الإسلام والعلمانية
ـ في ممكنات الحوار الصعب ـ
* في البدء كان السماع
إذا أردنا، حقيقةً، توخي الحذر في تناول موضوع العلمانية في العالم العربي والإسلامي، تجنباً للوقوع في محذورات الصراع الإيديولوجي، القائم في قسمه الأكبر على المغالطة التاريخية، فما علينا إلا استكشاف -أو إعادة استكشاف- السياق التاريخي الذي انبثقت فيه العلمانية كفكر جديد وتيار كبير، مناهض لهيمنة الإكليروس على الشأن العام وعلى السياسة المدنية.
وحينما نتحدث هنا عن إعادة استكشاف السياق التاريخي لهذا الحدث بكل ملابساته وتداعياته، فإننا لا نريد الوقوع في فخ الأسطوانة المرددة من قبل الخصوم التقليديين للعلمانية، في سياق التغالب السياسي والإيديولوجي الذي أضفى بخيميائه المضلل، مناخاً فاسداً، غدت فيه المفاهيم والأفكار أدوات للصراع والغلب، لا أدوات للمعرفة والعلم. ولذا، أقول: إن كنا سنتحدث برسم هذا الغلب، ونستصحب كافة رواسبه وحمولاته، أعتقد أننا لن نصل إلى نتيجة، ولن يكون لحديثنا جدوى منذ الوهلة الأولى.
إذن، على هذا الأساس لابد أن يستمر الحوار، ولننصت إلى الآخر وما يقوله وكيف يقوله، ولو كان من أقصى المختلف ومن أغرب الخلاف. لننصت طالما الإنصات هو أبو الحكمة. لقد كانت الأساطير اليونانية تنحت جوبيتر، قاهر السنطور، في شكل إنسان مزود بأذنين كبيرتين. وكان تفسيرهم لذلك، أن كبر الأذنين دليل على الحكمة. أي بما يرمز إليه من طول الإطراق وحسن السماع. هذا ما يجب استكشافه في تعاليمنا التي تحث على السماع وعلى ثقافة السماع. ليس بالمعنى السلبي للسماع بأن نكون "أُذُناً"، أو في مستوى من قالوا: {وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ}، أو {مَاذَا قَالَ آنِفًا}.. بل في مستوى {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}. فالآية الكريمة تحث ليس على مجرد أن نسمع ما يقال، فقد يكون السمع بهذا المعنى أمراً اضطرارياً، كمن يضطر إلى سماع صوت مطرقة الحداد. بل الفضيلة هنا هي للاستماع بوصفه طلباً للسماع، وتصميماً مسبقاً واستراقاً للسمع وتصيُّداً مدبَّراً للمعرفة. الأول سماع اضطراري، فيما الثاني سماع واعٍ وإرادي.
إذا استوعبنا ذلك، عدنا إلى صلب موضوعنا، فنقول، بأننا نعني بالسياق التاريخي لانبثاق الحدث العلماني كخيار تاريخي، جملة الملابسات والشروط التاريخية، التي تحكمت ورافقت تطور النزاع بين سلطة الإكليروس الظلامية وقوى التحرر والتنوير.
سوف أتجنب الحديث عن العلمانية بوصفها المسؤول الأول والأخير عن النهضة. إن ملامح العلمانية لم تظهر بكل قسماتها الإيديولوجية حتى ذلك الحين. لقد انطلقت الإرهاصات الأولى للنهضة في فضاء الكنيسة الكاثوليكية. فكان معظم العلماء والمفكرين والفلاسفة الذين قادوا النهضة كاثوليكاً. بل لقد كان وراء الإصلاح الديني، رجال الدين أنفسهم.
أعتقد أن هناك جملة من المغالطات وقعنا فيها نتيجة غياب تاريخ موضوعي لهذه الحقبة، ولتلك المخاضات التي عاشتها أوروبا الناهضة على مستوى الإصلاح الديني وحركة التنوير. لم ندرس كيف ولماذا كان بعض التنويريين كاثوليكاً ولم يكونوا بروتستانتاً. ولماذا كان بعض هؤلاء ضد التعاليم الأرسطية التي دافع عنها بعض الكاثوليك، لصالح التعاليم الأفلاطونية.
الإصلاح الديني عنصر أساسي في صيرورة النهضة الغربية. لكن الإصلاح الديني ليس وحده المسؤول عن انبعاث الغرب. يقولون: إن التنوير هو ثمرة للرشدية اللاتينية، بوصفها شكلت الوسيط الأكثر نجاعة، والذي وصل بين الغرب القديم (اليونان) والغرب الحديث (أوروبا الغربية)، وبوصفه وسيطاً جعل أوروبا تعانق الأرسطية بامتياز. لكننا نجد مناضلاً تنويرياً إصلاحياً مثل "راموس" كان يلعن أرسطو ويستهجن فلسفته. لكننا أيضاً نجد حركة فكرية تتجاوز أرسطو لتقبض على الفلسفة اليونانية ما قبل السقراطية. ربما الفكر الوسيط كان أرسطياً أكثر مما حدث في الغرب الحديث، الذي احتفل لأول مرة بأمبدقليس وهيروقليط، وبالفكر الفلسفي اليوناني والميثولوجيا اليونانية ما قبل العصر الهلنستي. هناك تفاصيل لم تدرس بعد. وهذا أمر يتطلب نقاشاً أوسع مما يتيحه المقام، إلا أنني أقول عوداً على بدء، إلى صميم السؤال، حول ما إذا كان دخول العلمانية إلى العالم العربي الإسلامي هو المسؤول عن انبثاق تلك الثنائيات الإشكالية المعروفة، نظير التقدم والتأخر.. الأصالة والمعاصرة.. التراث والحداثة... أقول مع الأسف؛ لا. ليس الأمر بهذا الاختزال. فردّات الفعل جاءت في العالم العربي متقاربة منذ صدمة الحداثة الأولى.
