شعار الموقع

ماذا بعد الإيديولوجيا ؟

إدريس هاني 2005-10-17
عدد القراءات « 1263 »

ماذا بعد الإيديولوجيا ؟

 

ليس الغرض من هذه البعدية أن نقبض على شيء ما. إذ ليس بعد الإيديولوجيا سوى عماء الفكر. فالإيديولوجيا لم تصنع تاريخ البشر القديم فحسب، بل إنها تصنع مستقبلهم أيضاً. لقد انساحت الإيديولوجيا واحتوت عالم البشر، بعد أن استوعبت كل مخيلتهم. حتى ليبدو أنه ما حلم البشر وتخيّل أو فكّر إلا وفعل ذلك بمنطق الإيديولوجيا. إن التوق إلى ما بعد الإيديولوجيا هو واحدة من أكثر الأوهام رواجاً خارج النقد الإيديولوجي. وليس حينئذ من مخرج سوى تصعيد هذا النقد إلى منتهاه، كي نخفف من عراء الزيف الإيديولوجي، وشطط الخداع الذي يجعل التخلي عن الإيديولوجيا حتى لحظة نهايتها السيئة أمراً مستفظعاً. إن قصارى ما يملكه البشر إزاء الإيديولوجيا، هو تصعيد الوعي بها. الوعي وحده من يخلص الإنسان من بطش الإيديولوجيا واستدراجاتها نحو الوعي الشقي..

الحديث إذن عن (ما بعد الإيديولوجيا)، حديث ليس في محله، إذا ما نظرنا إليه نظرة سطحية ظاهرية. لكن متى ما أدركنا أن أي حديث عن الإيديولوجيا هو نفسه يستدعي الحديث عما بعدها، سندرك أي تصور بعدي هذا الذي نقصده. التصور الحقيقي للإيديولوجيا لا يتم إلا بتصور ما بعدها. أي تصور العماء الذي يترتب على الفراغ الإيديولوجي، باعتبار الإيديولوجيا ضرورة. نعم لعل السبب الرئيسي الذي دفعنا إلى تخصيص ملف حول الإيديولوجيا، ليس هو التدفق الكبير لخطاب النهايات، الذي بات يحتل فراغات الانسحاب الإيديولوجي بمعناه التقليدي، ويتساقط كبديل عن الانتظارات التي لا زالت تؤرق البشرية، على إثر رضات التحولات الإيدوستراتيجية الكبرى فحسب، بل إن دافعنا كان هو ما لاحظناه من سوء استعمال لهذا المفهوم الذي قلَّما تستحضر إشكاليته عند الاستعمال.. هكذا امتلأت خطاباتنا ومقالاتنا، وانتفخ كلامنا وإعلامنا، بالحديث عن الإيديولوجيا كما لو كانت محض علم للأفكار، أو منظومة فكرية أو تعبير ساذج. والحق أن هذه العبارة التي تطلق عفو الخاطر، تختزل أعقد الإشكاليات التي واجهتها ولا تزال المعرفة الإنسانية..

* ما الإيديولوجيا ؟

تطرح هاهنا مشكلة انتقال المصطلح، وثقله على اللسان العربي. وتلك مشكلة ليس لأحد أن يحلها على الإطلاق، سوى أن نخفف من غلوائها، كما فعل بعضهم وهو يحاول إيجاد المعادل العربي لمصطلح إيديولوجيا. قبل فترة اقترح عبدالله العروي كلمة “أدلوجة”.. وبعد ذلك استعمل د. طه عبد الرحمن كلمة فكرانية -دون أن ننسى اقتراحاً سابقاً للراحل عبد العزيز الحبابي: فكرولوجية-. والحقيقة أن الاقتراحين يحيلان إلى اتجاهين وذوقين في الترجمة، ليس هاهنا مجال بحثهما. إنها الإيديولوجيا مرة أخرى تحضر بقوة في التعبير عن نفسها. لكن يمكنني القول بأن اقتراح العروي كان وجيهاً، فيما اقتراح الفكرانية كمعادل عربي للإيديولوجيا يحتاج إلى تأمل. فهو يقوم على استسهال كبير لمشكلة المفاهيم والمصطلحات، وما يتصل بها من متواليات مفاهيمية، وما يتفرع عنها من استشكالات، يناقض أصل التثبت في الترجمة، بحسب المنحى الذي سلكه صاحب فقه الفلسفة بناء على إيديولوجيا التقريب التداولي.

إن مذهب طه في الترجمة -وتحديداً ترجمة إيديولوجيا- هو مذهب إيديولوجي بامتياز. يتضح ذلك من خلال الدفع بالخلاف مع المقترح العروي السابق في الزمان وفي الاشتغال، مخالفة من دون مرجح، سوى الاستناد إلى التشقيق اللغوي، دون استحضار الحمولة المفهومية والإشكالية للعبارة. في حين تبقى الصيغة العروية حافظة للمضمون الإشكالي للمفهوم، مع تقيد مبدع في مراعاة الوزن العربي. وهو الاختيار المبني على وعي تاريخي وفلسفي واستيعاب للنقد الإيديولوجي.

هذا في حين تبدو الترجمة الطاهائية رغم تمسكها بالاستبدال العربي، ليست إلا تعاطياً حرفياً مع المفهوم، إذ يتضح عموماً أن الطريقة المذكورة في الترجمة تترنح بين التساهل والتشديد، بحسب موقف انتقائي تتحكم به حالات المترجم، ومدى استيعابه للإشكالية المعرفية للمفاهيم..

فأما منحى التساهل فمثاله فرض مصطلح فكرانية ترجمة للإيديولوجيا. وأما منحى التشديد والتعقيد الذي يصل أحياناً إلى درجة الإعجاز والتعجيز، فمثاله ترجمة جملة الكوجيتو الديكارتي بخلاف ما تم تداوله وفق صيغة الخضيري: “أنا أفكر إذن أنا موجود”. وكان مختار صاحب فقه الفلسفة، صيغة أخرى هي: “انظر تجد”..

وكما أننا في مناقشة سابقة، في محلها، لصيغة: “انظر تجد”، اعتبرناها مخالفة للمدعى، فهي من حيث التقريب التداولي لو سلكنا معيار الترجمة المعكوسة، فسنجد أول معنى يتبادر منها إلى الذهن هو: qui cherche trouve، وهي تعني: “من بحث وجد”. ليس ذلك فقط من حيث إن كلمات الجملة المذكورة تحمل نفس المعنى ـ انظر، تأتي أيضاً في اللغات اللاتينية بمعنى ابحث وفتش، (chercher)، يستعمل في الإنجليزية صيغة look for، بمعنى بحث عن.. في اللغة العربية تأتي بمعنى فكّر وتأمل ورأى وبصر وانتظر..، ووجد، تأتي بمعنى (trouver) - أجل ليس هذا فحسب، بل إن ثمة تركيباً متداولاً في اللغة الفرنسية كما يدل عليه المثل المعروف: qui cherche trouve. نعم، يمكننا القول بصيغة “انظر تجد”، لكن هذا يفترض تسليم المتلقي بكل الإسقاط المتكلف المذكور، والذي لم يكن ليحضر في بال أي مترجم أو قارئ لأولى الصيغ الترجمية للكوجيتو تحت تأثير المجال التداولي.. بل هذا أكبر دليل على غرابتها، لأنها لو كانت تداولية لحضرت في وجدان اللغويين عفو الخاطر. فكذلك نجدنا مضطرين هنا لتدارك الهنات الترجمية للاستاذ طه عبد الرحمن -وهي هنّات تصبح أمراً فظيعاً، عندما ندرك أن صاحب فقه الفلسفة هو لغوي كبير ومحقق دقيق- حيث إن ترجمة إيديولوجيا إلى فكرانية توقعنا في مأزق فلسفي، وفي خلط مفاهيمي، وفي اشتراك لفظي. وهذا ما يعني أنها ترجمة لا تقوم على الاستيعاب التاريخي للمفهوم، ولا على إشكالية النقد الإيديولوجي، ولا على الاجتهاد القائم على استفراغ الجهد في التشقيق، على الرغم من أن وضع صيغة “انظر تجد” رافقها -رغم الهنات الترجمية المذكورة- من النكات ما أمتع به الباحث قرَّاءه برياضة لغوية ومنطقانية لا يلوى لها ذراع.

أقول: إن طه حينما ترجم الإيديولوجيا بهذا الشكل، وقع في المزالق التالية:

- إنها ترجمة تخفي الأبعاد الإشكالية للمصطلح. فهو يقدمها بمعناها التقليدي المتجاوز، بوصفها منظومة أفكار أو معتقدات. ولا يمكن استحضار هذه الإشكالية المفهومية، إلا بالإبقاء على المصطلح كما هو مع إخضاعه للوزن اللغوي المحلي، كما هو عرف سائر اللغات، وكما هو عرف اللغة العربية مع الأسماء والمصطلحات المنقولة. فإذا كان ذلك وجهة نظر أنصار التقريب التداولي من التراث العربي، ممن كان لهم فهم متردد ومهجوس بموقف سلبي مسبق من الصنعات الجديدة، بدءاً بالغزالي وانتهاء بابن حزم، فإن رواد الصنعة من أهل التراث أنفسهم، لم يجدوا مشاحة في نقل العبارات الجديدة ومنحها وزناً عربياً، حفاظاً على مضمونها العلمي والفلسفي، كما فعل الفارابي وابن سينا وجمهور الحكماء المسلمين إزاء مفاهيم منقولة كالاستقسات والهيولى.. ومثله ما سارت عليه عادة العرب في الترجمة والنقول، ومما أقره القرآن الكريم يوم استعمل من الأسماء ما لم يكن من العربية بحسب الأصل الوضعي، ما فجّر نقاشاً شهيراً حول وجود غير العربي في القرآن. والحق أن القرآن الذي وصف نفسه بأنه كتاب عربي، قصد بذلك الإقرار بالبعد الانسيابي للغة. معترفاً بأن معيار عروبة الكلمة هو الوزن والتداول. فليس الإقرار مختصاً بما كان وضعاً طبيعياً تعيينياً، بل إن المتعين تعيناً بحسب التداول، مشمول أيضاً.. فالقرآن استعمل كلمة برهان وسندس وإستبرق وزرابي.. وكان من الممكن من خلال التشدد والمبالغة أن يقال: لم هذا؟، وقد كان أولى بموجب التقريب التداولي المزعوم أن يقال: (بسط) بدل (زرابي)، أو (دليل) بدل (برهان).. وما شابه. ولم يتدخل القرآن في بعث العرب المسلمين على الاختصاص بالاصطلاح استبدالاً، بل يكفي في عروبة المصطلح خضوعه لمقتضى الوزن العربي. ومثل ذلك ظل رائجاً في لغة العرب.. فهل كان ابن عربي مخالفاً لمقتضى قواعد التقريب التداولي عندما سمى كتابه المعروف: ترجمان الأشواق؟، وقد علمت أن كلمة ترجمان ليست من أصل عربي.. وقس على ذلك كلمات من قبيل: زنديق، وزنج، وغيرها مما داخل اللسان العربي، واستقر في لغة العرب بفعل التداول التعيني كما لا يخفى.

