شعار الموقع

ندوة: الفكر العربي المعاصر: تقييم واستشراف

احمد شهاب 2004-08-18
عدد القراءات « 584 »


على أعتاب الألفية الثالثة ومع اقتراب العالم من القرن الحادي والعشرين، يزداد الشعور بالحاجة إلى وقفة نقدية تقيمية للأفكار التي شكلت بتفصيلاتها التجربة الفكرية والسياسية العربية على مدى نصف قرن احتدم فيها أشكال الصراع والحروب والتمزق، وأستهلاك كل أنواع الشعارات واستنفد صنوفاً من المشاريع، وضج بالنظريات ونقدها ونقد النقد، وأخذت معظم الأفكار والآراء نصيبها من التجربة، وتمخضت عن فشل ذريع أو نجاح باهر، ساهمت في تغيير الواقع العربي إلى الأحسن أو شاركت في ترسيخ واقع سيء، ومثلت التجربة مشهداً من الفصول العربية الأكثر إثارة، والأكثر تناقضاً.
إن أي محاولة حقيقية لتقييم هذه التجارب والأفكار والمناهج والتوقف عندها وملاحظتها تعد محاولة رائدة تستحق التقدير والاحترام، وبالتالي فإن أي حركة جادة في اتجاه استشراف المستقبل على ضوء المحاسبة والنقد هي حركة مباركة لأنها تحاول القفز على أخطاء الماضي، وتجاوز عثرات النهضة المأمولة. وهذا ما أحسب أن ندوة «الفكر العربي المعاصر، تقييم واستشراف» حاولت بلوغه بغض النظر عن مدى النجاح الذي استطاع المشاركون تحقيقه. وقد قام المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب في دولة الكويت بتنظيم الندوة بمناسبة اليوبيل الفضي لمجلة «عالم الفكر»، ضمن فعاليات مهرجان القرين الثقافي الرابع. والتي ضمّت أكبر حشد من المفكرين وأصحاب الرأي والتجربة في أحد أكبر اللقاءات الفكرية العربية.
قسمت الندوة إلى ثلاث محاور رئيسية:
المحور الأول: «اتجاهات الخطاب العربي المعاصر، تقييم نقدي»
قدمت في هذا المحور الأوراق البحثية التالية:
ورقة.. «الاتجاه السلفي»
في تمهيده لورقته البحثية أشار الدكتور حيدر إبراهيم مدير مركز الدراسات السودانية بالقاهرة إلى أهمية تحديد المفاهيم في مجال تاريخ الأفكار أو سوسيولوجية الفكر من أجل تحديد ومتابعة الاتجاهات والحركات التي يمكن أن تندرج تحت مفهوم «السلفية»، والذي يمكن القول أن كثيراً من الاتجاهات ذات المنحى الديني تنتسب إليه، وان لم تكن تحمل مصطلح السلفية، قد تختلف في درجة سلفيتها ولكن ليس في كيفيتها أو نوعيتها، فهي تلتزم بالعودة إلى التراث باعتباره مرجعاً لأي تفكير معاصر. وهي كانت دائماً حركة تحديثية بأدوات ومناهج تقليدية بما يمكن تسميته «بالحداثة المعكوسة»، فهي تحاول اللحاق بالعصر ومواكبة المستجدات ولكن التزامها بالدين يتطلب تحديد العلاقة بين الدين والفهم البشري الزمني والنسبي من جهة أخرى.
تقوم ورقة الدكتور حيدر على تساؤل محوري متشعب: أين موقع السلفيات وسط هذه التحولات السريعة والكثيفة؟ وكيف ستواجه بداية قرن شهد القرن السابق له مستجدات ومتغيرات تساوي ما عرفته البشرية منذ فجر التاريخ؟ وهل ستظل السلفيات تصر في القرن القادم الذي سيمثل قمة النضج الانساني، على أنها تمتلك التقدم الروحي بلا إنجازات مادية؟ وهل هي قادرة على أن تساهم روحياً‏وخلقياً في حضارة تتهمها بالمادية الخاوية؟ وهل يمكن الفصل بين المادي والروحي؟ إن هذا الأسئلة تمثل تحدياً حقيقياً يواجه السلفية وتنتظر إجابات صحيحة.
يطرح الباحث استنتاجاً حول الفكر السلفي فيعده فكر أزمة بسبب محاولات التوفيق التي يقوم بها بين المثال والواقع، بين تأكيد الذات ومواجهة الآخر، وبين النسبي والمطلق، فهو يحاول التكيف ولكنه يرتكز في ذات الوقت على فرضية تعاليه بسبب امتلاكه للحقيقة المطلقة. ويربط الدكتور حيدر ابراهيم بين ظهور السلفية ونموها وبين الأزمات التي يتعرض لها أي مجتمع بشري، إذ يحيل السلفيون سبب الانحطاط والتراجع إلى البعد عن أصول ومنابع الدين الأولى. فهو يرى أن ظهور تلك الحركات يأتي بشكل دورات تاريخية، فخلال فترة تدهور الدولة الأموية ظهر عمر بن عبد العزيز وأبو حنيفة ومالك، وفي فترة ضعف الدولة العباسية ظهر ابن حنبل والشافعي، وتبع التدهور العثماني ظهور الوهابية والسنوسية والمهدية والسلفية، وفي بيئة الأزمات الحالية نمت حركة الاخوان المسلمين في أقطار الأرض العربية.
ويرى أن السلفيين لا يفسرون السلفية زمنياً ولكن باعتبارها حالة وطريقة تفكير موجودة في كل مراحل التاريخ، ويرون أن حضارة المسلمين قامت على أعمدة العقيدة، ويجب أن تبقى العقيدة بعيدة عن الذوبان بالآخر، وإن كان ذلك لا يحول دون الإفادة من منتجات الغرب العلمية والتقنية.
ثم يستعرض الباحث بعد ذلك المراحل التاريخية التي مر بها الفكر السلفي، وصلة الإسلام بحركات الاسلام السياسي المسكونة بقضية السلطة السياسية باعتبار ان إصلاح المجتمع يأتي عن طريق الحكم ومن ثم يلجأ أغلبها إلى الصراع السياسي وما ينتج عن ذلك من عنف متوقع.