إن الاحتكاك بالغرب، وبروز مظاهر التقدم المدني، كان قد أوجد إحساساً بالفجوة بيننا وبينهم. كما أوجد إحساساً بالفجوة بين هذا الآخر الذي عهدناه متخلفاً في العصر الوسيط، لكنه سرعان ما فاجأنا بتقدم مهول في العصر الحديث. حيث أصبح العصر حديثاً انطلاقاً منه، وبفعل هذه الفجوة. "به" و "بنا" أصبح هناك عصر وسيط وعصر حديث. كان هذا الإحساس مشتركاً، وإن جاءت ردّات الفعل متفاوتة في حدتها بين مختلف رواد فكر النهضة العربية في أواخر القرن التاسع عشر. إحساس مشترك لمسناه عند شبلي شميل وفرح أنطون وسلامة موسى ولطفي السيد، كما لمسناه عند رفاعة الطهطاوي وخير الدين التونسي والأفغاني ومحمد عبده...
إن الإحساس بعمق الفجوة بيننا وبينهم هو من فجّر إشكالية الأنا والآخر.. وإن عمق الفجوة بين الآخر القروسطوي والآخر في صيرورته الحديثة، هو ما أدى إلى انبثاق إشكالية التراث والحداثة..
وإن الإحساس بضرورة تبني هذا النموذج بشكل جذري وشمولي، كما كانت دعوة فرح أنطون وسلامة موسى أو لطفي السيد أو طه حسين... أو جزئياً وانتقائياً كما هي دعوة حركات الإصلاح، والقول بضرورة الاقتباس، سوف تولّد ما هو خاص مقابل ما هو كوني. هذا ما يتصل بإحساسنا كعرب صُدِمنا أكثر من مرة؛ صَدَمنا الاحتلال بوطأته الإمبريالية. وصَدَمتنا الحداثة بروائعها المدهشة. وصُدِمنا بفشل وانهيار مشاريعنا التحديثية منذ محمد علي باشا وإلى اليوم. وصدمتنا نكسة حزيران، ولا زلنا نصدم ببشاعة.
رواد الإصلاح قالوا بأن صلاح الحاضر لا يتم إلا بما صلح به القديم. علماً أن الأمر في نطاق ما هو أمر معكوس تماماً. أي أن صلاح صورة القديم قد تكون بما صلح به الحاضر. هؤلاء الإصلاحيون لم يفتحوا ورش عمل جادة، لمعرفة إن كان قديمنا صالحاً كما يتوهمون، وبالصورة الحالمة التي يحملونها في أذهانهم. إن إشكالية الأنا والآخر إذن، والقديم والحديث.. الكوني والخصوصي.. هي ثنائيات تبرز كإشكاليات بالنسبة لكل أمة ناهضة أو تسعى للنهوض. لابد أن تتساءل عن المسافة التي تفصلها عن الآخر. ولابد أن تفكر في المستقبل. وهذا يتطلب وعياً بالماضي، وبالتالي فقه العلاقة بين القديم والحديث. لابد أن تتفاعل مع الآخر ضمن قيم تراها كونية، وأن تحتفظ بخصائص تراها خصوصية. إذن لا علاقة للعلمانية بموضوع الثنائيات المذكورة. نعم، يمكننا الحديث عن ثنائية أخرى تصلح أن تكون موضوعاً للسؤال؛ أي ثنائية الديني والسياسي!
* هل العلمانية جوهرياً معادية للدين؟
إن السؤال أعلاه يختزل في طياته تسليماً بخصوصية المجال الذي تطرح فيه العلمانية اليوم بوصفها موضوعاً إشكالياً. أعني المجال العربي الإسلامي. ذلك لأن الصورة التي نحملها عن العلمانية في المجال الذي شهد أولى مظاهر تطبيقها الفعلي، أي في الغرب، كونها نقيضاً للدين. وإذن، إن كانت قد فشلت العلمانية في التعايش مع الدين في أوروبا، فهل يا ترى هي قادرة على ذلك في المجال العربي الإسلامي؟.