أقول: إن كان هذا مما تحصل وتقرر في اللغة الطبيعية، فهو من باب الأولوية مجزئ في الاصطلاح والتداول الصناعي. ولم يمنح القرآن العرب المسلمين حق التميز بالاصطلاح، إلا فيما كان مورد تداول أخلاقي، كقوله تعالى: {لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا}.. وهو مجرد تدخل اقتضاه وضع أخلاقي للأسباب المذكورة في محلها.. فهذا خارج موضوعاً عن الحق العربي في الاختلاف الفلسفي، أو الحق الإسلامي في الاختلاف الفكري، بما أن مواد التفكير، ومقدمات التفلسف ومفاهيمه، هي أمر عقلي محض، مهما تلبست بمحمولات المجال التداولي الذي انبثقت وتكاملت داخله. فعملية الإبداع إن كنا لا بد فاعلين، عليها أن تصطنع مفاهيمها الخاصة ابتداءً، لا أن نسطو على ما اصطنعه الغير، ونسقط عليه إكراهات مجال لم تنشأ فيه، ولا قِبَل له بها ولا قِبَل لها به. يتعين على عملية الإبداع للمفاهيم، أن تنطلق من أصل المفاهيم والفكر، لا من خلال ممارسة الأستذة على مفاهيم من صنع الغير، فالإبداع هو أمر جعلي بسيط، وليس مركباً.. وأيًّا كان الأمر فالمنتج بالجعل البسيط هو أشرف من المنتج بالجعل المركب.

وهذا هو المبدأ الأول للمعرفة؛ لنقل حق المعرفة الموجب للاعتراف. وإن التفكير في الإيديولوجيا ليس من اختصاص مجال دون آخر، فهو يتعلق بظاهرة كونية تخص المعرفة والفكر والإنسان ومطابقة الواقع وعدمه. هذا ناهيك عن أن الاستناد إلى آراء الغزالي وابن حزم وابن تيمية، في بناء إيديولوجيا المجال التداولي وقواعد التقريب التداولي، حاكٍ عن موقف تراثي معين، وليس عن موقف كل التراث.. وفي تعميم هذه القواعد تغليب لتراث على آخر بلا مرجح، بل هو نفسه موضوع للنقد الإيديولوجي للتراث.

ـ إن ترجمة إيديولوجيا بالفكرانية، يسقطنا في اشتراك لفظي، والتباسات تحرم اللغة العربية من جملة مفاهيم مشتقة من كلمة فكرة idee في اللغات اللاتينية، نظير idealisme.. idealite.. ideisme.. ideat.. ideation.. ideologie. وقد تكون ترجمة كهذه أنسب معادل عربي لمفهوم ideisme. أي الفكروية - وقد اعتاد البعض أن يفرز اللاحقة ism عن مطلق النسبة الطبيعية، بمعاوضة صناعية، بإضافة الألف والنون على المصدر - كهيئة المثنى - قبل النسبة، نظير تقليداني، فكراني، علماني، شكلاني.. على وزن “فعلاني”...

هنا تكون الترجمة المذكورة توحي بهذا الخلط بين idiologie وideisme الذي يفيد معنى التمذهب للفكر الخاص أو الفكرة الخاصة.. هذا في حين أن الإيديولوجيا هي نظرية للعمل.. تصبح الإيديولوجيا نقيضاً للفكرانية التي بمعنى: ideisme، من حيث وفاء الإيديولوجيا هو لمصلحة الحامل الإيديولوجي وليس للفكرة.

لهذا السبب تحديداً، استحسنا ورجحنا الصيغة العروية: “أدلوجة”، لأسباب هي:

ـ أن العروي سلك مسلكاً أصيلاً في عرف اللغات، وفي عرف التداول العربي، الذي جعل الفلاسفة العرب لا يترددون أمام المفاهيم الجديدة التي جاءتهم من الخارج، بإخضاعها للوزن العربي درءاً للاستثقال.

ـ من ناحية أخرى، جاءت كلمة “أدلوجة” على وزن أفعولة. هذا مع أن العروي افترض معادلاً لها في اللغة العربية دونما تحمس كبير لهذا الاختيار، وهو كلمة: دعوة. فيتضح أن العروي كان مهتماً بالمضمون الإشكالي لمفهوم الإيديولوجيا، أكثر من المعنى الحرفي للمصطلح. وأن الطريقة الحزمية التي تمثلها الأستاذ طه وبالغ فيها في إيديولوجيا التقريب التداولي، تكون أشبه بأن يشتري رجل عربي سيارة ثم بسبب وضرورة المجال التداولي، يفرض إعادة صياغتها بدفع سقفها إلى الأعلى كالسنام، ويضع لها لجاماً ويجعل منها جملاً رغماً عن أنفها. وحتماً مثل هذا التمسيخ لمنجزات الفكر الإنساني الحديث لن يجدي شيئاً، ولن تصبح السيارة جملاً.. بل المطلوب أن نرقى نحن إلى مستوى استعمال السيارة، فنشق الطرق للسيارة، ونضع نظام المرور.. هذا ما عنيت به في مناسبة أخرى، بضرورة أن ترقى الفاهمة إلى مستوى المفهوم، وليس العكس. غير أننا نجد عكس ذلك في الإيديولوجيا التداولية، حيث يتنزل المفهوم ويمسخ ويجرف باتجاه الفاهمة. وهذا فيه حكم تعسفي، يفرض على المعرفة العربية ألَّا تتطور باتجاه الإشكاليات الكبرى التي يطرحها الفكر الإنساني، وألَّا تغتني بالتراكم الذي تشهده علوم الإنسان.. إنها حالة من التداول المغلق، والتمثل اللغواني والمنطقاني الصوري الدائري، المفرغ من المحتوى الفلسفي والمعرفي.

هذا معناه أن صيغة العروي في تقديرنا، تحافظ على المنظور الإشكالي للمفهوم، ولا تنظر فقط إلى المعنى اللغوي. فتبين إذن أن ترجمة د. طه هي الترجمة الحرفية، وهذا بخلاف مدعى “فقه الفلسفة”.

* منطق الإيديولوجيا وإيديولوجيا المنطق

يضعنا الاشتغال الميتا-إيديولوجي أمام إشكالية العلاقة بين المنطق والإيديولوجيا. ولعله أيسر على الباحث أن يبحث في منطق الإيديولوجيا أو إيديولوجيا المنطق، من أن يبحث في علاقة الإيديولوجيا بالمنطق بالمعنى الصناعي.

ويمكننا حسم هذا الموضوع ببيان وجه الافتراق بين الأمرين من جهتين:

- فمن جهة الوظيفة، فإن الإيديولوجيا وإن شاركت المنطق موضوع الفكر، فهي لا تهتم بترتيب المقدمات على النحو البرهاني المجزي للوصول إلى المجهول. فعادة ما تستند الإيديولوجيا إلى ما هو حجاجي، إلى حد تكاد تشبه فيه منطق الأسطورة، هذا إذا لم نقل: إن الأسطورة في مبناها وغايتها هي إيديولوجيا المجتمع القديم (البدائي).

- وأما من جهة الغاية، فإذا كانت غاية المنطق صون الفكر من الخطأ، وتمييز هذا الأخير عن أشكال التفكير الأخرى، من وهم وخيال، فإن الإيديولوجيا تقع غايتها خارج المعرفة، فهي وظيفة اجتماعية، وليست المعرفة إلا وسيلتها. وهذا التبني الوسيلي للمعرفة، لا يعني أنه تبنٍّ لمقتضى الباعث العملي للمعرفة نفسها، بل يعني أن الإيديولوجيا تجعل من المصلحة الاجتماعية ومن الفعل الاجتماعي معياراً لصحة الفكرة، بل ويمكن التدخل في إعادة صياغة النظرية لتستجيب للمصلحة. فالمعيار في الصدق والكذب ليس هو منطق الفكرة، بل هو منطق المصلحة، أي منطق مصلحة الحامل الاجتماعي للإيديولوجيا. هكذا بإمكان الإيديولوجيا أن تتوسل بالخيال والوهم لإثبات صدقها، فهي باستنادها إلى أدوات الحجاج، تطلب الإقناع، وليس صدق مقولاتها.

نعم تصبح الإيديولوجيا منطقية متى كانت المصلحة تقتضي ذلك.. وقد بات أمراً مواتياً لبعض الإيديولوجيات، بأن وصفت نفسها بالعلمية. وكان ذلك توظيفاً في غاية الحذاقة، انقلاباً على إيديولوجيات بائدة، ظلت محكومة بنمط من التفكير التقليدي أو الطوباوي. لكن مثل هذا الادعاء كذبته الوقائع، يوم أصبحت هذه الإيديولوجيات العلمية المزعومة عائقاً أمام فعل المطابقة ومعاقرة الواقع.. أصبح زيفها واضحاً، ودخلت في مرحلة الكذب، أي الوقاحة الإيديولوجية. لم يكن هم الإيديولوجيا العلموية المزعومة انتصاراً للعلم وللمنطق، بل كان الهدف هو تحقيق الانتصار على إيديولوجيات سابقة، وبالتالي من أجل الإقناع أكثر. الإيديولوجيا العلموية استغلت مرحلة سيادة النمط العلمي على الفكر العالمي، تماماً مثلما استغلت الإيديولوجيات الطوباوية عالماً ساده النمط الفكري الخرافي أو الطوباوي.. ليست الإيديولوجيا هي التي تنتج النموذج المعرفي، بل قصاراها استغلال النموذج المعرفي وفرضه وإعادة إنتاجه والدعوة إليه.