وعن سؤال النهضة والتخلف يرى أن السلفيين يتفقون حول سبب الانحطاط والتخلف ويرجعونه إلى البعد عن أصل الدين، ويرى أنهم يطرحون الأسئلة بشكل صحيح ولكنهم يقدمون الإجابات بشكل خاطئ، وهذا ما يجعلهم معارضين جيدين وحكاماً سيئين إذا وصلوا إلى السلطة. وانتقد الانتقائية كأسلوب تفكير سلفي وكيفية تعاطيها مع الحداثة. وتساءل في النهاية عن مدى قدرة السلفية على القيام بثورة ثقافية، أو تدشين لاهوت تحرير إسلامي، على غرار ما حدث في أمريكا اللاتينية؟.

ورقة.. «السلفية، حدودها وتحولاتها»
قدم هذه الورقة الدكتور فهمي جدعان عميد كلية الآداب بجامعة البنات في الاردن، استعرض في بداية حديثه المشكلات المتعلقة بمصطلح السلفية موضحاً‏أن الفهم الذي استقر عند جملة القائلين بالمعاني التاريخية والمعاني المحدثة أو المجددة للسلفية هو ردها إلى السلف الصالح فحسب «القرون الثلاثة الأولى» على وجه التحديد، وأن المبدأ الأساسي الذي ترتد إليه السلفية هو «الإتباع لا الابتداع». فقد استقر الرأي في التقليد الاسلامي أن القصد هو إتباع هؤلاء السلف عن بيّنه ويقين لا تقليد آرائهم عن جهل ومهابة.
وأن مطلع القرن الثالث الهجري شهد ظهور أول جيل لما يسمى «بالوعي السلفي»، إذ اعتقد أصحاب الحديث والنقل ان تيار الرأي والعقل الضارب في الروح الإغريقية، يمكن أن يأتي على الأسس التي يقوم عليها الاسلام. أما الظهور الثاني للنزعة السلفية فتبين عند نهاية الخلافة العباسية حيث يضع ابن تيمية اللوم على أهل البدع من جهمية وقدرية وباطنية وصوفية، ويدعو إلى إحياء عقيدة ومنهج السلف. والظهور الثالث نشهده مع ضعف الدولة العثمانية على يد الحركة الوهابية في الحجاز. بيد أن هذه الموجة تراجعت مع تقدم تيارات الفكر الحديث والجماعات الليبرالية، على أن إخفاق الأنظمة التقدمية والقومية في تحقيق مشاريع التقدم أدى إلى عودة تيار السلفية إلى الشارع العربي بما يسمى عند الاسلاميين بالصحوة الاسلامية.
يحدد الباحث السمات الرئيسية للسلفية التاريخية «الكلاسيكية»، ثم يبين شكلين متتالين من أشكال الاتجاه السلفي، الأول هو.. السلفية المجددة التي بدأت في مطلع القرن الثالث عشر وامتدت إلى أواسط القرن التاسع عشر أي إلى بداية الحركة الدينية التي شرع فيها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، والتي تبناها حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين، وعبد القادر عودة أحد أكبر منظّري حركة الاخوان.
والثاني.. السلفية المتعالية التي انطلقت مع جنوح السيد قطب عن منهج الاخوان المسلمين، والتعلق بمنهج جديد يقوم على دور «الفئة المختارة» في عملية التغيير، ويقوم هذا المنهج على اعتبار المجتمعات الاسلامية الحالية مجتمعات جاهلية أو كفرية.
ويرى د. جدعان أن «السلفية المجددة» يمكن لها إذا ما نأت عن التصلب والتعالي وانحازت إلى عملية إحياء قوية لمفاهيم الرحمة وظاهرة العدالة الموجهة للسلفية التاريخية أن تحظى بمكانة طيبة بين قوى المجتمع وتيارات الفكر العربي المعاصر.

ورقة.. «أزمة الفكر الليبرالي العربي»
في إطار تقييم الفكر الليبرالي قدم الدكتور علي الدين هلال ورقته البحثية بثلاث ملاحظات منهجية: الأولى.. تتصل بالعلاقة بين الفكر السياسي والاجتماعي وبيئته، وأن الصلة بين الفكر والواقع هي صلة حميمة، فكما توضح دراسة تاريخ الفكر السياسي والاجتماعي أن قبول أيديولوجية ما لا يتوقف فقط على مدى التصديق النظري بل يعتمد أيضاً على مدى استجابتها للقضايا والمشاكل التي يواجهها مجتمع في فترة محددة.
الثانية.. لا توجد نظرية متكاملة صاغها مفكر واحد بشأن الليبرالية، وإنما هي مجموعة من الأفكار تطورت ما بين القرن السابع عشر والقرن العشرين، وهي بالتالي ليست ايديولوجية ممنهجة وإنما تيار فكري له منابع متعددة تم الربط بينها فيما يسمى بالمذهب الليبرالي، وتطور في القرن العشرين وسمي «الليبرالية الجديدة».
الثالثة: تتعلق بانتقال الأفكار من موطنها الأصلي إلى مجتمعات أخرى، وكيفية استقبال هذه الأفكار والمذاهب من قبل مثقفي تلك المجتمعات، ففي بعض الأحيان تنتقل الفكرة بحذافيرها وأحياناً يتم التركيز على أحد عناصر هذه الفكرة دون غيرها فيتغير وجهها، وحيناً ثالثة يتم تطويع المذهب في إطار ثقافة المجتمع المستقبل له بحيث يكتسب شرعية محلية.
بعد هذه الملاحظات المنهجية فإن البحث يتركز في النقاط التالية:
أولاً.. في مفهوم الليبرالية: تنهض الفكرة الليبرالية على مفهوم الحرية التي عبر عنها جون لوك بصورة واضحة مؤكداً على الحقوق والحريات المدنية مثل حرية الفكر والتعبير والاجتماع والملكية.
ونوه الدكتور هلال إلى أن الليبرالية في مفهومها الأصلي لا تعني بالضرورة الديمقراطية، بل ان الصحيح القول أن الليبرالية قد نشأت أولاً ثم تم دمقرطتها بعد ذلك، فالفكرة الليبرالية قامت على الحريات دون أن تشير إلى نطاق المستفيدين من تلك الحريات. ومن خلال هذا التزاوج التاريخي بين الليبرالية والديمقراطية برز تعبير الديمقراطية الليبرالية الذي ينطلق من مفهوم «حرية الاختيار»، ونقل مفهوم السوق من مجال الاقتصاد إلى مجال السياسة، ليقوم النظام السياسي على حرية الاختيار بين الاتجاهات السياسية.
ثانياً.. استقبال الأفكار الليبرالية في الوطن العربي: يرجع الدكتور هلال حركة الإحياء الثقافي والفكري في الوطن العربي إلى عدد من التغيرات السياسية والاجتماعية منها الهزائم العسكرية التي تعرضت لها الدولة العثمانية على يد أوروبا، وشعور المثقفين بأن هناك عالماً جديداً ولد في أوروبا الغربية زود جيوشها بمصادر للقوة العسكرية لم تكن معروفة في الدولة العثمانية.