في تقديري، لابد من أن نعيد النظر في أصل الموضوع، ولنحاول الاستئناف من جديد في طريق تحرير محل النزاع. أنا أتطلع إلى مستوى من إعادة "خلط" الأوراق وبعثرتها من جديد، لننطلق انطلاقة جديدة في اللعبة؛ الشرط الذي يخرجنا من هذا الانسداد. ولنتساءل رغم كل ذلك الصخب الذي يحدثه خصوم العلمانية عندنا، أو بعض العلمانيين في الغرب وفي فرنسا تحديداً، حيث تحولت العلمانية إلى إيديولوجيا مرضية وإلى مشروع أرثوذكسي. هناك إسلاميون يعتبرون العلمانية إلحاداً وحرباً منهجية ضد الدين، وهذا حق؛ لأن دليلهم أحياناً يلتقطونه من بعض العلمانيين الأرثوذكسيين. لكننا في الوقت نفسه، نجد أغلب الذين يتهمون العلمانية بالإلحاد والكفر، يجدون في أوروبا والغرب ملاذاً لهجراتهم الإنسانية وفراراً بدينهم، كما لو كانت هذه الأخيرة هي الحبشة أو المدينة قديماً. لا ندري إن كان المسلمون أنفسهم سيملكون الحق في التدين في أوروبا، فيما لو ظلت هذه الأخيرة تحت هيمنة الإكليروس: طلائع الحروب الصليبية ودواوين التفتيش. هذه العلمانية هي التي جعلت الإسلام ودعوته أمراً ممكناً، لا، بل حقًّا من حقوق الإنسان في أوروبا. وإذن لابد من إعادة تأثيث استشكالاتنا. هل العلمانية أجهزت على الدين في أوروبا؟.
هذا موضوع لم يدرس كما ينبغي. لا أعني عندهم، بل عندنا نحن. ولا أعتقد أن دارساً جاداً للتاريخ الأوروبي الحديث يمكنه ادّعاء ذلك. على الأقل، كلنا يدرك أن العلمانية هي ثمرة لثورات وضعت حدًّا لهيمنة الإكليروس. أي أنها ثورة ضد شكل متسلط من السلوك الإداري، أو لنقل: ضد نظام للسيطرة لا علاقة له بالدين من حيث هو اعتقاد وتجربة روحية. لقد قضى على الهيمنة باسم الدين وليس على الدين.
أما من ناحية أخرى، فإن هذه الثورة كانت قد أعادت الوضع إلى طبيعته الأولى؛ أي الفصل بين ما لله وما لقيصر. وهي مطلب إنجيلي أولاً وقبل كل شيء. إن تدخّل رجال الدين في الشأن العام والخاص هو موقف "ناسوتي" وليس "لاهوتياً". لأن الموقف اللاهوتي قاضٍ بـ"دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله". ليست العلمانية بهذا المعنى ثورة ضد المسيحية، بل رجوعاً إلى مقتضى تعاليمها. المتضررون من هذا الفصل هم الفئة المنتفعة من هيمنة الإكليروس ومن آباء الكنيسة، أو أولئك المغفلين الذين لم يستطيعوا التمييز بين الحق في الإيمان وحرية الاعتقاد.. بين حسابات الدنيا وحساب الآخرة..
نحن للأسف تبنينا الموقف نفسه لأولئك الذين رفضوا الفصل، رغم أننا لم نشهد هيمنة للإكليروس ولا لآباء الكنيسة. وقد نسينا أن الإسلام حقق مطالب الإصلاح الديني بوصفه هو نفسه ثورة للإصلاح الديني. لم نفهم الطبيعة الإصلاحية لهذا الدين، لأننا لم نكن في البدء أهل كتاب. وكنا قد اعتبرنا الإسلام ديناً مستقلاً وجديداً لا شأن له بإشكالية أهل الكتاب، رغم أنه تضمن كل أشكال الاعتبار بمأزق الديانات السماوية السابقة.
إن الحديث بكثافة عن بني إسرائيل وعن النصارى والذين هادوا، أو عن الجبت والطاغوت والتحريف و.. و.. إنما يؤكد على الطابع الإصلاحي للإسلام. المشكلة أننا لم نهتم بالجانب الدعوي التنويري للإسلام، فكانت علاقتنا بالعالم المسيحي، علاقة غزو وخراج. الطابع الغزوي الذي خرج عن مشروعيته ومصداقيته الرسالية منذ العصر الأموي والعباسي والتركي.. وهذا طبيعي، لأننا نحن أيضاً فشلنا في استيعاب الثورة الإصلاحية للإسلام. إننا سرعان ما تراجعنا إلى المستوى الذي جعلنا سواء مع إخواننا أهل الكتاب وسُنَّة مَنْ قبلنا. لأننا فشلنا في تحقيق الانتقال الثاني من عصر التنزيل إلى عصر التأويل؛ الانتقال الكفيل برفع الوصاية التاريخية للمورد الأول، وإدخالنا إلى الصيرورة التاريخية بعقل تأويلي لا بعقل تنزيلي. ففي الوقت الذي كان فيه رجال الدين في أوروبا يتنافسون على إصدار فتوى الإبادة وحرق المكتبات والعلماء، كان نصير الدين الطوسي الفقيه والعالم، يحتال على المحتل هولاكو، لإقناعه ببناء مرصد فلكي بمراغة. فمن هم رجال الدين عندنا؟ هل هم الطوسي أم ابن رشد أم ابن خلدون...؟ هؤلاء هم أقرب إلى كوبيرنيك أو غاليلي أو فولتير أو راموس أو ديكارت منهم إلى آباء الكنيسة. هذا هو الفارق الموضوعي الذي يتعين أن ندرس فيه موضوع علاقتنا بالعلمانية في المجال العربي والإسلامي. فكل المطالب التحررية والإنسانية والتقدمية التي نادى بها العلمانيون الأوائل في أوروبا، هي مطالب الإسلام نفسه في تحرير الإنسان والعقل والعلم.
