شعار الموقع

الإيديولوجيا واللاشعور

لويس ألتوسـير 2005-10-17
عدد القراءات « 2201 »

الإيديولوجيا واللاشعور*

بقلــــم: لويس ألتوسـير

 

“الكل يتعلق إذن بمعرفة طبيعة النزعة الإنسانية كإيديولوجيا. وليس المقصود هنا أن نحاول تقديم تعريف معمق للإيديولوجيا، بل يكفي أن نعرف بصورة تعميمية جداً، أن الإيديولوجيا منظومة (لها منطقها ونظامها الخاصان) من التمثلات (صور، أساطير، أفكار، أو مفاهيم حسب الحالات) تتمتع بوجود وبدور تاريخيين، ضمن مجتمع معين. وبدون أن نتطرق لمشكل العلاقات القائمة بين علم وماضيه “الإيديولوجي”، لنقل بأن الإيديولوجيا كمنظومة من التمثلات تتميز عن العلم من حيث إن الوظيفة العملية تتغلب فيها على الوظيفة النظرية (أو وظيفة المعرفة).

ما هي طبيعة هذه الوظيفة الاجتماعية؟ لكي نفهم هذه الوظيفة، يتعين علينا العودة إلى النظرية الماركسية في التاريخ. إن ذات التاريخ هي عبارة عن مجتمعات إنسانية معينة. تظهر هذه المجتمعات على شكل كليات تتشكل من خلال نمط معين من التعقد، مستخدمة هيئات - يمكن أن نقلصها بعد أن نجزئها إلى ثلاث: الهيئات الاقتصادية والسياسية والإيديولوجية.

نلاحظ في كل مجتمع إذن -بأشكال تختلف إلى حد الغرابة أحياناً- وجود نشاط اقتصادي أساسي، وتنظيم سياسي، وأشكال “إيديولوجية”، (دين، أخلاق، فلسفة..إلخ).

الإيديولوجيا إذن تشكّل جزءاً صميمياً من أية كلية اجتماعية، والأمر يجري كما لو أن المجتمعات الإنسانية، لا يمكن أن تستمر في الوجود، بدون هذه التشكيلات الخاصة، هذه هي المنظومات من التمثلات (من مستويات مختلفة) التي هي الإيديولوجيات.

- إن المجتمعات الإنسانية تفرز الإيديولوجيا وكأنها العنصر والمناخ الضروريان لتنفسها، أي لحياتها التاريخية. والتصور الإيديولوجي للعالم هو وحده الذي استطاع أن يتخيل مجتمعات بدون إيديولوجيات، وأن يقبل الفكرة الطوباوية، المتعلقة بعالم ستختفي فيه الإيديولوجيا،  بدون أن تترك أي أثر، (لا هذا الشكل أو ذاك من أشكالها التاريخية)، ويحل العلم محلها.

(...) ليست الإيديولوجيا إذن شذوذاً أو نشازاً عارضاً في التاريخ. إنما بنية ضرورية وأساسية للحياة التاريخية للمجتمعات. إن الاعتراف بوجود الإيديولوجيا وبضرورتها، هو ما يمكّن من التحكم فيها ومن تحويلها إلى أداة لفعل واعٍ في التاريخ.

من المتعارف عليه القول بأن الإيديولوجيا تنتمي إلى منطقة “الوعي”،  يجب ألَّا ننخدع بهذه التسمية التي تظل ممسوسة بعدوى الإشكالية المثالية السابقة على ماركس. وفي الحقيقة فإن الإيديولوجيا ذات صلة ضئيلة بـ”الوعي”، هذا إذا افترضنا أن لهذا اللفظ معنى واحداً محدداً. إنها في عمقها لا واعية.. حتى ولو قدّمت نفسها، كما هو الأمر في الفلسفة السابقة على ماركس، بصورة واعية.

إن الإيديولوجيا فعلاً منظومة تمثلات.. لكن هذه التمثلات لا علاقة لها في أغلب الأحيان بالوعي.. إنها في أغلب الأحيان صور، وأحياناً مفاهيم، لكنها تفرض نفسها قبل كل شيء، على الأغلبية الساحقة من الناس، على شكل بنيات دون أن تمر بـ”وعيهم”، إنها موضوعات ثقافية مدروسة - مقبولة، وتؤثر تأثيراً وظيفياً في الناس عبر عملية تفلت من إدراكهم. إن الناس يحيون “إيديولوجيتهم” (.....) كما لو كانت عالمهم الخاص نفسه. ما المقصود عندما نقول: إن الإيديولوجيا تتعلق بـ”وعي” الناس؟ إنها تعني أننا نميز الإيديولوجيا عن بقية الهيئات الاجتماعية. لكنها تعني أيضاً أن الناس يحيون أفعالهم، التي يرجعها التراث الكلاسيكي كلها إلى الحرية وإلى “الوعي”، يحيونها في الإيديولوجيا عبر ومن خلال الإيديولوجيا.