ففي كل إيديولوجيا، قد نقف على آثار منطقية، كما في المنطق قد نقف على ما هو ضروري التصديق به من دون برهان، كالاستقراء، وشرائط الحد التي يتعذر معها تعريف بعض الأشياء، إلا على سبيل المسامحة والتقريب اللفظي، ما يجعل شرائط الحد المنطقي أمراً أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع. وبما أن المنطق علم يزعم صون الفكر عن الخطأ، وفن ترتيب المقدمات، فهو كعلم يدافع عن نفسه بوصفه الطريق الوحيدة للمعرفة الصحيحة. وعليه، فهو يحاجج ويسعى إلى الإقناع، كما فعل أهل الصناعة الأوائل، في مفتتح حديثهم عن المنطق. ففي المنطق أيضاً نقف على آثار للوهم والخيال والمسامحة وإرادة الإقناع. طبعاً كل هذا ناتج عن أن الإيديولوجيا رفيقة الإنسان المفكر، تحل معه حيثما حل، وترتحل معه حيثما ارتحل.. تعاقر فكره متى فكر وكيفما فكر، فليس له إلا أن يفكر إيديولوجياً، بقليل من الزيف أو كثير من الزيف.

لا تعني الوظيفة التزييفية للإيديولوجيا أنها كاذبة. فعملية التزييف تتم بصورة لا واعية. لكن متى تصبح الإيديولوجيا كاذبة، أي تمارس التزييف العاري بوعي وتصميم تامين؟ إنه موعد قيامتها.. فالإيديولوجيا بعد أن تستنفد أغراضها وتتنكر للمعرفة، التي نشأت في أحضانها قبل أن تتحول إلى نظرية للعمل، يجعلها غير قادرة على إخفاء التزييف، بل تزييفها لم يعد مبرراً، لأنه ضد المصالح التي هي مناط مشروعية التزييف البنيوي للإيديولوجيا. فتبدأ تمارس دورها بصورة مفضوحة، ويبدأ حاملها الحزبي أو.. أو.. يظهر مزيداً من الكذب، حيث لا مخرج للإيديولوجيا في طور الشيخوخة إلا بأن تكذب وتكذب، حتى يكفر بها الجمهور وتصبح متهمة ومدانة، فينقلب السحر على الساحر، فتظهر فيها بعض مظاهر الهروب إلى الأمام، كأن يصبح الماركسي الشيوعي ليبرالياً جديداً.. أو أن يصبح القومجي أصولياً متطرفاً، أو الأصولي المتطرف لقلقاً من شدة انقضاضه على شعارات الحوار واحترام الآخر، بينما هو هو نفسه مشكلة التواصل.

* الإيديولوجيا والعالم

الإيديولوجيا في مواجهة سؤال النهاية، في الفكر العربي والإسلامي المعاصر.

الملفت للنظر ها هنا، أن معظم النقد المفهومي الإيديولوجي في المجال العربي، لم يأتِ بجديد إضافي. حتى ليبدو أن البيطار والعروي، قد أشبعا القول فيها، ولم يتركا مجالاً لإعادة عرضها، دون أن يكون في ذلك تكرار معيب. هذا بالطبع، ليس بسبب نبوغ غير مسبوق للبيطار أو العروي في هذا الخصوص، بل لكونهما سبقا غيرهما لممارسة هذا التقديم العرضي. قد يكون للإطار الزمني الذي حكم الاشتغال الإيديولوجي لدى البيطار أو العروي، مدخلية في تحديد مستوى النظر، ودرجة الوثوق وطبيعة الاختيار لدى كل منهما.

 فالبيطار الذي كتب “الإيديولوجيا الانقلابية” عام 1964م، كان محكوماً بحدث انهيار مشروع الوحدة العربية بين مصر وسورية. وفي زمن لا يزال للإيديولوجيات الكبرى مكانتها الفاعلة في العالم. الأمر نفسه بالنسبة إلى العروي، الذي تحدد اختياره في حقبة زمنية موسومة بثقة الجماهير بوعود الإيديولوجيات المتنفذة. وكلاهما لم يكتب ما كتبه في زمن اهتزاز المكانة التي احتلتها الإيديولوجيات، ليس فقط في الوعي العربي الإسلامي المعاصر، بل في الوعي الغربي نفسه.

نتحدث عن مرحلة دشنت قطيعة مع موسم حصاد الإيديولوجيات، الذي تجاوز الفصل المحدد له. كي ندخل عصر النهايات. وهو العصر الذي فاجأ العالم، بانهيار أكبر الإيديولوجيات رسوخاً وانتشاراً في العالم الحديث؛ “الشيوعية”. أي ذلك السقوط الدراماتيكي، الذي أعقبه فراغ إيديولوجي كبير، في الغرب الذي حتى ذلك الحين، لم يزل منشطراً على نفسه، بين الليبرالية والاشتراكية. وعلى الرغم من أن الشيوعية المنهارة سرعان ما حاولت تكييف نفسها غرباً، والتعبير عن جدواها من خلال شعارات جديدة ومشاريع مستحدثة، كانخراطها في موجة الدفاع عن البيئة، والتنظيمات النقابية المناهضة للعولمة، فإنها في المجال العربي - الإسلامي المعاصر، فتحت الطريق أمام صحوة دينية عارمة، دفعت باليسار إلى أقصى اليمين، للوقوف ضد ما رأته خطراً على نفوذها. الأمر الذي لم يترك فراغاً كالذي حصل في المجال الغربي، حيث بدت الردة إلى أشكال الإيمان المغشوش ظاهرة تؤرق المجال السوسيو-ثقافي الغربي.

سقوط المعسكر الشرقي، أوهم العالم، وبتأثير من الإعلام العالمي، بأن العالم اليوم ليست أمامه خيارات سوى الانخراط الطوعي أو الكرهي في الموجة الليبرالية، بوصفها نهاية المطاف في التفكير الإنساني. وبما أن الشيوعية طرحت نفسها نقيضاً تاريخياً لليبرالية، وبأن التاريخ سينصفها لتنتصر، فإن سقوطها، أدى إلى أن تصبح الليبرالية، الإيديولوجيا الغالبة. ما أوحى للبعض بأنها نهاية التاريخ وخاتمة الفكر.

في هذه الأثناء صدرت مقالة ثم كتاب، الإيديولوجي الأمريكي، الياباني الأصل، “فرنسيس فوكوياما” معنون بـ: “نهاية التاريخ والإنسان الأخير”. أعاد الحياة إلى خطاب غربي تقليدي، ترك انطباعاً كبيراً وخطيراً على العالم كله. فقد اعتبر لسان حال العقيدة الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية، وللغرب عموماً. فلتكف البشرية إذن عن التجريب والمغامرة في البحث وراء بدائل إيديولوجية واهمة، عن الرأسمالية والديموقراطية الحرة أو السوق الحرة. وليتمسك الجميع بدءاً من الآن بهذا الخيار، لأنه لا خيار لهم بعد اليوم سواه. فالإنسان الأخير، خاتمة النوع، هو إنسان ليبرالي، سياسته ديموقراطية، واقتصاده سوقي.

في العالم العربي والإسلامي، كان وقع انهيار الاتحاد السوفياتي على النخب السياسية والفكرية لا حدود له. فهو وإن كان بمؤسساته السياسية والعسكرية والاقتصادية ضمان تعبير بعض الأقطار عن استقلالها عن الغرب، فإنه إيديولوجياً كان ضمانة لنجاح أي إيديولوجيا أخرى خارج الهيمنة الأمريكية. لكن ما حدث بعد سقوط سور برلين، هو أن لا حلم بدا يراود هذه النخب عن إمكانية الثورة والتغيير. وهذا لا يعني أنه في المجال العربي-الإسلامي لم تحدث هناك شوشرة أو احتجاج ولو خجول، عن الواقع الجديد الذي فرضته الغلبة الليبرالية. فقد قامت احتجاجات وتظاهرات فكرية وسياسية لدراسة الحدث المريع. وطبعاً، بدون جدوى!

في نيسان 1992م، صدر عدد من مجلة الفكر العربي، الصادرة عن معهد الإنماء العربي ببيروت، محوره “مأزق الإيديولوجيا”. يمكننا للوهلة الأولى التعرف على الغاية من وضع هذا المحور وفي تلك اللحظة بالذات. الأمر يتعلق بمساهمة عربية في تجاوز محنة السقوط الدراماتيكي للإيديولوجيا الاشتراكية. وتقعيد أرضية نظرية لذلك، قوامها التمييز بين سقوط تجربة محكومة بظروف داخلية وخارجية، وبين سقوط الإيديولوجيا من حيث هي إيديولوجيا.

يكتب د. ساسي عساف متسائلاً: “الانهيار الذي حدث، انهيار أنظمة هو أم انهيار إيديولوجي”(1).

ويشرح ذلك بشيء من التفصيل، مرجحاً كون مأزق الإيديولوجيا الاشتراكية، إنما هو مأزق نظام اجتماعي - سياسي - اقتصادي - أخلاقي... إنه مأزق في مستوى التطبيق والممارسة، وليس في مستوى النظرية والمنهج... والمأزق، تالياً، هو وليد تراجع عن الإيديولوجيا ونتيجة تشويه لها...”(2).