إذا كانت العلمانية في أوروبا طالبت بالفصل بين الدين كحق للإنسان الحر، وبين الدولة كمؤسسة لإدارة الخدمات وسياسة الشؤون المدنية، فإن الغاية من ذلك، أن يكون الدين خالصاً لله لا مجالاً للاستغلال والاستثمار. ولعل تلك هي غاية الإسلام التي شرع من أجلها الجهاد: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ لِلهِ}. وللأسف، الذين فهموا الآية على أساس أنها جهاد مفتوح لفرض العقيدة بالعنف، يصطدمون بالآية القائلة: {لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}!
نحن نتساءل: متى يصبح الدين لغير الله؟.
طبعاً، حينما يصبح وسيلة ضغط واستغلال وتحكم. إن الفتنة المذكورة هي في أن يكون الدين لغير الله. فليس الجهاد من أجل فرض الدين، بل الجهاد مشروع هنا لأجل أن يكون الدين لله، ولله فقط. أي تديناً حراً في مجتمع حر، لا يمكن أن تفرض فيه العقيدة على أحد من طرف أحد، أو يمنع الدين فيه عن أحد.
المفارقة الجديرة بالذكر هنا أن هذه الدولة العلمانية في الغرب، يمكنها بل من واجبها أن تحمي حق التدين والدعوة الحرة إليه، ولو اقتضى الأمر أن تخوض حرباً من أجل ذلك؛ تموّل من الضرائب التي يدفعها حتى أولئك الذين اختاروا الإلحاد واللادين عقيدةً لهم. لا أدري إن كان يومها محمد K يطلب من قومه أكثر من أن يسمحوا له بالدعوة وبأن لهم دينهم وله دينه. أي لك الحق في أن تؤمن بدينك من دون اضطهاد. إن حماية التدين في الدولة العلمانية حق ترعاه الدولة وتحميه. وهو مسألة تتعلق بحقوق الإنسان. هل يمكننا بعد ذلك الحديث عن أن العلمانية بهذا المضمون هي خصم للدين؟ ففي زمن التأويل تصبح الدولة الدينية الأرثوذكسية القائمة على عقلية التنزيل خطراً على الدين نفسه. أي إذا كانت الدولة العلمانية تسمح بالتعبيرات المختلفة للدين، فإن الدولة الأرثوذكسية تحول دون الحق في التعبير الديني المختلف. هذا أمر آخر لم ندرسه أيضاً. وأعتقد قبل الخروج بأي نتيجة من هذا القبيل، أن نبدأ ببحث الإشكالية من هذا المنطلق، وفي ضوء إعادة تأثيث الإشكالية، وفي وضع جديد من خلط الأوراق لاستئناف البحث الجاد، وبحد أدنى من رباطة الجأش والتسامح. إنني أدعو إلى إعادة دراسة كل مناشئ نزاعاتنا بصورة جذرية، للخروج من دوامة نزاع بدأ يفقد يوماً بعد يوم آفاق ممكناته؛ إنه حقًّا عصر الانسداد الأعظم!
* الأخلاق والغيب والحداثة
ثمة ملاحظة تستدعي وقفة تأملية بالنسبة للطرف العلماني نفسه. فكما أن الموقف الإسلامي معني بإحداث مراجعة في طبيعة موقفه ورؤيته الموروثة من الخطاب المضاد للعلمانية، الخطاب الذي يأتينا من أنصار الإكليروس الغربي، فأيضاً يتعين على العلمانية إعادة النظر في كثير من مسلماتها الخاطئة. هذا أمر طبيعي. فللعلمانية أكثر من تعبير وأكثر من مظهر تاريخي رغم أن تاريخها حديث جداً.
وهذا أمر لمسناه في أزمة الحجاب في فرنسا. وكأننا أمام حالة إكليروسية معكوسة. رأينا بأن الولايات المتحدة الأمريكية ودولاً أوروبية أخرى تتحفظ من قرار حظر الحجاب في المدارس. هناك علمانيون وباسم العلمانية ناهضوا القرار. إن اللائيكية الفرنسية هي نموذج سيئ للعلمانية، مثلما أن الإسلام الطالباني نموذج سيئ للدين وللإسلام. فهل سَنَشْرَق من الحديث عن حوار إسلامي ـ علماني، لأن اللائيكية الفرنسية شرقت منه هذه الأيام؟! هناك نقد مفتوح ومن كل الجوانب وعلى كل المستويات..