وبإيجاز، فإن العلاقة “المعيشية” للناس مع العالم، بما في ذلك علاقتهم المعيشية مع التاريخ، في فعلهم أو عدم فعلهم السياسي، تمر عبر الإيديولوجيا، بل هي ربما الإيديولوجيا عينها. وهذا هو المعنى الذي قصده ماركس، عندما قال بأن الناس يعون موقفهم في العالم وفي التاريخ ضمن الإيديولوجيا ومن خلالها، (من حيث هي مجال تجري فيه صراعات سياسية)، فضمن هذا اللاوعي الإيديولوجي، يتوصل الناس إلى تعديل علاقتهم “المعيشية “ مع العالم، ويتوصلون إلى هذا الشكل الجديد من اللاوعي الخاص، الذي يدعى “الوعي”.

تتعلق الإيديولوجيا إذن بعلاقة الناس “المعيشية” مع عالمهم. لا تبدو هذه العلاقة -التي لا تظهر- واعية إلا بشرط كونها لا واعية، ولا تبدو بسيطة إلا بشرط كونها معقدة، أي أنها ليست علاقة بسيطة، بل هي علاقة علاقات، أي علاقة من الدرجة الثانية.

في الإيديولوجيا، يعبر الناس فعلاً -لا عن علاقتهم بظروف وجودهم بل- عن الكيفية التي يحيون بها علاقاتهم مع ظروف وجودهم، وهو ما يفترض في الوقت نفسه علاقة واقعية ـ وعلاقة “معيشية” متخيلة. الإيديولوجيا إذن هي التعبير عن علاقات الناس بعالمهم، أي الوحدة (المحددة تحديداً تضافرياً) القائمة بين علاقتهم الواقعية وعلاقتهم مع شروط وجودهم الواقعية. ففي الإيديولوجيا تستثمر العلاقة الواقعية حتماً ضمن علاقة متخيلة. علاقة تعبر عن إرادة (محافظة انصياعية، إصلاحية أو ثورية، بل عن أمل أو حنين أكثر مما نصف واقعاً. وضمن هذا التحديد التضافري للواقع بالمتخيل، وللمتخيل بالواقع، تكون الإيديولوجيا مبدئياً فاعلة، أي أنها تقوى وتسند وتعدل علاقة الناس بشروط وجودهم ضمن هاته العلاقة المتخيلة نفسها. يستتبع ذلك أن هذه الفاعلية لا يمكن أن تكون فاعلية أداتية خالصة. فالناس الذين يستخدمون إيديولوجيا معينة وكأنها مجرد وسيلة فاعلة، مجرد أداة، يلفون أنفسهم مأخوذين في شباكها، ومنشدين إليها في اللحظة التي يستخدمونها فيها، أي في اللحظة نفسها التي يعتقدون فيها أنهم سادتها بلا منازع.

وهذا واضح كل الوضوح في حالة المجتمع الطبقي. إن الإيديولوجيا السائدة إذن هي إيديولوجيا الطبقة السائدة. إلا أن الطبقة السائدة لا تقيم مع الإيديولوجيا السائدة -التي هي إيديولوجيتها- علاقة خارجية وواضحة، علاقة منفعة خالصة أو خداع محض.

عندما طوّرت “الطبقة الصاعدة” البورجوازية، خلال القرن الثامن عشر، الإيديولوجيا الإنسانية حول العدالة والحرية والعقل، فإنها أعطت لمطالبها الخاصة صورة الشمولية، كما لو أنها بذلك تود أن تعبِّئ إلى جانبها الناس أنفسهم، الذين لن تحررهم إلَّا لتستغلهم، وذلك بإعدادهم وتكوينهم لهذه الغاية.