وقد تطور الفكر الليبرالي في العالم العربي على يد الشيخ رفاعة الطهطاوي (1801-1873)م وعكست كتابات الشيخ انبهاره بالفكرة الليبرالية وبقيم الحرية والمساواة، وتقدير قيمة الفرد والملكية، وكان يرى إمكانية التوفيق بين أفكار الليبرالية السياسية ومبادىء الدين الاسلامي. وكانت المحطة الأخرى البارزة في استقبال الأفكار الليبرالية كانت مع خير الدين التونسي (1810-1899)م الذي زاوج بين الفكر والممارسة ودعا خير الدين إلى الاستفادة من الأفكار والمؤسسات الأوروبية الحديثة، وأكد أنه يمكن تحقيق ذلك في انسجام مع الشريعة الاسلامية.
وقد ركز الباحث على الدور الكبير الذي لعبه أحمد لطفي السيد (1872-1963)م باعتباره أكثر المفكرين الذين تمثلوا الليبرالية، وقد أكد لطفي السيد على الحقوق الرئيسة لليبرالية وأضاف إليها حق الشعوب في حكم نفسها وفقاً لاختيارها، ورأى أن المنفعة هي الرابطة العامة التي تجمع المواطنين رغم اختلاف اتجاهاتهم وأفكارهم وديانتهم وأجناسهم.
وأكد الباحث على أن الفكر الليبرالي العربي أعاد طرح المفاهيم استجابة للانتقادات التي وجهت لليبرالية، ومن أهم نماذج ذلك جمعية النداء الجديد في مصر.
ثالثاً.. إشكاليات الفكر الليبرالي الديمقراطي في الوطن العربي: إن لغياب الكتب التي تعرض الفكر والأسس النظرية للفكر الليبرالي ـ كما يرى الباحث ـ دوراً في خلق عدد من المشاكل التي ارتبطت بنشأة الفكر الليبرالي وتطوره في البلاد العربية، أولها: ظهور تعارض بين القيم والمفاهيم الليبرالية الديمقراطية وبين الإطار الفكري السائد في المجتمعات العربية، من ذلك المشكلة المتعلقة بالهوية والانتماء السياسي (من أنا؟ ومن نحن؟) وهل يكون الانتماء للأمة بمفهومها الاسلامي أم لوحدة وطنية أو قومية تتمثل في الأمة بمعناها الحديث، وعدد من الإشكاليات على وزنها.
وثانيها: تداعيات الحياة السياسية في أغلب البلاد العربية، والشكوك التي أثيرت حول الليبرالية بعدم قدرتها على استكمال مهام الاستقلال الوطني أو تحقيق الرفاهية الاجتماعية لأغلبية المواطنين. وثالثها: يتعلق بالسياق الاجتماعي والاقتصادي للخبرة الليبرالية في أغلب الدول العربية، فقد سقطت نظم الديمقراطية الليبرالية في أيدي طبقة كبار الملاك الزراعيين، التي حصدت ثمار الاستقلال، وشكلت النخب الحاكمة التي قادت الحياة السياسية العربية حتى نهاية الحرب العالمية الثانية، ولم تمتلك تلك النخب سعة أفق تشرك من خلالها شرائح اجتماعية معها في السلطة.
بيد أن الكاتب لا يرى أن البشرية قد أفرزت أفضل من تلك النظم التي ارتبطت باسم الديمقراطية الليبرالية.

ورقة.. «النهج التوفيقي، وإشكالية اللاحسم»
بعد أن يستعرض الدكتور محمد جابر الأنصاري صاحب هذه الورقة صوراً متعددة عن التوفيقية في عالمنا العربي والاسلامي، يرى أن الظاهرة التوفيقية لا تنحصر في اتجاه فكري بعينه وانها أخطر في واقع الأمر مما تبدى في ظاهر الخريطة الفكرية. فمن تعادلية توفيق الحكيم القائمة على توازن الأضداد إلى مدرحية (مادة + روح) انطوان سعادة مؤسس الحزب القومي السوري في لبنان، يمكننا أن نرى مدى اتساع منشور قوس قزح التوفيقي في سماء الفكر العربي. ويمكن لأشد الراديكاليين أن يكتشفوا أنهم توفيقيون في الوقت الذي يعلو صوتهم في انتقاد الآخرين.
إن النهج التوفيقي كما يرى د. الأنصاري السائد في الذهنية العربية المحدثة ليس مجرد حيلة ذهنية عارضة يلجأ إليها الفكر العربي وأصحاب المشروعات المطروحة للتعامل مع الواقع العربي، وإنما لهذه الظاهرة جذورها التراثية العميقة في التكوين العربي من ناحية كما أن لها مبرراتها العملية والموضوعية في واقع هذه المنطقة التوسطية من العالم والتي تتعرض لشتى أنواع الثنائيات والتناقضات التي ليس من السهل الحسم بينها، فكان لابد من آلية تنظيرية توفق بينها. فمن اللافت أن الفكر العربي الحديث لم ينشغل بقضية مثلما انشغل بالتوفيق بين ثنائيات العقل والإيمان، الدين والقومية، العدل والحرية، الشرق والغرب.. الخ. ورغم هذا الانشغال فإنه لم يخرج بحسم يذكر بين هذه الثنائيات التي كانت شاغلة منذ القدم وخاصّية بين الأمم كما لاحظ ذلك الدكتور زكي نجيب محمود.
ومن جهة الفكر الاسلامي فإن الوسطية من أبرز الخصائص التي تنسب للتصور الاسلامي للوجود «فخير الأمور أوسطها»، والوسطية شديدة الصلة ـ برأي الأنصاري ـ بالتوفيقية لأن التوفيق توسط بين أطراف، وكما لاحظ باحثون ـ من المسلمين وغيرهم ـ فإن النهج الاسلامي يمثل توفيقاً متوازناً ومعتدلاً بين ما في رسالة موسى من تشريع وما في دعوة المسيح من أخلاقية. فكان ذلك مثالاً للتوفيق الديني المتكامل.
هكذا فإن الإرث التوفيقي المتجذر والممتد في تاريخ الفكر والحضارة وتكوين المجتمع والانسان هو ما استيقظت عليه مجتمعات هذه المنطقة منذ احتكاكها بالعصر وتعرضها لمؤثراته، حيث واجهت سلسلة من الثنائيات والتعارضات سواء في تكوين الذات الجمعية أو في علاقة هذه الذات مع الآخر حضارياً وسياسياً.