لابد أن نرسم آذاناً كبيرة للعلمانيين، مثلما ينبغي فعل الأمر نفسه بالنسبة للإسلاميين. هناك إشكالية فنية في البين، لابد من الالتفات إليها. ربما قد تكون نظرتنا متأثرة بالمظاهر السلوكية التي نشاهدها في الغرب، والتي هي تعبير عن ثقافته، وليس عن العلمانية بوصفها إجراءً مقتضاه الفصل بين السلطة الروحية والسلطة الزمنية. ربما نحن لا نفهم هذه المعادلة، لأنه ليس لدينا سلطة روحية أساساً. فهذا ما كان ينبغي على غير المسلم معرفته من الإسلام. ولكن هذا السلوك الصادم لا ينبغي أن يخدعنا. فلا ندري ماذا سنصادف من مظاهر شاذة، فيما لو كان المجال عندنا يسمح بالتعبير العملي كما التعبير النظري. إننا حينما نحاكم الحداثة أو العلمانية نحاكمهما من خلال واقعها التطبيقي والممارس، لا من خلال فلسفتها الكلية الممكن تشخصها بكيفيات مختلفة بحسب اختلاف الأعراف والثقافات. فحتى العلمانية تسمح ـ وعليها أن تسمح ـ بجدل الكوني والخصوصي في صورتهما الجدلية وليس في صورتهما الثباتية المغلقة.
إننا نفعل ذلك في حين أننا عندما نتحدث عن مواقفنا، نفعل ذلك من خلال تصورات وأفكار في الأذهان لا من خلال تطبيقات تاريخية أو راهنة. وهذه المقارنة هي خاطئة وغير متكافئة وغير منطقية. لكن مع ذلك سوف أسمح برفع إيقاع النظر أكثر. إننا في الحقيقة نتهم الحداثة والعلمانية بكونها مشروعاً نافياً للأخلاق من دائرة العلم، ونافية للغيب من دائرة العقل. وأصحاب هذه الأحكام المتطرفة والخطابية، يورطون الأجيال القادمة في أوهام ومخاوف زائدة عن حدها. مع أنهم هم عالة في الحقيقة على تنظيرات هذا الغرب، الذي ينبغي أن نعرف من أين ينبغي أن ننتقده، وكيف ينبغي أن نختلف معه.
فأما كونها فاصلة أو نافية للأخلاق من دائرة العلم، فإنني لا أكاد أفهم هذه المعادلة، لأن العلم ليس موضوعاً للأخلاق، فإذا كان صاحب الدعوة نفسه يقول: لا حياء في الدين، فالأحرى أن نقول: لا حياء، وبالتالي لا أخلاق في العلم. الأخلاق من مسائل العقل العملي، فيما العلم نظر وكدح معرفي وعناء فكري. الذين يستغلون العلم لأغراض لا أخلاقية، هم من جنس أولئك الذين يستغلون "الدين" أيضاً لأهداف لا أخلاقية. إنها حالة إكليروسية مناقضة للمحتوى الفلسفي للحداثة.
أعتقد أن خلافنا مع الحداثة هو في الغيب وليس حول الغيب. فالغيب قضية موضوعية في التصور الإسلامي. وهو أمر ليس تراثاً ندافع عنه ونحاول أن نحميه بحماسة زائدة وممسرحة. الغيب موضوع مطروح للنقاش والدعوة والإقناع بواسطة مقدمات برهانية؛ {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ}. لا أحد يمكن أن يثبت أو يطرد الغيب بلا دليل. ولا أحد يعلن نفسه حارساً أو مناهضاً لقضية موضوعة للدليل، بلا دليل. ولهذا، لا يمكننا أن نستنتج من ذلك نتيجة مفادها أنه: بما أن الحداثة تطرد الغيب من العلم، فعلينا أن نكفر بالحداثة. هذا احتماء وراء "الإيمان" لمناهضة مشروع مجتمعي وحضاري لم نمتلك بديلاً عنه. إنه إخفاء لفشل بناء مشروع نهضوي حداثي للأمة. هذا نوع من استغلال الدين؛ نوع من الإكليروسية الجديدة.
الغرب في اعتقادي كان سيكون مصيره كذلك حتى لو لم يكن حديثاً. سأقول بتعبير هنتنغتون، بأن الغرب غرب مع الحداثة وقبل الحداثة. لقد كان المجتمع الروماني، مجتمعاً وثنياً إباحياً وشاذاً وملحداً، قبل هيمنة الكنيسة على السلطة العقائدية في الدولة، و.. و.. ومع ذلك أقول، إن الحداثة مضطرة إلى حد أدنى من الإيمان بالغيب رغم أنفها. إن العلم يقوم على جملة من الغيبيات؛ الاحتمال، الاستقراء، التنبؤ، المستقبليات... كل هذا علم غربي. إنه علم معاصر. ومع ذلك فهو موضوع للإيمان وليس للتجربة واليقين التجريبي المحض.
لا يمكن القول: إن الحداثة طاردة بطبيعتها للغيب بهذا المعنى الإجمالي للغيب. فالغيب يتكرس في طبيعتها وفي صيرورتها. فلا حداثة من دون تطلع إلى الاحتمال.. وإلى نهاية التاريخ وإلى الرجل الأخير.. إن التاريخ هو مجال للممكن.. أي مجال للإيمان بالغيب الآتي.
