه، ضمن ما يسمى "باقتصاد المعرفة"، والذي أصبح هو رأس مال المجتمعات البشرية ودولها، لتحقيق فائض اقتصادي معتمد وموثوق في ميزانها التجاري العام.

إن التنافس على إنتاجية أقوى "لاقتصاد المعرفة"، هي المعركة الزمانية التي نعيشها اليوم، كما عبّر المفكر الراحل إدوارد سعيد، والذي حدد فيها السلاح "بالمعرفة"، وهي ما يميز الإنسان بشكل ابتدائي موغل في فطرته، فالرغبة في المعرفة واكتشاف المجهول، وجبلة القدرة على التعلم والمعرفة، هو المعرِّف الحقيقي لإنسانيته العاقلة والمنتظمة، بفعل التراكم وتوارث العلوم والمعارف والثقافة السابقة، بل هو ما يخلِّد إنسانيته المهمومة بشاغل المستقبل البشري، فضلاً عن حاضره؛ لقد أصبحت "المعرفة" في ذروة الاهتمام الإنساني، ورأس مالها المنبث في جميع مفاصل نشاطها الحي، والتعليم المستمر والتواصلي، هو المداد الحي لحركة أي مجتمع يريد أن يكون في المقدمة؛ وهو ما يلزم مجتمعنا الذي قامت حركته العلمية والثقافية والمعرفية على محدودية التعلم والتلقي، وسيادة العقلية التلقينية والتعليبية، القائمة على الحفظ والتكرار في كل مفاصل العلم والتثقيف، وغياب شبه تام لحركة التعلم الذاتي، وثقافة الحوار والسؤال، واحترام وتشجيع حرية البحث والتفكير والتأمل، وهو ما يجهض كل مهام التطور المعرفي الطبيعي لمجتمعاتنا، فالمعرفة المنشودة التي نريدها، كما عبّر ذات مرة إدوارد سعيد، "تقوم على الفهم بدلاً من السلطة والتكرار غير الناقد أو الإنتاج الآلي.. نريد أن نعرف كيف نبتكر".

لقد أضحت المعرفة ومتوالياتها في النظم المعلوماتية، خصوصاً التقنية الرقمية منها، هي العصب الإداري لكيان المجتمعات المتقدمة، الذي يؤدي الحثُّ على انتشارها إلى مزيد من الاتصالية الخلاقة بين شعوب المعمورة، وإلى مزيد من عوامل الترابط الإنساني والاجتماعي، والتي تكون فيه القيمة المعرفية أهم قواعد السلطة وعاملها الأبرز، لإرساء قيم الفاعلية المجتمعية وحيويتها المدنية المؤسسية، القائمة على الشفافية، ومنع الفساد والاستئثار بالثروة وبالسلطة، ولتكون المعرفة بذلك، كما يؤكد "إلفين توفلر" صاحب كتب: "صدمة المستقبل" "وتحول السلطة" "والموجة الثالثة"، على (أن السر الخطير والمثير لعصر تحول السلطة، هو في أن السلطة في مجتمع المعرفة ليس مصدرها الفرد أو الحزب أو الدولة، بل التحول الخفي في العلاقات بين العنف والسلطة والمعرفة، فيما تنطلق المجتمعات في طريق صدامها مع المستقبل)؛ وهو ما سيؤكد فاعلية المناعة المجتمعية، من خلال كنس الجهل والقهر والتسلط ومتوالياتها المقيتة، ولا يكون ذلك إلا بالعلم والوعي، بالمعرفة المستمرة، وهذا ما أكدت عليه اليونسكو في تعريفها لأهداف التربية، تحت شعار "التعليم كنز مكنون" وهي أهداف: التعلم للمعرفة، والتعلم للعمل، والتعلم للكينونة، والتعلم للمشاركة.