يعيش الفرد العربي في تشابك أغصان لا يعرف كيف يتخلص منه، بين انتمائه الوطني الذي يتعارض مع ما دون الوطني كالقبيلة والطائفة ونحوها، وما فوقه كعروبته التي تفرض التزاماتها عليه، ثم انه مسلم في الأغلب أو مسيحي، سني أو شيعي، تتشابك متطلبات كل انتماء وهو لا يعرف كيف يحقق التوافق في ظل مفهوم قومي يعتبر الوطنية تجزئة استعمارية، وفي ظل مفهوم ديني يعتبر القومية والوطنية بدعة غربية مستوردة. ثم هو يحاول أن يوائم بين عناصر واقعه غير المنسجمة فيما بينها، وبين عناصر الحضارة الغربية وهي أكثر الحضارات تعددية، ان شعوباً أخرى واجهت تعارضات وأضداداً مثل هذه التعارضات والأضداد ولكن الفارق بينها وبين العرب ان تلك الشعوب مكنتها إرادتها وظروفها التاريخية من حسم تلك التعارضات بتغليب جانب على آخر أو بالصراع والتفاعل الجدلي الحر والمفتوح، ولكن ذلك يتطلب التسليم بقيم التعددية والحرية واحترام الرأي الآخر وذلك ما هو غير متاح عربياً، فتنمو التوفيقية بحجة تجنب الصراع والخلاف وهو في حقيقته تمويهاً على الذات وخداعاً لها.

ورقة.. «اليسار العربي وسوسيولوجيا الفشل»
يرى الباحث الأستاذ شوقي جلال في هذه الورقة أن الخطاب اليساري العربي قد أخفق، لالأن خطاباً آخر انتصر، فقد أخفق الجميع، إذ تعلقت أبصارنا وطموحاتنا بالسماء، حيث المفارق المتعالي والفكر النظري المجرد، بينما جميعنا بعيدين عن أرض الواقع، ويقصد الباحث باليسار كل تيار أو صاحب موقف نقدي التمس تغيير المجتمع على مثال سابق في تاريخنا العربي، أي الانتقال حضارياً إلى حضارة العصر. إن اليسار حركة نقد اجتماعي وتغيير جذري وصولاً إلى بنية اجتماعية وبنية ذهنية جديدتين هما الأكثر ملائمة لإزاحة عوائق التقدم وتحقيق التكيف وكل حركة لها هذه المهمة ولابد أن تتوفر لها عدة شروط:
أولاً: الوعي بالأزمة معرفياً ووجودياً وعوائق الحراك الاجتماعي ودراسة نقدية للبنية الاجتماعية، ولكن اليسار العربي في مجموعه عدا بعض الجهود الفردية ظل غائباً عن تيارات النقد الاجتماعي ونظرياته المتنوعة، بل تلقف الفكر الماركسي وكأنه بنية ثابتة.
ثانياً: الشروع في حركة تنويرية تثبت بطلان وزيف وعي الحاضر وتكشف الوهم والحاجة إلى إطار معرفي / قيمي جديد، وبهذا يكون الفكر اليساري جهداً معرفياً ووعياً نظرياً عقلانياً نقدياً تغييراً.
ثالثاً: أن تملك الحركة تصوراً عن المجتمع المنشود شاملاً جميع أنشطته في إطار زماني مكاني، وأن يكون لديها المبرر الفكري الداعم لهذا التصور وآليات تغييره، بدلاً من أن يكون مجرد متبن لفكر وافد أو شمولي كما هو الحال.
رابعاً: الوعي النظري بالظروف المحيطة المعاكسة والداعمة.
خامساً: أن تمتلك الحركة النقدية الامكانات التنظيمية والفكرية التي تدعم فاعليتها.
سادساً: أن تعبر الحركة عن هذا كله في صورة نقدية تمثل الفكر النابع من بنية الواقع.
ويرى الباحث أن ما عايشناه هو ممارسات يسارية وليس فكراً يسارياً، فقد انحصرت في الهموم السياسية المباشرة. كذلك جاء الخطاب اليساري لأسباب تتعلق بالموروث الثقافي خطاباً أيديولوجياًلافكراً علمياً، وهذا أحد أهم أسباب عجز اليسار عن إحداث قطعية معرفية جدلية مع الموروث الثقافي، قطيعة تؤكد الاتصال والانفصال في ضوء متصل تاريخي اجتماعي، وانما اصطنع قطيعة حضارية ومعرفية زائفة، بينما ظلت آلية المعرفة آلية سلفية.
أما عن المستقبل فقد رأى الأستاذ شوقي أن قضية المستقبل لم تعد بالنسبة لبلدان العالم العربي مسميات مذهبية، وليست التماساً مطلقاً، ابتداءاً وانتهاءاً، لمرجعيات خارج الزمان والمكان. وحري بنا أن نكون فقهاء عصرنا لاستيعاب علوم العصر بعقل مفتوح. إن حالة اختلال الأنا ليس مصدرها فحسب صدمة العرب إزاء الغرب وقوته بل يتعين البحث عن مصدر آخر داخل تاريخية الظاهرة، فالأنا الاجتماعية مفككة فاقدة للوعي الجمعي بالذات التاريخية، وأن ما نسميه اليوم اجمالاً بالذات العربية لم يكن وجودها مكتملاً أو واضح المعالم في الوعي المجتمعي بل كان وجوداً اجتماعياً منسلخاً عن ذاته إذ عاش قروناًأسير تهويمات عن ذاتية متعالية.
إن من القضايا الملحة للانتقال الحضاري للمشروع القومي التنموي مقترناً بثورة في التعليم، وثورة في خدمة الانسان يشمل ذلك رد اعتبار الوعي التاريخي بكل تناقضاته، وأن تعمد الأمة في نشاطها التربوي والتعليمي إلى تدريب النشء على اعمال العقل وممارسة النقد على أساس منطقي وغرس عادة النهم المعرفي، وعادة التمرد على التقليد، والشجاعة في إبداء الرأي.