لقد بدا جليًّا، أن الانهيار الذي عانت منه ثاني أكبر إيديولوجيا عالمية، لم يكن مسألة عربية خالصة، حتى نعزوه إلى الاختلالات البنيوية للاجتماع العربي، أو الموقع الجيو-سياسي المحكوم بتوترات لها آثارها السلبية على مستوى الاختيارات الإيديولوجية ودرجة استيعابها. بل، لقد كان سقوطها دراماتيكياً. وقد نجد أن ثمة مفارقة كبرى فيما يروج له من تبريرات وتسويغات، تهدف إلى جعل هذا السقوط معلقاً على مشجب ظروف ومناخات وإكراهات أخرى قاهرة، وذلك كله تبرئة للإيديولوجيا الاشتراكية، وتأكيداً على طهرانيتها وأزليتها. فالسقوط هو سقوط واقع وأنظمة، لا سقوط فكر وإيديولوجيا.

ولعل التهافت الذي يظهر فوراً من هذه المحاولات التبريرية، يؤسس لنوع من المفارقات في التعاطي مع هذه الإيديولوجيا المنهارة. فالماركسية كفلسفة اجتماعية استمر تأثيرها في الوعي الحديث، وتغلغلت كأطياف أكثر المدارس النقدية المعاصرة. لكن الإيديولوجيين الماركسيين يصرون على استمرارها كمنظومة فكرية وكإيديولوجيا أزلية خالدة. وهم بذلك يصرون على أمر حكم فيه التاريخ وقضى، قد يبدو مناسباً أن يستعيد فيه ماركس عباراته الشهيرة: إنكم ماركسيون أكثر مما أنا ماركسي!

إن “الدور” المنطقي الذي يقودنا إليه هذا التبرير الأخير، هو أن سقوط الإيديولوجيا الشيوعية، راجع إلى إكراهات وظروف داخلية وخارجية. وهذا ينم حقيقة عن فهم مغالط للإيديولوجيا ذاتها، باعتبار قيمتها في وظيفتها. إن الإيديولوجيا ليست روضة من رياض الجنة، وليس لها دور ترفيهي، أو أنها أداة تسلية، بل هي وظيفة للتغيير والبناء. كان يفترض من الإيديولوجيا أن ترفع عن الناس مشاكلهم السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتجعلهم مؤهلين للمعرفة واليقظة والنباهة، وليس عكس ذلك، أن تتطلب هي منهم ذلك. إذا كان المجتمع معافى من كل أزمة اجتماعية وسياسية واقتصادية، فما الحاجة للإيديولوجيا رأساً؟.

لم يكشف إصرار النخب العربية على الدفاع عن ديمومة الإيديولوجيا، عن جديد أو إضافي حتى أثناء محاولتهم هذه، التي تبدو خجولة إلى أبعد الحدود. فقد ظهر بأن الإيديولوجيات تنشأ وتسقط بغير إرادتنا. وبأننا لم نساهم لا في نهوضها ولا في استفحالها. فهل يعقل بأن الإيديولوجيا الاشتراكية التي سقطت في معسكرها التاريخي بكل إمكاناته ونفوذه، هل يعقل أن يعاد استنباتها في مجالنا العربي - الإسلامي؟ يبدو أن هذه القراءة لم تأتِ بجديد، سوى أنها أعادت استحضار الجدل الجاري في المعسكرين الشيوعي والليبرالي معاً، عشية انهيار الاتحاد السوفياتي، وسقوط سور برلين. لقد تبين بأن قوة الإيديولوجيا في مجالنا ليس مصدرها ضرورات الاجتماع المحلي، أو التطور التاريخي الخاص، بل هو صدى لما يجري في الخارج، ونتمثله في وضع قريب من التمسرح.

إلا أن المجال العربي الإسلامي لا يخلو أيضاً من دعاة النهايات. من أولئك الذين ازدهر خطابهم على حين غفلة، وعلى إثر اشتغال الفكر العربي - الإسلامي على تعديل منظوره، والبحث عن وسائل ناجعة للنهوض. لقد ذكرت بأن التطور الذي حصل على مستوى نقد الإيديولوجيا في المجال العربي - الإسلامي المعاصر، هو فيما يبدو للناظر صدى لما جرى في المجال التداولي الغربي. على أنه لا يعكس ذلك التطور بشكل نهائي. وهو ما يؤكد عليه النقاد العرب أنفسهم، متهمين بعضهم بعضاً بسوء الفهم لما يجري من تطورات فكرية في الغرب. وقد مر معنا موقف العروي الذي لم يزل يصف ما يكتبه العرب بالثرثرة والتجريد وقلة الفهم. لقد شهد النقد الإيديولوجي العربي هو نفسه انعطافات كبرى، مرجعها كما ذكرنا، ليس في ضرورات النظر ومقتضيات المعاش المحلي، بل في تفاعل سلبي مع ما يجري في الغرب، وترديداً لما تجود به مدارسه النقدية. فلا يزال العالم العربي - الإسلامي يبحث عن الإيديولوجيا المناسبة، وعن مخرج لمأزقه الحضاري، حتى باغتته المدارس النقدية الما بعد-حداثية post-modernistes، مشوشرة على اختياراته وأولوياته، مبشرة إياه بآفاق أوسع للنظر، وأعماق أكبر لمناورة الفكر، ومواقع أكثر لمناوباته.

فجأة ألفى العالم العربي نفسه أمام موجة عمائية جديدة، تتوعد كل الأنساق بالاضمحلال الحتمي، وترفع عن جدول أعمال الفكر العربي - الإسلامي المعاصر، ضرورة البحث عن طرائق ناجعة للنهوض، أو وسائل صالحة للتغيير.

وبينما كان العقل العربي الإسلامي المعاصر يجتهد لمواجهة التحديات الحضارية، واقتحام مجال الإشكاليات الكبرى العالقة، جاءت الموجة العمائية لتسوغ له الاستقالة والهروب، وتبرر له الكسل ومعانقة جحيم التيه والمفارقة مجدداً. هذه الموجة لا تخفي استهانتها بالتفكير الموجه، والهادف إلى تحقيق النهضة المنشودة، وتغيير الأوضاع البالية. ولا تخفي أيضاً أن همها نقدي يرمي إلى تفكيك ما هو حاضر، وطلب ما هو غائب، ولماذا حضر ولماذا غاب. كما تعلن أن لا هم لها بالحقيقة التي يجود بها المخيال. إنها بالأحرى تهتم بنقد الفكر ونقد الواقع. وتهتم بالعلاقة المخاتلة بينهما. وهي العلاقة القائمة على أساس الحجب والإخفاء. فالأفكار قلما تمثل الوقائع، بل تسعى إلى إخفائها. ومهمة المفكك هي كشف المخبوء، والكشف عن أصول الأفكار، وأسباب ظهورها. إنه الموقف الجينيالوجي النيتشي - الفوكوني، الذي حملته أدبيات ما بعد الحداثة، ولا سيما النصوص التفكيكية والحفرية لنقاد الميتافيزيقا الغربية، لاسيما الفرنسيين منهم، وعلى رأسهم رائد النتشوية الجديدة؟ مشيل فوكو!

في زحمة الحجاج الإيديولوجي العربي حول حاضر ومستقبل الإيديولوجيا، تبرز على الهامش محاولات د. علي حرب، الذي تولى قراءة ملف “مأزق الإيديولوجيا”، مقدماً بذلك رؤية مختلفة للموضوع، هي بلا شك رؤية نقدية تنتمي للموضة الفكرية المابعد-حداثية. وتستحضر أدوات النقد الحفري والتفكيكي، تلك التي بشّر بها رائد حفريات المعرفة -ميشيل فوكو- وداعية التفكيكية -جاك دريدا-. وكان علي حرب في أثناء نقده لهذا الملف، قد أثار مسألة الاتباع والتقليد. متعرضاً بنقد لاذع لهذا السلوك الفكري، الذي ينأى بنفسه عن الإبداع وعن خلق الجديد. ولكن، لا أهمية لهذه الدعوة، طالما أنها صادرة عن ناقد لم يتحرر هو نفسه من هذا التيار الكبير الجارف للعقل العربي. وقد يبدو علي حرب متحرراً إلى حد ما، من سلطة الدوغمائيات الميتافيزيقية الغربية، ووثوقيات الإيديولوجيا الماركسية، أو القومانية أو الليبرالية أو الإسلامية، ما يجعله يستشعر وضعه الخاص في الأزمنة الموسومة بنهاية الإيديولوجيات. لكن الحقيقة، هو ما يخفيه الناقد، وراء اختياراته الفكرية. إنه التزام بتيار نقدي، وليس تحرراً من التيارية. أي أنه هو نفسه يتبنى مدرسة نقدية، ويحترم طريقتها -وإن كانت أصولها نقدية عائمة غير مدونة أو ممسطرةـ لكنها ممارسة ومتفق حول قواعدها، كاتفاق المجتمعات الشفهية حول أصول لغاتها وثقافتها دون تدوينها أو تنظيمها، أو لنقل إنها أشبه بدولة لا دستور لها، لكنها مقيدة بقانون عرفي!؟.