إن تقنية التعليم ومراداتها الأثيرة بثقافة التقنية، غدت ركيزة التعليم الفعّال، والتعليم عالي النوعية، الذي بدأ يصوغ ثقافة علمية تتسم بمهنية عالية الجودة، وصارت بذلك المورد الحيوي الناجع لمعالجة شحة المواد الخام ونقص العمالة، كما قلل العامل المعرفي الحيز والزمن ورأس المال والجهد المبذول، وبذلك تكون المعرفة أحد أهم موارد الاقتصاد المتقدم، بل فاعله الرئيس، وإن مواصلة عدم الاكتراث بمدى هذه الأهمية "للمعرفة" وحاملها السيسوثقافي، يجعلنا مهددين بقوى، باتت تستخدم قوتها المعرفية على نحو ضارب، ضد كل من لا معرفة منتجة له، ولأن مقياس القوى بات معرفياً، فإن أي مجتمع ليس له إنتاج معرفي كافٍ "لشراكته الاقتصادية والاستراتيجية" مع الآخرين، فسيكون مهدداً بالاستهداف المستمر للقوى المتنفذة معرفياً، إذ لم يعد كافياً للمجتمعات الإنسانية أن تستهلك أو تستورد أو تستخدم بشكل كافٍ، حتى تكون مقبولةً في النظام الدولي القائم، وفي مأمن من الاعتداء الاجتماعي والسياسي، وكذلك الاختراق الثقافي، بل إن ما تنتجه المجتمعات الإنسانية من فائض القيمة المعرفية، وإبداعها المبتكر لأشكال تلك القيمة في جميع مجالاتها الإنسانية، هي المحدد لمستويات إصلاحاته وتجدده وتحولاته، وبالتالي تقدمه وتطوره، ومن ثم قدرته على التنافس.

ليس هذا فحسب، بل إن ما بات يعرف بـ"التقسيم الرقمي The Divide Digital" هو الفيصل الحاكم على مؤشرات رأس المال المعرفي، المحدد لمستويات التقدم أو التخلف، فالأرقام والإحصاءات التي تمس كثيراً من النشاط الإنساني مثل: متوسط سنوات التعلم، عدد العلماء والباحثين العاملين في البحث العلمي والتطوير التقني لكل مليون من السكان، عدد المسجلين لبراءات الاختراع لكل مليون من السكان، عدد الصحف اليومية لكل ألف من السكان، عدد أجهزة التلفاز لكل ألف من السكان، عدد الكتب المنشورة لكل مليون من السكان، عدد الأطباء لكل ألف من السكان، عدد مستخدمي الحاسوب وشبكة الإنترنت والهاتف المحمول لكل ألف من السكان، وغيرها من الإحصاءات، هي المقياس العالمي لمنظور التطور الفعلي من عدمه، فالفجوة المعرفية والمعلوماتية وخط التقسيم الرقمي بات غربالاً على كل من لا يقوم بتعديل مسارات تنميته الشاملة، وفقاً لمتوسط المعدلات الرقمية العالمية المعتبرة.

* مفهوم الإصلاح، أو إصلاح المفاهيم، أولاً؟

الجدل الذي يدور اليوم في مجالنا العربي والإسلامي، حول مفهوم الإصلاح، في معناه، ومجالاته، وحدوده، ليس جديداً في التداول والاهتمام، بل ظل هذا المفهوم الجميل في تكوينه اللفظي، والجليل في تكوينه المعنوي، وليداً لكل لحظة وعي حادة على المستوى الفردي والجمعي الإنساني بالضرورة، وكذلك هي دعوة الرسل والأنبياء والفلاسفة والمفكرين وجميع المصلحين في التاريخ البشري، فالنفس الإنسانية دونما طمس لوعيها أو فطرتها المشتركة، تمقت الركود والركون إلى الدعة والكسل والتأسن، وكذلك التنميط وعدم الفاعلية، كما تكره الظلم والقهر والاستبداد ومتواليات الفساد بجميع صوره ومستوياته؛ الذات البشرية السوية تميل فطرياً ضمن مقوماتها الجسدية إرادياً إلى الحركة والنشاط والفاعلية والهدفية والتحقيق والإنجاز، وإذا ما ركنت هذه الذات الفردية والجمعية، بفعل عوامل ذاتية أو خارجية إلى عكس ذلك، فإنها مطالبة بمراجعة ذاتها، استدراكاً لتخطي أزماتها المعيقة لحركتها المنجزة، أو أن تتقبل بجدارة موضوعية صيحات الداعين لإصلاح أمرها من داخلها دون مواربة، أو لتنتظر أن يأتي من خارجها من يفرض عليها إرادة التغيير، وفقاً لمصالحه وأهدافه وأغراضه.