المحور الثاني: «إشكاليات الفكر العربي المعاصر، رؤية تقييمية»
ورقة «إشكالية النخبة والجماهير في الفكر العربي المعاصر»
يوجه الدكتور تركي الحمد في هذه الورقة سلاحه النقدي إلى المثقف ونخبويته، المثقف الذي يشتكي دائماً من الانفصام بينه وبين الجماهير والسلطة ثم يقرر أن يعتزل ويرمي باللوم على كل ما حوله دون أن يلتفت إلى داءه. ولذا كان من الضروري نقد المثقف ذاته وإزالة الستار الذي يتدثر به. فالمثقفون لا يدركون ما يجري على الشارع العربي بسبب تعاملهم مع مجردات تافهة لا صلة لها بالواقع، يثيرون قضايا لا يعاني منها أحد ولا تشكل أزمة في الشارع، وإذا كانت موجودة فإنهم يثيرونها حتى بعد الانتهاء منها مثل إشكالية الهوية. كذلك بسبب عقدة العصمة فالمثقف العربي في الغالب الأعم لا يطرح رأياً، ولكنه يطرح حقائق مطلقة في اعتباره، يجب أن يؤمن بها دون نقد أو تشكيك، ولأجل ذلك لابد من الوصاية على الجماهير لأنهم لا يعرفون مصلحتهم.
إن مشكلة المثقف العربي أنه لا يتغير مع المتغيرات، ولا يحاول أن يفهم هذه المتغيرات، فرغم كل ما حدث ويحدث على الساحة السياسية والاجتماعية العربية، فإن المثقف العربي غالباً ما لايعيد النظر في مسلماته الفكرية، ملقياً باللوم على كل شيء إلا المسلمات، وهي في الحقيقة أحد آليات الدفاع عن الذات في وجه المتغيرات التي تهدد الوصاية والنخبوية عنه.
هيمنة هذا النمط من النخبوية الثقافية (وهم الوصاية، وهم المثل المطلقة، تسامي المثقف) أدى إلى شل فاعلية المثقف في الحياة العامة، هذا الشلل يتبدى في حالتين: حالة الانسحاب الكامل من الحياة العامة، وحالة الاندفاع المطلق للحياة العامة، في الحالة الأولى قد يترك المثقف الهم الثقافي وينعزل أو حتى ينتحر، وفي الحالة الثانية قد يتحول من رقيب على العامة إلى الخضوع المطلق للعامة ومن ثم يتحول من مثقف إلى محرض جماهيري، ومن مجال الثقافة إلى مجال الأيديولوجيا.. وهنا يقال ما الضرر في أن يكون المثقف مؤدلجاً طالما يمنحه ذلك تماهياً مع العامة؟ إن المشكلة ـ في نظر الباحث ـ أن هذا الموقف يتعارض جذرياً مع جوهر الثقافة والفعل الثقافي بسبب موقف نقدي مفتوح.
ويتساءل الحمد عن كيفية الخروج من هذا المأزق، مأزق النخبوية الثقافية المتعالية؟ ويلخص الجواب في جملة واحدة وهي: معرفة المثقف لموقعه في المجتمع، دون فرضيات أو أوهام، وأن الدور التاريخي للمثقف هو السير في مكونات ما هو محل اهتمام، والموقف النقدي المنفتح والدائم لمتغيرات المجتمع.
ويذهب ـ الحمد ـ إلى أن خروج المثقف العربي من نخبويته المفترضة، واقراره بحقيقة أنه جزء من حركة المجتمع ومكوناته هو الذي يمنحه القدرة على التماهي مع القواعد الاجتماعية المختلفة، وان المعرفة القائمة على واقع المجتمع وحركته، لابد في النهاية أن تتسرب إلى ذلك المجتمع، وهنا يلتقي الفضاءان المعرفي والاجتماعي، قد لا يحدث ذلك بسرعة ولكنه يحدث، والتغير مهما كان بسيطاً في الذهن والمجتمع خير من هذه الدائرة المفرغة من أسئلة نخبوية مترفة، من نحن، وماذا نريد، وما العمل؟؟ فهل يتحرر المثقف من ذاته؟.

ورقة.. «الفكر العربي بين النظرية والتطبيق»
ينطلق الاستاذ محمود أمين العالم في بحثه من حقيقة ان مسمى الفكر العربي لا يعكس فكراً محدداً بسبب اختلاف الرؤية الفكرية نفسها أو بتعبير آخر البنية الذاتية للفكر نفسه التي تشكل رؤيته للعالم ومنهج معالجته لموضوعاته وقضاياه. على أن جوهر الإشكالية في تقدير الباحث تتركز في العلاقة بين الحدود النظرية للفكر العربي وخصوصية واقعه، ولهذا يكون من الضروري البدء باستعراض نقدي سريع لتجليات الفكر العربي عند أبرز المفكرين العرب المعاصرين، ثم في بنية ومسلك السلطة كمدخل لقراءة العلاقة بين الفكر العربي عامة وواقعه الخاص.
ولعل أبرز هذه التجليات هو القول بالطبيعة الثنائية أو المزدوجة للفكر العربي التي تشكل السمة التوفيقية لهذا الفكر، إنها ثنائية العقل والنقل، والظاهر والباطن، الدين والعلم. ولعل القول بهذه السمة التوفيقية للفكر العربي أن تكون خلاصة الجهد التحليلي الذي قام به زكي نجيب محمود في العديد من كتبه، وسنجد هذه الثنائية في شكل أكثر تنظيراً عند مفكر آخر هو عبد الحميد إبراهيم في كتابه «الوسطية العربية»، ولعل أبرز من قدم دراسة تحليلية نقدية مستفيضة لهذه الثنائية هو محمد جابر الأنصاري الذي يعتقد أن هذه الثنائية ستظل ظاهرة دائمة في هذا الفكر ونلحظ ذلك في الرؤية التوفيقية عند كل من زكي محمود وعبد الحميد إبراهيم يغلب عليها الطابع الوضعي التحليلي، فإن رؤية الأنصاري تقترب من الطابع الذاتي الجدلي المتطلع لتجاوز هذه الثنائية.
على أن هذه الثنائية التوفيقية لا نجدها عند باحث مثل محمد عابد الجابري، وإنما نتبين من دراسته لبنية العقل العربي، بنية معرفية ثابتة مهيمنة طوال التاريخ العربي كله، وهي بنية ثلاثية الأطراف تتمثل في سلطة اللفظ وسلطة الأصل وسلطة التجويز أي اللاسببية، على أن الجابري في كتابه الأخير «المشروع النهضوي العربي.. مراجعة نقدية» ينتقل من نقده العقلاني للثوابت الجامدة في الفكر العربي إلى رؤية ثنائية تجمع بين بعض خبرات التراث ومستجدات العصر مفتوحة على أسئلة العقل والنقد.