وكما الأمر بالنسبة للغيب، فكذلك بالنسبة للأخلاق. فلو قلنا بأن الحداثة طاردة للأخلاق، لما أمكن التواصل والتعاون والاجتماع والعمل. لقد قامت الحداثة على حد كبير من أخلاق الضمير وأخلاقيات الإنتاج والعمل، وعلى الصدق والإخلاص في العمل والنزاهة. بل إن قوة المشروع الحداثي وعنصر استمراره يكمن في أخلاقياته. نعم، هناك إشكالات تدور حول ماهية الغيب وماهية الأخلاق، فهذا موضوع نقد مشروع جارٍ في الغرب وفي غيره. إنما لابد أن نسجل نقطة أخرى في هذا السياق، وهي أن علاقة الغرب بغيبه، هي علاقة جادة. حتى علاقته بإلحاده هي علاقة غيبية جادة مبنية على ضرب من الإيمان، الذي يجعل الغربي يموت من أجل إلحاده.
لسنا إذن أمام حالة ذلك الوثني الذي كان يلتهم صنمه من الحلوى عند كل مساء. فحتى ظاهرة الإلحاد الأوروبي يتعين دراستها في ضوء الوجدان التحرري للغرب الحديث. تلك هي مشكلتنا حتى في أقصى تاريخنا. لقد واجه الإسلام هشاشة إنسانية حتى في ما كانت تدين به الوثنية العربية، التي لم تكن في مستوى التحرر من تخبطها ومن وصاية الخرافة... لم يكن الوثني العربي وثنياً جاداً حتى تحترم عقيدته.. لأنه لم يكن قادراً على أن يمارس الشهادة تجاهها.
علينا أيضاً أن نتعلم احترام الآخر حينما يكون جاداً في معتقده. أي أن نتعلم كيف نحترم الحرية، وكيف نكون أحراراً إذا لم نستطع أن نتطور عقائدياً باتجاه الشكل الأسمى لهذه الحرية. هذا ما أفهمه من أبي الشهداء أبي عبد الله الحسين C، حينما نادى في القوم الذين شخصوا مأساة وضع تاريخي مشهود، بدا فيه الإنسان العربي أكثر هشاشة حتى في عصره الجاهلي: "إن كنتم لا تخافون الله ولا تؤمنون بالمعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم إن كنتم عرباً كما تزعمون"! هل هي دعوة فولتير أم راموس أم ماذا؟ بل، هي دعوة حفيد النبي K... دعوة علوية أصيلة مشرقة سابقة للإصلاح الديني الأوروبي.. وهل الإسلام نفسه إلا ثورة إصلاحية دينية على أنقاض الأشكال الإكليروسية القديمة؟!
إنه الأمر نفسه بالنسبة للأخلاق؛ فلا يمكننا إنكار قدر مهم من الأخلاق في الحداثة. إن الفضيحة الأخلاقية في الغرب تؤدي بصاحبها إلى الانتحار. لكنها عندنا تؤدي إلى الانتقام من الآخرين أو إلى الهروب ومزيد من العناد...
صحيح أن النظام الغربي الرأسمالي هو نظام غير عادل بين طبقاته الاجتماعية، أو بين كيانه والأطراف... فهذا موضوع للنقاش المشترك، يمكن أن يجري داخل الحداثة نفسها. فهناك على كل حال أناس ليس لهم دين، لكنهم يموتون بإخلاص في قضايا إنسانية عادلة. يمكننا الحديث عن "حلف فضول" عالمي جديد، على كل الفئات المتضررة من هذا النظام، أن تشكل لها حلفاً أو جبهة عالمية للاحتجاج وفتح ملفات المظالم. لكن هناك قدر من الشفافية والمساواة والنزاهة... هذا القدر من التخلق هو مؤسَّس، تضمنه دولة القانون، دينامية المجتمع المدني.
قد يقولون: إن ذلك أمر حتمي في مجتمع تربط بين أبنائه المصالح، فلو لم يتوفر هذا القدر من الحقوق أو المساواة، فيمكن أن تحدث حرب أهلية. نقول؛ إن ذلك عنوان دينامية هذا المجتمع ووعيه التاريخي بحريته. وهذا هو الشرط الموضوعي للأخلاق؛ الإحساس بالحرية كهبة من الله. كان أحرى أن نتحدث عن أزمتنا نحن، وكيف يحضر الغيب في علمنا... أو كيف تحضر الأخلاق في عقلنا؟!