وهذا ما شهد الناقد على ثبوته من خلال قوله: “ولكن لا خطاب يبرأ في النهاية من الإيديولوجيا التي هي على ما يبدو شر لابد منه”(3). فهل يا ترى، بعد هذا سيشكل موقف الناقد وخطابه استثناءً من هذا الحكم الكلي!؟

* الإيديولوجيا اليوم: العولمة الاقتصادية

دخلت الإيديولوجيا عالم الاقتصاد، ليس بوصفها نظرية للعمل، محرضة ومعبئة في اتجاه الإنتاج والعمل.. على غرار ما كان بحثه ماكس ويبر، بخصوص علاقة البروتستانتية بالعمل، وعلاقة التقشفية الكالفانية ومبدأ بيروث، بما يؤكد على البعد العملي للاعتقادات وتأثيرها في العملية الاقتصادية.. لكن ما لم يبحث في الموضوع، هو كيف أن الإيديولوجيا هنا دخلت إلى عملية الإنتاج والتوزيع بكل عبقريتها التزييفية. يحتاج العقل المنتج إلى مثل وأفكار لإقناع العامل بحتمية نمط الإنتاج، ولو في شروط مجحفة.. وكذلك يحتاج إلى أفكار مزيفة لإقناعه بأن عملية التوزيع أمر لا علاقة له بالعمل والجهد الذي يبذله العامل.. كل الظلم الاقتصادي والنهب العاري للقيمة المضافة مبرر ومقنع، وهذا يحتاج أن تعاقر الإيديولوجيا الاقتصاد، وتمده بمزيد من الخيال والتزييف والإقناع. إن الإيديولوجيا الاقتصادية المهيمنة على العالم اليوم، تقوم على جملة مسلمات، وكثير من المغالطات، هي أن النهب الصريح للقيمة المضافة حق، للمالك، وهذا يقتضي استدعاء تصور جديد لتراتبية الاجتماع العبودي بشكل جديد، وذوق أكثر نعومة وأقل عراء وتوحشاً.. على المالك أن يعمل كيف يشاء، ويمر من حيث يشاء.. وليس للعامل المرتهن لحتمية العمل وشروطه ونمط الإنتاج وغلبه، المعين سلفاً، إلا طريق واحد: أن ينتج قيمة مضافة، ويسلم بحق المالك في وضع اليد عليها.. هذا النمط الجديد من عبودية الإنسان للإنسان، يتطلب إيديولوجيا مزيفة تؤمن شكلاً من القناع، يحجب فظاعات هذا النمط المدمر للوجود الإنساني، وأيضاً قدراً من الاقتناع بعالم تراتبي قسري.. واليوم تتدفق شعارات العولمة الاقتصادية بإيديولوجيتها المزيفة، التي باتت أكثر وضوحاً من السابق.. تظهر العولمة للمتلقي عالماً من المثل، مستثمرة قوة الحلم الذي يجتاح عالم البؤساء، لتبشرهم بجنة عدن على أرض يتهددها التلوث، والكوارث الإنسانية والبيئية أكثر من أي وقت مضى.. لتمرير مشاريع جهنمية تقتل كل سياسة اجتماعية، وتجعل العالم ملكاً للأقوى اقتصاداً في عملية مولنة مكشوفة للاقتصاد.. إذا كان الإنسان هو آخر ما تفكر فيه العولمة الاقتصادية، التي يسعى باروناتها لنسف كل ما له علاقة بالتكلفة الاجتماعية، أي بحقوق الإنسان وحقوق البيئة والتنمية المستدامة، فإن أول مظاهرها الإيديولوجية الاحتفالية هي الإنسان.

يعيدنا الأمر مرة أخرى إلى ذلك الشكل الأجوف والكاذب، للأنسنة الشكلية التي ابتكرتها إنشائيات الصالونات البورجوازية، التي أثارت بنفاقها وازدواجيتها حفيظة نيتشه، وبعد ذلك بفترة ميشيل فوكو، كي يعلن موت هذا الشكل المزيف من الأنسنة -موت الإنسان- مثلما أعلن الأول موت الإله، الإله المزيف الذي اخترعه خيال الإقطاعيين والبطريركيين، حراس الجور والعبودية ودين قتل الإنسان وملاحقة العلماء.. بهذا التزييف لواقع العولمة، وأحلام قراصنة الحقوق الاجتماعية والبيئية، وهم مجرمون في حق الإنسانية إلى حد الفحش، تكون العولمة تمارس خدعتها الكبرى ضد الإنسانية..

هناك واقع ينذر بالدمار، وشعارات تبشر بشروق الوفرة.. غير أن إيديولوجيا العولمة تبدو أكثر وقاحة من حيث هي معاندة في رفضها الوقائع.. لقد استقبلها العالم على إيقاع الطرد الوحشي لأفواج من العمال وتسريحهم، وقبول جيل من الشغيلة بلا شروط ولا حقوق.. وثمة تراجع كبير على مستوى الإنفاق الاجتماعي، مما زاد المجتمعات فقراً وبطالة واضطراباً اجتماعياً وجريمة.. لكن اللسان الطويل لأنصار العولمة بمعناها الإيديولوجي الفج، لم ينقطع بعد، بمقص الفظاعة اليومية لضحايا تساقط الشروط والعقود وتراجع الحقوق.

كل إيديولوجيا لا تقر بالعدالة الاجتماعية، هي إيديولوجيا خادعة، تضيف إلى زيفها البنيوي والوظيفي خداعاً أنكى وأمر.. ولذا قد يكون من مفارقات الليبرالية أن تقدم نفسها بوصفها نظاماً ضامناً للعدالة الاجتماعية.. في أوروبا التي ظلت حتى حين تعيش على امتيازات السياسة الاجتماعية، التي ألَّفت بها قلوب الشعوب الأوروبية، الذين وضعتهم استراتيجية الحرب الباردة كأكياس رمل ضد التهديد الباليستي السوفياتي. لقد كانت السياسة الاجتماعية التي بدت كمرحلة ذهبية في أوروبا، من فضائل الحرب الباردة والتهديد السوفياتي لأوروبا.. أمر سرعان ما دلت عليه الوقائع فور نهاية التهديد المذكور، مع سقوط المعسكر الشرقي. والواقع أن ثمة ما هو أعظم من سقوط سور برلين، إنه السقوط الدراماتيكي للسياسة الاجتماعية في أوروبا، حيث باتت الأمركة بديلاً عن السياسة الاجتماعية، لا بل عودة بأوروبا إلى أحضان الفيكتورية، برسم التاتشرية والريغانية التي أعادت إلى الواجهة كل ذلك الإرث من الكراهية للقيود الاجتماعية على الاقتصاد، مع العولمة، التي يقودها رباط مقدس، بين فرسان المولنة الاقتصادية واليمين المسيحي، على إيقاع حروب تتهدد النوع بأكثر وسائل الدمار فتكاً، وبأنعم الشعارات الإيديولوجية، كذباً وخداعاً.. قد تكون الديموقراطية والليبرالية بمعناهما الفلسفي، حاجبة لكل هذه الفظاعات التي ترتكبها النظم الليبرالية الجديدة في حق الإنسانية، وهي نفسها الديموقراطيات والفلسفات الحرة عديمة الوجود في العوالم الأخرى، التي تجعل كل نضال ضد هذا الشكل المتوحش لليبرالية أمراً غير مجدٍ.

من هنا أحب أن أشير إلى البدائل المطروحة، كيف ينزاح النضال ضد التوحش الليبرالي، إلى حرب ضد الديموقراطية والفكر الحر.. ففي إيديولوجياتنا البديلة، نشجب الليبرالية الاقتصادية، ونشجب الاحتكار والربا، ونفتخر بأن الاقتصاد الإسلامي ناهض على العدالة الاجتماعية، غير أن أي طرح من هذا القبيل لن ينفع، إذا كانت تجارب المسلمين والهيئات الإسلامية لا تقدم نموذجاً للعدالة الاجتماعية.. ففي كل مكان ترانا نشجب الليبرالية، لكننا في معاملاتنا المالية نتصرف كليبراليين صغار.. ومنا من ينافسهم في الأسواق العالمية.. حتى المؤسسات الدينية تعاني من هذا التحدي.. هناك سوء توزيع، وهناك احتكار وتداول بيني محصور للمال الشرعي.. وارتهان للحزبية والولاء الحزبي والعصبية في التوزيع.. إننا في العالم العربي والإسلامي لم نحرر لا الأسواق ولا الإنسان، ولا حتى كسبنا عدالة في التوزيع، على شرط الاستسلام لانسداد آفاق الحرية الاقتصادية والمدنية.. فبدائلنا ليست بالضرورة بعيدة من حتمية الزيف الإيديولوجي. تلك هي المشكلة، أن نوضع بين خيارين أحلاهما مر. ففي نقدنا لليبرالية، تنزاح أمواج الاعتراضات التي لها مطالب تتنكر لكل ما هو مكتسب إنساني، وما هو نقطة قوة في النظم الليبرالية، أقصد الديموقراطية وحقوق الإنسان.

* الإيديولوجيا الدينية

يأخذنا هذا لبحث نمط آخر من الإيديولوجيا، أعني الإيديولوجيا الدينية. وأقصد بذلك مجمل ما كوّنه وأنتجه أهل الدين فكراً حول الدين.. ليس معنى ذلك أن الأمر يتعلق بالنوايا.. فسوف ندرك مع هذا الملف، أن الإيديولوجيا هي أعقد من أن تكون أمراً واعياً. إنها ليست زيفاً إرادياً ولا هي كذب محض.. فكل هذا من فعل الوعي، بينما الإيديولوجيا هي من فعل اللاوعي.. إننا ننتج الإيديولوجيا بلا وعي، وننتمي إليها بلا وعي..

أردت الحديث عن الفكر الوظيفي الذي ينتجه أهل الدين عن الدين، بمعنى الإيديولوجيا الدينية من حيث إن معاقرة الإنسان للدين تنتهي به إلى دين مؤدلج، لعله واحداً من مصاديق مقولة “غوشيه” بدين الخروج من الدين. إنها حالة إنسانية تؤكد على أن واحدة من تجليات أنسنة الدين، هي أن نجعله يعبر من خلال طيف الشرائط الواقعية. الدين هنا كوظيفة اجتماعية، لكنها بفعل التدليج -الذي أحياناً يأخذ معنى التدليس- يتعرض الدين إلى أكثر أشكال الإسقاط والمغالطة رثاثة.. أو لنقل أن التدليج المسقط على الدين، إذا لم يكن على تمام الوعي بالبنية والوظيفة الإيديولوجية، سيكون خطراً.

من هنا وددت لو تعرضت للفكرة المؤسسة لخطاب علي شريعتي، أي ضرورة جعل الدين إيديولوجيا. والحق أن شريعتي طرح أفكاراً جريئة فيها فكر كثير وتأمل كبير.. ومع ذلك فقد طرح أفكاراً قابلة لمزيد من المعالجة والنقاش. لقد أولى شريعتي اهتماماً كبيراً للإيديولوجيا. اهتماماً، يحمل بذور الإيديولوجيات الثورية لجيله. الإيديولوجيات التي جعلت الهيمنة للإيديولوجيا على حساب المعرفة.. ولا يخفى تصميم علم الاجتماع والانتماء الثوروي لأكثر الأفكار الثورية لجيل الستينات والسبعينات بادٍ في الخطاب الشريعتي المناضل.