تلك هي أسطورة روسو حول أصل التفاوت: فالأغنياء يوجهون إلى الفقراء “الخطاب الأكثر معقولية”، الخطاب الذي لم يتصور من قبل أبداً، وذلك لإقناعهم بأن يعيشوا عبوديتهم وكأنها حريتهم. وفي الحقيقة فإن على البورجوازية أن تعتقد في أسطورتها قبل أن تقنع الآخرين بها، لا بمجرد الإقناع فقط، لأن ما تحياه في إيديولوجيتها هو هذه العلاقة التخيلية، التي تقيمها مع ظروف وجودها الواقعية، مما يمكنها في الوقت نفسه من أن تؤثر على نفسها، (أن تعطي لنفسها وعياً قانونياً وأخلاقياً، وأن توفر الشروط القانونية والأخلاقية لليبرالية الاقتصادية)، وعلى الآخرين (مستغليها الآن ومستغليها في المستقبل: الـ”عمال الأحرار”)، وذاك من أجل أن تتحمل وتنجز وتضطلع بدورها التاريخي كطبقة سائدة.

تعيش البورجوازية بذلك -في إيديولوجيا الحرية- علاقتها بالضبط مع شروط وجودها، أو علاقتها الواقعية (الحق في الاقتصاد الرأسمالي الليبرالي)، لكنها علاقة موظفة ضمن علاقة متخيلة، (كل الناس أحرار بما في ذلك العمال الأحرار). تقوم إيديولجية البورجوازية على التلاعب بالكلمات بصدد الحرية، مما يفسد إرادتها في تضليل مشغليها (“الأحرار”)، من أجل الإبقاء عليهم مغلولين، بواسطة المساومة حول الحرية، وذلك بقدر حاجة البورجوازية إلى أن تعيش سيطرتها الخاصة الطبقية، وكأنها حرية مستغليها أنفسهم. ومثلما أن أي شعب يستغل شعباً آخر، لا يمكن أن يكون شعباً حراً، فإن الطبقة التي تستخدم الإيديولوجيا لأغراض سيطرتها، هي نفسها خاضعة أيضاً لهذه الإيديولوجيا.

عندما نتحدث عن الوظيفة الطبقية لإيديولوجية ما، فيجب أن نفهم من ذلك أن الإيديولوجيا السائدة هي إيديولوجيا الطبقة السائدة، وأنها تستخدم لا فقط للسيطرة على الطبقة المستغلة، بل تستخدم أيضاً وتصلح لتجعل منها هي ذاتها طبقة سائدة، بأن تجعلها تقبل علاقتها المعيشية مع العالم كأمر واقع ومبرر.

ويجب أن نذهب بعيداً ونتساءل عن واقع ومصير الإيديولوجيا في مجتمع اختفت فيه الطبقات. وما قلناه يمكننا من تقديم إجابة. إذا كانت كل الوظيفة الاجتماعية للإيديولوجيا تتلخص في صلابة وهمٍ (كما هو الأمر في “الأكاذيب الجميلة” لأفلاطون، أو تقنيات الدعاية المعاصرة) تصفه وتستعمله الطبقة السائدة من الخارج، لتضليل أولئك الذين تستغلهم، فإن الإيديولوجيا ستختفي مع الطبقات. لكن بما أننا رأينا أنه، حتى في حالة المجتمع الطبقي، فإن الإيديولوجيا فعالة وذات تأثير على الطبقة السائدة نفسها، كما أنها تسهم في تشكيلها، وفي تعديل مواقفها لتجعلها تتكيف مع ظروف وجودها الواقعية.. (مثلاً الحرية القانونية)، فإن من الواضح أن الإيديولوجيا (كمنظومة تمثل جماهيرية) ضرورة ولازمة لكل مجتمع، من أجل أن تشكل الناس وتحولهم وتجعلهم قادرين على الاستجابة لمتطلبات ظروف وجودهم.

ففي الإيديولوجيا يحيا المجتمع اللاطبقي عدم تطابقه - وتطابق علاقته مع العالم، هذه العلاقة التي يتم فيها وبها تحويل “وعي” الناس، أي موقفهم وسلوكهم، لجعلهم في مستوى المهام المطروحة عليهم، وفي مستوى ظروف وجودهم.

إن الإيديولوجيا، في المجتمع الطبقي، هي المعبر والعنصر الذي تنتظم بواسطته علاقة الناس بظروف وجودهم لحساب الطبقة السائدة. وفي المجتمع غير الطبقي تكون الإيديولوجيا هي المعبر والعنصر الذي تتعايش به وفيه علاقة الناس مع ظروف وجودهم لحساب “كل الناس”.

 

الهوامش:

* louis altusser/ pour marx.