فالغيب والأخلاق يحضران عندنا كنقيضين للعقل والعلم أو كمزاحمين لهما. هذا يحصل في نطاق الجري العملي، وإن كنا بالخطابة ننظر إليهما في حلولية تامة. هذا في حين يحضر الغيب في الحداثة ثاوياً في العقل، وفي صورة يقين استقرائي أو توقع مستقبلي أو حساب احتمالي. إن أزمتنا هي بالأحرى؛ أزمة أخلاقية أكثر مما هو عليه الغرب. لأنها أزمة تظهر بوضوح في روابطنا الاجتماعية، وفي سلوكنا التربوي، المحكومين بالعنف والنفاق والرشوة والكذب والكسل والفساد... لا أقبل أن يقال بأن محدد ثقافتنا العربية هو الغيب والأخلاق والدين على مستوى النقيض الغربي. إن ما ندعي أننا نملكه هو ممارس في الغرب، ومتجلٍّ بشكل من الأشكال في واقعه العملي، إلى جانب تلك الفظاعات الأخلاقية الأخرى، التي هي موجودة عندنا أيضاً، لكن في حالة قمع وكبت أو كمون.. وعليه، فإن الحوار بيننا وبينهم، يجب أن يكون في ضوء هذا الوعي بمشكلاتنا نحن أيضاً.
نحن ندعو إلى الغيب مفصولاً عن حياتنا بالجملة... إننا ندعو إلى الغيب في شكله الديني، لكننا نكفر بضرب آخر من الغيب. نكفر بالمستقبل والحلم والاستقراء... ندعو إلى الأخلاق في خطاباتنا، بينما نبني مؤسساتنا وروابطنا وسلوكنا الفردي والجماعي على الفوضى والحيف والنفاق... أي أننا في وضع "لا ملامتي".
إننا نحن بالأحرى من يطرد الأخلاق من دائرة العلم والغيب ومن دائرة العقل. نحن من يقول نظراً: "إننا مستخلفون في الأرض"، لكننا نقول عملاً: {وَمَا يُهْلِكُنَا إِلاَّ الدَّهْرُ}!
وبالنتيجة، فإنه يحسب للغرب، أنه نجح في تطبيق ما دعا إليه في أقل من خمسة قرون، وفشلنا فيما دعونا إليه في أكثر من خمسة عشر قرناً، ولازلنا في حالة انتظار. فمن هو الأولى بالاستخلاف في الأرض؟ يحسب للعلمانية أنها هي من اضطلع بالمطالب الاجتماعية، وهي من اهتم بمصالح الناس في الغرب. وقد أثبت غيرها أنه يحرس سلطان الآخرة باستعباد الناس وظلمهم. وهم عملياً أثبتوا ألَّا همَّ لهم بشؤون الناس. فلا هم تركوا الناس تعبد ربها كما تشاء، ولا هم دافعوا عن مصالح الناس، لا دنيا ولا آخرة.. إنها حقًّا حالة فريدة من نوعها، وإذا استمر الحال على هذه النغمة، فسيكون أهل الدين هم أعداء الدين، بعد أن فشلوا في استيعاب البعد الإصلاحي للإسلام نفسه.
* الأخلاقيات الكبرى.. قصةُ وهمٍ قديم
لقد كان ذلك حلماً لفلاسفة كثر. بعضهم ينتمي لحضارتنا، مثل ابن عربي، وآخرون إلى الحضارة الحديثة، مثل إيمانويل كانت من خلال قانونه الأخلاقي. كان ذلك حلماً نبيلاً. لكن إذا ما تعمقنا في إشكاليته الفلسفية وملابساته التاريخية، أدركنا بأنه كان حلماً مستحيلاً. فالبشرية لا يمكنها الاستغناء عن مصادر أخرى لتغذية منظوماتها القيمية، غير الضمير الأخلاقي المجرد. ولا ننسى أن الدين هو أهم رافد تاريخي للأخلاق. سواء أكان ذلك عبر التدين الكامل، أو مجرد الوفاء للقيم الدينية.
حتى كانْتْ في عز ثورته الأخلاقية لم يستطع نفي الدين وإلى الأبد. لقد أرغمته مفارقات قانونه الأخلاقي، على أن يحتال أكثر، ليجد للدين منزلة تابعة للأخلاق. وذلك في محاولة مبيّتة منه لسحب السلطة والهيمنة من الدين. هكذا يبدو أن التحليل الكانتي متأثر إلى درجة ما، بجملة من المؤثرات أو العوائق السيكولوجية التاريخية (الأوروبية)، التي يعززها الرهاب التقليدي من هيمنة الكنيسة على الحياة. بدافع هذا الإحساس البارانوياني، حاول كانت سحب البساط من تحت المركزية الدينية عقلياً، بإنزالها منزلة أدنى من الأخلاق، بوصف أن هذه الأخيرة متاحة للخلق، والتي لا تحتاج إلى سلطة الكنيسة ولا وصاية آبائها أو مؤسساتهم.
من هنا، تبدو نزعته الكوسمولوجية نزعة مغشوشة، لاسيما حينما عاد ليجعل الدين المسيحي، هو الدين المركزي الكوني، منتهكاً ما كان قد بنى عليه كوسمولوجية القانون الأخلاقي. لقد كان في العمق يجري ضرباً من المقايسة على الدين، ما جعل قانونه الأخلاقي نفسه مقايسة مكشوفة على الدين، كما أكد على ذلك ناقده "شوبنهاور". وبذلك كان القانون الأخلاقي، هو أفضل الأدلة على الأولوية التاريخية والوجدانية للدين من أي دليل آخر.