إذا كان شريعتي رجلاً ثورياً بامتياز، فمن الطبيعي أن تشغل الإيديولوجيا كل اهتمامه. فهو يطالب بتدليج الدين وإخراجه من ثقل المؤسسة الرسمية التقليدية. وقد بدا أن كل الذين جاؤوا بعده، وحملوا الموقف السلبي من الدين الممأسس، كانوا صدى لهذه الدعوة الشريعتية.. دين ضد الدين..

لكن أن نجازف بتدليج الدين، دون نقد إيديولوجي يعمق الوعي به -وهو الشيء الغائب في كتابات علي شريعتي- مغامرة لا يستسيغها إلا الثورويون، الذين جعلوا الثورة فوق كل شيء.. أي الثورة كدين لا تعلو عليه قيمة.. إذا كانت دعوة شريعتي لتدليج الدين تقف على تصور وظيفي للإيديولوجيا، بوصفها محرضاً اجتماعياً على تحقيق الثورة والتغيير، فإن ما لم تقف عنده المحاولة الشريعتية هو، كيف نجنب المعرفة الدينية ضلال الإيديولوجيا، وفعلها التزييفي الثاوي في صميم وظيفتها، كما سيظهر في مقاربة بول ريكور.. ما هو ميلاد هذه الإيديولوجيا؟ وما هو معاد قيامتها؟.. ما شكل هذه الإيديولوجيا؟ وما حدود وظيفتها؟ وما هي المحاذير المتعين استيعابها؟.. وما علاقة هذه الملحمة التدليجية مع مدارات المعرفة؟.. هل من الضروري أن نضحي بالمعرفة لصالح الإيديولوجيا؟.. أم أن الحياة والثورة والاجتماع والحضارات لا تقوم إلا على الوظيفتين.. فالحياة هي علم وتعبئة.. ثورة وإصلاح.. عاطفة وعقل.. روح ومادة.. لون أحمر وأسود.. إيديولوجيا ومعرفة.. فلسفة وانقلاب.. نباهة واستحمار..

إن الدعوة الشمولية لتدليج الدين -هذه الدعوى الغارقة في المثل المستحيلة، والعارية من ضمانات معرفية صلبة، قوامها النقد الإيديولوجي نفسه- لها مطبات ندركها متى ما أصبح الشكل الإيديولوجي المشخص للدين، أقل جدوى وأقل دينامية واستجابة من الدين نفسه. ستكون الإيديولوجيا حينئذ عالة على الدين، بل ستعيق الدين عن وظائفه الكونية الكبرى، حيث للدين تجلياته وإمكاناته التي هي أكبر من إمكانات الإيديولوجيا ووظائفها.. إنه معانق لكل المدى الإنساني بكل أبعاده اللامتناهية.. بينما الإيديولوجيا تحصر المديات وتحصر التاريخ وتحصر الإنسان.

 إن الذين بالغوا بالأطاريح الشريعتية الجادة والممتعة، لم ينتبهوا لخطر سحر الإيديولوجيا وتردياتها الدراماتيكية.. لكن ما يلفت النظر أن المثقفين الإيرانيين هم اليوم أقل الشريعتيين.. فشريعتي -الذي لم يقرأ بعد في العالم العربي- هو اليوم متجاوز أمام الموجة الهيرمينوتيكية والبيتخصصية الإيرانية، الأكثر نزوعاً إلى النقد الإيديولوجي وما بعد الحداثة، في لون فكري خاص لم يشهد له مثيل.. وليس لها من الإرث الشريعتي إلا إنسانية خطابه، وصراطه الواحد المستقيم تحت خطو المثقف النبيه الملتزم، وليس صراطات مستقيمة، في معميات تكافؤ القوة المنطقية للأفكار، في المعاقرات المابعد حداثية، كما في مقاربات عبد الكريم سروش. إن الإيديولوجيات تجد طريقها سالكاً لدى الحامل الاجتماعي من ذوي الاستعدادات المتطرفة والغالية.. لذا، فإن الضامن لتجنب زيف الإيديولوجيات الوظيفي والبنيوي، وحماقات الإيديولوجيين، هو الاعتدال. فلا نغلو في الحكم على كذب أمر ما، عسى أن يكون أمراً صادقاً يوماً ما.. ولا نغلو في تصديق أمر ما، عسى أن يكون أمراً كاذباً يوماً ما. ومع الاعتدال يظل التساؤل مفتوحاً، إلى أن يجاب عنه يوماً ماً.

* آفة التدليج الحزبوي: في نقد العصبية المؤدلجة

كل ما حولنا يحمل تصميم الإيديولوجيا ويحيل عليها.. وحق على المعرفة أن تتساءل أمام هذا التدفق الإيديولوجي الثاوي في أنطولوجيا كائن لا يحسن أن يفكر إلا زيفاً.. حق على المعرفة أن تتساءل: أين المفر؟..

إن الإيديولوجيا تعترف بأكذوبتها فقط حينما تشيخ.. تتدخل المعرفة كطبيب، لإسعاف الفكر وتزويده بحقنة لتقوية مناعته.. حينها تنتعش الإيديولوجيا من جديد؛ لتنشأ وتترعرع وتطغى، ثم تشيخ مرة أخرى.. ليس للإيديولوجيا خلود.. إنها حالة من نشوء وارتقاء الإيديولوجيات.. تكيّفها وانمساخها، ولِمَ لا نقول أيضاً، تناسخها.

لقد أعطت الدولة الحديثة شكلاً جديداً للفعل السياسي، قائماً على التعددية الحزبية، لتنشئ بذلك تعويضاً سوسيو-تاريخياً عن التعددية القبائلية. ويساوق مفهوم الحزبية العصبية، حيث لا أحزاب بلا عصبية، ولا عصبية من دون إيديولوجيا تنشأ داخل الأحزاب، لا سيما المتقادمة المعمرة، آفة العصبية المؤدلجة التي تأخذ في النمو إلى حد الشطط. تملأ الإيديولوجيا رؤوس المنتمين فتنتفخ بطلسمات إيديولوجية تزيد على المقدار العقلاني، الذي يحفظ للفرد المنتمي حريته وقدرته على التفكير الحر، متى ما استنفدت إيديولوجية الحزب أغراضها.. وانتهت المؤنة الإيديولوجية في زحمة التكرار والروتين، ويبدأ موسم الاستيقاظ من تخديرها، وتتضخم المشكلات والتحديات والتساؤلات، التي تصيب الإيديولوجيا في نهاية المطاف بالوهن، فتصبح كعجوز شمطاء مخرفة هاذية، لا تحسن سوى الثرثرة ومضغ الكلام، وأحياناً تلوذ بالانتحار.. تأتي حالات على الأحزاب السياسية، يتعرض منتموها إلى وضع مرضي خطير، تتنامى فيهم حالة التواهم بين المنتمين.. يتساكنون، أي يسكن بعضهم إلى بعض بحذر.. كذلك يسكّن كل منهم روع الآخر ويطمئنه بصدق دعوته. ظاهرة التواهم هي واحدة من أعراض مرض التدليج المتضخم، الذي يجعل الحزبي الصادق، من لا يحسن التساؤل أو التفكير الحر. فعدو الحزبوية المغلقة هو التفكير الحر. والأعداء البارزون للحزبويين هم المفكرون الأحرار. المنتمي الحزبي الذي لم يدرك أفول الإيديولوجيات المزمنة، ويظل يغتذي من نفايات الإيديولوجيات المقبورة، هو شخصية مستلبة ومخدرة وسلبية بامتياز. ثمة من الأحزاب العصبانية من يسلك أهلها بذكاء، عملية استقطاب مستدام لشباب غفل لم يغادروا غرارتهم.. وهم بذلك أذكى من غيرهم، لأنهم يدركون أن طاقة إيديولوجيتهم لا تستطيع إنعاش سقف عمري معين.. إنها ضرب من المنشطات الوقتية، سرعان ما يفيق الإنسان من مفعولها التخديري، بفعل التقدم في العمر وتراكم الخبرة.. تلك الإيديولوجيات يكون الزمن كفيلاً ببيان هزالها.. فالإيديولوجيا التي لا تستطيع أن تصمد أمام تقدم العمر، هي بالأحرى إيديولوجيات طفولية لا يمكن أن ترضي إلا الأطفال. ولعله من الحكمة بمكان أن الوحي نفسه لا يختار من الأنبياء إلا أهل الأربعين، لأنه هو سن النضج الذي لا يمكن أن ينساق فيه الإنسان إلى أي اختيار فكري بسرعة ونزق.. الأربعون ضمانة وحماية من النزق الإيديولوجي والوعي الشقي.

ما الحل إذن؟ على الأحزاب السياسية أن تدرك جدل الإيديولوجيا والزمن. وأن تدرك أن الإيديولوجيا تحتاج إلى تدبير وإنعاش مستمرين، أي إلى قوة معرفية تتدارك هزال الإيديولوجيا باستمرار. إنه فعل الوعي والحذر المعرفي المستدام. وهذا أمر لا يمكن أن يقوم به الإيديولوجيون، بل هو دور النقاد المعرفيين. وهذا معناه أن الأحزاب السياسية عليها أن تقلل من ذهانها العصبوي، لتقبل في داخلها بمنتمين ليس بالضرورة أن تمتلكهم كلاًّ.. أي منتمين أحرار. إن مشكلة الأحزاب السياسية في العالم كله، وخاصة في العالم الثالث، أنها أحزاب لا تقبل بالمنتمين الأحرار. أي تكفر بالنقد الذاتي.. إنها أحزاب تحتقر مفكريها ومثقفيها وتستهين بالنقد.. فهل يمكن للأحزاب السياسية أن تتحول إلى مختبر نقدي ومعرفي، تتعايش فيه المعرفة والنقد الإيديولوجي.. أليس ذلك على الأقل سيجنبها الحالة الانقسامية القبلية، التي تحكي عن وحدة النمط العصبوي الحزبي - القبلي.. ألسنا في مثل هذه الحالة في حاجة إلى أنثروبولوجيا حزبية، تجعل الدولة الوطنية الحديثة موضوعاً للأنثروبولوجيا، وليس موضوعاً لعلم السياسة.