أما عبد الله العروي فلا نجد إلا رؤية أحادية مسيطرة هي السلفية المتناقضة في جوهرها للعقل، وهو ما يذهب إليه في كتابه الأخير (في حدود معرفتي)، يحلل العروي فيه الفكر العربي مركزاً على شخصيتين هما ابن خلدون ومحمد عبده في إطار النسيج التاريخي للفكر العربي، وينتهي من هذا التحليل إلى تأكيد سيادة المرجعية الأصولية والعقل المطلق التجريدي رغم مظاهر الثنائية في بعض تجليات الفكر العربي.
ولعلنا نتبين عقل الحسم في فكر سيد قطب الذي تتبناه أكثر الحركات الاسلامية الراديكالية المعاصرة، ويكاد يتركز فكر سيد قطب في الشعار الحركي المعلن «الاسلام هو الحل». وفي مواجهة هذا المنهج العملي نتبين منهجاً عملياً آخر للتغيير الراديكالي هي النظرية الماركسية التي تتبناها الحركات الشيوعية العربية وبعض الحركات القومية.
أما فيما يخص مسلك الأنظمة العربية وبنيتها فيذهب الأستاذ العالم إلى أن صعوبات لا تغفل تعترض طريق محاولة تناول كل نظام عربي على حدة لتحرير ملامحه الفكرية العامة وتجليها التطبيقي العملي، على أنه برغم تنوع الأنظمة العربية وما بينها من اختلافات، فإنها تكاد جميعاً أن تتسم بمشترك فكري واحد، والتي تتألف من الفكر الديني المظهري الطقوسي، والفكر القومي الدعائي، والفكر الوضعي البراجماتي التجزيئي من حيث الرؤية المعرفية، والفكر الليبرالي التابع في بنيته الاقتصادية، والفكر القبلي والطائفي، إلى جانب سيادة الفكر التسلطي المركزي. وتسود هذه المنظومة الفكرية الرسمية المجتمعات العربية نفسها بمستويات مختلفة نتيجة لسيطرة الأنظمة الحاكمة على الأجهزة الأيديولوجية الاعلامية والتعليمية والثقافية التي توظفها لاعادة إنتاج هذه المنظومة الفكرية دعماً لمشروعيتها السلطوية، إلى جانب أجهزة الرقابة والقمع والتشريعات القانونية.
يقول الباحث، لو تأملنا المنظومة الفكرية للأنظمة السياسية العربية لوجدناها أقرب إلى الخطاب الأيديولوجي منها إلى المنظومة الفكرية التي يمكن أن نطلق عليها صفة «النظرية» فهناك فارق بين الخطاب الأيديولوجي وبين النظرية، فالخطاب رؤية تفسيرية للواقع الموضوعي أما النظرية فإنها تعني نسقاً متسقاً من المفاهيم المستمدة من الدراسة الموضوعية لمعطيات الواقع الطبيعي أو المجتمعي أو الانساني عامة، وإن الهشاشة النظرية تؤدي بالضرورة إلى هشاشة مسلكية وعملية وتعمق من التناقض بين أيديولوجية الخطاب الفكري وواقعه الموضوعي ويتمثل هذا التناقض في العديد من المظاهر: فإننا نتحدث عن إصلاح اقتصادي وهو في الممارسة اجهاز على التنمية الشاملة، نتحدث عن التوحيد القومي ونمارس التشظي والتمزق والروح القطرية، نتحدث عن العلم ولكننا لا نمتلك معارفه ونظرياته وتجاربه.
إن حلقة الحسم من إشكالية الفجوة القائمة بين النظرية والتطبيق تكمن في أمرين أولهما: ضرورة تغيير الواقع نفسه، والتغيير المقصود والمنشود هو التغيير التنموي الشامل والمتناسق في كافة جوانبه المختلفة. ثانيهما: العامل الإنساني، ويقصد به الباحث كتلة الجماهير العربية المنتجة والمبدعة والحاملة لتراث الأمة فهي مبعدة ومعزولة معنوياً وعملياً عن أن يكون لها الرأي في تغيير الواقع وأنه لا سبيل لتغيير الواقع بغير المشاركة الديمقراطية الواعية الفاعلة.

المحور الثالث: «استشراف المستقبل»
ورقة.. «الفكر العربي والزمن، أين نحن من نهضة مطلع القرن»
يرصد الباحث الاستاذ السيد يسين في ورقته تيارات التغيير في العالم ويلخصها في ثلاث تيارات:
&الأول: «الاتصال المتبادل»^ وهو ذلك الاتصال المتزايد الالكتروني والفيزيقي بين الناس والجماعات والشركات التجارية والمنظمات من كل الأنواع، ومثل هذا الاتصال يحتمل أنه سيسرع من عملية التلاقح الثقافي، بل قد يجعل الثقافات تختلط ببعضها وذلك في غمار الارتباط الوثيق في جوانبه الاقتصادية والسياسية، ويمكن القول أن تأثير الاتصال المتبادل في حده الأقصى يمكن أن يؤدي إلى الاعتماد الاقتصادي المتبادل والوحدة السياسية، والتجانس الثقافي.
الثاني: «ضغط الزمن» وقد لوحظ في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية أن عملية صنع القرار والتي تتمثل في جمع المعلومات وتقييمها وتحليلها، واتخاذ القرار، وتطبيقه، كل ذلك يتسارع إيقاعه. وترتب على هذا ظاهرة بالغة الأهمية وهي أن العمر الزمني للأفكار والمفاهيم والإجراءات أصبح بالغ القصر.
الثالث: «تفكيك المؤسسات» فعكس الاتجاه الماضي يميل العالم اليوم تجاه تفكيك المؤسسات الصناعية الكبرى، مما أتاح الفرصة للشركات والمنظمات الصغيرة أن تتنافس مع الشركات والمنظمات الكبرى، وأن تفوقها في مجال الكفاءة وتحقيق الأرباح. ونفس الظاهرة سرعان ما سنراها سائدة في مجال السياسة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو ما الذي يربط بين هذه التيارات الثلاث؟
الفكرة الجوهرية الكامنة وراء التيارات العميقة للتغيير هي أنها جميعاً تعبر عن روح جديدة للعصر، تكشف عن نهاية مشروع الحداثة الغربي وبداية مشروع أو لا مشروع ما بعد الحداثة الانساني. ويفتح الجواب للباحث نافذة على سؤال آخر هو: هل يمكن مع الفروق الجسيمة بين الشمال والجنوب، الحديث عن مجتمع عالمي ستحدد قسماته، وتتشكل ملامحه في القرن الواحد والعشرين؟
يقول الباحث، يمكن القول أننا تحت تأثير موجات الكونية المتدفقة، على مشارف تخلق هذا المجتمع. ليس فقط بحكم انتشار وتعمق آثار الثورة العلمية والتكنولوجية، ولكن لكون المجتمع الانساني نفسه، سواء في الدول المتقدمة أم في الدول النامية أصبح يخضع لنفس قوانين التغير، والتي لحقت بالبنية الاجتماعية للمجتمعات من ناحية، وبالنفسية الاجتماعية الجماعية من ناحية أخرى.