إننا لسنا بحاجة إلى تطويق مفهوم "الإصلاح" بتحديد مصطلحه، أو الإيغال حفرياً في تشابك تاريخ تكونه اللفظي أو الفكري أو الفلسفي ضمناً، فما هو مطروح في ذلك كثير، ولكننا سوف نمارس حقنا مساهمةً في التذكير والتنبيه، إلى أن ما يدور في مجالنا العربي والإسلامي، من دعوة إلى "الإصلاح"، بات مطلباً لجميع طبقات الناس في مجتمعاتنا، بل أصبح هماً تتطلع إليه شعوبنا العربية والإسلامية، حداً ساد فيه مفهوم "الإصلاح"، وأصبح حاضراً في حديث الناس اليومي، فما وصلنا إليه من أزمة شاملة، مست جميع مفاصل وجودنا الإنساني، باتت من الاستشراء والذيوع حداً يشي بالشلل، وبالخروج التاريخي من سلم الحضارة الإنسانية، فإن كنا قبلنا سابقاً بأننا مشمولون بمصطلح "مجتمعات ودول نامية أو عالم ثالثية"، فاليوم وحسب التقسيم الحضاري الجديد معرفياً، لم تعد مستويات النمو التي كنا عليها في السابق مقبولة، وليست ذات دلالة فاحصة لمستوى حركتنا الفاعلة والمنتجة، في هذا العالم الناهض بتقدم هائل في نظم معرفته، وتقنيته المادية المهيمنة على حركته، وبنية قواه البسيطة والمعقدة، فالأرقام الموجبة لعلامات التقدم، نحن في أغلب المجالات دون خطها الأدنى، وتفاقم معضلة تدني رأس مالنا البشري وتأهيله أصبح همًّا وطنياً، لكافة بلداننا وحكوماتنا، التي لم تجعله في سابق أيامها إلا تحت مظلة اهتمامها الأمني، المكرس للحفاظ عل سلطتها وكرسي حكمها، ووظفت في ذلك جميع موازينها وميزانياتها، مما جعل الحذر الأمني والحفاظ على الذات، سقفاً لحركة الإنسان، وهاجساً يشل كل إرادة تريد أن تساهم في بناء مجتمعها ووطنها بصدق وأمانة، ووعد الكفاءة والتميز في الإبداع، كل في مجاله المحدد، إلا أن ما جرى غير ذلك، فترى الإنسان إما مهمشاً محبطاً، أو سلبياً عديم الفعل، أو مهاجراً بقدرته يستفيد منه غيرنا.

يضاف إلى كل ذلك سلطة النسق الثقافي، الذي تهيمن عليه سلطة تقاليد وأعراف وبنية خطاب اجتماعي وديني، غير مفعلين نقدياً باتجاه الجدل في مدة صلاحية تلك التقاليد والأعراف، أو حتى سبل تطورها، وبذلك أصبح الإنسان في ديارنا غير محسوب قدره، إلا ضمن قبوله خفض الجناح لسلطة الدولة والمجتمع معاً، وصار الإنسان مبرمجاً وفق ما يراد له أن يكون دون أرادته الحرة، وأصبح منسوب حريته هو بمقدار سقف السلطتين الدولة والمجتمع، فالمحافظ على الوضع العام المقرر من لدنهما، هو المقبول والمرضي عنه، والذي سايرته الأغلبية الساحقة من الناس المغلوبة على أمرها، وصارت المحافظة سمة ذهنية مبرمجة سلوكياً، على المدى التاريخي الطويل لشعوبنا، التي كانت ولا تزال رازحة تحت حكم الغالب من السلطان، وفي شرطية قهريته المتوعدة، مسنوداً في الوقت ذاته بنسيج اجتماعي، يقر خطابه العام مبدأ المحافظة لأجل سلامة الأوطان والأبدان، ومن شذ عن الجماعة فهو..، وما شابه من قهرية اجتماعية تمارس سطوتها بالتسقيط الاجتماعي، بالاتهام والطرد والإقصاء، لكل من تسول له نفسه (حتى ولو بالنوايا والأحلام والأماني التي يعاقب عليها أيضاً)، ممارسة حقه الفطري الموهوب له من خالق الوجود، أو ذلك الذي أقرته له شرائع السماء ضمن الرسالات المعتبرة، أو حتى ضمن التطور الطبيعي لاستدراكات النظم الإنسانية، والتي أصبحت مظلة لحقوق الإنسان، ومنادية باسم حريته، وضمن شرعية دولية مُقرّة وموقع عليها، من قبل أغلبية دول العالم، وهي ملزمة التطبيق والتداول داخل مؤسساتها.