ليست الأحزاب السياسية وحدها من عاقرت الإيديولوجيا في عز عرائها.. فالمثقفون لا سيما في العالم العربي، هم سادة التدليج وخبراؤه.. فالعقل العربي لم يعد يخجل من هذا الشكل من المعاقرة الإيديولوجية العارية، في غياب الرقيب الجمعي الواعي، وفي لحظة تسلطن المثقف الإيديولوجي الكدحي وليس الحر -الاستعارة نيتشية-.

ثمة مثقفون اليوم حولوا الممارسة الثقافية والفكرية والنقدية، إلى كانتون وزوايا وأحزاب مغلقة، تستند إلى كتل جماهيرية وأنصار وأتباع وحواريين، تستقوي بهم في تغالبها المرضي مع نظرائها، قمعاً للنقد وقمعاً للحوار وقمعاً للاجتهاد.

إذا كانت الإيديولوجيا مرض الفكر وآفته، فإن وراء الإيديولوجيا كائناً مركباً هو صانعها.. إن الإنسان هو المسؤول عن مرضه وعن إيديولوجياته.. بل هناك من صنوف هذه الإيديولوجيات ما يكرس تخلفاً مزمناً في عالمنا العربي. حيث ما صدقنا أن بدأت السياسة تجد رشدها رويداً رويداً، تكيّفاً مع التحولات العالمية، والإكراهات التي أرغمت أنوفاً على أن تنظر في نفوسها بعض الشيء، ولو بخجل وإحساس بالهزيمة -في الحقيقة، هزيمة من؟ هل هزيمتنا أن بدأنا نفكر في ذواتنا.. يا لمفارقة المجال العربي وتاريخيته الغبراءـ، حتى انبرى من المثقفين وأصحاب المشاريع المزيفة المغررة للعقل العربي، أن بدؤوا يحتلون مكان المستبد، يبشرون بالرأي الواحد والمصير الواحد، كما هو في مخيلة متورمة بحصرها التعسفي..

من سوء حظنا في العالم العربي، أن صناع أوهامنا الإيديولوجية وصناع مثلنا الحالمة، مستبدون غارقون في وحل الشرور الدنيا.. وقد شهدنا كيف هللت ذات مرة، إيديولوجيا ديكتاتور العراق المخلوع، الذي جعل الشعوب العربية تحلم بِمُثُلٍ سرقها من مخزون هذا المتداول.. وقد هلل معه مثقفون إيديولوجيون كثر، أخفوا بمدائحهم الوجه الوحشي لطاغية العراق، الذي جلب الويلات على شعبه المعذب، احتلالاً وحروباً وحصاراً.. قبل فترة فقط، كان طاغية العراق رمزاً نحتته الإيديولوجيا العربية، وحشت به مخيّلة السواد المخترم من الأغلبية المقهورة والأمية والمستعبدة، في هذا الليل العربي الذي طال ومللناه.. ووحدها الإيديولوجيات العربية تملك هذه الجرأة النادرة في صناعة الطواغيت، واللعب على الحبال.. حتى بات كل شيء له نصيب من هذا الزيف، ديموقراطيات مزيفة.. تنمية مزيفة.. معارضة مزيفة.. جهاد مزيف.. مقاومة مزيفة.. بكاء مزيف.. أفراح مزيفة.. كل شيء مزيف..

فمعركة العقل العربي هي اليوم ضد الزيف.. أي ضد التدليج وتقيؤاته.. وضد نزيف الزيف ومرض الفكر، وهواجس المثقف الإيديولوجي الهائم في سلطنته المرعبة والإرهابية والاستئصالية العبثية. حيث لا فكر يعلو على خدمة الإنسان، ونصرة المظلومين والمعذبين.. ووحده المثقف العربي المأخوذ بلعبة التدليج والتكوثر الوهمي، المزيف للواقع الممجد للطغيان، المتزلف لصانعي المقابر الجماعية، المتطلع البصر والبصيرة إلى كوبونات من مسروقات شعب جائع تأكله الملاريا.. هذا الضرب المؤدلج من المثقفين العرب، هم أبشع صورة عن خطر الهذيان الإيديولوجي، وزيف الإيديولوجيا العربية المعاصرة.

فهل نقول: إنها نهاية المثقف الإيديولوجي العربي؟

ليس المقصود هنا بالإيديولوجي، المثقف الثوروي حصراً، بل المقصود بالإيديولوجي هنا المعنى القدحي. أي المثقف الانتهازي العربي عديم الضمير غير الحر.. يستوي في ذلك أن يكون ثوروياً أو متلبرلاً.. فليس المرددون الممضون على بياض للدجل الإيديولوجي، النيوليبرالي الكاذب، المستكبر، المدمر للشعوب، أكثر فقداناً للحرية من ثوروي لا يضيع فرصة للنهب، ومد اليد للأسياد لقاء ما يقدمه أو يقوله أو يكتبه.. وهؤلاء وأمثالهم هم من تورطوا في الكوبونات.. هم إيديولوجيو الكوبونات، الذين شكلوا وسيشكلون دوماً دروعاً للطغيان والاستبداد.. أمثالهم لا يمكن أن ينتعشوا إلا في ظل الطغيان.. فهم لا يجدون حاجتهم لأن يكونوا أحراراً، أو يََرَوا من حولهم يتمتع بكامل حريته..

ليس الطغيان فردياً بل هو جماعي، يساهم فيه مثقفون مستبدون انتهازيون أنذال أيضاً.. لقد كشفت فضيحة الكوبونات الوضع الفظيع والمرضي للمثقف العربي، ذلك ما نسميه بفضيحة الإيديولوجيات العربية. الضحالة الوجودية والانمساخ السياسوي؛ ثمن موت الإيديولوجيات الحية. تموت الإيديولوجيا في مشهد وإن كان ممعناً في رفض التجدد، فهي تكره الفراغ.. تتحول الأحزاب السياسية والفعل السياسي، إلى تشظٍّ سياسوي، فتفرز التربة الفاسدة من هذا اليراع السياسوي، اللاهث وراء أتفه المصالح، من الحالمين من يفسدون الحياة السياسية، ويزيدونها ضلالاً وهياماً.. يصبح الفعل السياسي مشهداً يفيض بالحماقات، ويتكاثر حوله كذابون يعوضون رحيل الإيديولوجيا، التي مهما قيل عن زيفها فهي تصون حاملها من الكذب العاري والتزييف الفاضح.. فمتى اختفت الإيديولوجيا الحية من المشهد السياسي، تنقض مواكب القطا على المشهد، وتبدأ رحلة الضحالة السياسوية، فيزداد الناس عزوفاً عن السياسة، فتمارس عليهم كأقبح ما تكون السياسة جرماً ونفاقاً.

* الإعلام والميديولوجيا

وأما عن الإعلام فحدِّث ولا حرج.. الزيف بلغ مبلغه مستعيناً بشيطان التقنية الإعلامية.. ملايين الطيبين من هذا الشعب العربي، فاغرة فاها أمام شاشة تقذف بحمم الأكاذيب والصور الخادعة المزيفة.. يتغذى مشاهدونا الأعزاء على كل أشكال الطبيخ الإيديولوجي.. سوق معروضة على آخر طراز من الزيف والتضليل.. طغاة يصاغون في هذا المخبر الإعلامي الفاسد في صورة ملائكة الرحمن.. ورجال أخيار يمسخهم الإعلام نفسه إلى أشرار. الفرجة الإعلامية لم تعد سوى وجبة ميديولوجية، نأكلها ونتقيؤها، وكل منا يجب أن يقول لجليسه: حظ سعيد!

* الحركات الإسلامية ونصيبها من الإيديولوجيا

هذا حال الأحزاب السياسية، فما بال الحركات الإسلامية؟.. هل هي حقًّا بمنأى عن مرض الإيديولوجيا؟ هل نصمت ولا نتحدث عن مرضها؟.. هل هي معصومة؟ .. هل هي تنظيم ملائكي؟.. من قال ذلك؟!

في البدء لا بد من قولها: “فلا خير فينا إن لم نقلها، ولا خير فيهم إن لم يسمعوها”. لقد أصاب الحركات الإسلامية من هذا المرض، ما جعلها ترث كل أعراض الهذيان البارنوياني، الذي أصاب الأحزاب والتنظيمات الشمولية المغلقة.. قيادات تنزع إلى الهيمنة على الأرواح والعقول، التي إنما بعث الأنبياء ليثيروها لا ليسيطروا عليها: {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}، {وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ}..

الأنبياء أنفسهم لم يمارسوا في حق أتباعهم ما يمارسه قزم سياسي في هذا الزمان.. فهم ليسوا مسيطرين ولا جبابرة. الرمز يفكر عن القاعدة، وفي بجاحة النوكى يقبل الأتباع بكل ما يصدر عنه بلا مراجعة ولا نقاش ولا مساءلة.. إنها قيادات ترتكب أكبر جريمة ضد نهج الأنبياء؛ المتمثل بـ: “ليثيروا لهم دفائن العقول”.. عندما تضع سقوفاً للتفكير ضد أتباعها، الذين ضمن لهم الشرع الحق في أن يخرقوا السماوات والأرض بسلطان عقولهم..

* مفارقات المؤدلجين أو إيديولوجيا الموت..