إن لم يكن هذا صحيحاً فكيف نفسر انتشار موجات الارهاب التي تمارسه جماعات أيديولوجية مختلفة اختلافاً شديداً في توجهاتها الفكرية واساليب عملها، في الدول المتقدمة والدول النامية على حد سواء؟
الأمر لا يقتصر على الجانب السلبي فقط، فإننا لو ولينا وجهنا تجاه المتغيرات القديمة التي تعطي الملامح المميزة للمجتمعات الانسانية، كمعدلات الزيادة السكانية ودرجات النمو الحضاري لأدركنا أن ثمة علاقات جديدة ستنشأ في القرن الحادي والعشرين بين هذه المتغيرات القديمة، أهم ما يميزها هو التشابه في آثارها الاجتماعية والنفسية في أي مجتمع معاصر، مهما كانت درجة تقدمه أو تخلفه.
وطبقاً لتفسيرات الأمم المتحدة فإنه سيكون في العالم أربعة وعشرين قبساً تنموياً عدد سكان كل منها يفوق العشرة مليون إنسان، وهو الأمر الذي سيولد مجموعة من المظاهر أهمها التدهور البيئي، والهجرة المتزايدة، والعنف وانتشار الجريمة، واختفاء العمل كنظام اجتماعي أساسي في المجتمع الانساني.
ينتقل الباحث في جزء آخر من البحث بمناقشة أمور الثقافة العربية الراهنة والتي لا يستطيعها دون تبني إطار نظري متماسك لدراسة الظواهر الثقافية، ولابد من التعرف على النظريات السائدة في المناخ الفكري العربي والتي تتعرض بالتشخيص للثقافة العربية الراهنة، وهذا المجال يرى الباحث أن ثمة نظريتين بين أيدينا، الأولى: تذهب إلى أن الثقافة العربية الراهنة، تمر بأزمة شاملة وعميقة بحكم عجزها عن التكيف الإيجابي الخلاق مع المتغيرات العالمية والاقليمية والمحلية. وهي أزمة تكشف عن جمود المجتمعات العربية المعاصرة، وعجز قيادتها عن الابداع السياسي، وتنقسم الأزمة إلى جوانب متعددة: أزمة شرعية، وأزمة هوية، وأزمة العقلانية العملية.
النظرية الثانية: ترى أن النظام الثقافي العربي الذي ولد بعد الصدام الدامي بين الحملة الفرنسية بقيادة نابليون والمجتمع المصري، وما ولفه من بعد من نهضة فكرية وسياسية، هذا النظام قد انهار ودخل مرحلة النزع النهائي مع هزيمة يونيو 1967، وسقط نهائياً بعد حرب الخليج 1990، وأهمية هذه النظرية أنها تتحدث عن ولادة عسرة لنظام ثقافي جديد، ومن أبرز الذين عبروا عن هذه النظرية محيي الدين اللاذقاني في مقالته التي نشرها بجريدة الشرق الأوسط بتاريخ 14/ فبراير /1995.
يطرح السيد يسن في خاتمة بحثه تصور مستقبلي لاتجاهات الثقافة العربية والتي تنهض على ثلاث رؤى:
1ـ رؤية نقدية للتراث: تتلخص في ضرورة بلورة المناهج النقدية السليمة لقراءة التراث، واستخلاص رؤية إسلامية كونية ومعاصرة منه، يستطيع العرب والمسلمون على أساسها تطوير مجتمعاتهم، ومخاطبة العالم بلسان عصري.
2ـ رؤية تشخيصية للحاضر: بمعنى تشخيص الوضع الثقافي العربي الراهن في ضوء منهجية التحليل الثقافي وعلم اجتماع المعرفة ويلزم في هذا المجال أن نركز على الثقافة الشعبية التي تشكل وعي ملايين العرب، وعلى القيم السائدة بينهم وأساليب الحياة الشعبية.
3ـ رؤية مستقبلية: تقوم على بلورة مبادرة حضارية عربية تكون هي أساس إيهام العرب المعاصرين في حوار الحضارات، الذي سيأخذ أحياناً شكل صراع الحضارات.

ورقة.. «أبرز معالم الجدة في نهاية القرن العشرين»
صورة بانورامية عن التغيرات الهامة في العالم وفي طبيعة العلاقات الدولية يرسمها لنا د.إسماعيل صبري عبد الله في ورقته يبدأها بأهم التغيرات التي اعترت الرأسمالية، متخذاً من ذلك مدخلاً إلى الحديث عن ما يسمى بالشركات الكوكبية وهي الظاهرة التي أسماها البعض «العولمة» أو «الكونية» والتي يتفق معظم الناس على النظرة الايجابية لهذا الذي يجري في عالم اليوم، وربما وجد المرء أساس هذا الاحتفاء في انهيار الاتحاد السوفييتي، والذي اعتبره الكثيرون بأنه انتصار حاسم للرأسمالية.
يعرف الباحث الكوكبية «بأنها التداخل الواضح لأمور الاقتصاد والاجتماع والسياسة دون اعتداد يذكر بالدول ذات السيادة أو انتماء إلى وطن محدد أو لدولة معينة ودون حاجة إلى إجراءات حكومية». وواقع الأمر كما يقول الكاتب أن الرأسمالية غيرت بنيتها من احتكارات قومية تنتمي إلى دولة محددة تمتلك إمبراطورية السوق، إلى كائن جديد تماماً هو الشركات الكوكبية والتي من مميزاتها:
الضخامة: فأهم مقياس لها هو رقم المبيعات، حيث نرى أن الشركة الأولى بين الخمسمائة المدروسة كانت في 1997 «جنرال موتورز» بإجمالي إيرادات 167.4 مليار دولار.
تنوع الأنشطة: لا تقتصر الشركة المتعدية الجنسية (تتعدى الحدود الجغرافية) على إنتاج سلعة واحدة بل تتعدد منتجاتها وأنشطتها من أجل تدني احتمالات الخسارة.