إن مشكلة عملية الإصلاح في أوطاننا، والتي لم تبدأ بعد بالشكل الذي يتناسب ومتطلبات واقعنا السيئ، أو هي تسير بشكل أبطأ من سير السلحفاة، حيث تتلكأ حكوماتنا وتماطل كثيراً في تحقيق متطلباته، وذلك لمعرفتها الضمنية بأن الواقع الفاسد الذي رعته طوال حقب حكمها القهري، عطّل نمواً إنسانياً كان ممكناً تحت مظلة "الحكم الصالح" الذي يطور من مؤسساته، ويؤكد على مشروعيته الضمنية بالقانون والدستور، وتعديلهما المستمر بالتطوير، وبالسماح لتكوين مؤسسات المجتمع الأهلي المدنية، التي تجهد في تطوير كيانها الاجتماعي بعيداً عن المحافظة والركود والتخلف؛ إلا أن الأمر لم يكن كذلك، وأصبحت مسألة الإصلاح بحد ذاتها مشكلة، خصوصاً في ظل صيحات خارجية مفروضة من لدن قوى خارجية مهيمنة، تتقاطع مصالحها ومتطلباتها مع إصلاح شكلاني، تجريه هذه الحكومة أو تلك، بمواصفات تبعات الهيمنة والمسايرة للنظام العالمي المتنفذ أمريكياً، وحتى ضمن هذا المطلب الخارجي، ليس لدولنا إلا التعطيل، بحجة الفرض الخارجي المرفوض ضمن مبدأ السيادة الصورية، التي يقوم عليها الوضع الراهن بين دولنا وذلك النظام العالمي، وإن كان ثمة تجاوب خجول لدولنا، في التعاطي مع أوامره السليطة -تحت مظلة شرعية دولية باتت شريكة فعلياً- بعقوبة كل من لا يوافق على أجندة المشروع الأمريكي الموافق عليه أوروبياً، لإصلاح "الشرق الأوسط الكبير" حسب زعمها المعروف..!!!

اللافت في معمعة نداءات الإصلاح المتباينة، تاريخياً وفي الراهن العربي والإسلامي، أنها دائماً تقف عند حدود معينة لمتطلبات إصلاح ذي طابع جزئي في مجال أو مجالات محددة، لا تمس رهانات الوجود الإنساني ضمن لحظته التاريخية، المهددة ضمناً داخلياً بضعف بنية النظم المجتمعية، وخارجياً بقوى عظمى تريد أن تسحبنا في نظام مصالحها الكبرى دون اعتبار، فيما نحن نُغفل أن حقيقة "عملية الإصلاح" المنشودة، التي لا بد وأن تأتي بحزمة من المتغيرات البنيوية المفارقة، في طبيعة هيكلة الأنساق التي نقبع في داخل علائقها بشكل جامد، ولم ترسم وجهة تاريخية لواقعنا على نحو مقنع، وإن لم يخلُ من فواصل نيرة اتَّحدت فيها مستويات الوعي على بوادر التغيير، الأمر الذي أعطى تراثاً لا بأس به للعودة المتكررة لدافعية الاهتمام بلحظة تاريخية كبرى، تنقلب فيها المعادلة القائمة على نحو فاصل، مقرون بتكوينات نابعة بجهد واجتهاد معرفي نابه، وبإرادة تتحد فيها خيارات الدولة والمجتمع، بإزاحة موجبة لخلفية الصراع والتجاذب بينهما، لأن الإصلاح بحسب المفكر اللبناني "وجيه قانصو" (هو في تجذير القيمة والحرية الإنسانيتين، مرجعاً للمشروعية السياسية، وميزاناً لكل الولاءات والتضامنات الاجتماعية. لم تعد الدولة كائناً خارج المجتمع، ولم تعد السلطة حقيقة منفصلة عن الفرد، بل زالت البينونة بين ما هو اجتماعي وما هو دولتي، وبين ما هو خاص وما هو عام. فأصبح الإصلاح بالتالي حركة في اتجاهين، إصلاح للدولة من جهة، عبر تولد تضامنات مدنية جديدة، ونوعية وعي وسلوك حديثين، وإصلاح للفرد والمجتمع من جهة، عبر دولة رعاية وكفاية. فكما السلطة تتقوم بالوضعية العلائقية التي تنسجها قوى وفعاليات المجتمع، كذلك فن المجتمع يتقوم ويتشكل بحركة السلطة، وجدل القوة في داخله، وبمؤسسات التعبير وأطر التضامن السياسي فيه)(1).

إذن الإصلاح حركة تاريخية في ماهيتها التكوينية، وبذل متقدم في خيارات الوعي الإنساني المركب، وجسارة مصاحبة لرؤية نقدية ثاقبة، تطال مكامن الخلل الحقيقية، وتعد بكشف منظومة الفساد القائمة، وتوسيع لمدارات الحوار والتفاوض الاجتماعي والوطني المجتهد، ضمن تفاهمات موثوقة وملزمة لجميع الفرقاء المعنيين بالشأن العام، رسميين كانوا، أو من هم في المعارضة، أو ناشطي المجتمع المدني، الذين يشتركون جميعاً في رسم معالم الحلول الضمنية لمشروعهم الإصلاحي، المنطلق من معاينتهم الفاحصة لما عليه سوء حالنا على مستوى المجتمع والدولة والأمة.

الهوامش:

(1) جريدة السفير البيروتية يوم 25/9/2004.