تلك هي المفارقة، أن تعدك الإيديولوجيا بالحياة، وتحرضك على ضرب قبيح من الموت الأناني، قوامه بديل متخيل للفردوس الأعلى، معاوضة عن بؤس المعاش، على حساب حياة الأبرياء والنفوس المحترمة. هي صورة عن شاب قطط، انتفخ رأسه بإيديولوجيا زائفة، تضخم فيه إحساساً ذهانياً، على أن كل من حوله كفار، وأن الجنة له وحده، ولهذه العصبة التي ترى أن الطريق إلى الجنة لا تكلف أكثر من مجرد تكفير المسلمين وقتل الأبرياء.. ويكفي التعلق بشعارات مقرصنة لاستعمالها غطاءً تبريرياً، كالجهاد، بسطحية فقهية عمياء، جهاد لا يبقي ولا يذر، لتصريف كل أشكال هذه الحماقات. تصور أن شخصاً مؤدلجاً بهذا المعنى السخيف، توجه إلى حيث يفجر نفسه في سوق أو مكان مقدس أو في جنازة.. عبث بالأرواح البريئة، موت أناني، يشتري فيه المنتحر جنة الرحمن التي لا عوض لها إلا العمل الصالح، ومعرفة أرحم الراحمين، والسفر في الملكوت، بدم ونفوس بريئة. إنه من السهل أن تحشى رؤوس هؤلاء الغفل، الذين يستهينون بالحياة في سبيل أحلام بائسة وأفكار مزيفة، وتحت طائلة التخدير بإيديولوجيا الموت الرخيص واللامعنى، لكن من الصعب حشوها بأفكار بناءة إيجابية، تعيد لها جمالية الحياة رغم كل معاناتها وبؤس معاشها.. لست أنت من يصنع قيامته وقيامة العالم.. أنت مطالب بالإحسان في العمل.. فأن يكون المرء حلس بيته أفضل ألف مرة، من أن يخرج للناس بهذا الفكر المنكر والمرعب.. إيديولوجيات القتل البارد.. القتل المرضي.. هي أكثر أشكال الإيديولوجيات مدعاة للشفقة. . فهل تقاوم بالعنف المضاد وبالتدبير الأمني؟ لا، إنها حالة تعالج بوسائل متضافرة، كلها تمر عبر وسيلة الوسائل الناجعة: ألا وهي سياسة التثقيف، وهي سياسة لا يمكن أن تنجح إلا في ظل مناخ حر، ترعاه نظم حرة، تؤمن بالحوار الاجتماعي وحق المواطنة، دولة للحق والقانون والحريات وحقوق الإنسان، بقواعدها المشهودة، لا بترديدات غارقة في معميات الإنشاء الثوروي الرّثّ.

يبدو المتعصبون للوهلة الأولى كأصحاب إيديولوجيا متطرفة غير متسامحة. والحق أن المتعصبين والإرهابيين متسامحون في قناعاتهم وإدراكهم، حيث لا يكلفون أنفسهم عناء الغور في الوجوه المحتملة للموضوعات والأحكام، فيكتفون بالنزر القليل من المعرفة، ولا يستفرغون الجهد عند الدليل.. إنهم يخفون كسلهم المعرفي بالتظاهر بالجهاد، فيكفرون الناس بسهولة منقطعة النظير، ومع ذلك هم غير متسامحين في قناعتهم تلك، الجهاد غير المحفوف بشرائطه الموضوعية وأحكامه الشرعية، تعويضاً عن تقاعس منكر في جهاد المعرفة، وما تتطلبه من إعمال نظر واستفراغ للجهد.. المكفرون هم أصحاب إيديولوجيا رخوة ورثّة، يظهر غباؤها للوهلة الأولى.. لذا وبما أنها إيديولوجيا كاذبة عارية مفضوحة تفتقر إلى قدرة الإقناع، تراهم يعوضون ذلك بالعنف والإرهاب والكراهية..

* الإيديولوجيا والإرهاب الأكبر

شهد العالم تحولاً كبيراً على إثر سقوط المعسكر الشرقي، السقوط الذي كان منتظراً منذ سعت الولايات المتحدة الأمريكية إلى سياسة الإنهاك واستنزاف الاقتصاد السوفياتي، عبر التصعيد في سباق التسلح، الذي بلغ نهايته مع إطلاق مشروع حرب النجوم في الحقبة الريغانية.. لقد تبلورت رؤية استراتيجية أمريكية جديدة، في سياق البحث عن عدو خارجي يعوض فراغ السقوط الأحمر، ويبرر استمرارية استراتيجية التدخل والانتشار الأمريكي، تعبيراً عن اللحظة الولسونية. أظهرت حينئذ كافة الكتابات والتقارير الأمريكية، أن العدو المفترض والأنسب للاستراتيجيا الأمريكية بعد الحرب الباردة هو الإسلام، وتحديداً الإسلام السياسي. في سياق تعميق القناعة بضرورة التحول برسم النموذج الاستراتيجي الجديد، تداعت الأحداث بشكل يكاد يكون مطَّرداً إلى حد الانفجار، فكانت واقعة الحادي عشر من سبتمبر الشهيرة، بداية التنفيذ العملي لهذه الاستراتيجية الجديدة.. كانت ثمة استدراجات من هذا القبيل، ازدهر معها خطاب إيديولوجي تمركز حول مسألة الإرهاب.. فجأة أصبح الإرهاب لغة العالم، كما لو أنه لم يحدث في يوم من الأيام، ولا عاقره تاريخ البشر قط.. وقد رافقت هذا التدفق الميديولوجي أوهام، لا تقل عن كل الأوهام التي سبقت في المتخيل الأمريكي، رداءة ووقاحة إلى درجة الاختزال الشديد. لم يكن الأمر يتعلق بالصدق والكذب، كما تسعى وسائل الإعلام للتعبير عنه.. فالمسألة تتعلق باستراتيجيا وإيديولوجيا، تهيئ المناخات النفسية والثقافية والذوقية، لاستقبال نموذج جديد في الفعل السياسي والاستراتيجي الأمريكي.

فجأة وجدنا أنفسنا في العالم العربي والإسلامي، مرتهنين لأبشع صور الانتقال التاريخي الذي تصنعه قوة الإرهاب، إرهاب استراتيجي مناور، وإرهاب فوضوي عارم.. إرهاب الدولة التي تمارس الإرهاب باسم الشرعية الدولية، مستغلة نفوذها وقدرتها على الضغط.. وإرهاب يفتقد لتلك الشروط، لذا يبدو إرهاباً عارياً وفاقداً للمشروعية.. وبما أن الحديث عن الإيديولوجيا الأمريكية مما أصبح واضحاً للعالم، بعد أن أصبح من الصعب الإقناع به حتى الرأي العام الأوروبي والأمريكي، فلنقف عند الإرهاب الديني الذي تمارسه بعض الحركات الإسلامية التكفيرية، طلباً للنقد الذاتي -الفريضة الغائبة-. لقد فعلت الحركات المذكورة ذلك دائماً، حتى عندما كانت حليفاً موضوعياً للاستراتيجيا الأمريكية إبان الحرب الباردة.. فعلته في حق المسلمين، ولا تزال تفعل مثل ذلك في العراق، مرة بدعوى التترس بالمسلمين في أجهل تخريج فقهي، وتارة بحجة أنهم من عامة المسلمين أو المخالفين، وهم على أية حال في نظرها، مسلمون من الدرجة الثانية، أو ربما حسبوهم كفاراً خارجين عن الملة. فإذا أصبح الإرهابيون اليوم يصفون حساباتهم، ويواجهون استحقاقات المرحلة القادمة، فلن يكون الأمر أكثر مما قد يقال: إنها صحون إبليس تكسر بعضها.

* وأخيراً

أخيراً، نأمل أن نقدّم في ملفنا هذا، ما يروق القارئ في زمن فوضى الإيديولوجيات الصاعدة. فبسبب هذه الفوضى التي تحدث في الإيديولوجيات وبالإيديولوجيات، أردنا إنجاز ملف حول الموضوع، حاولنا قدر الوسع أن يشمل الجانب النظري المتعلق بـالـ”ميتا-إيديولوجيا”، كما يشمل المقاربة التحليل-نفسية للظاهرة (الإيديولوجيا)، ويظل الجانب المتصل بعلاقة الإيديولوجيا بالعالم وبالاقتصاد والأحداث العالمية الراهنة، مما لم يتسع له المقام، وإن كنا أشرنا إليه اختزالاً في تقديمنا هذا...

لا شك أن الحديث عن الإيديولوجيا وفي الإيديولوجيا حديث ذو شجون.. لقد بدا يأس العالم من كل إيديولوجيا مهما أحاطت نفسها بشعارات حالمة.. إن كان حقًّا هناك ما يميز مرحلتنا الانتقالية، فهو بداية هذا الشك العارم، الذي بدأ ينهال على عالم البشر، بداية تاريخ زوال اليقينيات الإيديولوجية الكبرى. اليأس من المعروض يختزن تطلعاً لبدائل أخرى.. وحده الزمان كفيل بإظهارها..

في هذا السياق، أود أن أشكر كل الذين ساهموا في إنجاز هذا الملف، وبالمناسبة أشكر الباحث والمفكر المغربي الدكتور محمد سبيلا، على جهده الترجمي، وإصراره المشروع على عرض المنتوج الغربي بين يدي القارئ العربي، دونما إغراق في التأويل، المهمة المعرفية التي لم تكتمل تاريخياً في العالم العربي، لندخل عصر النقد والتأويل قبل تشكل المعطيات والتراكمات الضرورية لممارسة هذا النقد.. إن مساهمته معنا في هذا الملف بأكثر من عمل ترجمي، يأتي في سياق اشتغاله الطويل في مجال النقد الميتا-إيديولوجي، ويعد كتابه “الإيديولوجيا” -أطروحته في الدكتوراه- من أهم ما قدّم في هذا المجال مغربياً وعربياً.. ولا أنسى أن أشكر البروفسور فرنسيس فوكوياما على مشاركته معنا في مجلة الكلمة، بحوار في الموضوع نفسه وفي إطار ملفنا هذا، أجدد شكري له، رغم ما نحتفظ به من خلاف ونقد جذري لأطروحته، بما لمسنا منه من حس متسامح ومن دماثة، جعلتنا نلمس في سلوكه وفاءً للأخلاق الشرقية، التي لم تبددها شخصيته الجديدة كمتولد أمريكي ذي أصل ياباني.

 

الهوامش:

(1) مجلة الفكر العربي، عدد 68، ص 7، معهد الإنماء العربي، بيروت 1992م.

(2) المصدر السابق، ص 8.

(3) علي حرب، نقد النص، ص 94، ط 1993م، المركز الثقافي العربي - بيروت.