الانتشار الجغرافي: تعمد إلى تغطية أكبر عدد من الدول فتلاحظ اندماج شركة سويدية كبيرة مثل ASEA وأخرى سويسرية ضخمة BRON BOVERY والتي استثمرت فور تكوينا 3.6 مليار دولار شملت إدماج أو شراء 60 شركة أخرى، وهي تسيطر حالياً على 1300 شركة منها 130 في بلدان العالم الثالث و41 في بلدان شرقي أوروبا، وتسمى شركة ABB .
تعبئة المدخرات العالمية: إذ هي تنظر إلى الكرة الأرضية كسوق واحدة، وتسعى لتعبئة مدخرات من تلك السوق.
تعبئة الكفاءات: النمط السائد في هذه الشركات هو الاستفادة من الكادر المحلي لكل شركة تابعة في إفراز العناصر الواعدة ثم تصعيدها إلى الكادر الدولي للشركة الأم بعد اجتياز عدد من الاختبارات والدورات.
أدى ذلك التطور الهائل في حجم هذه الشركات إلى تقلص الدور السيادي للدولة نتيجة إلى ضعف الناتج المحلي لـ45 دولة مثلاً من ذوي الدخل المنخفض عن بلوغ ناتج دخل ثلاث شركات كبرى متعددة الجنسية، كما أدى إلى الاستغناء عن بعض الوظائف التي تقدمها الدولة مثل القوات المسلحة التي يضعف دورها في هذا الوقت أمام القوة الاقتصادية، وكخدمات البريد والاتصالات مع تصاعد نجم «الانترنت»، وكالعملة التي تميز الدول مع لجوء عالم المال إلى بطاقات الإئتمان التي لا تخضع لإشراف أي جهة. كما أن الدول اليوم لا تستطيع القيام بمشاريع ضخمة دون اللجوء إلى الشركات المتعددة الجنسية.
في ظل هذه التطورات ينبه الباحث إلى خطورة ما يحدث في العالم على المستوى المعرفي من دعوة إلى التعامل المفتوح والمطلق مع الشركات الكوكبية، وتلبية مطالبها، ومنحها قدراً كبيراً من الضمانات والمزايا، وربط ذلك مباشرة بمصلحة الدول والمجتمعات مما أدى في الآونة الأخيرة إلى سيادة قيم السوق وتراجع التحليل العلمي والموضوعي، وإلى تخلخل قيم الوطنية والاستقلال والسيادة مما أدى إلى إرباك عملية التنمية في المجتمعات البشرية.

كلمة أخيرة
قد لا يكون سرد قائمة التحديات أو الآفاق المعاصرة من مهام ندوة «الفكر العربي المعاصر، تقييم واستشراف» بيد أن الخروج بنتائج حول المواضيع محل البحث هو من صميم عمل المؤتمرين، ومن غير المقبول أن تنفض مؤتمرات بهذه الضخامة وبهذا العدد من المفكرين وأصحاب الرأي دون نتائج محددة الأهداف، إن كثافة المشاركين في ندوة ما من المثقفين ينتظر منها أكثر من الاستعراض الثقافي وأكثر من الحضور الاعلامي.
ينتقد المثقف العربي السلطة العربية ويعيب عليها مؤتمراتها التي لا تأتي بجديد، ولا تخرج بنتائج تذكر، ويعد ذلك أحد صور فشل السلطة العربية وخوائها، ليقع هو في نفس الإشكالية، فهل يجرؤ المثقف على نقد ذاته والانقلاب على منهجيته، وهل يقبل من الآخرين فضح ممارساته ونشر غسيله؟ أم ستكون ردة الفعل الازدراء بالناقد، وكسر صورته بأسلوب ثقافي مبتكر؟.
ما يجعلنا أجرأ على النقد هو ما أسماه الدكتور رضوان السيد بالبحوث «المدرسية» التي جاءت عليها صورة عدد من الأوراق المشاركة في الندوة ـ خذ مثلاً على ذلك ورقة الاستاذ جورج طرابيشي ـ لنمضي وقتاً ضائعاَ مع سرد تاريخي لا علاقة له بتقييم الفكر أو استشراف مستقبله، بل أن أحد أهم مطالب المثقفين تغيير الأساليب المدرسية التقليدية في العالم العربي والتي تعتمد على السرد وتلقين الطالب، لنجدها صورة تتكرر في مؤتمراتنا على لسان دعاة التجديد والمعاصرة.
من الملاحظات أيضاً، عدم التزام أغلب المشاركين بموضوع البحث كما ينتظر من كل باحث في مجال تخصصه أو اهتمامه، فثمة أوراق افتقدت إلى عمق المعالجة واكتفت بملامسة سطح الموضوع فيما كان ينتظر من التقييم الخروج بصورة واضحة المعالم عن التيار المراد وضعه تحت مجهر البحث والتحليل، مثالاً على ذلك ورقة الاستاذ شوقي جلال حول «اليسار العربي وسوسيولوجيا الفشل»، فقد حلق الباحث في عموميات أخلت بالمراد من البحث.
كذلك.. الأستاذ حيدر إبراهيم في ورقته «الاتجاه السلفي» يناقش موضوع البحث بالكثير من المسبقات ضد التيار الاسلامي في الوقت الذي ينتظر منه أن يقدم قراءة تاريخية موضوعية موثقة. كما أن تعميمه لمصطلح السلفية على كل التيارات الاسلامية، يبعث على الاستغراب من باحث من أولى مهماته المفترضة تحديد المفاهيم ـ كما جاء في ورقته ـ وهي ذات الملاحظة التي وجهها الدكتور إسماعيل الشطي إلى الباحث في معرض تعقيبه.
لاشك أن المتابع لمخطط الندوة، يلاحظ أن ثمة محاولة حقيقية لرصد مختلف تيارات الفكر في الساحة العربية وتقييمها، لكن ما يلاحظ هو غياب التيار الاسلامي بشقيه الكبيرين الشيعي والسني، والذي تم اختزاله بالسلفية والتي تعد من أقل فصائل التيار الاسلامي انتشاراً لاسيما في حقل العمل الفكري، وأرى أن عهد إلغاء طرف أو تجاهل وجوده انتهى وبالتحديد عند أولئك الذين يرفعون راية التعددية والديمقراطية في كل واد، كما أن الوسط الإسلامي لا يفتقر إلى أصحاب الفكر والرأي الذين يمارسون عملية النقد والتقييم للفكر المعاصر بكل موضوعية وحياد علمي، والذين يرون في الكلمة والفكرة سبيلاً لتحقيق مجتمع الحوار المتكاتف لتحقيق نهضة شاملة تتجاوز حدود القاعات المغلقة.

(*) كاتب من الكويت