ولذا أقول: إن الدين، كتجربة روحية، حاجة إنسانية للغرب. المشكلة في اعتقادي ليست في الدين، بل في طبيعة فهمنا له. لاسيما في نطاق علاقتنا مع غيرنا. إن التواصل بين الغرب والشرق، رغم كل الصور التاريخية المأساوية لهذه العلاقة الصدامية، والتي قام مثلها بين البلاد الشرقية نفسها أو الغربية نفسها، ظل قائماً بشكل من الأشكال. فالذين يعزمون على التواصل يحققون ذلك بنجاح. المشكلة أن الذين يخافون ويخوّفون من التواصل واللقاء، هم أصلاً لم يجربوا ولم يحاولوا. الذين تحدثوا عن قصة الحضارة من أمثال ويل ديورانت هم وأمثالهم فقط يدركون دفء هذا الشرق. وهم وحدهم من يدرك بأننا على أي حال، لسنا من هواة طقوس إقامة القدور، أو الوجبات البشرية الملطفة ببوازر الشرق. لنسأل ماسينيون أوجاك بيرك أو هنري كوربان... إننا نعيش عصراً عملاقاً بمبالغاته وشعوره الهذياني، غير أن الأحكام أحياناً تهوي من شواهق عصر المعلومات سهواً، لتسقط فوق رؤوسنا كأشد ما يكون الحكم غبياً ووقحاً..
ما أريد أن أخلص إليه في هذا التحليل المختصر، هو أن العلمانية في العالم العربي كانت قد فُهِمَتْ خطأً، كما فُهِمَ الإسلام خطأ منذ أصبحنا نحن نشكل عبئاً ثقيلاً عليه. وإذن، فالحديث عن العلمانية في المجال العربي هو مرحلة متأخرة، يجب أن تسبق بعملية فهم واستيعاب، عبر عملية فتح وُرَش عمل حقيقية، لتكوين معرفة بالغرب وتاريخه أكثر عمقاً وموضوعية. إننا نجهل الغرب عمقاً وموضوعية. إننا نجهل الغرب بقدر ما ندّعي جهله بنا. نحن إذن سواء. فالمعرفة عنصر أساسي وحاسم في تحرير محل النزاع.
من السهل أن ننغلق على أوهامنا ونلعن العالم والناس. لكن ما أصعب الانتقال بالفكر وفي الفكر إلى ما هو أعمق. لا أقول بأن الإسلام هو نفسه الدين العلماني الذي أحدث أكبر ثورة دينية على الأشكال الدينية الباترياركية، لوضع خطا الإنسان على طريق سنن التاريخ، فحسب، بل أقول أيضاً، إن الإسلام وحده الذي يفهم أهمية هذا الحدث الإنساني الكبير، أي التحرر. هو وحده من استشكل على القوم الذين حاربوا الناس فقط لأنهم قالوا: "ربنا الله".
والمجتمع العلماني لا يمنع الناس من أن يقولوا: "ربنا الله". ففي الفكر العلماني المتسامح، الناقد لمواقفه التاريخية، المتحرر من رواسب تغالبه مع آباء الكنيسة، والمستوعب للمضمون التحرري للإسلام، بوصفه ثورة إصلاح دينية قام بها نبي ثائر، يمكننا العثور على ما هو مشترك، وما هو تعبير عن مقاصد الإسلام نفسه...
فمن ها هنا يتعين أن يبدأ النقاش والحوار بين الإسلام والعلمانية... علينا أن نكتشف ما هو إسلامي في العلمانية، وما هو علماني في الإسلام. ومع ذلك، أنصح الإسلاميين، ولا أقول الإسلام، بأن يتعلموا الكثير من عقلانية العلمانية الغربية وأخلاقها وجديتها. وهذا ما يخفونه، فَرَقاً من أن يعترفوا للمختلف بإيجابياته، حيث هو لا يعترف لهم بإيجابياتهم.. أقول: دعونا نعترف نحن بذلك، ولا يهم ألَّا يعترف هو بنا. فقوتنا في الاعتراف. فمن عقلانيتنا أن نعترف بمواقع عقلانيته، ومن أخلاقنا أن نعترف بمواقع أخلاقياته.
لو كان الإسلام في أوروبا، لالتقت دعوته مع دعوة التنوير والعلمانية في أكثر الجوانب حيوية؛ أعني: العقلانية، الإصلاح، الحداثة، الحرية، العلم، العمل، نزع السحر عن العالم، حقوق الإنسان... وعلينا ألَّا نخلط بين الاستعمار، كممارسة مجرمة متنكرة لحقوق الإنسان، مارسها الكيان الغربي في لحظة من فصامه التاريخي، وبين التعاليم والمبادئ الكبرى للحداثة، كما نطلب من الآخر ألَّا يخلط بين قيمنا وتعاليمنا المبثوثة، وممارساتنا التاريخية التي عبّرنا فيها عن فصاميتنا التاريخية. إننا كمسلمين لا يشرفنا أن نتمثل موقف وفكر وسجال الكنيسة في مواجهتها للعلمانية. ذلك لأننا خارجون موضوعاً عن حقيقة النزاع وصورته؛ فلنحدد محل نزاعنا الخاص، ولنحذر من المغالطة التاريخية!.